ملتقيات العربي

ندوة المجلات الثقافية ودورها في الإصلاح الثقافي

التراث وعوائق التفكير العلمي

التراث والتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر
أ. د. عبد الملك منصور المصعبي

         جاء عنوان الموضوع الذي كلفت بالكتابة فيه في صيغة تساؤل مفاده (هل يوجد في التراث العربي أي معوقات تحول دون التفكير العلمي)؟

         المتأمل في الأدبيات ذات الصلة وخاصة تلك التي تعنى بنقد العقل العربي يجد انها تركز، في ما يشبه الإجماع، على تأكيد ان التفكير العربي المعاصر مثقل بالتراث مشدود إليه بل - عند البعض - خاضع له تماما بينما هذا التراث مثقل بدوره بالكثير من العناصر السلبية التي تعيق او تحول دون، التفكير العلمي.

         تنحو بعض الأدبيات الى ان آفة التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر هو هيمنة الخرافة المستمدة من التراث العربي على هذا التفكير. وللتدليل على مدى تغلغل الخرافة في التفكير العربي المعاصر تشير الدراسات الى الانتشار الواسع للأساطير وممارسات الشعوذة والتنجيم والتبريج وتعاطي السحر والطير والإيمان بالاشباح والاعتقاد في الاموات والاولياء ودعاوى امتلاك الجن والاستعانة بهم وقصص تلبس الجن بالبشر وزواجهم منهم واستيلائهم على مساكنهم. وتؤكد ذات الادبيات ان تلك الممارسات والمعتقدات الخرافية لا تقتصر على التجمعات البدائية أو الريفية والشرائح الدنيا من المجتمع العربي بل تتجاوزها الى التجمعات الحضرية والشرائح المتعلمة من الذكور والاناث صعودا الى النخبة الثقافية والسياسية العربية في قمة المجتمع.

         يردد البعض احيانا مقولات تفيد بأن لغة العرب نفسها أي اللغة العربية لا تساعد على التفكير العلمي. ولم اقف على تعليل مفصل لهذه الدعوى غير انه قد تكون تعليلاتهم ما يشير اليه البعض من ان اللغة العربية لغة تغري بالاهتمام والتأثر بشعرية وموسيقية الخطاب اكثر من مضمون الخطاب ومعناه. ولعل مما يشير الى بعض ذلك مقولة البروفسور جيب (الخطبة الفنية تثير مخيلة العربي بشكل آلي، والكلمات تذهب بشكل مباشر الى ادراكه دون ان تمر بأية مصفاة منطقية أو فكرة يمكن ان تضعف او تقتل تأثير الكلمة في مخيلته).

         تلك بعض وربما أهم ما يورد كمعوقات ثقافية متوارثة عن التراث العربي تعيق التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر.

         إن التفكير العلمي هو التفكير المنسوب الى العلم، ولكي يصح نسب تفكير ما الى العلم بحيث يوصف بانه علمي لابد ان يكون تفكيرا مستهديا ومتسما بروح العلم وملتزما بمنهجه وأسسه ومقولاته المعتمدة. ولكن ما هو العلم؟

         العلم بمعناه اللغوي الواسع هو نقيض الجهل. وهو بهذا المعنى يشمل الخطأ والصواب والظني واليقيني والجزئي والكلي مما يتحقق به أو يتحصل منه معرفة ايا كان موضوعها. على ان العلم بمعناه اللغوي الخاص يقتصر عادة على ما تبين صوابه ويقينيته وسلامته.

         أما اصطلاحا، فلا يبدو أن هناك تعريفا اصطلاحيا متفقا عليه للعلم، حيث تتبنى اتجاهات متباينة مفاهيم متباينة بل متناقضة للعلم. بيد ان الشائع في الثقافة الغربية الحديثة هو حصر معنى العلم على ما شاع تسميته بالعلم الطبيعي او التجريبي أي ما يثبت أو يمكن اثباته عن طريق النهج التجريبي.

