ملتقيات العربي

ندوة حوار المشارقة والمغاربة

كلمة الضيوف

كلمة الضيوف

           السيد وزير الإعلام ...... الأستاذ الدكتور سليمان العسكري: رئيس تحرير مجلة العربي
الزميلات والزملاء
السيدات والسادة

         اسمحوا لي أن أعبّر عن سعادتي، وسعادة زملائي، بالاشتراك في هذه الندوة التي تقيمها مجلة العربي بعنوان ( الغرب بعيون عربية ). ومن سعادتنا تقديرنا لمجلة العربي التي لا تزال تواصل دورها التنويري الحيوي، فمنذ صدورها سنة 1958، وهي تعمل على تأكيد وحدة الثقافة العربية بالتنوع القومي لأقلامها التي تتوزع على أقطار الوطن العربي كله في دلالة عربية ساطعة لابد من إبرازها في هذا الزمان الذي يتنكّر فيه بعض العرب لعروبتهم. ومن أيادي العربي البيضاء على الثقافة العربية أنها لم تكف في عدد من أعدادها عن إضاءاتها التي أسهمت في تعميق معارف القرّاء في كل قطر عربي بغيره من الأقطار، وأضافت إلى ذلك الاستطلاعات التي كانت نورا للأعين العربية، كي ترى أقطار العالم على امتداد كوكبنا الأرضي، الأمر الذي أضاف إلى الدور القومي لمجلة العربي بعدا إنسانيا، وصلها بثقافة العالم كله. ولذلك أتاحت العربي للعرب أن يروا الغرب بعيون عربية حتى من قبل التفكير في هذه الندوة.

         ولا أحسب أن اختيار العنوان الذي أرادته العربي علامة على هذه الثورة من قبيل الاختيار العشوائي، وإنما هو اختيار نابع من رسالة المجلة في إخلاصها لأهدافها القومية والإنسانية، وأتصور أن هناك أكثر من دلالة في تخصيص ندوة لهذا الموضوع، خصوصا في هذا الوقت الذي تعاني فيه أمتنا العربية من التحولات الجذرية على المستوى القومي، والتغيرات غير المسبوقة على المستوى العالمي. هذه التحولات وتلك المتغيرات تفرض علينا مراجعة كل شيء يتصل بنا وبغيرنا، وأن نضع موضع المساءلة أوضاعنا المعرفية والثقافية، سواء في علاقتنا بذواتنا، أو علاقتنا بذلك الآخر الغربي الذي تتعدد تجلياته وتتباين أحوال علاقتنا به في العديد من المجالات.

         ومن المؤكد أن دراسة الكيفية التي رأينا بها الغرب بعيون عربية في الماضي هو المقدمة المنطقية لدراسة أحوال رؤيتنا لهذا الغرب بالأعين نفسها، من الحاضر الذي نسعى إلى تطويره، كي نؤسس برؤانا تصورات أفضل للمستقبل الذي نحلم به لأنفسنا ولغيرنا.

الزميلات والزملاء

         ليس الغرب الذي نتحدث عنه في هذه الندوة مفردا تراه الأعين بصور متعددة، أو تراه الأعين في صورة واحدة، وإنما هو جمع متباين الأبعاد، متعارض الدلالات، متصارع المصالح، فهو الغرب الذي انقسم بانقسام أولويات وتوجهات وخصوصيات أقطاره، ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا. وذلك في مواجهة الأعين العربية التي تباينت نظراتها إلى الغرب، فشاهدته مفردًا بصيغة الجمع، وجمعا بصيغة المفرد، وتباينت رؤاها عنه حسب تحولات مواقفه من ناحية، ومن ناحية مقابلة حسب معارف الأعين الناظرة وثوابتها القبليّة التي كانت أطرا مرجعية في معرفة الغرب التي ظلت معرفة بالنفس، ونظرات لا تخلو من العبرات، سعيا وراء تخليص الذهب الإبريز من كل ما يشبه باريز.

         لقد تعلمنا أن الأنا لا تستهل وعيها بنفسها إلا بانقسامها الذي يجعل منها ذاتا ناظرة وذاتا منظورا إليها. ولا يكتمل وعيها بنفسها إلا بحضور الآخر الذي ترى فيه وجودها، منعكسا بالسلب الذي يفرض المجاوزة، أو الإيجاب الذي يستلزم المواصلة. ويعني ذلك أن وعي الغيرية هو الوعي المكمل لوعي الذاتية في معرفة الأفراد والأمم على السواء. ولذلك فإن بقدر ما كان حضور الآخر الغربيّ ضروري لوعي الأنا القومية بحضورها الذاتي، في علاقتها بغيرها، كان هذا الآخر الغربي بمثابة المرايا التي أتاحت للأنا القومية الابتعاد عن وجودها المتعين لتغدو أكثر اقتراباً منه وإدراكا له. ومن الطبيعي ـ كذلك ـ أن تغدو كل رحلة إلى الآخر الغربي، وكل كتابة عنه، ابتعاد يراد به القرب، وذلك في مدى معرفة الآخر التي هي معرفة الذات، أو التي هي محاولة من الذات لمجاوزة ما هي فيه باكتساب ما تفتقد إليه في غيرها الذي ترى فيه نفسها بسلبها وإيجابها.

