ملتقيات العربي

ندوة حوار المشارقة والمغاربة

اليوم الثاني الجلسة الصباحية الثانية

أبحاث الفترة الصباحية الثانية ليوم الأحد
رئيس الجلسة : أ.د. علي الطراح عميد كلية العلوم الاجتماعية
القسم الأول: نحن والغرب
(العرب وعلاقتهم بالغرب)
مصطفى نبيل

نحن والآخر: التأثير والتأثر

         نحن والغرب والتأثيرات المتبادلة، ورؤية كل منهما للآخر، إحدى أهم القضايا الثقافية التي تواجهنا، وتدوين الرحيل إلى بلاد الغرب، نموذجًا حيًا على مدى تلك التأثيرات المتبادلة.

         وهي علاقة ملتبسة، فتأتي من الغرب المعارف المختلفة، والتقدم العلمي، ويأتي منه أيضا محاولة التبعية والهيمنة!

         نجد في الغرب تطور العلوم وتاريخها، والأفكار الحديثة، ونحتاج إلى عملية تحديث كبرى كي نلحق بركب التقدم، ونحن ننتمي إلى عالم واحد، ونوع واحد، والتقدم البشري العصري هو جماع التجارب الإنسانية، بدءًا بقدماء المصريين ومرورًا بالرومان واليونان والعرب.

         ونحن العرب ندين بالكثير للغرب، كما دان الغرب بالكثير للحضارة الإسلامية في العصور الوسيطة.

         وتأتي معرفة الأجيال المعاصرة بالعلوم الطبيعية والطب والهندسة في جميع فروعها من الغرب.

         ويتميز التاريخ الحديث للغرب خلال القرون الأربعة الماضية، بالإنجازات المعرفية الكبيرة التي استطاعت أوربا بواسطتها الانتقال بالعالم إلى مرحلة جديدة، يحتل فيها مكانة عالية، واقترنت هذه الإنجازات العلمية بالاتجاه إلى تطبيقها فغيرت وجه العالم.

         وظهرت ثنائية في حياة الغرب.

         تقديس الحياة وصناعة الأسلحة التي تدمر البشرية، التقدم التقني العالي والسعي إلى الهيمنة على العالم، ومن ناحية أخرى الفنون والثقافة الإنسانية الجميلة وإشاعة الانحلال.

         ويتساءل زائر أي بلد غربي هل ما يراه سماحة أم إباحة؟.. فالمجتمع الغربي المتحضر يحمل كل مزايا التحضر وآفاقه، ولكنه يحمل عناصر البقاء والفناء معا، تسير هذه الدول على حبل مشدود بين السماحة والإباحية التي كانت على الدوام سبب انهيار الأمم.

         تفوق عقلي ومعرفي واستغلال هذا التفوق من أجل السيطرة، وظهر الارتباط الوثيق بين الثقافة والسياسة، وظهرت أيضا ازدواجية المعايير والنأي عن العدل.

         فعند نهاية الحروب الصليبية، قامت النهضة الأوربية، وأخذت أوربا تخلع ثوب القرون الوسطى، وتوقف النمو أو كاد في الشرق، وساد التقليد والجمود مما أدى إلى اختلال توازن القوة بين الشرق والغرب،وانتهى بالسيطرة الكاملة للغرب على الشرق وبزوغ (الظاهرة الاستعمارية).

         وحقا ما ذكره المؤرخ البريطاني السير ستيفن رونسيمان.. علاقة الشرق والغرب، سلسلة طويلة للتفاعل والاختلاط، وكانت الحروب الصليبية حلقة مأساوية هدامة، فقد كان فيها الكثير من الشجاعة والقليل من الشرف، وكثير من التقوى وقليل من التفهم، ولطخت المثل العليا بالقسوة والجشع، ولوث التفاني والجلد الإحساس الأناني الأعمى، واختلط أخيرا السمو الأخلاقي بضيق الأفق.

         وجاءت موجة جديدة من اتصال العرب بالغرب مع صليل السيوف وقصف المدافع أي مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر منذ قرنين من الزمان، وكانت هناك بوادرنهوض في الشرق كما يرى البعض، وأجهضته الحملة الاستعمارية محمود شاكر في الطريق إلى ثقافتنا (وبيتر جران) ما بعد المركزية الأوربية.

         ويرى البعض الآخر أن الحملة الفرنسية جلبت معها المطبعة لأول مرة والتي كانت بداية يقظة الشرق.

         وجاتء حصيلة قرن ونصف القرن من الحكم الاستعماري سلبية تماما، سواء بالنسبة للنهضة بجميع جوانبها الاجتماعية والاقتصادية، أو فيما يتعلق بالتعليم ومحو الأمية، وشكل الاستعمار حجر عثرة حقيقية في طريق النهوض والتقدم.

         وواجهت حركة النهضة العربية إشكالية عظيمة، مازالت قائمة حتى اليوم، رغم التجارب والخبرات التاريخية، فتواجه الحضارة العربية طرقات عنيفة من حضارة أخرى أقوى وأكثر عنفوانا وتنجذب إليها في الوقت ذاته!

         واختلط الأمران كالخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر، الذي يصعب على العين أن تفرق بينهما.

         فكيف نفصل في الحضارة الغربية بين التحضر من جهة والقوة والهيمنة من جهة أخرى!

         وما هي الحضارة؟ أليست مستوى عاليا من الرخاء المادي، ودرجة عالية من التقدم الفكري؟.. وفي الوقت ذاته القدرة على الارتفاع بقيم الإنسان، وحماية حصانة المواطن ضد القهر والعسف، والحفاظ على حرية الإنسان وكرامته، ورقي ذوقه في مجالات الفنون والآداب والثقافة.

         وهذه هي معاني الحضارة التي خلبت لب المسافرين والمتعاملين الأوائل من البلدان العربية إلى أوربا، وحتى حين جاءهم الأوربيون غزاة مستعمرين. نجد الجبرتي في عجائب الآثار في التراجم والأخبار يتعجب من أن سليمان الحلبي الذي قبض عليه متلبسا ومعترفا بعد قتله كليبر، ومع ذلك يقدم إلى المحاكمة!

         وشهدت العلاقات بين الشرق والغرب خلال القرون الأربعة السابقة، حلقات متتابعة مع الصراع والتوتر والمعارك الدامية والخاسرة، مما دفع الشرق إلى إيثار السلامة، ونأى في كثير من الأوقات عن الاستفادة بالقدر الكافي من علوم العصر، مما أدى إلى عدم التفاعل الخلاق مع مستحدثات العصر، ومع قيام الظاهرة الاستعمارية تحولت بلدان عربية إلى مجرد مستهلك لمنتجات وأفكار الدول الاستثمارية، ترسم السياسات لصالح الدول الاستعمارية وليس لصالح الشعوب العربية، وتعثرت الخطى - مثلا - بين الذين يطالبون بأن تكون مصر قطعة من أوربا، أو أن يكون الشرق والغرب وحدة واحدة، وبين الذين يطالبون بإغلاق الأبواب حفاظا على التراث والهوية!

         وأصبحت أعلى الأصوات أكثرها كسلا وهي أصوات المقلدين، سواء لمستحدثات العصر أو لما هو عتيق تخطاه الزمن، والبعد عن التفاعل الخلاق مع كليهما.

         والمعضلة هي كيف نستفيد من تطور المعرفة البشرية، وتجنب الهيمنة السياسية، ونسعى للتحديث ونتجنب التغريب؟

         ظهر تيار يرفض أن نتخذ من الغرب نموذجا.

         على اعتبار أن الغرب أصبح توسعيا مسيطرا وفي الوقت نفسه صاحب منهج متميز غير مجرى المعرفة في العالم.

         فمع أي الوجهين نتعامل، هل نتعامل مع إنتاج المعرفة في أشد صورها تقدما، أم مع دعوة التباعد عن السيطرة والهيمنة؟!

         ورغم هذه التساؤلات ورغم اعتراض المعترضين، فإن التعامل قائم بيننا وبين الغرب، ولم يتوقف يوما استمرار التفاعل بينهما سواء في القوى المهيمنة أو التيار الرئيسي في المجتمع العربي.

         وقد تلا رحيل الاستعمار في منتصف القرن العشرين، فترة لم تدم أكثر من عقدين، فترة قصيرة واستثنائية.

         وكل شيء يدل على أن المحصلة النهائية لقرن ونصف القرن من الاستعمار الأوربي، لم يكن من الممكن أن تكون أفضل كثيرا مما كانت عليه، وأذكر عندما سألت بن بللا عن تقييمه للتجربة العربية، قال لم نعط تحدي القوى الاستعمارية من الاهتمام، واستخففنا بها، فكان ما كان.

         والدول الاستعمارية كانت على استعداد لعمل أي شيء لكي تعطل التصنيع والنمو الديمقراطي وكذا التعليم والثقافة والتعاون بين البلدان العربية ولا أقول الوحدة العربية.

         وهناك أكثر من محاولة ناجحة للنهوض مرة في عصر محمد علي التي انتهت بموقعة (نافارين) ومرة أيام ثورة عرابي وانتهت بدخول الإنجليز في يوليو 1882 والثالثة في عصر عبدالناصر التي ضربت في يونيو 1967.

         وهناك كتاب (الاستشراق) للدكتور إدوارد سعيد، الذي يتناول العلاقة بين الشرق والغرب والذي صدر عام 1978، والذي يؤكد فيه أن الاستشراق الذي يفترض أن يساهم في الفهم المتبادل بين الشرق والغرب، هو إحدى أدوات الإمبريالية وارتباطها بالصهيونية.

         لذا، فهي تحط من قدر الشعوب والثقافات الشرقية تبريرا لاستخدام العنف ضدها، مما أتيح معرفة مزيفة مشوهة للآخرين في صور وقوالب اختزالية، هدفها التحكم والسيطرة والتلاعب.

         وحل محل (الشرق) مجموعة من الأفكار والاستعارات والأساطير لتاريخ العرب والمسلمين، وتجارب اللغة القومية، وتفرض ثقافات بديلة، وأبرز إدوارد سعيد أن الغرب ليس شيئا واحدا، فهناك الحركات والقوى والتيارات المعادية للاستعمار.

         والمثل على هؤلاء الذين لا يعرفون النزاهة صمويل هنتنجتون وبرنارد لويس وفريدمان وهذه الأفكار الاختزالية، ومع تكرارها تتشكل الأفكار الشائعة والزائفة عن الإسلام، وركوده ومقاومته للحداثة وهوس العنف اللاعقلاني.

         وعلى مدى القرن التاسع عشر، فإن المواجهة السياسية والعسكرية، قد شحذت همم المفكرين والقادة، يبحثون عن مكامن القوة في الغرب، ويحاولون نقلها، وعن مكامن الضعف لديهم ويعملون على تلافيها، وجرى كل ذلك، سواء في مجال الإنتاج أو الدفاع العسكري، أو في النظم والأساليب والأفكار والقيم، ومن الطبيعي أن تتشعب وجوه النظر وأن تتنوع التجارب.

         وجاء الاقتحام العسكري والسياسي فاضطربت المعايير، وشلت القدرة على التمييز وتاهت الفروق بين التجديد والتقليد، وبين الإصلاح والاستبدال الأعمى.

         ولم يتبينوا مدى الجبر أو الاختيار في تحديد ما يؤخذ عن الغرب، وما يترك من نظمهم وأفكارهم وأصول حضارتهم.

القسم الثاني
مفكرون عرب وماذا رأوا في بلاد الغرب؟
رحلة الطهطاوي والتواصل بين الشرق والغرب
سيرة أسامة بن منقذ والنظرة إلى الغرب
المكناسي ورحلة قديمة إلى إسبانيا

الغرب في عيون رفاعة

         إن رفاعة منبهر أشد ما يكون بالفنون الصناعية والمعارف الجديدة، ويدرك الخطر الذي يعنيه سبق أوربا، قويت شوكة الإفرنج ببراعتهم وتدبيرهم، وهذا ما دعا محمد على الاستعانة بـ (الافرنج) وأسباب البعثة إلى الغرب، وكان هدف رفاعة من كتابه حث ديار الإسلام على البحث عن العلوم البدائية والفنون والصنايع، فالحق أحق أن يتبع.

         ورفاعة لا يعمل من أجل التعريف ببلاد الفرنسيس فحسب، وإنما لحث ديار الإسلام على الأخذ بأسباب الرقي والحضارة.

         تخليص الإبريز في تلخيص باريز.

         أو - الديوان النفيس بإيوان باريس.

         تخليص الإبريز - أي الذهب - في تلخيص باريس أحد الكتب الرائدة، ربما تفوق أهميتها حدود عصرها، وكاتبه الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، الذي لا يختلف أحد على ريادته في نقل الثقافة الحديثة إلى الشرق، ولا على أثره العميق في الثقافة العربية، بل ويرى البعض أن هذا الكتاب يعد أهم وثيقة أدبية في مصر، في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

         وقصة حياة الشيخ ذات دلالات وإشارات متعددة.. وهو يشترك في الكثير من جوانب حياته مع كل من د.طه حسين والإمام محمد عبده فخرج هؤلاء من رحم الشعب، يدركون معاناته وأوضاعه البائسة، وقدم كل من رفاعة وطه حسين لبلدهم أعمالا عظيمة، وجمعتهما الدراسة في الأزهر الشريف ثم التعرف على الثقافة الغربية ببعثة كل منهما إلى فرنسا، وهو ما حدث مع محمد عبده، الذي عاش في باريس وأصدر مع الأفغاني مجلة (العروة الوثقى) وهو صاحب القول الشهير (وجدت في الغرب إسلاما بلا مسلمين، وفي الشرق مسلمين بلا إسلام).

         ولعبت الصدفة دورا مهما في حياة رفاعة، فلولا اختيار شيخه حسن العطار ما أخذ فرصة السفر إلى باريس مع البعثة المكونة من أربعين دارسا، حينما كان الفتى في مقتبل العمر في حوالي الخامسة والعشرين من عمره، وعمل بنصيحة شيخه في تدوين رحلته، وأخذ يسجل مشاهداته وانطباعاته.

         وجاء هذا الكتاب (الرحلة) غنيا بالمعلومات والمعارف والأمثلة الحية والشواهد.

         ويتضمن الكتاب في صلبه العلاقة بين الشرق والغرب، ووضع في رحلته خبرة خمس سنوات من العمل الدءوب، واستطاع أن يمزج الشرق والغرب في سبيكة واحدة، فاحتفى بإيجابيات الغرب بلا عقد وبلا أحكام مسبقة، كأي عمل علمي جاد، ومن خلال اكتشافه الغرب أعاد اكتشاف الشرق.

         ولا يدهشنا أن نراه قد أفسح في كتابه مكانا لترجمة الدستور الفرنسي، وترجمة لنصيحة الطبيب للحفاظ على الصحة.

         وإذا كان العالم الفرنسي شامبليون قد قدم الحضارة الفرعونية القديمة للعالم عندما فك شفرة حجر رشيد، فكذلك فعل الطهطاوي الذي فك شفرة النهضة الأوربية.. والتي قدم الكثير من جوانبها، وقدم للقارئ في الشرق صورة فرنسا باعتبارها عاصمة الحضارة الغربية في هذا الوقت.

