ملتقيات العربي

ندوة المجلات الثقافية ودورها في الإصلاح الثقافي

استخدام التكنولوجيا في نشر الثقافة العلمية

تكنولوجيا المعلومات وتطور العلم
من منظور الثقافة العلمية
د. نبيل علي

         كل عصر جديد يعني علما جديدا، ويكاد عصر المعلومات يشطر مسار تطور العلم إلى شطرين: ما قبل عصر المعلومات وما بعده. إن العلم وفلسفته بصدد نقلة نوعية حادة تفوق بكثير تلك النقلة التي شهدها عصر النهضة، والتي عاب عليها البعض أنها قامت بإعادة ولادة الحقائق القديمة أي باستعارة المعرفة القديمة، وليس باكتشاف معرفة حديثة.

         إن معرفة عصر المعلومات تكاد تحيل قدرا لا يستهان به من معرفة الماضي وفلسفته إلى نوع من (الفلكلور العلمي) و(الميثالوجيا الفلسفية)، في ذات الوقت الذي تسرع فيه تكنولوجيا المعلومات بانضمام كثير من إنجازات الماضي إلى دنيا المتاحف، وخير شاهد على ذلك ما فعلته هذه التكنولوجيا في عقر دارها؛ فقد شهد تاريخها القصير للغاية، والذي لا يزيد عن نصف القرن إلا بقليل، أجيالا متعاقبة من الكمبيوتر سرعان ما انقرضت، وأجيالا من البرمجيات والروبوتات وصمت بالغباء وبدائية العصور الحجرية، لذا فهي تصبو حاليا إلى أجيال أكثر ذكاء وقدرة على محاكاة قدرات ذهن الإنسان وحواسه.

         إن معرفة الحاضر تواجه الأزمات على جميع الجهات، فعلوم الإنسانيات باتت في مسيس الحاجة إلى منهج جديد يخلصها من تبعيتها المنهجية لعلوم الطبيعيات والتي باتت ـ هي الأخرى ـ تواجه أزمة منهجية لا تقل حدة، والتي تعود أساسا إلى عجزها عن تناول ظاهرة التعقد.

         سيولد عصر المعلومات علما جديدا، وسيفرز أجناسا جديدة من المعرفة ستغير بصورة جذرية من ملامح النسق العلمي العام: منهجيا وموضوعيا، بل ربما يصل الأمر إلى إعادة تعريف مفهوم العلم ذاته. لقد ركزت فلسفة علم ما قبل عصر المعلومات على نظرية المعرفة دون غيرها من فروع الفلسفة، ساعية إلى رسم حدود ما يمكن أن يعرف، وما هي السبل إلى معرفته، وكلا الأمرين ذو علاقة وثيقة بتكنولوجيا المعلومات، فقد مدت من حدود أفقنا المعرفي ووفرت لنا سبلا عديدة، وغير مسبوقة، لاكتساب المعرفة.

         خلاصة القول لقد أظهرت النقلة المعلوماتية أن فلسفة العلم لم تعد رفاهية أكاديمية بل ضرورة لإخراج العلم من أزمته الحالية، ومدى حاجته إلى هداية من الفلسفة، ويزعم الكاتب أن علم عصر المعلومات سيعيد الهيبة لفلسفة العلم بل ربما للفلسفة عامة، وإن كان القرن العشرون قد شهد فئة من (العلماء ـ الفلاسفة) من أمثال برتراند راسل وأينشتين وإرنست ماخ، وإن كان هذا استثناء فيما مضى، فعلى ما يبدو ـ ومع ارتقاء المعرفة الإنسانية ـ لا بد للعالم أن يكون فيلسوفا وللفيلسوف أن يكون عالما، وربما يجوز لنا أن نضيف ولا بد للعالم أن يكون فنانا، وللفنان أن يكون عالما.

         فلا يخفى على أحد أن كثيرا من علمائنا باتوا أنفسهم في حاجة إلى تثقيف علمي يحررهم من أسر تخصصهم الضيق، ويسد فجوات الفراغ الفكري لديهم. وكما هو متوقع، لا يقر هؤلاء العلماء المتخصصون بسهولة بوجود مثل هذا الفراغ الفكري، وغالبا ما يملأونه بمط نطاق تخصصهم العلمي، متخذين منه نوعا من (الأيديولوجيا الشاملة) يفسرون بها العالم من حولهم. ومآل ذلك ـ في النهاية ـ هو الانغلاق في ثقافة أحادية الأبعاد، واختزال العالم ومشكلاته في عدد محدود من المقولات والمسلمات، أو الوقوع في فخ (شبه العلم quasi-science) والسطحية العلمية.

         إن إثارة الانبهار بالعلم وانجازته لدى المشاهد العربي سلاح ذو حدين: فمن جانب يعمق لديه نزعة تبجيل العلم واحترام الفكر، ومن جانب آخر يولد لديه الشعور بصعوبة لحاقنا به.

         بصورة عامة، يمكن القول إن توجهات علم عصر المعلومات على المستوى الإخباري (الموضوعي) تتمحور حول مبدأ رئيسي، هو ما يمكن أن نطلق عليه مبدأ (المؤالفة بين المتضادات)، فقد أظهرت تكنولوجيا المعلومات قدرة فائقة على لم الشمل المعرفي من خلال كسرها لكثير من الثنائيات التي يرجع كثير منها إلى الإرث الديكارتي القديم وهي:

  • المؤالفة بين المادي واللامادي.

  • المؤالفة بين الحيوي والفيزيائي.

  • المؤالفة بين الإنساني والآلي.

  • المؤالفة بين الواقعي والخائلي.

  • المؤالفة بين الفردي والجمعي.

  • المؤالفة بين المحلي والعولمي.

  • المؤالفة بين الحالي والتاريخي.

  • المؤالفة بين الميكرو والماكرو.

المؤالفة بين خصوصية وعي الإنسان وعمومية مادة بنائه.

         لقد انحاز علم ما قبل عصر المعلومات في مجمله إلى طرف واحد من هذه الثنائيات متجاهلا الآخر، إما عجزا عن المؤالفة وإما إسرافا في أحادية التوجه، ويمكن النظر إلى مسار تحور العلم ـ في كثير من جوانبه ـ كمتغير تابع لتأرجحه ما بين الطرفين المتضادين لهذه الثنائيات.

         تعزى قدرة تكنولوجيا المعلومات على هذه المؤالفة إلى ثنائية (الصفر والواحد)، تلك الثنائية الكامنة في كل ما هو ميكروي.

         في ظل اقتصاد المعرفة أصبح للعلم شأن كبير في مجال الاقتصاد وخير دليل على ذلك ما تحظى به أمور الملكية الفكرية ورأس المال الذهني من أهمية في الخطاب الاقتصادي الجديد، من جانب آخر فإن الفجوة العلمية بين العالم المتقدم والعالم النامي تزداد اتساعا يوما بعد يوم مما ترتب عليه زيادة الفجوة الاقتصادية بينهما.