ملتقيات العربي

ندوة الثقافة العلمية واستشراف المستقبل العربي

كلمة الدكتور سليمان العسكري رئيس تحرير العربي

كلمة الدكتور سليمان العسكري رئيس تحرير العربي
بسم الله الرحمن الرحيم

معالي وزير الإعلام الأستاذ/ محمد عبدالله أبو الحسن,
معالي السادة الوزراء والسفراء,
الإخوة والزملاء ضيوف ندوة مجلة العربي من مفكرين وكتاب وباحثين وإعلاميين,
أيها الجمع الكريم,

         باسم مجلة العربي, أحييكم وأرحب بكم على أرض بلدكم الثاني الكويت. إنها لمناسبة سعيدة حقًا أن نجتمع معًا لنقيم بيننا هذا الحوار الثقافي الخلاق, حوارا يجمع بين الإخوة من المشرق ومن المغرب في التئام نادر يعبر عن طبيعة الجسد العربي الذي ننتمي إليه جميعًا.

          لقد دأبت مجلة العربي في سنواتها الأخيرة على إقامة هذا التجمع الثقافي الحاشد, وفي كل مرة تختار موضوعًا يدخل في صميم اختصاصها كمجلة تعبر عن لسان حال الثقافة العربية في لحظتها الراهنة. كان موضوع ندوة العربي الأولى يدور حول قضايا النشر الإلكتروني, وهو تحد جديد فرضته علينا التكنولوجيا المعاصرة, وقد صاحب عقد هذه الندوة افتتاح العربي لموقعها الجديد على شبكة الإنترنت العملاقة, ولم يكتف هذا الموقع التفاعلي بعرض صفحات المجلة فقط , ولكنه حرص على أن يثير العديد من القضايا الثقافية وأن يدعو المتصفحين للمشاركة فيها, ونحن ندعوكم جميعًا لزيارة هذا الموقع والمشاركة في تطويره بالرأي والاقتراح.

         ودارت الندوة الثانية حول ثقافة الطفل, وهو موضوع تضعه (العربي) في قمة اهتماماتها, خاصة وهي تشاهد هذا الإقبال الشديد الذي يبديه أطفالنا العرب نحو مجلتهم (العربي الصغير) التي نصدرها في أول كل شهر وتوزع اليوم أكثر من 100 ألف نسخة في كل أرجاء البلاد العربية, ويتجلى ذلك الاهتمام أيضًا في مئات الرسائل التي ترد للمجلة, ونحن نفخر بأننا بهذه المجلة نسد ثغرة خطيرة بالنسبة للطفل العربي المحروم ثقافيًا, والذي لا يبلغ نصيبه من كتب ومجلات الأطفال إلا بضعة أسطر كل عام.

         أما ندوة العربي الثالثة (الغرب بعيون عربية), فكانت حول أدب الرحلات من وجهة نظر عربية ساهم فيها رحالونا الأوائل في نقل صورة أمينة للآخر, ومنذ عهد مبكر, وهو موضوع تعد (العربي) نفسها واحدة من رواده المعاصرين. فعلى صفحاتها ديوان ضخم من الأسفار, شمل كل بلدان العالم تقريبا , وأعتقد - دون أدنى مبالغة - أن مجلة العربي قد أعادت صياغة رؤيتنا لهذا العالم, من خلال أقلام محرريها وعدسات مصوريها, وعبر أكثر من ألف استطلاع خلال 46 عامًا.

         وها نحن نجتمع اليوم من أجل ندوتنا الجديدة (حوار المشارقة والمغاربة - الوحدة في التنوع), وهو موضوع غاية في الأهمية, ليس بالنسبة لمجلتنا فقط, وإنما أيضًا للواقع الراهن في الثقافة العربية. وكانت غاية العربي منذ أعدادها الأولى أن تكون صلة وصل, وجسر تلاق بين مشرق العالم العربي ومغربه, وبين شماله وجنوبه, وكانت دائما ـ وآمل أن تظل كذلك ـ بمنزلة السفير فوق العادة, الذي يتجاوز الحدود الجغرافية بأبعادها السياسية, ويعلو على الخلافات اللحظية, ومن يتصفح منكم عددها الأول الذي صدر في الأول من ديسمبر عام 1958, فسوف يجد أنها قد نشرت ثلاثة استطلاعات مصورة, أحدها عن البحرين, وهي أقصى نقطة في الشرق العربي, وثانيها عن تمور العراق الجار الأبدي, وثالثها عن ثورة الجزائر المجيدة التي كانت في ذلك الوقت في أوج اشتعالها, للتخلص من نير الاستعمار الفرنسي. وظل هذا دأب العربي على امتداد مايقارب نصف قرن من عمرها, تجمع على صفحاتها البلدان والأشخاص والأفكار والإبداعات من أقصى الشرق العربي حتى أقصى مغربه.