         ووصل رفاعة إلى النغمة الصحيحة، والمعادلة المتوازنة، ودعا إلى ضرورة الإمساك بحضارة العصر والتفاعل معها، ولم يكن حديثه عن الحضارة الأوربية مجرد ناقل لما يشاهده وإنما كان يناقش ويحلل ويعلل ويقارن، كل ذلك في يقظة ذهن وبصيرة نافذة، يتجول في شوارعها ويراقب أهلها، ولم يغب عن باله ما يجري في وطنه، ولم يكتف بالمقارنة ولكن رسم معالم النهضة في الشرق، ونادى بسرعة العمل في اللحاق بالدول الأوربية، ونقل خبرته ومشاهداته للقارئ، وأخذ يبحث عن أسباب النهضة في مكونات حضارة العصر المتطورة، وأخذ يبحث عن إجابة سؤال.. لماذا تأخر المسلمون.. وتقدم غيرهم؟

         وأهم ملاحظاته في الإجابة عن هذا السؤال هي تفوق هذه البلاد وبراعة أهلها في العلوم البرانية والفنون والصنائع والرغبة في جلب ذلك إلى الديار الإسلامية لخلوها منها.. ومع الأسف إنه حتى اليوم يغلب على الثقافة العربية الإنسانيات على حساب العلوم الحديثة.

         وكانت رحلته - بحق - عملية وصل بين الشرق والغرب، ولم يقتصر على مجرد التعريف ببلاد الفرنسيس، بل حث شعوب الشرق على الأخذ بأسباب التقدم، وأخذ يقارن ويلتقط الفروق ويحللها، وينادي للأخذ بأسباب النهضة الأوربية، ولا يرى في ذلك أي شبهة تعارض مع ميراثه الفكري.

         ولم يمنعه شيء من البحث عن سر تقدم الغرب، يقول إذا كانت البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم والرياضة والطبيعة، وإذا كانت البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية والعمل بها، فإنها في حاجة إلى كسب ما لا تعرفه، وجلب ما تجهل صنعه.

         فكان لقاء الشرق والغرب عند الطهطاوي لقاء وفاق، قدم خلال رحلته العلوم والفنون والصناعات، ولم يجد في ذلك أي تعارض مع هويته.

المكناسي في إسبانيا

         ومن الشخصيات التي زارت الغرب وإسبانيا بالذات في القرن الثامن عشر عام 1779م، ووصف الغرب بعيون شرقية هو السفير المغربي ابن عثمان المكناسي.. والذي اتخذ موقفا مختلفا عن رفاعة.

         ولم يلفت انتباه المكناسي خلال إقامته سوى الطغيان والفجور والذي عبر عنه في كتابه (الإكسير في فكاك الأسير) ولعل قراءة هذه الرحلة وتأمل علاقات الشرق والغرب في ظروف متباينة يساهم في تجاوز حالة الإزدواجية، ويفسر سبب ضياع صوت الذين حصلوا على ثقافة الغرب، ولا يصل صوتهم إلى عقولنا وقلوبنا، ويصبح المتحدث في واد والمستمع في واد آخر.

         وصف المكناسي في كتابه معالم الحياة في إسبانيا، وتناول الحجر والبشر، وتوقف عند الرقص وفن التمثيل ومصارعة الثيران، ومختلف مظاهر العلم والفن، ولم يفته وصف الطبيعة الساحرة؟

سماحة أم إباحة؟

         وأول مايلفت نظر الزائر لإحدى الدول الغربية العلاقة بين الرجل والمرأة، هكذا كان الحال مع ابن عثمان ومع رفاعة، يقول المكناسي: اجتمع بالدار التي نزلنا بها أعيان البلد، وبعد العشاء اجتمع نساء أعيان البلد، فتلكأت في الخروج، فألح علينا الحاكم، فإذا بجمع كثير من النساء قد أظهرن زينتهن بما لا يناسب ويقول في موضع آخر.. وردت الضامات نساء الأكابر يقصد السيدات، وأحضرن الموسيقى التي لهن اعتناء كبير بها، ورقصن مع أكابر البلد نساء ورجالا.... ويصف ما شاهده في المتنزهات بقوله: وهووا من شفا جرف هار إلى بحبوبة الناس وبئس القرار.. ويضيف: اجتمعوا ذات ليلة نساءً ورجالاً ورقصت النساء كما هي عادتهن، وترى الرجل جالسًا مع امرأته وابنته ترقص مع أجنبي، ويناجي بعضهم بعضا، ولا حياء لديهم مع ما هو معلوم بينهم وشائع من الفسق والزنا، ولا يبالون بشيء فقد جبلوا على عدم الغيرة!

         وهنا يتفق ابن عثمان مع رفاعة في الموقف من العلاقة بين الرجل والمرأة، ويسجل الطهطاوي خلال رحلته إلى باريس عام 1826 تحفظاته ويصف الفرنسيين بقوله: ومن خصالهم الرديئة قلة عفاف كثير من نسائهم وعدم غيرة رجالهم، فيما يكون عن الإسلام من الغيرة! ولكنه لا يقف عند ذلك!!

         رؤية أسامة بن منقذأيام الحروب الصليبية

         ويلاحظ أن هذا الموقف من العلاقة بين الرجل والمرأة موقف قديم، تستطيع أن تجمع أطرافه في العدد من الكتابات العربية، فمثلا في كتاب الاعتبار لكاتبه الفارسي العربي أسامة بن منقذ، الذي شارك في الحروب الصليبية، يبدي دهشته من هذه العلاقة، وعندما يتطرق الحديث إلى عادات وتقاليد الإفرنج، يجد الشرقي في هذه العلاقة نقطة تمايز لديه والعكس صحيح.

         ويلفت نظر أسامة ما تتمتع به المرأة عندهم من حرية، فأفاض في نقد ذلك، وجاء على لسانه: ليس عندهم شيء.. من النخوة والغيرة، يمشي الرجل مع امرأته ويلقاه آخر، فيأخذ المرأة ويعتزل بها ويتحدث إليها، والزوج واقف بعيدا ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طولت خلالها مع المتحدث تركها ومضى..!، ويبدي دهشته من أن بعض النسوة قد لبسن الشفوف المطرزة، وجلسن على الدواوين يستمعن إلى أنغام العود والرباب....

         ويحكي مستنكرا كيف جاء افرنجي يوما ووجد رجلا في فراشه مع امرأته، فسأله: أي شيء أدخلك عند امرأتي؟ فأجاب: كنت تعبان ودخلت أستريح. قال: وكيف دخلت إلى فراشي؟ أجابه: وجدت فراشا مفروشا فنمت فيه، قال: ولكن المرأة نائمة معك. أجاب: الفراش لها، فهل أمنعها من فراشها! وقال الزوج غاضبا، وحق ديني إن عدت إلى ذلك مرة أخرى تخاصمنا!! وهذا كل تفكيره ومبلغ غيرته.

         ثم يروي قصة مدهشة أخرى.. شهدها حمام المعرة، يرى أحد فرسان الإفرنج عربيا حليق العانة، ويطلب أن يعلمه حلقها، وبعد أن علمه طلب منه أن يعلم الداما أي امرأته، فأرسل في طلبها وجاءت إلى الحمام، واستلقت على ظهرها، حتى علمها، ورجلها قاعد ينظر!

         ويتساءل مستغربا.. ليس فيهم غيرة ولا نخوة، ومنهج الشجاعة العظيمة، وما تكون الشجاعة إلا لمن لديه النخوة!

القسم الثالث
لمحات من تجربتي الذاتية
في بعض الدول الغربية
- فنلندا.
- إيطاليا.
- ألمانيا.

         * كان ذلك عام 1985 أثناء عملي بمجلة (العربي) الكويتية.

         عند استرجاع رحلتي إلى فنلندا آخر ركن في العالم، والتي نشرت في مجلة (العربي) عدد مايو 1985.. يلاحظ الاهتمام بعلاقة الشرق بالغرب، وتطور الصناعة رغم قسوة المناخ، وكيف استطاعت فنلندا أن تكون جزءا من الدول الإسكندنافية رغم اختلاف النظم والتباين في الارتباطات السياسية.

         وهذه بعض النصوص التي وردت في تلك الرحلة.

         ألحت على ذهني خلال جولتي بين ربوع فنلندا تلك العلاقة القديمة بين الشرق والغرب، والتي تبرز عند المقارنة بين حالنا وحالهم، بين أوضاع الشرق وأوضاع الغرب.. وهنا.. حيثما ذهبت تجد كل شيء منظما، وترى وجه الدولة، ليس في صورة الأوامر والنواهي أو التعليمات، بل تظهر في العناية التي تقدمها للمواطنين، وفي وضع القواعد التي تجعل حياة الناس أسهل وأجمل، ترى وجه السلطة في أقصى مكان من الغابة أو في جزيرة معزولة في صورة الخدمات التي تقدم للسكان، وفي تنظيم المباني، وفي إعداد مواقف السيارات، وفي وضع نظام (كود) للصيد والحفاظ على البيئة، وحتى ترى هذا الوجه في علامات الطريق من أجل تسهيل وتجميل الحياة.

         وقديما كان الشرق ينظر إلى الغرب على أنه مصدر الهمجية، وتغير الحال اليوم، وتراوحت العلاقات بين الشرق والغرب في مواجهة أحيانا، وتعاون أحيانا أخرى، وفي كل الأحوال تميزت العلاقة بالأخذ والعطاء.

         ورغم أن فنلندا بلد صغير في ركن العالم البعيد، فإن تبادل المعرفة، الأخذ والعطاء بينه وبين الشرق مستمر وثري، ففي الأدبيات العربية، أول من كتب عن (الفايكنج) السكان الأصليين في هذه البلاد، بل هم المصدر التاريخي الوحيد عن حياة أهل الشمال، وعلى الشاطئ الآخر فإن تراث وأعمال المستشرقين الفنلنديين لها مكان بارز في مكتبة الاستشراق.

         كتب الرحالة العربي ابن فضلان رسالة منذ ما يزيد على ألف سنة، ولا تقتصر أهمية هذه الرسالة على قيمتها التاريخية بل كمصدر أول لدول شمال أوربا في زمن لم تكن تعرف فيه هذه الدول القراءة والكتابة، بل وارتفعت قيمة هذه الرسالة وأصبحت أحد مصادر الكثير من الأعمال الفنية والأدبية، وآخرها الرواية والفيلم السينمائي الذي كتبه (مايكل كلايتون) في روايته (أكلة الموتى).

         ولكن كيف وصل ابن فضلان إلى آخر أركان الدنيا، والذي كان سنة 921م (11 صفر 309هـ)، وفي عهد الخليفة العباسي (المقتدر بالله) أرسل وفدًا إلى أرض الصقالبة على رأسه ابن فضلان، وعبر ابن فضلان نهرجيحون وصل بخارى ثم توغل حتى وصل نهر النوبى، واستغرقت هذه الرحلة أحد عشر شهرا.

         ودون ابن فضلان رحلته بكل مغامراتها وتفاصيلها.

         وفي الطريق اختطفه جماعة من (الفايكنج) أصل سكان (اسكندنافيا) فأخذوه معهم وأجبروه على أن يعيش حياتهم، ومنحته هذه المصادفة أعظم ما يتوق إليه الرحالة، وسجل كل ما رآه عن حياة (الفايكنج) وغدا صاحب الوثيقة الوحيدة في التاريخ التي تصف حياة السكان وتقاليدهم.

         وصف دهشته من جمال مظاهر الطبيعة، ويحكي حيرته في تحديد موعد صلاة المغرب في أيام لا تغرب فيها الشمس، وعذابه في انتظار صلاة الفجر مع ليل لا ينتهي، ويحكي الصراع الدموي العنيف بين القبائل والممالك، وكيف تصل الوحشية إلى أكل لحوم الأعداء، وكيف تمزق الجثث ويؤكل لحمها الطري، وتعلق الرءوس كشواهد ودليل على الطريق.

         ووسط هذه الطبيعة القاسية.. كان الناس يأكلون لحم الدواب ويحفرون الأرض وفي باطنها يحفظون طعامهم.

         وأيضا فتش عن المرأة في رحلة ابن فضلان.

         إن عقوبة الزنا كانت شديدة فهم يقطعون المجرم بالفأس من رقبته حتى فخذيه، وفي الوقت نفسه فإن حياتهم الزوجية عجيبة لا حياء فيها ولا عار. ويصف كيف يحرقون المرأة إذا توفي زوجها.

         ويعود اليوم اهتمام فنلندا بالشرق، ويتوالى المستشرقون فمنهم جورج أوجست فاين الذي درس اللغة العربية في جامعة بطرسبورج على يد الشيخ المصري محمد عياد الطنطاوي، والذي بقي في مصر عامين، وارتدى الزي العربي وأطلق على نفسه اسم الشيخ عبدالمولى، وترك فاين مذكراته وانطباعاته العامة وهو صاحب أول اتصال ثقافي بحضارة الشرق في العصر الحديث.

         وتمت ترجمات للغة الفنلندية لأعمال أدبية عديدة منها كتاب (الأيام) لطه حسين والنبي لجبران خليل جبران، وأعمال للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني والكاتب الجزائري محمد ديب.

         ولم أكتف بالماضي، بل قدمت صورًا من الحاضر.. فرغم الظروف المناخية القاسية، وفي أرض صخرية وعصية، أقيم اقتصاد قوي، وأصبحت فنلندا دولة متقدمة صناعيا، قادرة على صنع البواخر وكاسحات الثلوج المعقدة والآلات الصناعية الدقيقة والمتقدمة، علاوة على الورث والأثاث.

         وتحولت خلال عشرين عاما إلى أكثر الدول الإسكندنافية انتاجا.. ودخلت مصانعها مرحلة التحكم الآلي عن طريق الكمبيوتر، ووصلت فنلندا إلى المقدمة، بدون قوة عسكرية.

         ولم أتجاهل الوضع السياسي، حيث تقدم فنلندا درسا في علاقتها بمنطقتها الدول الإسكندنافية، فرغم تباين المواقف السياسية فإنها جزء من دول (التورديك) أي اتحاد دول الشمال، والذي يضم فنلندا والسويد والدنمارك والنرويج، ويتعاون أعضاء الاتحاد في المصالح المشتركة بينهم، رغم ارتباط كل دولة على حدة، فنجد فيها من اختار الحياد، ومن اختار الانضمام إلى حلف الأطلنطي، وهو درس على الدول العربية أن تتعلمه.

إيطاليا

         السؤال المهم الذي يلفت انتباه العربي الذي يزور إيطاليا هو: إذا كانت النهضة قد بدأت في إيطاليا وفاضت منها على الدول الأوربية، فلماذا كانت إيطاليا هي أقل الدول تمتعا بثمارها؟

         ووجدت الإجابة لدى الكاتب الإيطالي بارزيني الذي قال: ملأ الإيطاليون وبهروا أوربا والعالم، وانتشرت فنونهم وأعمال كبار كتابهم وفنانيهم في كل أنحاء العالم، شاعرية دانتي، وخبرة وكياسة ميكافيللي، وموسيقى فردي، ومسرح براندللو، وفيض اللوحات التي رسمها المصورون والتي تتوزع على كل متاحف العالم.