         وبقدر ما كان التحديق إلى الغرب بعيون عربية ينطوي على صدمة المعرفة بأحوال تخلف الأنا القومية، في المدارات المغلقة التي أطبقت عليها، كان هذا التحديق يؤسس لعلاقة لم تنبن على مبدأ التكافؤ أو المساواة بين طرفيها، فالأنا الناظرة ظلت تشعر بنقصها في مواجهة المنظور إليه. والمنظور إليه ظلّ يؤرق هذه الأنا، ويزيدها توترا كلما ازداد تقدما، وذلك بالقدر الذي ظلّ يهددها به على مستويات كثيرة، وكانت النتيجة علاقة ملتبسة لم تخل من تعقيدات الآليات الدفاعية التي تلبي إليها الأنا عند الشعور المفاجئ بما يزعزع ثباتها أو يقينها المتوارث.

         وأحسبني في حاجة إلى تأكيد أن علاقتنا بالغرب لم تكن علاقة تكافؤ قط، في تحولاتها أو تجلياتها الحديثة، سواء في رؤيتنا إياه بعيوننا العربية، أو رؤيتنا لأنفسنا من خلال مراياه التي لا تزال تصنعنا، أما تخلفنا، فقد بدأ هذه العلاقة بصدمة الهزيمة التي تفجّرت في الوعي القومي مع سقوط قنبر نابليون بونابرته على مصر في ختام القرن الثامن عشر، سنة 8971. ودفعتنا هذه الهزيمة إلى معرفة أحوال المنتصر، واكتشاف أسرار تقدمه مقابل أسرار تخلفنا. وتتابع الرحلات إلى أقطار المنتصر الذي غدا جمعاً وليس مفرداً، وتكاثرت رؤى الأعين التي لا تزال تبحث في عوالم المتقدم عن أسباب تفوقه المتصل، في الوقت الذي ترى في مراياه العوامل التي لا تزال تحول بيننا والتقدم الذي نحلم به لكي نكون شبيها بهذا المنتصر من أوجه تقدمه الدائم. وكانت المعضلة دائما هي كيف نشبهه من غير أن ننسخه، وكيف نحذو حذوه من غير أن نكون إياه. صحيح أن المشابهة تعني المغاير حتى لو أدنت بطرفيها إلى حال من الاتحاد، لكن المشابهة ـ من زاوية مغايرة ـ تعني اتباع صورة لأخرى، أو جعل المشبه به الطرف الأعلى الذي يلحق به المشبه لتأكيد صفة من صفاته.

         هكذا، كانت العلاقة بالآخر الغربي علاقة اتباع نابع من عدم تكافؤ العلاقة في كثير من الأحيان، وذلك على النحو الذي قَرَنَ الآن بالتبعية. وقد زاد من حدة هذا الوضع التباس الوجه الاستعماري بالوجه الحضاري للغرب الذي لم نكف عن محاولات التشبه به في آلية ولع المغلوب بتقليد الغالب، التي نعرفها منذ ابن خلدون. وفي تقديري أن حرص كُتّاب الرحلات إلى الغرب على إعلان تمسّكهم بشريعة دينهم، وأنهم لا يستحسنون إلا ما يستحسنه العقل المحصّن بالشعر، والعكس صحيح بالقدر نفسه، هو نوع من الآلية الدفاعية.

         لقد ظلت الأنا القومية تلجأ إليها، مخافة الذوبان في الغرب، أو الوقوع في شراك الاتباع الذي هو الوجه الملازم للتبعية. ويبدو أن المقاومة المضمرة والمعلنة، في نصوص أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهما ـ لهذا النوع من الاتباع، كانت الوجه المقابل للمسكوت عنه من خطاب الرغبة التي التي اقترنت بالوقوع في شباك غواية الاتحاد بالآخر، أو التشبه به إلى آخر المدى. ولذلك انبنت الكتابة عن هذا الآخر على تعدد المستويات، المتجاورة المتوازية، أو المتضاربة المتعارضة، وذلك داخل النصوص التي يبين ظاهرها عن باطنها، ويكشف المنطوق منها عن المسكوت عنه فيها من الكلام غير المباح النطق به.

         لكن هذا التعدد في المستويات ظل يرجعّ اصداء الأنا التي لا تزال أصداؤها تبحث عن إجابة في أوراق هذه الندوة. أي الأسئلة التي تقول: كيف نكون مثل هذا الآخر الغربي في تقدمه ولا نكون مثله في الوقت نفسه؟ كيف نعيد إنتاجه على شاكلتنا من غير أن يكون هو نحن أو نحن هو؟ هل السبيل إلى التقدم أن بمحاكاته محاكاة تامة أو ناقصة؟ هل نبدأ من غيره؟ وأين غيره؟ وهل يمكن أن نبث إبداعا ذاتيا؟ وكيف ذلك؟ وحتى لو كان ذلك ممكنا، فهل يمكن أن يحدث دون إفادة من هذا الآخر الغربي ومعرفة بما أنجز؟

         هذه الأسئلة ـ وغيرها كثير لا يزال مطروحا علينا، ورثنا بعضه عن عيون أسلافنا التي رأت ما أدهشها، وصنعنا نحن بعضها الآخر نتيجة شروط زماننا ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسئلة كلها غيرها في هذه الندوة التي يستحق التحية من فكّر فيها، ومن قاموا بتنظيمها.

د.جابر عصفور