         وقد آمن القائمون على العربي من مسئولين وعاملين , أن القوة الحقيقية للمجلة كمطبوعة رائدة تكمن في هذا التنوع, وفي قدرتها على أن تجعل من صفحاتها ساحة تتقابل فيها الأفكار, تتحاور وتتجاور وتتصارع دون قيد جغرافي أو حَجْرٍ فكري.

         كما تمثل ندوتنا لهذا العام الدرجة نفسها من الأهمية بالنسبة لواقع الثقافة العربية, ففي هذه الأيام تهدد رياح العولمة كل الهويات الوطنية المهتزة وتوشك أن تمحوها أو تهمشها. والثقافة العربية مثل العديد من الثقافات العتيقة مهددة بهذا التحدي, فهي لا تعاني أمراض التخلف التي يعانيها المجتمع العربي, ولا وهن درجة الحرية الممنوحة لها, ولا اختناق عوامل الإبداع والابتكار فيها فحسب, ولكن الخطر الأكبر على هذه الثقافة, هو خضوعها لعوامل الفرقة والتناحر بين عناصرها المختلفة, والسعي من جانب بعض أطرافها لإلغاء الآخر واستبعاده أو حتى تجاهله والتقليل من دوره فيها.

         إن قوة الثقافة العربية هي في وحدتها المتنوعة, وفي تنوعها الذي يتدفق كنهر نحو مصب واحد, فقد بزغ نورها مع الدين الإسلامي, وانتشرت بانتشاره, فهي لا تخص بلدًا بعينه, ولا شعبًا بمفرده, ولا جماعة عرقية مهما بلغت درجة أصالتها. وإنما تخص جماع روح هذه الأمة, فهي نتاج الباحثين عن جوهر الحياة, والغواصين في مياه الخليج العربي, وانطلاق القبائل المتعددة الأنساب في الصحراء العربية, وثمار الفلاحين ذوي الحرث والغرس على ضفاف أنهار النيل ودجلة والفرات وبردى, والرعاة الأشداء على جبال الأطلس, وهي تخص أبناء المدن, وبدو الواحات, ومدرسي القرى المعزولة, وتخص أيضًا تلك العرقيات المتعددة التي تعيش معنا, والتي تجمعنا معها أواصر الجغرافيا والتاريخ, ووشائج الدين, الأكراد في الشمال والأمازيغ وغيرهم في الغرب, والقبائل الإفريقية في الجنوب.

         وهدفنا من هذه الندوة هو مواصلة السير إلى الأمام, والتخلص من اجترار ما مضى من سوء الفهم تلافيًا للخلاف, أو للتأسف على ما فات, فالأسف تبديد مروع للطاقة, لا يصلح للبناء فوقه بقدر ما يغري بالغوص فيه., وكل ما يقال عن مركزية الثقافة العربية, وعن الانفصال بين مشرقها ومغربها, وعن العربي والمستعرب, والأصيل والبيسري, كلها مسميات فقدت معناها, وفات أوانها, لأنها من مخلفات الضعف والفرقة والانحطاط, إننا في حاجة إلى رؤية تجمعنا معًا, إلى تضافر كل التيارات الفكرية والسياسية من أجل تجديد هذه الثقافة, وجعلها عصرية موضوعية قائمة على إعمال العقل, وليس على الجهل والخرافة. نريدها ثقافة مؤثرة في الناس, محافظة على تراثهم, مستخرجة من هذا التراث كل ما هو إيجابي وصالح لظروف العصر, نريدها أن تأخذ مكانتها في التعبير عن شخصيتنا وحضارتنا وعن استشرافنا للتقدم وليست دليلاً على التخلف.

         إنني أرحب بكم جميعا مغاربة ومشارقة, مهتمين ومهمومين بقضايا الثقافة العربية, وأتمنى أن تكون هذه الندوة مقدمة لإيجاد صيغة للالتقاء معًا بشكل دائم ومناقشة كل ما يحول بيننا بشكل صريح ومباشر.

         كما أتمنى أن يكون حواركم مثمرًا وأن تشعروا بأنكم بين أهليكم وإخوانكم, وأشكركم مرة أخرى...

         والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.