         وبدأوا ثورة قدر لها أن تغير أوربا، وشملت الحركة الإنسانية، التي قامت في مواجهة فكر وتقاليد القرون الوسطى، بالتسليم بقدرات الإنسان على الخير والشر معا.

         أما عن تسرب وانكماش التقدم في إيطاليا..

         فربما كان بسبب الصراع الحاد، بين الأفكار الجديدة التي دعا إليها المفكرون وبين قيم العصور الوسطى الراسخة، كما يعود إلى أن إيطاليا لم تكن موحدة، ولم تتحقق وحدتها سوى في القرن التاسع عشر، وكان وضع التجزئة وراء تخلف إيطاليا، وهو ذاته الذي يقف كأحد أسباب تخلف العرب، رغم أن إيطاليا أكثر حظا، عندما تنافس أكثر من عشرة حكام في البحث عن الموهوبين ليزينوا عواصمهم.

من أشعل المنافسة

         واستنفد تحقيق الوحدة الإيطالية من القرن الرابع عشر حتى القرن التاسع عشر سنة 1861، واستبسلت الكنيسة في الحيلولة دون قيام سلطة موحدة تمتد من جبال الألب حتى صقلية، لما فيها من تهديد سلطات البابا الرئيس الروحي لأوربا، وبدأ انطلاقها بعد أن ظهر ثلاثة زعماء، أنجزوا وحدتها، وهم ماتزيني المفكر، وكافور السياسي، وغاريبالدي القائد العسكري.

         وتلمست أطراف العلاقات بين إيطاليا والعالم العربي..

         وهناك علاقات قديمة بين مصر الفاطمية والمملوكية والعديد من المدن الإيطالية، وخلال جولاتي كنت ألمح عناصر التشابه من ملامح الوجوه في جنوب إيطاليا إلى عادات أهلها، والتشابه الكبير مثلا بين مدينة نابولي والإسكندرية، خاصة عندما ترى غسيل الملابس معلقا بين بيوتها، وتسمع الحديث بالصوت العالي، يتكلم الجميع في وقت واحد، ويجعلون من أصابعهم شفاها يحركونها، ويهزون قبضاتهم في وجه محدثهم.

         ويصل التشابه إلى أن تدلي النساء من نوافذ الطوابق العليا السلال، لكي يضع فيها البائع وساعي البريد احتياجاتهم، بل والكلمات التي تصلك شائعة، مثل الجيلاتي والكساتا والتلغراف.

         وعندما جذبني شارع فبينيتو الشهير، بمقاهيه على الأرصفة، والذي يأتي إليه السياح ليتذوقوا طعم الحياة الإيطالية، التي تمثل لدى الكثيرين خدعة حاذقة، أو ارتجالا بارعا، تتسم كلها بالبهجة.

         ويلفت اهتمام الشرقي في هذا الشارع النساء الجميلات، وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وتكثر في هذا الشارع فتيات الليل، اللاتي يقطعن شارع فبينيتو ذهابا وعودة، وتزدحم الأرصفة بمجلات الجنس وأشرطة الفيديو، تخاطب كل النوازع، وتتحدث روما عن الغانية (ليوناستامر) التي نجحت في انتخابات البرلمان الإيطالي، والتي تمتهن مشاهد العري والتمثيل في أفلام الجنس، وحصلت على أغلبية الأصوات، وكان شعارها (اصنعوا الحب) و (العري ليس عيبا، وإنما العنف هو العيب )، ولعل الناخب أعطاها صوته احتجاجا على ما يدور على المسرح السياسي، فهي صريحة وعارية، أفضل من الذي يمارس كل الرذائل في الخفاء!

ألمانيا

         ذهبت إلى ألمانيا أبحث عن سر التقدم، الذي حققته ألمانيا، وفي رحلة البحث نحمل معنا همومنا وقضايانا، نقرأ الأشخاص والأحداث بعيون عربية، نقارنها بالسطور المنقوشة على صفحات بلادنا.

         وصور التقدم تراها في كل مكان.. لم أشاهد عاملا يرفع عينه عن الآلة التي أمامه، فهل سر التقدم يوجد في المتاحف والمعارض والمسارح المنتشرة في كل مكان، أم سر التقدم أن ألمانيا تقدم التعليم المجاني في كل مراحله بما في ذلك الجامعات. فالتعليم هو المدخل الصحيح للنهضة. لذلك، سبقت ألمانيا العالم في تضافر العلم والصناعة. فسر التقدم مرهون بإرادة الإنسان وقدرته على البناء، وتصميمه على الانتصار في كل الظروف.

         لذا أصبح الاقتصاد الألماني يفوق الكثير من الدول التي انتصرت عليها عسكريا، فهل يكمن السر في أن الألماني يتفانى فيما يقوم به، ولديه قدرة على التنظيم والعمل الجماعي كفريق؟! ويخيل إلي أن الكلمات عندنا لا تحمل ذات الدلالات عندهم، فمثلا الأزمة الاقتصادية عندنا ليست كالأزمة لديهم، يتحدثون عن أزمة اقتصادية، وأزمة بطالة. وانهيار البورصة، وانخفاض معدل الإنتاج، وتجد الأسواق عامرة بالمنتجات، وتكاد الدول الغربية لا تعرف ارتفاعا في مستوى معيشتها مثل ما تتمتع به في زماننا.

***

         ويخيل إليّ، أن هناك اتفاقا غير مكتوب بين أفراد الشعب، ينص على اختزان بعض الأهداف وعدم البوح بها، وتظل في العقل الجمعي للأمة، حتى لا يعيدوا إلى الأذهان مخاوف لا تزال تسيطر على البعض.

         والوحدة الألمانية أحد أهداف الشعب الألماني، وتحتاج إلى اتفاق غير مكتوب لتحقيقها، رغم صعوبة الظروف الدولية القائمة - كتبت هذا الكلام عام 1988 قبل تحقيق وحدة الشطرين، وكأنه نبوءة، وقد تلقيت خطابا من وزارة الخارجية الألمانية، يشكرونني على ما قدمت من أفكار - وتعامل الألمان مع هذا الهدف، وبقي حيا، كما بقي مكتوما، ويعرف الألمان أن أي محاولة لوصل ما انقطع، ستصطدم بتوازنات دولية دقيقة، مما سيضع العالم أمام أخطار تهدد السلام الدولي، ومازال (الأمر الواقع) في ألمانيا محل رعاية واهتمام الشرق والغرب معا، وتدور المنافسة حول قدرة كل طرف على استخدام هذا (الأمر الواقع)ضد الطرف الآخر. (في ظل الحرب الباردة).

         ويقوم التفكير الألماني على فكرة سهلة وبسيطة، تقول: ليس حل مسألة ما أن تلغيها أو تتناساها أو تفر منها، وإنما تواجهها وتبحث عن حل لها. وإذا كانت الوحدة صعبة في المرحلة الحالية، فلا يضيرنا تأجيلها والعمل من أجلها، وعلينا أن نخلق أوضاعا عملية لا تمكن أي طرف من القيام بعمل يصادر إمكانات تحقيقها في المستقبل، وأن تتفق كل القوى السياسية على ضبط عملها وأساليب ممارسة العمل السياسي بحيث لا تؤثر على إمكانات تحقيق الوحدة.

         وبالفعل تمكن الألمان من تحقيق الكثير في ظروف دولية متغيرة وبالغة الصعوبة، وتمكن المستشار إديناور من توحيد المناطق الألمانية الثلاث التي احتلها الحلفاء في ألمانيا الغربية في 5 مايو عام 1955.

         واعتبرت الحكومة الاتحادية نفسها السلطة المعنية بأمر جميع الألمان، وأصدرت المحكمة الدستورية العليا حكما يؤكد أن الألمان جميعا يشكلون أمة واحدة كما ينص الحكم على أن الدولتين هماجزءان من دولة ألمانية باقية بشعبها الواحد، ولا يمكن النظر إلى ألمانيا الديمقراطية كأرض أجنبية، و... أن الرايخ الألماني لم يختف نتيجة انهياره عام 1945، وعليه تعامل ألمانيا الاتحادية مواطني ألمانيا الديمقراطية كمواطني ألمانيا الاتحادية.

         وساهم حكم المحكمة في الاقتراب من المسكوت عنه، ومن ناحية أخرى اعتبر كل ألماني تطأ قدماه أرض ألمانيا الاتحادية، مواطنا يستطيع الإقامة والحصول على جواز السفر، والتمتع بكل حقوق المواطنة، وقامت منظمات لرعاية وضمان حل أي عقبات تعترضه، كما قامت جماعة أهلية تضم مئات الألوف من سكان ألمانيا الغربية الذين لهم أقارب في ألمانيا الشرقية.

         وأخذت ألمانيا الغربية، تحتفي بأي إنتاج علمي أو فني صادر بالألمانية، بصرف النظر عن محل إقامته.

         وقامت وكالة لأنباء ألمانيا الغربية في هامبورج كمقر مؤقت لها، فمازالوا يعتبرون برلين هي العاصمة، التي ينتظرون الانتقال إليها.

         كما اعتبرت حكومة ألمانيا الغربية ممثلة للأمة الألمانية كلها، واعتبرت أن اتفاقية السوق الأوربية المشتركة، تتيح لألمانيا الديمقراطية تسويق منتجاتها في دول السوق.

         وبذلك لم تصادر حكومة ألمانيا الغربية المستقبل، وتركت الأبواب مفتوحة أمام جيل جديد في ظروف دولية أفضل لكي يحقق وحدة ألمانيا (وهو ما حدث بالفعل).

         ويمكن لنا أن نتأمل فكرة الوحدة العربية التي كانت أحد أهداف الدول والشعوب العربية، وعندما اصطدمت الفكرة بالعقبات، ارتدت هذه القوى وأخذت تتنكر لهدفها القديم!

         وهذا هو الفارق بيننا وبينهم.




أبحاث الفترة الصباحية الثانية ليوم الأحد
رئيس الجلسة : أ.د. علي الطراح عميد كلية العلوم الاجتماعية
كيف رأيت الغرب في الشرق
الباحث: د.محمد المخزنجي

         (1) عند ارتفاع ألف وثمانية وستين مترًا، وعلى مشهد من المحيطين الأطلسي والهندي، كنا نوغل في عالم كالحلم عند القمة المسطحة لجبل المائدة في كيب تاون، مروج وغابات صنوبر وفراشات، وسحب تعبرنا، ونعبرها، فنحس بالنشوة والندى. غابة وديعة لا وحشية فيها ولا ضوضاء، وفي ظلال شجرة وارفة يلفت نظرنا بناء صغير أبيض، ناصع البياض، ثم في الهدوء السابغ الذي يلد نغمات من صفاء خالص - شقشقة عصفور - رفة جناح - رفيف فراشة - هسهسة أوراق شجر تلاعبها النسائم... نسمع أصواتًا صغيرة تقرأ قرآنًا.

         كان البناء الأبيض الصغير ضريحًا، والأصوات الصغيرة لأطفال ضمن أسرة تزور الضريح للتبرّك. ولم يكن ذلك غير واحد من عشرات الأضرحة المماثلة التي تتناثر على قمم جبال الكاب، أقامها مسلمو المدينة فوق قبور الرعيل الأول من المسلمين الماليزيين الذين جلبهم الهولنديون قسرًا في بداية القرن 17 ليعملوا في مزرعة الشركة الهولندية كعبيد أو كسجناء منفيين، وكانوا يفرون إلى قمم الجبال ويموتون جوعى وهم يتلون القرآن الذي حُرموا من تلاوته في مزارع العبودية وتحت سياط البيض الأوربيين، فقد كان الدستور العنصري لدولة الآبار تهايد في جنوب إفريقيا يصف الإسلام بأنه: عقيدة منحرفة يُجرّم الداعي إليها.

         صورة تستدعي حشدًا من الصور الدامية التي أعقبت اكتشاف الأوربيين لرأس الرجاء الصالح عام 1448 وهم يبحثون عن طريق آخر للهند عبر المحيط لقطع طريق التوابل والبهار على التجار المسلمين كما عنون البرتغاليون حملتهم تلك. في البدء وطأ البرتغاليون هذه الأرض، وعندما تضعضعت قوتهم جاء الهولنديون وأسسوا محطة تموين بحرية في الكاب لزراعة الخضراوات للتغلب على مرض الاسقربوط الذي كان يصيب البحارة من جراء السفر الطويل عبر المحيط وعدم الاغتذاء بشيء طازج من الفاكهة والخضار. من مرضى الاسقربوط والمزارعين الهولنديين تكوّنت أول موجة من موجات الاستيطان الأوربي في الكاب. وكان يطلق على المزارعين الهولنديين لقب البوير، والذين دارت عليهم دورة الشركة الهولندية بالتضييق لشراء مزروعاتهم بأسعار أرخص، وراحت الشركة تستورد العبيد من غرب إفريقيا ومن الملايو ليعملوا في الزراعة، وتحتكر الشركة ناتج عملهم. نفر البوير من ضغوط الشركة وهجروا مزارعهم متراجعين إلى الداخل في براري الكاروو فاصطدموا بالرعاة الهوتنتوت - سكان البلاد الأصليين. وبدأت المجازر: مئات الآلاف من السكان الأصليين حصدتهم بنادق البوير، ومئات أخرى من الآلاف حصدها مرض الجدري الذي أتى به البوير ولم يكن للهوتنتوت حصانة ضده. وبعد أن تسيّد البوير براري الكاروو صعدوا مزيداً فاصطدموا برعاة آخرين من قبائل الاكسهوسا - أي ذوي الملافح الحمراء (وينحدر من سلالتهم نيلسون مانديللا)، واشتعلت نيران أول حرب كبيرة بين البيض والسود عام 1778...وتوالت النيران حتى أقام البوير جمهوريتهم الصغيرة عام 1795 وكانت تتحصّن بروح العداوة لتصلب عودها الغريب في هذه الأرض الإفريقية. لكن هيهات لهؤلاء البوير الذين تحوّرت لغتهم مطعمة بمفردات من لغة هذه الأرض الإفريقية، فأطلق عليهم الأوربيون الخُلّص، سخرية، لقب (الأفريكان) أي المتأفرقون. صعد الانجليز في مدارج الإغارة على بلاد الناس بعد أفول هولندا، واحتلت بريطانيا الكاب في سبتمبر 1795، ثم توغلت في البراري الجنوب إفريقية، وأججت النيران بين البوير والأفارقة، فكانت حروب البوير التي حصدت من الجانبين الكثير، وبعد أن أوهن النزيف طرفي هذه الحروب - السود والبوير - دخل البريتون (البريطانيون) المعمعمة بأنفسهم، وصارت حرب البوير أشد اضطرامًا وأججها مزيدًا اكتشاف الذهب. ومن هذه المحرقة خرجت دولة جنوب إفريقيا العنصرية: أفريكانية بثياب بريطانية. وتضاعفت معاناة السود تحت سياط هذا القهر العنصري المزدوج وبقية القصة الأليمة معروفة.