         فان العلم بهذا المعنى الاصطلاحي الغربي يضيق ليس فقط عن الوحي أي المعرفة المتلقاة عن الله عن طريق رسله وانما ايضا سائر ما يعرف بالعلوم الإنسانية والتي ما زالت مستعصية على محاولات بنائها على ذات اسس ومتطلبات العلم التجريبي. وقد أثار ما عرف بالعلوم الصورية، وخاصة علما الرياضيات والمنطق، والتي تعذر حتى الان اخضاعها لمتطلبات العلم بمعناه الاصطلاحي الغربي السائد بينما- في نفس الوقت - من الصعب انكار علميتها حرجا للقائلين بالمفهوم الاصطلاحي الغربي للعلم مما اضطر البعض الى الدعوة الى توسيع هذا المفهوم ليتسع لعلمي الرياضيات والمنطق.

         من الواضح ان تحديد ما اذا كانت هناك معوقات للتفكير العلمي في التراث الثقافي العربي وما هي هذه المعوقات سيختلف باختلاف ماقد يتبناه المرء من مفهوم للعلم.

         قد يكون مقبولا ان يتأسس هذا البحث عن معوقات العلم في التراث الثقافي العربي على قاعدة ان التفكير العلمي تفكير يقوم على دليل، وان من المتعذر اثبات علمية معرفة لا تقوم على دليل.

         لعل من الواضح ان ما ذهبت اليه أدبيات نقد العقل العربي من وجود عناصر ثقافية سلبية (معوقات) في التراث الثقافي العربي تعيق او تؤثر سلبا في التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر مبني على مقدمة ضمنية مفادها ان للتراث تأثيرًا على الفكر.

         إن تأثير التراث على تفكير الورثة أمر تدعمه الملاحظة. ولعل من اوضح حالات استمرار التراث وما يتضمنه من أفكار وأنماط تفكير في فكر الورثة ما هو ملحوظ من استمرار الاجيال (الورثة) في الالتزام بالتفكير الديني ذاته الذي كان سائدا لدى الاجيال التي ورثت عنها تراثها.

         على أن التسليم بأن التراث يؤثر في تفكير الورثة لا يعني ابدا ان هذا التأثير تأثير حتمي او انه تأثير مطلق او كلي اذ لو كان الامر كذلك لما كان ما هو مشاهد من التغير التدريجي واحيانا التحول الكبير والمفاجئ في فكر الاجيال المتتالية ضمن نفس المجموعة الثقافية. ولو لم يكن مثل هذا التغير او التحول الفكر الذي يتنافى مع حتمية وكلية تأثير التراث على الفكر امرا ممكنا لبدت التدابير الالهية والرسالات السماوية التي تتالت طلبا للتغيير عبثا يتعذر تعقله ولما كان هنالك معنى لدعوات وحركات التغيير الثقافي التي شهدها ويشهدها المجتمع البشري.

العوامل المتصلة بتأثير التراث على الفكر

         الواقع ان التراث انما يؤثر في فكر الورثة في وجود عوامل معينة وبحيث ان عدم توفر تلك العوامل لتراث ما او لبعض عناصره يترتب عليه ضعف او انتفاء تأثير ذلك التراث او تلك العناصر على فكر الورثة. وليس من اليسير التحديد الدقيق والشامل للعوامل التي ترتبط او تقترن بتأثير التراث على فكر الورثة. بيد انه يمكن القول ان العوامل التي ترتبط بالتأثير السلبي لعناصر تراثية ثقافية على تفكير الورثة تتضمن:

  1. أن تكون تلك العناصر عناصر سلبية

  2. حضور تلك العناصر في وعي / لاوعي الورثة

  3. غياب وعي فاعل يؤمن نجاح الورثة في مقاومة التأثر بالعنصر المعني

  4. وجود تناقض أو تنافر إقصائي بين العنصر المعني ومبدأ التفكير القائم على الدليل أو دليل معين أي التفكير العلمي.

  5. وعي الوارث، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي، بوجود تناقض اقصائي بين العنصر السلبي ودليل ما أو حقيقة علمية معينة وانحيازه، أي الوارث، الى العنصر السلبي في محل التناقض.

         لقد قدرنا ان وجود عوامل معينة مثل العوامل السابقة ضروري ليتحقق لعنصر تراثي ثقافي ما تأثير سلبي على التفكير العلمي للوارث لانه لا يبدو ان مجرد وجود عنصر تراثي ثقافي يكفي لان يكون مؤثرا سلبيا على، وبالتالي عائقا لـ، التفكير العلمي لدى الوارث.