ملتقيات العربي

ندوة مجلة العربي ولغتها العربية نصف قرن من المعرفة والاستنارة بالاشتراك مع اليونسكو

دور مجلة في نشر آداب وتاريخ الجزيرة العربية

مجلة "العرب" ساحة لعطاء الجاسر الموسوعي

عبدالله الصالح العثيمين

         ليس من الممكن التحدث عن مجلة العرب دون التحدّث أولاً عن صاحبها الراحل.. منشئها الشيخ حمد: "في عام 1910 م تقريبًا ولد حمد بن محمد بن جاسر آل جاسر في قرية البرود لأب فلاح من أسرة قُدِر عليها رزقها، ونشأ عليل الجسم، وتوفيت أمه وهو في السابعة. وفي مدرسة القرية تعلّم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم نظرًا، أي تلاوة.".

         كانت معرفة الطفل حمد لمبادئ القراءة والكتابة وإتقانه تلاوة القرآن الكريم في مسقط رأسه من الأمور التي سرّت أباه، وأعطته هو ثقة بقدرته على اكتساب مزيد من العلم. وما إن بلغ الثالثة عشرة من العمر حتى بدأت مرحلة مهمة في حياته، إذ بعثه أبوه إلى أحد طلبة العلم من أقاربه في الرياض قاعدة الحكم ومركز التعليم في نجد. وهناك درس على عدد من علمائها مبادئ العلوم الشرعية والنحوية. على أن وفاة قريبه، الذي بعثه أبوه إليه، جعله يعود إلى قريته البرود حيث وجد المرض قد أنهك ذلك الأب. وبوفاة أبيه كفله جده لأمه، الذي كان إمام مسجد القرية. فصار يقرأ عليه بعض الكتب. ولضعف بصر الجد أخذ الحفيد حمد ينوب عنه، أحيانًا، في الخطبة وتدريس الأطفال. لكن أخاه الأكبر لم يرض بحالته، فذهب به إلى الرياض، ونجح في ضمّه إلى صفوف طلبة العلم. واكتسب من علوم الشريعة واللغة المختلفة ما اكتسب. وبعد سنتين من الدراسة انتقل إلى مكة حيث التحق بالمعهد السعودي، وتخرّج في قسم القضاء الشرعي.

         كانت صفات الشيخ حمد الذاتية فريدة أهلّته ليصبح ذا معرفة موسوعية عظيمة. فقد كان آية في قوة الذاكرة. لم يكن يحفظ الأشعار فحسب، بل كان يحفظ العبارات النثرية أيضًا، ويحفظ أسماء من لقيهم أو عرفهم بأي طريقة عبر السنين الطويلة التي عاشها، ويحفظ عناوين الأمكنة وأرقامها. ولعلّ من عجائب ذاكرته القوية أنه لم يحفظ الحوادث القديمة التي مرّت به - كما يحفظ أقوياء الذاكرة الآخرون - فحسب، وإنما كان يحفظ دقّة الحوادث التي مرّت به في أواخر عمره. وكان من صفاته الصبر والجلد في سبيل الوصول إلى الهدف العلمي المنشود. ومن الأدلة على ذلك ما قام به من أسفار داخل المملكة العربية السعودية للتحقق من دقة المواضع وصفاتها، وما تحمّله من مشاق الترحال إلى بلدان كثيرة عربية وغير عربية للاطلاع على خزائن مكتباتها والتنقيب عن تراث الأمة العربية الإسلامية فيها. وما دوّنه في كتابه "سوانح الذكريات" فيه الشيء الكثير المفصّل عن تلك المشاق. وكان من صفاته، رحمه الله، عشقه غير المحدود للقراءة والكتابة. وأوضح دليل على سعة ما قرأه من كتب مخطوطة ومطبوعة في مجالات متنوعة من التراث قراءة متدبّر ما دوّنه - نتيجة لتلك القراءة النوعية - من كتب، تأليفًا أو تحقيقًا، وما كتبه من مقالات يصعب عدّها، طرحًا لآراء أو نقدًا لدراسات، أو تصحيحًا لمعلومات جغرافية أو تاريخية أو لغوية.

         وكان عشقه للقراءة والكتابة أقوى من أن يحدّ من عظمته ما كان عليه من ضعف بصر لازمه أكثر من خمسين عامًا بحيث كان يحتاج، أحيانًا، إلى استخدام المكبّر للقراءة. وقد عبّر عن ذلك العشق بقوله: "إنني أشعر بالحياة ما دمت أقرأ وأكتب". ولقد تجاوز ما دوّنه من كتب ومقالات وتعليقات ألفًا وخمسمائة عمل.

         لم يكن غربيًا أن يحتل علاّمة موسوعي اتصف بالصفات الذاتية والعلمية التي اتصف بها الشيخ حمد مكانة رفيعة بين الباحثين والدوائر العلمية المرموقة في الوطن العربي، ولذلك انتُخب عضوًا في المجامع العربية اللغوية والعلمية، وأدى من خلالها أدوارًا كبيرة لم يكن في وسع غيره أن يقوم بأمثالها، وبخاصة ما يتعلق بتراث جزيرة العرب، شعرًا ولهجات وأمكنة وتاريخًا وقبائل وأنسابًا. فقد انتخب عضوًا في المجمع العربي العلمي بدمشق (مجمع اللغة العربية فيما بعد)، وفي المجمع العلمي العراقي، وفي مجمع اللغة العربية في القاهرة. وكان عضوًا في مؤسسة آل البيت، التي تعنى بالحضارة العربية، إضافة إلى عضويته في مراكز ومؤسسات علمية أخرى.

         ومن الأعمال الرائدة للشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، إنشاؤه دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، وقد أصدرت هذه الدار الخصبة سلسلة كتب تشمل بحوثًا جغرافية وتاريخية عن الجزيرة العربية، ومن رحابها العامرة انطلقت مجلة العرب شهرية.. تعنى بتاريخ العرب وآدابها وتراثهم الفكري"، كما حدّد طبيعتها صاحبها تحت اسمها، ابتداء من شهر رجب عام 1910.

         ومن حسن الحظ، أيضًا، أن هذه المجلة وضعت الآن - من بداية عددها الأول - على قرص مدمج لتيسير الاطلاع عليها والاستفادة منها. وفّق الله العاملين في حقول الخير لكل ما فيه نفع لأمتهم العربية المسلمة.