         (2) في أفقر بلدان آسيا وأشدها بؤسًا وأكثرها زركشة بالاحتفالات الشعبية وموسيقى البؤس الذي يسرى عن نفسه. بلد الحياة عند سقف العالم في ظل جبال الهيمالايا والتي يتساقط عليها أغزر أمطار العالم في موسم (المانسون). ومع ذلك تقضي معظم العام تتحرّق عطشا وتتعرض تلالها الخضراء من سبخات الرطوبة التي خلفها الطوفان الهارب، وتعوزها بضعة ملايين لتقيم بضعة مشاريع مائية تختطف قليلاً من مياه طوفانها ليسقيها في مواسم العطش الطويلة.

         نيبال هذه لم يجد بها الإنجليز ذهب الهند ولا توابلها. لم يجدوا بها إلا نوعًا فاخرًا من الشاي تُقطف براعمه البكر وتقدم هدية لملكة بريطانيا. وإلى جوار الشاي عثر الإنجليز على نوع نادر من العساكر أنشأوا بهم فرقة (الجورخا)التي تعد - حتى الآن - أكثر فرق الجيش البريطاني ثباتًا وقدرة على إصابة الأهداف وهم من أبناء القبائل الجبلية التي تعيش في المناطق المرتفعة (فوق 4000 متر) ويعزى لهم فضل إحراز النصر في حرب (الفوكلاند).

         (3) على الرغم من لزوجة نظام موجابي الملتصق بكرسي الحكم حتى الموت، شأن معظم حكام العالم الثالث القديم، ثمة ذرائع حقيقية يتشبث بها.. تاريخ من القهر الاستعماري الغربي ـ الأبيض ـ للأرض الإفريقية وأبنائها ـ السود. وحكاية استعمارية ممعنة في الاستهتار والابتذال تجعلني أفهم لماذا يدعم المزارعون السود والمحاربون القدماء وأغلبية السكان ـ الفقراء ـ لماذا يدعمون نظام موجابي، على الرغم من مخاتلاته ووضوح تشبثه بالسلطة.. إنه يثير آلام جراحهم القديمة من الاستعمار.. وأي استعمار.. ليس استعمار دولة غربية لدولة إفريقية كالمعتاد.. بل استعمار فرد أوربي واحد لبلدين كاملين بأرضهما وناسهما ونباتهما وحيوانتهما وأنهارهما.. فسيسل چون رودس الفتى الصائع الضائع معتل الصحة ابن القس البروتوستانتي البريطاني المتواضع، ووصل إلى إقليم الناتال في جنوب إفريقيا عام 1870، وكان في السابعة عشرة من عمره.. لعب لعبة الماس وهي في بدايتها مستعملا بالطبع كل أدوات المستعمرين من مكر وقسوة وخداع واستعباد مع أبناء البلاد الأصليين، وتحول في سنوات قليلة إلى قطب من أقطاب مجموعة (دي بير) المتحكمة في إنتاج وتجارة الماس في العالم، ومكنه هذا من وضع يده على بلدين نسبهما إلى اسم عائلته: روديسيا الشمالية وروديسيا الجنوبية.. وكانت زيمبابوي إحداهما، والتي حكمها نظام رودس العنصري بالنار والحديد، وبأبشع أساليب التنكيل والحرمان في التاريخ. والشيء بالشيء يذكر.. فسيسل رودس التافه الضائع العليل هذا واكبه أفاق آخر صعد إلى سدة حكم إمبراطورية الماس المنهوب من الأرض الجنوب إفريقية هو اليهودي الإنجليزي ضئيل الحجم والقيمة بارني إزاك (إسحاق) الذي فضل أن يُُدعى بارني باراناتو ـ لأسباب في بطن الأفعى ـ كان جرسوناً تافهاً في إحدى خمارات أفقر أحياء لندن والتي تدعى >كوكني< وتحول على أرض الجنوب الإفريقي إى أحد أباطرة الماس، وصار مالك مناجم وبلدات وبشرا وشريكا لسيسل رودس، ولاعبا مركزياً في إمبراطورية احتكار الماس العالمية >دي بيير< التي تعطل ورشاتها ومتاجرها يوم السبت!

         (4) في كمبوديا بلد المطر والجزر النهرية الخلابة ومبتوري الأطراف، ـ واحد من كل 250 مبتورة أطرافهم بسبب الألغام ـ والتي كانت مستعمرة فرنسية، ثم مسرحاً لترجيعات الحرب الباردة التي لم تكن ساخنة إلا على أرض العالم الثالث.

         في سيم ريب الكمبودية توجد انكور وات، مدينة معابد أثرية تمتد 200كم وسط الغابة المدارية الكثيفة، إحدى عجائب الدنيا القديمة المبسوطة على مساحة 200 كم2 تحولت بعد أن وقعت عليها عين عالم الطبيعة الفرنسي هنري موهرت عام 1859 إلى قبلة للسياحة والنهب الغربي الذي لم يوفر أحداً حتى أهل الثقافة الرفيعة، فمن أشهر لصوص الآثار المنهوبة من أنكور كان الكاتب الفرنسي العالمي اندريه مارلو قد زار انكور عام 1923 وانتزع من معبد بانشيه بأنكور قطعة الحجر الرملي الوردي وضبط بها في فندق (بنه) لكن التمثال لم يعد لمكانه إلا بعد سبعين سنة (1993).

         (5) بومباي التي استعادت اسمها الهندي (مومباي) والتي أرادها الاستعمار البرتغالي أولا ومن بعده الاستعمار البريطاني بوابة للغرب، يدلفون منها إلى كنوز الشرق، تنازل البرتغاليون للإنجليز عن الجزيرة التي كانت نواة مدينة بومباي كجزء من مهر الأميرة كاترين بمناسبة زواجها من الأمير تشارلز الثاني. والتي نزح إليها يوميا ـ ومنذ نشأتها ـ 300 أسرة يحلمون بالثراء أو الستر، وينتهي المطاف بالكثيرين منهم إلى النوم على الأرصفة ومعاناة الجوع المزمن.

         بومباي مدينة الزحام والبؤس والحلم والذهب والمفارقات.. قبالة بوابتها الشهيرة بوابة الهند التي أقامها الإنجليزي جورج ويند عام 1927على نسق قوس النصر الفرنسي، وان بمذاق التوابل الهندية.. قبالة هذه البوابة كان هناك فندق اسمه واطسون أقامه الإنجليز وكانت هناك لافتة عند مدخله مكتوب عليها (ممنوع دخول الهنود والكلاب).

         تداعى الفندق وصعد قبالته فندق بازخ يعد من أبهى وأفخم فنادق العالم يسمى (تاج محل)أقامه الثري الهندي الزرادشتي جامشيتجي نصروانجي تاتا عميد اسرة تاتا الصناعية الهندية المشهورة لتثأر مما لحق به عندما طرد من فندق واطسون زمن الاحتلال البريطاني لمجرد أنه (هندي.)

         فمن تراه نال ثأر الهند التي حصد الاستعمار مئات الآلاف من أبنائها لمجرد أنهم كانوا يقاومون بمجرد الرفض السلمي في حركة العصيان المدني التي قادها غاندي، ومن يستعيد للهند ما نهب منها وقد كان نهبا بلا حدود.

         هذا هو القليل من الكثير من وجه الغرب الذي تبدّى لي عبر 25 رحلة كان معظمها إلى الجنوب والشرق من خلال بعض آثار زمن (الكشوفات) وعقود الكولونيالية، وهو وجه لو طبق على من يمثله معايير علم النفس الفردي لحصلنا على تشخيص دامغ بالسيكوباتية أو الشخصية الإجرامية التي من سماتها المرضية العدوانية، والخداع، والشراهة الحسيّة، والاندفاع بلا روادع أخلاقية...باختصار الأنانية الفظّة.

         ولأن الأمم مثل الأنهر، لا تجري فيها ذات المياه مرتين، سننحي جانبا حديث علم نفس الإجرام الفردي، ونطبّق قانون الأنهر، ونقول نعم ما حدث من تلوث لمياه النهر الغربي حدث، وشربناه نحن - في الشرق، في الجنوب - حتى النخاع، لكن حتى لا تتكرر المأساة هناك استحقاقات منها، أن يعترف أصحاب النهر بأن أسلافهم لوّثوه بأنانية شرسة، وشربه أسلافنا الذين أورثونا الكثير من آلامهم. فنحن بحاجة إلى اعتذار، وهذا يتضمن الاعتراف، وبداهة يتطلب التعويض.

         لن نكون مبتزّين للغرب مثل إسرائيل، التي لم تكف عن قبض ثمن الهلوكست - على افتراض أنه كما قدموه - أضعافًا مضاعفة معنويا بإشهار سيف معاداة السامية على رقبة كل منتقد لإسرائيل، ومن ثم إطلاق الحبل على الغارب لتعيث فسادا في الأرض، أرضنا العربية بالتحديد. أما التعويض المادي فقد نالته وتناله إسرائيل، مفاعلات وقنابل ذرية، ودعم علمي وتقني، لا نريد نحن أهل الشرق والجنوب تعويضًا من الغرب على نمط الابتزاز الإسرائيلي...بل نريده مخلصا تجاه ورثة الآلام وضحايا النهب، في الاقتصاد، في العلم والمعرفة، في السياسة .. نريد التعويض، تيسيرات اقتصادية لقدراتنا التي تهدرها قسوة وأنانية الجات.. في الغذاء والدواء، وحق استخدام المعرفة. ونريد التعويض موقفاً غربياً صادقاً وغير مراوغ يدعم أشواقنا للحرية الحقيقية وحقوق الإنسان. ونريد من الغرب أن يدرك أن العالم بهذا الانشطار ـ حيث نصفه الغربي (الشمالي) يطفو ونصفه الجنوبي يغرق ـ هو عالم مريض ومعرض للانهيار أو الانفجار. والغرب لا يعدم المخلصين من أبنائه الذين يؤيدون ذلك كله، هؤلاء الصارخين بأشواقنا في دربان وسياتل، ضمير الغرب الحي من أبناء المنظمات الأهلية والمجتمع المدني. إخوتنا في الإنسانية التي ينبغي أن تسد هذه الفجوة السوداء بيننا وبين غرب قديم نخشى أن يتجدد وإن بصور أخرى.




أبحاث الفترة الصباحية الثانية ليوم الأحد
رئيس الجلسة : أ.د. علي الطراح عميد كلية العلوم الاجتماعية
رحلات مجلة العربي إلى الغرب الأوربي
وأثرها في الحياة الاجتماعية العربية
بقلم: د.محمد رجب النجار
أستاذ علم الفولكلور - جامعة الكويت
بحث مقدم إلى ندوة مجلة العربي (الغرب بعيون عربية)
الكويت من 27 - 29 من ديسمبر 2003

أولاً: مجلة العربي... ديوان الرحلة المعاصر

         من المسلّم به أن مجلة العربي أهم مطبوعة عربية دورية معنية بأدب الرحلات - كما وكيفا -فيما تسميه باستطلاعات العربي، المحلية والعربية والإسلامية والعالمية. وذلك على امتداد قرابة خمسين عاماً، محقّقة منذ صدورها في يناير 1958، سبقاً استطلاعياً، حيث كانت أول مجلة عربية ترتحل إلى الجزائر لتجري أول استطلاع لها - عام 1957 - من داخل الجزائر في ذروة حرب التحرير مع الاستعمار الفرنسي، وغني عن البيان مغزى قيام مجلة العربي بمثل هذا الاستطلاع في مثل هذه الظروف العصيبة، لكنه كان في نهايته جزءاً من فلسفة أكبر لأدب الرحلة في مجلة العربي يومئذ - ومازالت - كما يجسدها اللوجو أو الشعار الذي تصدر استطلاعات العربي وهو اعرف وطنك أيها العربي، وكم كُنّا يومئذ - على عهد رئاسة تحرير الدكتور أحمد زكي (1958 - 1975) - ومازلنا - بحاجة إلى مثل هذه الفلسفة أو الرؤية القومية حتى تتعرف الأنا العربية على الأنا العربية، في إطارها الوطني والقومي - أو الـ نحن العربية على ذاتها قبل أن تتعرف على غيرها.(1)

         في ضوء هذه الفلسفة أو الرؤية، وتطويراً لها، ظهرت رؤية موازية أخرى على عهد أحمد بهاء الدين (1975 - 1982) اتسعت معها آفاق الرحلة، فامتدت إلى فضاءات الآخر الأجنبي، حين اسْتَنَّتْ - العربي - نمطاً جديداً من رحلاتها تحت شعار العربي عيونك على العالم كجزء من رسالتها الثقافية، أو مشروعها الحضاري الطموح، وغايتها - الرحلة - يومئذ التعرف على الآخر الأجنبي والتواصل معه. وهو تطور منطقي في فلسفة الرحلة في مجلة العربي، وبه تتكامل أبعاد الرؤية، فالتعرف على الأنا القومية سابق على التعرف على الآخر العالمي، خصوصاً في عصور الانكسار الحضاري، السياسي والعلمي والاقتصادي، ذلك أن الوعي بالهوية يتحقق ويتأكد من خلال الوعي بالغيرية، وأن حضور الآخر المتقدم هو بعض مكونات وعي الأنا إذا شاءت أن تتجاوز انكسارها وتخلفها، وأن مجاوزة التخلّف لن تتحقق بالعزلة، والانكفاء على الذات، أو الانغلاق والجمود، وإنما بالانفتاح على الغير والحوار مع الآخر، والتفاعل مع كل ما يثري الذات.

         هذه الرؤية الثنائية والمتكاملة والمتزامنة (اكتشاف الأنا الاقليمية للأنا القومية، واكتشاف الأنا القومية للآخر الأجنبي) تأتي بمثابة وجهي العملة في فلسفة الرحلة لمجلة العربي، وقد ظلت مستمرة وإن اتسعت آفاقها وغاياتها على عهد رئاسة تحرير الدكتور محمد الرميحي (1982 - 1999) والدكتور سليمان العسكري (1999 ) لمجلة العربي، ويحسب لرحلاتها - في هذا السياق - انفتاحها على فضاءات الآخر العالمي، فلم تقف عند الآخر الغربي وحده، كما هو سائد في الثقافة العربية المهيمنة (الرسمية) باعتباره محور المركزية الغربية (الأوربية الأمريكية) التي تعودنا أن نرى أنفسنا من خلالها، وهي المركزية التي ما زالت النخبة الثقافية العربية - في معظمها - تدور في فلكها، وتنهل من معينها، وإنما انطلقت منفتحة على فضاءات العالم كله في قاراته الخمس أو الست، تجوب وتستكشف وتقارن بين عوالم الآخرين وعوالم الأنا القومية، من خلال علاقات الحضور والغياب التي لا يخلو منها فعل الرحلة الذي هو بدوره فعل اتصال وتواصل سبيله الحوار مع ثقافة المكان المفارق، حيث تتصدر الأنا هذا الحوار الذي من شأنه - والحالة هذه - أن يكشف عن المغايرة التي يكتمل بها وعي الهوية، وما يفضي إليه ذلك من فعل الاستكشاف والتعرف المجدَّد للأنا التي تجتلي وجودها عندئذ في مرايا الآخر، عبر حركة الوعي الذي لا يكف عن المساءلة والمقارنة والعين التي لا تكف عن التحديق، والأذن التي تلتقط كل نأمة في أسباب التقدم، عبر عمليات الاستدعاء والاسترجاع التي تفضي بدورها إلى قياس النظير على النظير النقيض، وذلك في سياق الفعل الحواري المتوتر من معرفته بالآخر التي تغدو معرفةً بالأنا، ومكاشفة نقدية واعية للذات، من غير تجميل إعلامي زائف أو تبخيس للذات، بحثاً عن أسباب التخلّف والهوان والعجز التي تعاني منه الأنا، (مثلما كان يفعل التنويريون الأوائل إبان عصر النهضة العربية) وهذا هو مغزى كاف الخطاب (عيونك على العالم) المقترن بلوجو الرحلة الخارجية الذي التزمت بها مجلة العربي، مجلة المليون قارئ، وتنشره على نحو دوري كل شهر، عبر مئات الأعداد = (مئات الرحلات) على نحو يجعل من مجلة العربي ديوان الرحلة المعاصر بغير منافس، خصوصاً أن هذه الاستطلاعات احتفت احتفاء ملحوظاً بالمعلومة والصورة - قوام الرحلة المتكاملة - على نحو أدبي وجمالي قلّ نظيره، حيث الصور الحيّة للرحلة جزء لا يتجزأ من نص الرحلة، وعنصر تكويني أساسي في بنية أدب الرحلة في مجلة العربي، فأصبحت (ثقافة الصورة) لأول مرة جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الرحلة.

         وغني عن البيان أن هذا الديوان (ديوان الرحلة في مجلة العربي) بما هو الأضخم كمّا والأطول حجما، والأفضل نوعاً، والأرخص ثمناً، والأجود طباعة، والأكثر توزيعاً وانتشاراً في أرجاء الوطن العربي كافة، كان أعمق أثراً وأبعد تأثيراً في ملايين القراء العرب، بما تبثه فيهم من وعي معرفي وثقافي واجتماعي، من كل ما كتبه معظم مفكري التنوير العرب من عصر رفاعة الطهطهاوي حتى اليوم... ذلك أنه إبداع لا يعدو - في انتشاره وتأثيره - أروقة النخب المتخصصة، حيث تظل أصواتهم محبوسة داخل قاعات الحوار، ولا تكاد تصل إلى القارئ العادي، غير المتخصص، الذي لا يملك ثمن تذكرة الرحلة أو الإقامة في فضاءات الآخر، على النقيض من كتابات الرحلة في مجلة العربي التي تخاطب القاعدة العريضة من القراء العاديين على امتداد الفضاء العربي كله، بما في ذلك القرى والنجوع، وهذا هو الحوار التنموي الذي لعبته مجلة العربي في واقعنا الاجتماعي المعاصر، على حين لم يتمكن مفكرو الصفوة من تحقيقه، أو إحداث التأثير المطلوب في معظم الأحوال، وربما لأن الأنظمة العربية نفسها ليست على استعداد للاستماع إلى أفكار الإصلاح، واتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذه.

ثانياً: العربي عيونك على العالم.. وآفاق الرؤية

         على الرغم من تعدد المحررين الرحالة في مجلة العربي، فقد تماثلت لديهم آفاق الرؤية على نحو خلاق - بسبب انضباط زاوية أو بوصلة الرؤية - فكيف كانت (عيونهم) على العالم؟ وبم تتسم أو تتميّز آفاق الرؤية أو فلسفة الرحلة عندهم عن غيرهم من الرحالة العرب، التنويريين والمفكرين ومثقفي النخبة أو الصفوة من العرب على امتداد القرنين الأخيرين؟ وكيف سعوا إلى استكشاف عوالم الآخر والتعرف عليه، في غير ما قهر أو انبهار يغشي العيون، على نحو ما حدث مع معظم كتابات الرحلة إبان عصر النهضة، والوقوف على حقيقته أو إعادة استكشافه بعيداً عن الأهواء والصراعات.. في عصر أو مرحلة سمتها العالمية - فكرياً وثقافياً - جدليةٌ قوامها الصراع أو الحوار بين الحضارات والثقافات، وقد آثر أدب الرحلة في مجلة العربي جانب الحوار بين الثقافات، باعتبارها مجلة ثقافية (صاحبة مشروع ثقافي، الرحلة من روافده) فكان إيثار الحوار أول درس تعليمي في مشروعها، حيث مهارة الحوار مع الآخر، في غير المستوى اللائق بها في الثقافة العربية السائدة، علي حين أن مثل هذه المهارة غدت في عالم اليوم سلاحاً ماضياً من أسلحة التقدم.

         كما تتسع آفاق الرؤية للآخر، فهو لم يعد - في نظر رحّالة العربي - الآخر الغربي فقط عند رحّالة مجلة العربي، وإنما الآخر العالمي على امتداد قارات العالم وثقافاته المتنوعة والمتباينة، بدءاً من الثقافات الأفريقية، مروراً بالثقافات الآسيوية، وانتهاء بثقافات أمريكا اللاتينية. وهي ثقافات لا نعرف عنها شيئاً - إلا قليلاً - على حين أن العالم المتقدم لم يتوقف عن الاهتمام بها، والتعرف عليها، ودراستها.

         حتى رؤية الآخر الأوربي اتسعت آفاقه عند رحّالة مجلة العربي، فلم يعد الغرب نفسه يعني فرنسا وإنجلترا فقط (ومن ثم ليس لنا خيار إلا بين ثقافتيهما: الثقافة الفرانكوفونية - والثقافة الأنجلوفونية) كما كان الشأن في معظم كتابات الرحّالة والمفكرين العرب الأوائل، وإنما امتد أفق الرحلة في مجلة العربي ليشمل دول الغرب الأوربي عامة (بثقافاته المتنوعة، الألمانية والإسبانية والبرتغالية والهولندية.. إلخ.) بل لم تعد المركزية الأوربية وقفاً على الحضارة الأوربية تحديداً بالمعنى الجغرافي، وإنما امتدت لتشمل اليوم أيضاً الولايات المتحدة وكندا.. بالمعنى الثقافي والحضاري.

         وكان من جراء انفتاح مجلة العربي - عبر رحلاتها الممتدة على قارات العالم - على الآخر العالمي، أن جعلها بمنأى عن وهم المركزية الأوربية الأمريكية(2)، ودفع رحّالتها / محرريها إلى كسر طرق المرجعية الغربية، إذْ لم يعد الغرب هو الإطار المرجعي الوحيد للذات العربية، وأن ثمة مرجعيات حضارية وثقافية أخرى في العالم يجب الالتفات إليها واستكشافها والتعرف عليها والحوار معها، خصوصاً الحضارات الشرقية الصاعدة بل ربما كانت أقرب - بروحها الشرقية - إلى ثقافتنا وحضارتنا. وبذلك تكون مجلة العربي - في إطار هذا السياق - من أوائل الذين دعوا إلى الحوار مع دول الشرق، ذات الثقافات والحضارات الشرقية العريقة، حتى يتسنى لنا كسر الهيمنة الغربية أو الخروج من سجن المركزية الأوربية والفكاك من تبعيتها والانفتاح على آفاق إنسانية أرحب، خصوصاً في عصر الانفجار المعرفي وثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وهو ما يفسر لنا كثرة رحلات العربي إلى دول الآخر الشرقي على كثرتها وتنوعها، وكان أن تنوعت واتسعت رؤية العالم وتعددت مرايا الآخر أمامه الأنا وإحالاتها المرجعية الجديدة، بعد أن ظل عقلُنا وإطارنا الفكري والاجتماعي قائماً على أساس من هذه المركزية لأكثر من قرنين من الزمان ؛ فالمعقول والعقلانية والعقلاني هو كل ما يتسق مع المركزية الأوربية الأمريكية، وأصبح الرجل الأبيض هو الرجل المتميّز عقلاً وعرقاً وقدرةً على الابتكار الثقافي، كما أصبح نمطه حياته الاجتماعية هو المثل الأعلى المنشود... أما الشرق فهو أسير التخلّف والاستبداد أبداً. ولكن مجلة العربي - عبر رحلاتها العالمية - استطاعت أن تنزع قناع الزيف، فليست أوربا ولكن العالم كله شرقاً وغرباً وحدة واحدة دينامية متبادلة التأثير والتأثر، وأن الشعوب جميعها تلاقحت ثقافياً واجتماعياً وحضارياً على مدى التاريخ، وأن القانون الأساسي للثقافة الإنسانية هو روح المعايشة الاجتماعية وتبادل التأثير على الصعيدين المحلي والعالمي، كما يقول علماء الثقافة.

         وكان من جراء ذلك أيضاً أن تحررت مجلة العربي - عبر رحلاتها - من عقدة الصورة النمطية الموروثة للآخر الغربي الشائعة بين جيل التنويريين خاصة (وهي صورة مزدوجة كوجهي العملة، قوامها: الغرب المتفوق على طول الخط، والعالم العربي المتخلف على طول الخط). كما تحرر - من ثمة- أدبُ الرحلات في مجلة العربي من الشعور بمركبات النقص واغتراب الذات وعقد الدونية التي كانت تحكم معظم كتابات الرحّالة السابقين، وتُحدد زوايا الرؤية (الضيقة) لديهم. وأصبح أفق الرؤية في رحلات العربي - خصوصاً للغرب - أكثر رحابة، وأمعن واقعية وموضوعية، فمثلما يمتلك الآخر من عوامل القوة والتقدم، فإنه يمتلك أيضاً عناصر الضعف والهدم، فلا آخر كاملاً على طول الخط (وإن اختلفت الاستجابة بين الآخر والأنا في مواجهة هذه العناصر).

         وهذه الرؤية الواقعية للآخر دفعت رحّالة العربي أو محرريها، إلى وصف الآخر الحضاري ضمن سياقه التاريخي، بعيداً عن المطلق الناجم عن الانبهارية، وهو ما جعل هذا الوصف يقترن برؤية موضوعية إلى حد كبير لهذا الآخر، ويقصد بالنظرة الموضوعية النظرة الخالية من كل تعصب مقيت أو هوى زائف، والبعيدة عن الانحياز، اللهم إلا الانحياز إلى الأنا القومية، وهذا حق، فهو الانحياز الذي يحدد رؤية الأنا للآخر ؛ فنحن لا نرى الآخر إلا عبر ذواتنا، وذواتنا ليست مجردة، بل هي مشبعة بثقافتها أساساً، وبما تحمله هذه الثقافة من قيم وميول واتجاهات، وهو ما ينعكس على رؤيتنا للآخرين. وهو أمر مهم خاصة بالنسبة لأدب الرحلة في مجلة العربي، فرحلة العربي ليست رصداً تسجيلياً أو وصفاً خارجياً للآخر، بل هي رؤية للآخر، تنقلها عيون العربي لقارئها، ولكنها رؤية للأنا الحالمة بتجاوز التخلف وبناء التقدم، - حين تتُعرض الذات في مرآة الآخر -، وهذا هو مغزى شعار الرحلة (اللوجو): العربي عيونك على العالم.

         ولهذا لا غرو أن يكون اكتشافُ الآخر هو الوجهَ الآخر (للعملة) لاكتشاف عوالم الأنا الذاتية ونقدها، يدفعها إلى ذلك الإحساس بعمق المأساة، مأساة النهضة العربية - من ناحية - والإحساس بضعف الاستجابة من ناحية أخرى. وبمناسبة اكتشاف عوالم الأنا الذاتية ونقدها، فإن محرري الرحلة في مجلة العربي يتسمون جميعاً بالأمانة والصدق، وبالجرأة والشجاعة في مواجهة الذات ونقدها وفي استنطاق المسكوت عنه في الثقافة العربية المهيمنة، وفي المجتمعات العربية التقليدية، كما تبدو جليةً في مرايا الآخر واستدعاءات الحاضر والمستقبل... وقد ساعدهم في ذلك أن مجلة العربي جهاز ثقافي عربيّ مستقل، لا سلطة سياسيةً أو ثقافيةً عليه.

         ومن اللافت للنظر، ضمن آفاق الرؤية للآخر في رحلات العربي، أن كل رحلة خارجية - بغير استثناء - تتوقف عند علاقتين فترصدهما عين المحرر: إحداهما تتحدث - في زهو وكبرياء - عن الأنا العربية العظيمة المنتشرة في جميع متاحف العالم وفي ميادين العواصم العالمية الكبرى، أي في قلب المشهد الحديث (بما هي نوع من اعتراف الآخر بإنجازات الحضارة العربية العريقة، أو بما هي نوع من استدعاء الماضي الثقافي)، حتى لا نتناسى دور العرب في الحضارة العالمية، ويحق لنا عندئذ الحديث عن أصالة الذات القومية وتأكيد الهوية في ميراث الأنا، في فعل تعويضي لآلية أو اٌوالية دفاعية لا يخطئها البصر ولا تنكرها البصيرة. والأخرى تتحدث عن دور العلماء العرب المعاصرين في صناعة الحضارة العالمية وتكنولوجيا العصر والفضاء الخارجي، مع التباهي بإنجازاتهم العلمية الكبرى على كل المستويات، في فعل تحريضي لا تعويضي، لا تخفي دلالته، وهو أن الإنسان العربي جدير بالنهوض، قادر على التقدم متى تحققت له الشروط الموضوعية والمناخات الحضارية والعلمية المواتية.

         ومما تمتاز به آفاق الرؤية في مجلة العربيّ وتتمايز في أدب الرحلة، ليس انفتاحها على العالم أو امتدادها الجغرافي في فضاءات الآخر فحسب، بل في الحرص على زيادة الانفتاح الثقافي والاجتماعي بالمعنى الواسع للانفتاح الذي يشمل السياسة والاقتصاد وأساليب الفكر وأنماط السلوك وتقدم العلوم والثقافة، وطرائق هذه الشعوب في مواجهة مشكلات التخلّف وقضايا التقدم، بهدف اكتشاف الثقافة السائدة فيها، وبغير تجاهل للثقافات الفرعية وثقافة الأقليات، مع التركيز على رصد تجليات الثقافية الشعبية (جوهر الثقافة المجتمعية) والفولكلور (الوجدان الجمعي للذاكرة الثقافية) في الفنون والآداب، والعادات والتقاليد، الأزياء والأطعمة الشعبية، الموسيقى والغناء والحرف والصناعات الشعبية وضروب الثقافة المادية... إلخ. بهدف استكشاف أو استشفاف روح هذه الشعوب الحية، وإدراك كنهها وأسبب تقدمها. ومن ثم لم يتوقف رحّالة العربي في جميع رحلاتهم - بغير استثناء - عند المحطات السياسية أو الاقتصادية أو العلمية وحدها عند هذا الآخر، وإنما وجّهوا جُل عنايتهم أيضاً للغوص في واقع الحياة اليومية، كما تتجلّى في فولكلور الشعوب، ليس باعتباره عنواناً من عنوانات الخصوصية الثقافية أو الأكثر تأثيراً في تشكيل الوعي الاجتماعي والانتماء الوطني وتأكيد الهُوية فحسب، بل للتدليل أيضاً على أن الشعوب الحيّة وحدها هي التي تجمع بين أقصى درجات الحداثة والحفاظ على أصالتها في آن، بغير عقد أو مركبات النقص التي تعاني منها الشعوب المتخلفة، ولا ترى فيه إلا رمزاً لتخلّفها، وليس لأصالتها، ذلك أن رعاية التراث الشعبي والحفاظ عليه، وتطويره وممارسته لا يمنع المجتمع الناهض من إنتاج آخر تكنولوجيا العصر، بل هو - التراث - قرين التقدم التقني في المجتمعات المنتجة (على نحو إبداعي لا استهلاكي، اليابان نموذجاً).

         وأياً كان الأمر كان عناية رحّالة العربي بفولكلور الشعوب - بعفويته وتلقائيّته - هو البوابة الأولى للعبور إلى وجدان الآخر، والتعرف عليه إنسانياً واجتماعياً وثقافياً في المقام الأول، حتى لا يبقى جو حضاري في العالم غريباً كل الغربة عن القارئ العربي، مما يفتح الباب واسعاً إلى التعددية الثقافية وقبول الآخر، والاعتراف به، والتواصل معه، واحترامه واحترام ثقافته، ونشر التسامح بين الثقافات. ذلك أن مقاربة رحّالة العربي إلى فولكلور الشعوب على هذا النحو الإيجابي - مهما تفاوتت اللغات وتباينت الأعراق من شأنها أن تفصح عن الجوهر الإنساني المتحد الذي يصل بين الأنا والآخر. ويحقق الحوار الثقافي المرغوب بين الحضارات ويحقق التلاحم الخلاق بين أبناء الجنس البشري.

         في الوقت نفسه، فإنه ممّا يحسب لأدب الرحلة في مجلة العربي أيضاً انحيازها المطلق لكل ما يؤسس لأفكار التقدم، ويسهم في إشاعة العقلانية، ويشجع على التجريب ويؤسس لحضور العلم والتكنولوجيا والمنهج العلمي في حياتنا، ويفتح أفق التجاوب الإنساني الخلاق في كل المجالات، وعلى كل المستويات، خصوصاً من منظور التنوع البشري الخلاق.

         لكن محرري الرحلة في مجلة العربي عرفوا أيضاً كيف ينقذون القارئ ويحمونه من سلبيات التغريب، وكيف يحمي تراثه الحيّ ويحافظ على أصالته ويحترم قيمه الروحية... إنها حداثة بغير تغريب أو استلاب للذات، باعتبارها - مجلة العربي - تتبنّى ثقافة التغيير، وليس تغيير الثقافة.

ثالثاً: زاوية الرؤية أو فلسفة الرحلة في مجلة العربي:

         لما كان موضوع ندوة مجلة العربي يتمحور حول ( الغرب بعيون عربية) فقد التزمت هذه الورقة البحثية بهذا المحور، وشرعت في قراءتها لأدب الرحلة في مجلة العربي ضمن فضاء الآخر الغربي ومداراته الجغرافية والثقافية والاجتماعية، وليس الآخر العالمي الممتد في فضاءات القارات الأخرى. وهو - الآخر الغربي - على كال حال أكبر الفضاءات ثراء في معطياته وتجلياته وأبعدها تأثيراً في الأنا العربية أو الذات القومية، وأكثرها تنوعاً وأشدها تعقيداً في الرؤى التاريخية والحضارية منذ شرع العرب في الرحلة إلى الآخر الغربي، حيث تراوحت هذه الرؤى بين المدّ والجذر، قديماً وحديثاً، قديماً حين كانت الذات العربية - إبان عصور العافية السياسية والمدّ الحضاري العربي الإسلامي - هي النموذج والمثال والقدوة أمام أوربا التي كانت تعيش عندئذ عصور الظلام حضارياً وثقافياً ومعرفياً وعلمياً، وتنشد مثالها أو مشروعها القومي في المركزية العربية الإسلامية يوم ذاك.

         ثم دار الزمن دورته، وتبادل العرب والغرب المواقع، فأصبح الغرب هو مركز الثقل السياسي والعسكري والعلمي والمعرفي والحضاري، فيما دخل العالم العربي في غيبوبة عصور الدُّجْنة الحالكة، لقرون متطاولة، لم يستيقظ منها إلا على مدافع الحملة الفرنسية، أو عندما اقتحم الاستعمار الغربي عقر داره، فكانت الصدمة الحضارية التي زلزلت بنية العقل العربي واهتز معها الوجدان، فأصابه الإحباط والخوف، وانتابه الإحساس بمركبات النقص وعقد الدونية إزاء هذا الآخر الأوربي، صاحب الثقافة المغايرة والغالبة. ولما كان المغلوب مولعاً بتقليد الغالب تأتّت ضرورة الرحيل إلى أرض هذه الحضارة الغالبة، وحتمية الانفتاح عليها، بحثاً عن علّة التخلّف، ومعاينة معرفة أسرار تفوقه وتقدمه ومحاولة اللحاق به، والأخذ عنه، ومحاكاته، ونقل منجزاته المادّية والحضارية على نحو يدفعنا إلى الأمام، وينتشلنا من وهاد التخلف إلى ذرى التقدم، كما فعل محمد علي مع بداية عصر النهضة العربية، وكان من جراء ذلك أن امتدت جسور الرحلة إلى الغرب التي أفرزت أجيال التنويريين والمفكرين العرب، وظلت موصولة حتى اليوم، وكان لمجلة العربي - حديثاً - فيها نصيب كبير عبر رحلاتها الكثيرة، كما سنرى وشيكاً.

         وعلى الرغم من تتابع أجيال الرحالة العرب إلى الغرب، فقد ظل السؤال المحرق الذي يؤرقهم: لماذا كان التفوق والغلبة من نصيب الآخر الغربي، وكان التخلف والهوان والهزيمة من نصيب الأنا العربي؟

         ولما كان رحّالة مجلة العربي هم الأحدث في سلسلة الرحّالة العرب، فقد أضافوا سؤالاً آخر، أكثر أرقاً وأشد حرقه مفاده: ما الذي فعلته أمم أخرى(3) كانت في مثل موقفنا الحضاري، لكنها تجاوزت محنتها وخرجت من أزمتها وحققت مشروعها الحضاري، وكيف كان ذلك، وما السبيل لمحاكاتهم، في ظل السياق العالمي الراهن؟ ولماذا لم تستطع الأمة العربية أن تحسم مصيرها وتستكمل نهضتها وتحقق أهدافها كما فعلت أمم شرقية وغربية كثيرة؟ وأنّي لها أن تتجاوز حالات التخلّف التي يتضافر فيها الاستبداد السياسي والجمود الاجتماعي والتعصب الديني والأصولية الفكرية في خنق روح الابتكار وقمع القدرات الخلاقة للإبداع في كل مجال، ودفعها إلى التراجع والتقهقر الذي ينحدر بمسيرة الأمة؟

         لم تغب هذه الأسئلة عن محرري الرحلة في مجلة العربي، بل هي التي حددت لهم آفاق الرحلة على امتداد العالم، وساهمت في تحديد زاوية الرؤية للآخر، وتبئير قراءته، ومن ثم جاءت رحلاتهم عبر العالم نموذجاً لهذا الوعي بالمشكل الحضاري للأمة العربية، وبما ينطوي عليه هذا المشكل من شعور بالقلق والتوتر وإحساس بالتخلف والعجز إزاء هذا الآخر المتقدم، ومن ثم ظلت بؤرة العدسة لدى رحالة العربي مفتوحة (على نحو بانورامي) نحو إشكالية الأزمة والنهوض، في ظل سياق اجتماعي ثقافي مغاير، خصوصاً في رحلاتهم إلى الشرق الأقصى (اليابان، الصين، دول النمور) ومن ثم كان السؤال الملحاح، المعلن أو المضمر في كل رحلة: إذا كان الشرق الأقصى يبذل الجهد مضاعفاً ليسترد المبادأة وينتزع الريادة، فما هو دورنا الفاعل ومنهجنا للخطو على طريق الصعود وبناء المجتمع العربي الحديث؟ وهل آن الأوان لتحمل مسؤولية تخلفنا وضعفنا؟

رابعاً: مدارات الرحلة إلى الغرب أو نماذج من استطلاعات العربي

         لما كان موضوع هذه الورقة، كما حددها القائمون على الندوة، وكما سبق أن ذكرنا، وقفاً على رحلات العربي إلى الغرب الأوربي (أوربا الغربية، والولايات المتحدة وكندا) وبيان أثرها في الحياة الاجتماعية لدى العرب، ولأن رحلات العربي إلى الغرب من الكثرة بمكان فإننا مضطرون إلى الاختيار من بينها. ومن هنا تحددت مدارات الرحلة بتسعة استطلاعات فقط، أما معايير الاختيار هنا فتقوم على التنوع الجغرافي والمكاني في الغرب (دول، عواصم، مدن كبرى). وعلى التباين الحضاري والثقافي والاجتماعي، وعلى تعّدد الرحّالة والمصورين في مجلة العربي، وعلى اختلاف أزمنة الرحلة وسنوات النشر. وأما زاوية القراءة لهذه الرحلات، النماذج فهي مقترنة بالمنظور الثقافي والاجتماعي، بحثاً عن الآخرالثقافي المتفوّق، تمهيداً لاكتشاف أثره في الواقع الاجتماعي العربي المعاصر.

         ونشرع الآن في الارتحال مع الرحلات التسع التي آثرناها نموذجاً لأدب الرحلة في مجلة العربي، مع ملاحظة خصيصة ذائعة في عنوانات الرحلة، وهي أن كل رحلة لها عنوانان: إحداهما العنوان الرئيسي (بالمعنى الجغرافي) والآخر العنوان الفرعي الذي يحدد (زاوية الرؤية) عند رحّالة العربي.

4/1 نيويورك.. تفاحة عسيرة الهضم

استطلاع: صلاح حزين، وتصوير أوسكار متري

العربي: ص 132 - 147، العدد: 344 - يوليو 1987

         لم تكن الرحلة إلى نيويورك، هي الرحلة الوحيدة لمجلة العربي إلى الولايات المتحدة، فثمة رحلات كثيرة إلى معظم المدن الأمريكية، بل إن محرر هذا الاستطلاع نفسه قد نشر قبل أربعة أشهر فقط استطلاعاً آخر عن الحلم الأمريكي والوهم المغترب (عدد: 339 - فبراير 1987) مما يعني أن الرحلة إلى الولايات المتحدة وحدها قد شغلت حيّزاً كبيراً من أدب الرحلة إلى الغرب.

         ليس محض مصادفة أن يقف المحرر طويلاً أمام تمثال الحرّية (ذي الشعلة) بكل ما يرمز إليه من قيم ورموز تتعلق بالحريات الفردية والمجتمعية في العالم الجديد. وكان همّه أن يكتشف أسرار تفوق نيويورك - عاصمة العالم - على كل المستويات والأصعدة بدءاً بزيارة الأمم المتحدة والمؤسسات العلمية في المدينة وانتهاءً باكتشاف روح الثقافة الأمريكية، كما تتجلّى في الحياة اليومية لسكان هذه المدينة، وما يشيع فيها من قيمٍ يتمنى المحرر أن تشيع في العالم العربي، مثل التسامح والمساواة وقبول الآخر والاعتراف به واحترام خصوصيته الثقافية، والإيمان بالتعددية العرقية والثقافية - على تنوع المهاجرين إليها وتباين ثقافاتهم وتعدد أعراقهم وأصولهم - وهو ما تؤكده الثقافة السائدة وتؤيده أنماط الحياة والسلوك العام واحترام البيئة، وتؤازره مؤسسات المجتمع المدني، وتعكسه الفنون والآداب المزدهرة (مع التأكيد على أن هذا الازدهار الفني قرين الازدهار العلمي والتكنولوجي كما يبرز في جامعاتها) وترصده عين العربي في الثقافات الفرعية، وفولكلورها، واحتفالاتها وطقوسها الفريدة، وأطعمتها وأزيائها الشعبية.. إلخ. (الحيّ الصيني نموذجاً) (4).

         غير أن عين العربي لا تقع أسيرة الانبهار بالمدينة الغربية فقط، بل تتجاوزها لرؤية السلبيات، فإذا نيويورك، شأن كل المدن والعواصم الكبرى، تنطوي - في بنيتها التحتية أو الخفية - على كثير من المتناقضات أيضاً. ولا تتردد عدسة العربي في رصد وتسجيل هذا الجانب المظلم من نيويورك - مدينة الأسمنت والحديد على حد تعبير المحرر - فتذهب إلى المناطق الفقيرة (منطقة هارلم السوداء، وهارلم الإسبانية) حيث يعاني معظم الزنوج والمهاجرين من أمريكا الوسطى) من براثن الفقر والحرمان والتفرقة العنصرية، وينتشر الإدمان، وتزدهر الجريمة، ويتفشى الفقر والبؤس، وهذا يعني ببساطة أن للغرب وجها نموذجيا، وآخر سلبيا...!

4/2 كندا.. هنود وإسكيمو وأوربيون أيضاً

استطلاع وتصوير: محمود المراغي

العربي: ص 132 - 147، العدد: 415 - يونيو 1993

         في الرحلة إلى كندا لم يكن التقدم التكنولوجي الفائق وحده هو الذي لفت نظر الأستاذ محمود المراغي (برغم غمزه ولمزه إلى أن مثل هذا التقدم هو الذي يمثل بيت الداء في الوطن العربي ويشكل عقد التخلف ومركبات النقص تجاه الغرب المتقدم) ولم يكن أيضاً المشروع السياسي لهذه الدولة الاتحادية التي تعد ثاني أكبر دولة في العالم هو الذي وقف عنده فقط، فذلك كله معروف في الأدبيات السياسية العامة. لكن أكثر ما لفت انتباهه كان التعايش السلمي بين المواطنين، برغم التعددية العرقية والثقافية. لذلك ليس محض مصادفة أن يشرع في دخول كندا من بوابتها الثقافية مونتريال. فإذا بها - كما يقول - مدينة عالمية بالمقياس الثقافي والاقتصادي والبشري (فخليط البشر: أبيض، أسود، أصفر، وما بينهما من ألوان هو ما تصافحه عيناك في الشوارع والأسواق) ليس في مونتريال فقط، وإنما أيضاً في المدينة العتيقة كيبك، حيث يتأكد احترام التنوع الثقافي (الثقافات الفرنسية والإنجليزية والأوربية عموماً، بما هي ثقافات سائدة، إلى جانب عدد من الثقافات الفرعية، كثقافة السكان الأصليين (ثقافة الهنود الحمر، وثقافة الإسكيمو وغيرهما) واحترام التعدد اللغوي (إحدى عشرة مجموعة لغوية أهمها الفرنسية والإنجليزية).

         وإزاء هذا التعددية الثقافية واللغوية والبشرية، أو إزاء هذا الكوكتيل البشري أو الكوكتيل الحضاري على حد تعبير المحرر، جعل البعض يتساءل: هناك كندا، ولكن هل هناك كنديون؟ خصوصاً أن الحس العرقي والرغبة في التمايز الثقافي والاجتماعي ما زال قائماً في الحياة اليومية، فكيف أمكن تحقيق الوحدة الوطنية أو التماسك القومي، وهذا التقدم الاقتصادي الهائل لهذا الخليط البشري في مثل هذا المجتمع الذي يعرف أحياناً باسم مجتمع المهاجرين؟ تكمن الإجابة - كما لاحظها المحرر - في براعة النظام السياسي وشفافيته وإيمانه بالديمقراطية، فاختار الفيدرالية مشروعاً سياسياً، يصونه الدستور الذي تم الاستفتاء عليه في أغسطس 1992، وجوهره:

         الاتحاد في ظل التنوع، الفيدرالية مع احترام الثقافات (الفرعية) والأقليات والحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وفي ظل ذلك تكون هناك مساواة بين الرجل والمرأة، ومساواة بين الأقاليم (العشرة التي تتكون منها الدولة الكندية)، ومساواة عرقية، مع الاعتراف بالتنوع الثقافي والحضاري واللغوي... كما يكون للهنود الحمر (السكان الأصليين) الحق في حكم ذاتي، مع حقهم في استخدام لغتهم، وإحياء تراثهم الثقافي (ص: 145، عدد: 415).

         ثم يضيف المحرر معلقاً، أنه لولا الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي، ولولا أن الديمقراطية جزء من الثقافة نفسها ما جاءت نتيجة الاستفتاء على الدستور على هذا النحو الإيجابي الساحق، مع أن الجو العام كان يوحي بالرغبة في الانفصال لا الاتحاد.. وكان من جراء هذا الوعي أن انصرف جميع الكنديين فوراً لتحقيق التفوق الاقتصادي، حتى أن منظمات الأمم المتحدة اختارتها لتكون أفضل بلد في العالم من حيث مستوى المعيشة (ص 149).

         وفي ضوء هذا الوعي أيضاً تجاوز الشعب الكندي مشكل الأصالة والمعاصرة الذي يؤرق الأنا العربية، فإذا الفنون الآداب متنوعة بين القديم والحديث، وفي الفنون المعمارية - على سبيل المثال - تصافح المباني القديمة المباني الحديثة دليلاً على التعدد الحضاري وثراء القيم المعمارية على حد تعبير المحرر، فضلاً عن احترام الظروف الطبيعية والبيئية. ومن ثم كان منطقياً أن يعيش الكل في سلام، وأن تهيمن ثقافة التسامح وقبول الآخر واحترام خصوصيته الثقافية، بدليل إحياء الفنون التقليدية، وإقامة عشرات المهرجانات الفنية والكرنفالات الشعبية على مدار العام، وهي في معظمها احتفاليات فولكلورية، باعتبارها حافز انتماء، وتعزيزاً للهوية الوطنية، وتحقيقاً للخصوصية الثقافية.

         وهكذا تتعايش الأصالة مع المعاصرة، والقديم مع الحديث، في ظل الإيمان بالتعددية الحضارية والثقافية، كما يقول الأستاذ محمود المراغي.

         يختتم المحرر رحلته بوصف عرب كندا ولم يقل الجاليات العربية في كندا، لأنهم سرعان ما اندمجوا في المجتمع الكندي، وحملوا جنسيته، وساهموا في بنائه، والارتقاء به علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً، بعد أن هيأ لهم المجتمع المناخ الصالح للإبداع والإنتاج، كما أتاح لهم حق المشاركة السياسية، حتى وصل بعضهم إلى منصب رئيس وزراء أحد الأقاليم العشرة بكندا، ناهيك عن احتلال بعضهم لعدد من المقاعد في البرلمان الاتحادي في العاصمة أوتاوا. وهكذا - يقول المحرر - يثبت العربي ذاته حين تتاح له الظروف.

         أما المشهد المضمر في ذاكرة المحرر، في ضوء هذه الرحلة، فهو: أين نحن في العالم العربي من هذا كله؟ وهذا هو الوعي المتسرب من الرحلة إلى ذهن القارئ العربي، حين يقرأ مثل هذا الاستطلاع، وغيره، بفعل المقارنة بين ما هو كائن في عالمه العربي (المتخلف) وما كائن لدى الآخر المتقدم، فيقف على حقيقة واقعة، كما هو منعكس في مرايا الآخر الغربي.

4/3 تورنتو.. بوابة شمال أمريكا إلى المستقبل

استطلاع: محمد رباح، وتصوير يُمنى رباح

العربي: ص 42 - 67، العدد: 487 - يونيو 1999

         من مونتريال وكيبك وأوتاوا تتواصل رحلات مجلة العربي إلى مدينة تورنتو باعتبارها رمزاً دالاً على الحداثة الغربية، بما هي حداثة تكنولوجية في المقام الأول، قوامها العلم والثقافة العلمية، والعمل المتواصل والإنتاج المتسارع والإبداع المتعاظم، خصوصاً في مجال تكنولوجيا المعلومات وتأسيس المجتمع المعرفي (مقابل استدعاء الذاكرة في أسى لواقع التخلف التكنولوجي والعلمي عند العرب، ثم هي حداثة تجمعها مؤسسات المجتمع المدني، قبل المؤسسات الرسمية للدولة، وتؤطرها قيم الحرية والمساواة والتسامح وقبول الآخر والإيمان بالتعددية العرقية والثقافية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي يعتبر جزءاً من ثقافة الناس في حياتهم اليومية. وهي أيضاً مدينة لا تناقض فيها بين مشكل الأصالة والمعاصرة، ولا أثر له (إلا في الثقافات العاجزة) يقول المحرر:

         في هذه المدينة تتعايش كل الأشياء: تراث مفعم بالقديم وعصر قادم يفرض لغته، وخليط من البشر والثقافات والأحلام، إنها مدينة تجمع العالم بكل ما فيه، فيمتزج الجميع عازفين سيمفونية ما بعد القرن الحادي والعشرين.

         وتؤكد عدسة العربي ذلك كله، فتنتقل من أروقة المتاحف الفخمة التي تقف فيها آثار الماضي شاهداً على عظمة الزمن إلى أروقة الصروح العلمية الضخمة، تحت عنوان رهبة الحضارة.

         وأمام هذه الرهبة أو الصدمة الحضارية التي استشعرها المحرر الرحالة كاد يصيبه اليأس والإحباط لولا أنه وجد حضوراً علمياً عربياً فاعلاً على حد تعبيره للعلماء العرب المتجنسين كندياً، وقد ساهموا جميعاً في هذا العزف السيمفوني لحداثة القرن الحادي والعشرين وما بعده كما يقول، فاستعاد توازنه النفسي والثقافي، وراح يكتب عنهم في زهو وافتخار: سيرهم الذاتية، وجهودهم العلمية والتكنولوجية على كل الأصعدة، وكيف حافظوا - في الوقت نفسه - على خصوصيتهم الثقافية، على لغتهم وتراثهم الثقافي والعلمي الموروث، وعلى جمعياتهم العلمية والثقافية ومؤسساتهم الدينية، (في إطار من حرية التعددية العرقية واللغوية والثقافية التي يتميّز بها المجتمع الكندي عامة والتورنتي خاصة) من غير أن يتناسوا هموم أمتهم العربية، ودورها في تأسيس الحضارة العالمية(5)، وينطوي المشهد المضمر هنا على نوع من الحسرة على مصير العلماء العرب الذين لم يهاجروا إلى مجتمع المهاجرين، ولم تحتضنهم حضارة الآخر الغربي (المتقدم)!

4/4 ألمانيا الموحدة.. الحلم والكابوس

استطلاع: سليمان مظهر، وتصوير: سليمان حيدر

العربي: ص 36 - 61، العدد: 409 - ديسمبر 1993

يبدأ الأستاذ سليمان مظهر استطلاعه بالعبارة الآتية:

         لم تكن أول مرة أزور فيها ألمانيا، فقد أتيح لي أن أزورها - شرقاً وغرباً - وهي تلعق جراحها وتعيد بناء نفسها بعد أن دمّرتها الحرب... كما طغت مرة أخرى بمختلف أرجائها، حين كانت المعاناة وقسوة الحياة من نصيب الشرق، وكان الرخاء والرفاه وقفاً على الغرب، ثم كانت الزيارة الأخيرة (هذه الزيارة) بعد أن تحققت أحلام الوحدة، ولم يعد هناك شرق ولا غرب، ولكن ألمانيا الموحدة، رغم ما يتهامس به الناس في الشرق والغرب من أن الوحدة كانت ورطة وبريقاً زائفاً، وأن الحلم الناعم تحوّل إلى كابوس.

         وهذا يعني أن زاوية الرؤية تكمن في اكتشاف تجربة الوحدة الألمانية، وكيف تحققت بالرغم من كل الصعوبات التي كادت تفترس الحلم، حلم الوحدة، وتحيله إلى كابوس يغتال هذا الحلم القومي، بسبب تعجّل الإدارة السياسية لهذه الوحدة الحلم بغير التمهيد اللازم لمتطلبات الوحدة، مما نجم عنه أخطاء اقتصادية واجتماعية باهظة.. ولكن كيف خرجت ألمانيا من هذا المأزق التاريخي؟.. يجيب المحرر في ضوء معايشته للواقع اليومي للمجتمع الألماني خلال قيامه بالرحلة، أن سرّ نجاحها يكمن في ما يمتلكه الشعب الألماني من وعي سياسي واجتماعي، ولولا هذا الوعي، وما أقدم عليه هذا الشعب من تضحيات مادية هائلة قدّمها عن طيب خاطر لأشقائه في ألمانيا الشرق لتحطمت هذه الوحدة العملاقة على صخرة الأنانية والمصالح الذاتية وضيق الأفق (السياسي والاجتماعي) وتحول عندئذ الحلم القومي إلى كابوس يمكن أن ينتهي إلى حرب أهلية مدمّرة.

         فلما قام المحرر بزيارة ألمانيا الموحدة - في عيد الوحدة الثاني - كان منبهراً بهذه التجربة الألمانية في الوحدة، وبالدروس المستفادة منها، فيقول: لقد خرجت ألمانيا من الحرب العالمية مدمّرة تماماً، لكن إرادة الشعور الحرّة أقوى من كل دمار، ولولا هذه الإرادة الحيّة ما بادر الشعب الألماني إلى إعادة بناء ألمانيا الموّحدة وجعل منها - في زمن قياسي - أعظم قوة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية في أوربا، ثم يعلق المحرر: وهكذا تحقق الشعوب أحلامها وتتجاوز كوابيسها، بالوعي والإرادة والعزم والتصميم.

         ويغوص سليمان مظهر في الثقافة الألمانية المبدعة بحثاً عن مكامن العبقرية عند الألمان، فإذا هي مزيج أو مزيد من الأمل والطموح والعمل الخلاق، والانضباط والدقة في كل شيء، حتى في قضاء وقت الفراغ وقضاء اللهو وإيمانه المطلق بالعلم والتفكير العلمي وعلوم التكنولوجيا، وفي حبّة للحياة أيضاً والإقبال عليها، وفي اعتزازه الشديد بكرامته وكبرائه القومي، ولغته، وثقافته، وتراثه، وتقاليده وفولكلوره.. إلخ، واهتمامه بالبيئة إلى حد الهوس حتى صارت برلين تعرف باسم المدينة الخضراء، وتسجل عدسة العربي نماذج حيّة من هذا كله، في الشارع والمختبر، في المصنع والجامعة... وتكاد تشعر أن صوت المحرر وعدسة المصور يقدمان لنا وصفة للتقدم وتجاوز التخلف للأنا العربية التي لم تجد ما تفتخر به عند الآخر الغربي الألماني إلا رأس نفرتيتي الملكة الفرعونية - زوجة إخناتون - وهي تزين متحف الفن المصري القديم في ألمانيا، والتي عشقها هتلر!

         ومرة أخرى يبقى الزهو العربي - في هذه الرحلة - وقفاً على الماضي أو الأنا التاريخية للذات العربية، في فعل تعويضي حيال إفلاس الحاضر الجارح أو عجز الأنا الراهن.

4/5 فرانكفورت.. هل يبقى الملك على عرشه؟

استطلاع: د. محمد المخزنجي، وعدسة: سليمان حيدر

العربي: ص 68 - 83، العدد: 494 - يناير 2000

         في رحلة لاحقة لألمانيا، يتوقف محرر العربي الرحالة عند مدينة فرانكفورت، بمناسبة معرض الكتاب الدولي فيها. وعلى الرغم من أن زاوية الرؤية كانت محددة بإجابة عن سؤال بعينه حول مصير الكتاب المطبوع أو (الملك في مملكة المطبوع) في مواجهة نظيره الإلكتروني أم زحف النشر الإلكتروني الذي هيمن على صناعته النشر في عصر الانفجار المعرفي وثورة الاتصالات والاجتياح الرقمي، ومن ثم ازدهار سوق المعلومات العالمي، تحت شعار شركات نشر دون ورق، وكتب ليست على ورق، ومكاتب لا تعرف الورق وبرغم أن الإجابة جاءت لصالح الكتاب المطبوع، حتى الآن على الأقل، فإن زيارة المعرض قد أثارت عند المحرر الكثير من الشؤون والشجون، فالمعرض نفسه مدينة كاملة من الأبنية الَمابَعْدَ حداثية... في حقل الثقافة العلمية والتكنولوجية التي يتوقعون مواكبتها للقرن الحادي والعشرين وعلى نحو يكشف عن مدى الفجوة أو الهوة العلمية بين مجتمعات المعرفة ومجتمعات الجهل، ويستمر في الوقت نفسه إلى أهمية المنجزات الألمانية في مجال الثقافة العلمية والتكنولوجية والفكرية والفلسفية. ويدعو العلماء العرب إلى الانفتاح عليها، قائلاً :

         أرى أن الثقافة الألمانية ظلمت لدينا ظلماً كبيراً يستحق التصحيح، فالتنويريون العرب قدمّوا لنا الغرب مختزلاً في فرنسا وإنجلترا اللذين أرسل هؤلاء التنويريون كطلاب بعثات إليهما. وثمة مدخل آخر لظلم الثقافة الألمانية، هو تواري هذه الثقافة خلف شعار شهرة ألمانيا الصناعية، برغم أن الثقافة الألمانية لا تقل رفعة عن تفوق هذه الصناعة، بل أعتقد أنه لولا هذه الثقافة الرفيعة ما كانت تتحقق دقة وقوة هذه الصناعة لدى الألمان في آن. إنها إذن دعوة إلى الانفتاح على الآخر الألماني، ابن ألمانيا العلم والتكنولوجيا، وابن ألمانيا الثقافة الرفيعة وألمانيا الصناعة المتقدمة.

         وأثناء قيام المحرر الدكتور المخزنجي بجولة داخل هذا المعرض الضخم للكتاب، وانبهاره بأجنحته الزاخرة بالإنجاز العلمي والمبهر، وتكنولوجيا المعرفة والنشر الإلكتروني تحت شعار التجارة والترويج لمنتجات العقل البشري العالمي، وهذا هو الهدف الأسمى من إقامة هذا المعرض الدولي السنوي للكتاب، كان طبيعياً أن يتجول في الأجنحة العربية والأنشطة المصاحبة.. وعندئذ هاله ما رأى، فكتب من هول ما رأى مرثية للأنا العربية، كما تتجلى في عالم الكتاب، تحت عنوان أهل الكتاب.. واعرباه فيقول عن الأنشطة أو الفعاليات العربية في هذا المعرض العالمي:

         أما عنّا، فقد كان هناك ذلك العنوان المكرر في الغرب والممل دائماً: المرأة في العالم العربي وكأنه ليس لدينا قضايا فكرية وحياتية غير اضطهاد المرأة العربية... وبرغم أن عنوان هذا العام كان أفضل كثيراً عن ذي قبل، وهو دور المرأة في العالم العربي في الانفتاح الثقافي فإن اختزال صورة العرب في هموم شق واحد من مكوناتها، هو تكريس لانطباع غربي لا يخلو من شبهة التسويق في استبداد الرجل الشرقي، بينما الرجل كالمرأة سواء في معاناة واحدة تحت سقف العشوائية الشائعة، والتخلّف المدني الملحوظ، والتربصّ الظلامي بالنوايا الثقافية والإبداعية، وتهديدات البيئة والمناخ والفقر والتسلط والجهل من كل نوع.

         وعندما قام الدكتور المخزنجي بزيارة الأجنحة العربية، كانت الفضيحة الكبرى، فضيحة التخلف العربي الذي ينكشف على العالم أجمع في مثل هذا المحفل العلمي العالمي، فيقول:

         وعلى ذكر أحوالنا هذه أحب أن أعرج قليلاً على الأجنحة العربية في معرض فرانكفورت، والتي كانت بكل المقاييس فضيحة يدركها كل مَنْ انتبه إليها في سياق الصورة العامة لهذا المحفل الثقافي العالمي الأهم في قلب أوربا. ومن الغريب أن كثيرين من القائمين على شأن هذه الأجنحة العربية كانوا في غاية الرضا عن أنفسهم، وهو رضا يتجاوز قول طه حسين في أحد كتّاب الدرجة الثالثة المشاهير في زمنه: ماذا تقول في رجل رضي عن جهله ورضي عنه جهله! فالمسألة ليست جهلاً فقط، بل سوء نيّة متعمد لغايات دنيا، كبدل السفر والنزهة وإعطاء الانطباعات الكاذبة لدى المسؤول.

         ثم يقول في موضع لاحق من وصف الرحلة:

         الأجنحة العربية الرسمية جميعها كانت في ركن خلفي مهمل... تعرض على الأوربيين والألمان كتباً عربية رديئة الصنع، متواضعة التأليف، يكاد اختيارها لا يتعدّى منطق المجاملة لأسماء معظمها لا يقرأ داخل وطنه العربي. أما قلّة الذوق في معرض جوهره يتعلق بالثقافة - أي قمة الذوق - فحدّثْ ولا حرج ؛ كتب مرصوصة على أرفف عارية، وكأنها دكاكين بقالة، أسوأ حتى من عرض بائعي الكتب على الأرصفة... لهذا خلت أجنحة العرب إلاّ من موظفيها.

         ويرفض المحرر التبريرات الرسمية لمثل هذه الفضائح العالمية، فيقول:

         قد يقال إنها رقة حالنا، ولا أرى إلاّ أنه هواننا على الناس وعلى أنفسنا قبل كل شيء، وعدم الإخلاص في أبسط صورة.

         ويستدل على ذلك بقوة وفخامة الأجنحة المجاورة لنا، مثل الجناح التركي، وجناح جنوب أفريقيا التي صارت منافساً دولياً في إنتاج الكتاب والميديا المصوّرة. ثم يشير - المحرر - في نبرة آسية - حتى تكتمل المرثية العربية - إلى الجناح الإسرائيلي، وبراعتها في توظيف جناحها توظيفاً سياسياً إلى جانب وظيفته العلمية والمعرفية ومدى الفرق ما تصنعه إسرائيل، وما نصنعه لأنفسنا وبأيدينا:

         ولا أريد أن أذكر إسرائيل التي وضعت جناحها وسط الكبار في أوربا وأمريكا، ونجحت في تكريس كُتّاب وكتب لدينا ما يفوقهم بمراحل، ناهيك عن كتب الدعاية المصنوعة بدهاء، والتي سرقت أرضاً عربية وتراثاً شعبياً عربياً، وراحت تقدمه على أنه مورثها الشعبي (دليلاً على أصالتها في هذه الأرض) وعرفت كيف تقدمه، بينما دسناه - التراث الشعبي - نحن بأقدام التهافت والملق والجهل والأداء الشكلي الخالي من الذوق والروح والضمير.

         وتمضي عدسة العربي تسجل وثائق هذا المحفل الثقافي العالمي، منها عدد كبير من الألمان يغنون ويرقصون في أزيائهم الشعبية المبهجة، على أبواب المعرض يستقبلون رواده بأحلى ما في الفولكلور الألماني ويفتخرون بتقديمه إلى العالم، جنباً إلى جانب، مع عظمة التكنولوجية الألمانية، حيث تظهر في خليفة الصورة مباني المعرض التي جاءت رمزاً لما بعد الحداثة، بالمعنى الغربي.

         وثمة صورة مبهرة أخرى تلتقطها العدسة لمجموعة ضخمة من الألمان يتزاحمون على جناحهم، نعلم بها أن الكتاب المطبوع لا يزال في بؤرة الاهتمام، والألمان يشترون كتباً بـ 18 مليون مارك كل سنة وعلى نحو سيميائي يرمز إلى أن ألمانيا الثقافة هي الداعم الحقيقي لألمانيا الصناعة.

         وأما اللقطة الثالثة - وما أكثر ما التقطت عدسة العربي من صور بالغة الدلالة - فتتعلق بالصور الخاصة بجناح الأطفال في المعرض، وعلى نحو يؤكد أن (كتب وبرامج الأطفال كانت القطاع الأكبر في معرض فرانكفورت)... وعندئذ تستدعي الذاكرة أيضاً - بفعل المقارنة - حال أطفالنا في العالم العربي!

4/6 باريس.. مرآة القرن الواحد والعشرين

استطلاع وعدسة: أنور الياسين

العربي: ص 42 - 57، العدد: 448 - مارس 1996

         ماذا عن (روح باريس) الكامنة في تلك المدينة الأوربية العربية التي قفزت بثقة إلى آفاق القرن الواحد والعشرين، بغير تفريط في ماضيها وتراثها؟ هذه هي زاوية الرؤية التي ضبط المحرر من خلالها عدسة الرصد، داخل باريس العاصمة، فإذا هي مدينة المتناقضات، مدينة الجن والملائكة فيما يقول طه حسين، ولكنك لا تملك إلاّ أن ترى فيها ما تودّ أن ترى فيه نفسك على حد تعبير أنور الياسين. ليس لأن باريس كانت أولى القبلتين للبعثات العربية التي ساهمت في خلق جيل التنويريين العرب الأوائل (رفاعة الطهطاوي، أحمد لطفي السيد، مصطفى كامل، قاسم أمين، طه حسين، توفيق الحكيم... إلخ) بل أيضاً فيما تنطوي عليه عبقرية الروح الفرنسة عموماً والباريسية خصوصاً، وهي عبقرية قوامها الجمع بين ماض تراثي عريق ومستقبل تقني حداثي مبهر، وهو أمر يتجلى في كل مظاهر الحياة اليومية.

         إنها باريس، عاصمة الحلم والعلم، باريس الألفية الثالثة التي لا تكفّ عن النظر إلى المستقبل، حيث تظلّ باريس - كما يقول المحرر - هي مدينة الحلم والتخيّل والنظر إلى ما وراء الأفق، أفق القرن الواحد والعشرين، مؤكداً - بفعل المقارنة بين الأنا والآخر الغربي - أن الرؤى المستقبلية للشعوب الحيّة لا تتعارض مع تمسكها بالتراث والأصالة، وأن كليهما - الماضي التراثي والمستقبل التقني - هما جناحا الهوية الثقافية التي تحلّق بهما باريس إلى الآفاق المستقبلية والفضاءات العالمية، ولهذا لا غرو أن تصبح مرآة النفس ومرآة العصر على حد قول المحرر، ورمز الحضارة الغربية على حد التعبير الأوربي.

         يشرع المحرر بعد ذلك في زيارة الصروح العلمية الضخمة، ومشاهدة معارض التكنولوجيا والفضاء والطاقة، بما هي معارض حداثية تتمحور حول الثورات العلمية المستقبلية وإنجازاتها الخارقة. ثم يلفت نظره أيضاً معارض الأطفال ومدن الخيال العلمي المخصصة لهم، فإذا هي ذات وظائف مختلفة، ظاهرها الترفيه وباطنها التعليم والتثقيف... ويتقدم مسؤول ليشرح للمحرر طبيعة هذه المعارض والغاية منها، حيث هي معارض من نوع مختلف، تسمح بالتفاعل بين المتفرج والمادة (العلمية) المعروضة، وهي تتيح التعلّم من خلال اللعب والمرح، ومن أجل هذا كان اهتمامنا بالأطفال، فهم الأكثر خيالاً والأكثر قدرة على التعلم. وبفعل المقارنة بين الأنا والآخر يتبدّى هذا السؤال التحريضي عن حال الأطفال العرب، ولسان حاله يقول: ماذا فعلنا لهم؟!.

         بعد أن يقف المحرر بعد ذلك عند باريس الفن والأدب والفكر والفولكلور، يمضي في وصف، باريس الفولكلور والحياة اليومية، فإذا الشعب الفرنسي عموماً - في سلوكه اليومي - شعب محّب للحياة، مقبل عليها، مستمتع بها، مطمئن لحاضره، متفائل بمستقبله، يقدّس العمل، ويقدّر الوقت، ويحترم البيئة... إلخ. ولهذا لا غرو أن تكون الثقافة المرحة هي الغالبة عليه (95% إحصائياً). ومرة أخرى وبفعل المقارنة تتراءى أنماط الحياة العربية وثقافتها النكدّية أو المحبطة.

         ولكن لباريس وجهاً آخر فهي برغم كل ما فيها من انطلاق معرفي تعرف جيداً كيف تكون غاضبة كما يقول المحرر، عندما تنتهك حقوق الإنسان أو تمس الحقوق المدنية للناس، خصوصاً في التعليم أو الصحة أو المعاشات أو غير ذلك، عندئذ تشتعل المظاهرات وتنتفض الجمعيات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وتنتصر الصحافة لهم، ويثور الرأي العام، على نحو يؤكد مدى الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي، ويشير إلى عبقرية قوى الإرادة والتحدي لدى الشعوب الحيّة مهما كانت التحديات والتضحيات.

         حتى إذا ما هبّت رياح العولمة على فرنسا في السنوات الأخيرة، فإن باريس ظلت على انفتاحها، وتدبّرت حالها في مواجهة الأمركة الطاغية في غير ما عقد أو خوف على ثقافتهم... وسخرت من موجات التقليد التي أطلقوا عليها ومن باب التشنيع (النمط الأمريكي للحياة) وظلوا فخورين بكونهم يرفعون لواء حماية الثقافة اللاتينية التي تحدد نمط الحياة الفرنسية، وتمثل خصوصيتهم الثقافية، والأساس في نمط الحياة الفرنسي، ولكن في غير جمود أو تشنج.

         ويختتم المحرر رحلته بزيارة متاحف باريس - رمز الحضارة الغربية الأول على حد تعبيره - ولا سيما متحف اللوفر، وعندئذ يمتلكه الزهو الثقافي والكبرياء القومي بالحضارات الشرقية، ولا سيما الحضارة المصرية حيث يمتلك اللوفر ثلث أكبر مجموعة من الآثار الفرعونية بعد المتحف المصري والبريطاني غير أنه سرعان ما يقول ولكن باريس لا تعيش على ذكريات التاريخ كما هو الشأن عندنا، ولكنها تبقى مدينة التكنولوجيا والصناعة، وهذا يعني أن الزهو بالماضي وحده لا يشيد حضارة معاصرة ما لم تواكبها منجزات العصر التكنولوجية.

4/7 الرحلة إلى فنلندا.. الألوان والأنغام

استطلاع: مصطفى نبيل، وتصوير: أوسكار متري

العربي: ص 100 - 115، العدد: 318 - مايو 1985

         تفتح مجلة العربي أفقاً آخر من آفاق الرحلة إلى دول أوربا، فليست باريس ولا لندن مركزي الجذب الحضاري إلى الآخر، بل ثمة شعوب وثقافات أوربية أخرى، تستحق الاستكشاف والإعجاب والوعي المعرفي والثقافي بها، حيث يمكن أن تحتذي في أنظمتها الديمقراطية والاقتصادية والعلمية، وفي آلياتها في الحفاظ على أنساقها الثقافية التي تحدد أنماط السلوك ومنظومة القيم وأساليب العيش في حياتها اليومية، برغم كونها دولاً صغيرة، وخير مثال لذلك فنلندا التي توجهت إليها رحلة العربي هذه المرّة.

         وفي ضوء العنوان الفرعي للرحلة (الألوان والأنغام) تتجلّى زاوية الرؤية للمحرر، فإذا هي رؤية ملؤها الإعجاب والاحترام بفنلندا، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً. ذلك أن فنلندا بلد ديمقراطي بالمعنى الحقيقي - بفضل أنظمتها الديمقراطية الحقة، ونظمها الاقتصادية التي تقوم على الشفافية وإيمانها بالعلم والتكنولوجيا الحديثة، ولهذا لا غرو أن استطاعت أن تصبح أكثر الدول الاسكندنافية إنتاجاً، برغم الظروف البيئية والمناخية القاسية، لقد أثبت هذا الشعب، رغم قلّة عدده (5 مليون نسمة) أنه قادر على أن يصل إلى مقدمة الشعوب بغير قوة عسكرية كما يقول المحرر.

         ولا تكمن عبقرية التقدم عند الشعب الفنلندي في الأخذ بالنظام الديمقراطي والاقتصاد الحر فحسب، بل في قوة الإرادة، والإيمان بالعلم، والتفكير العلمي، وفي تقديس العمل وانضباط الوقت والصدق في السلوك، وحب حقيقي للحياة وإقبال عليها، والعناية البيئية، واحترام حقوق الإنسان، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وقبول الآخر، واحترام ثقافته... وفي انفتاحه على دول الجوار برغم اختلاف اللغات إلا أن التعاون مستمر في المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية والفنيّة ويعلق المحرر بفعل المقارنة فيقول عن هذا التعاون الخلاّق: وهو درس على الدول العربية أن تستوعبه ص 106.

         وتكمن أيضاً عبقرية الشعب الفنلندي في الحافظ على هويته الوطنية، بفضل حفاظه على خصوصيته الثقافية التي يشكل الفولكلور جوهرها، بل إن الاحتفاء بالفولكلور - ممارسة وعلماً - يشكل معلماً من معالم الحياة اليومية والأكاديمية في فنلندا.

         ولعل هذا الاهتمام الأكاديمي غير العادي بالفولكلور هو الذي جعل لمراكز دراسة الفولكلور في فنلندا هذه المكانة العلمية المرموقة على مستوى العالم. بل إن رئيس جمعية المستشرقين الفنلندية ورئيس قسم دراسات اللغة العربية في جامعة هلسنكي الدكتور هايكي بالنا قد تخصص في دراسة لغة البدو وتراثهم الشعبي في العالم العربي. غير أن هذا الاهتمام الثقافي يواكبه اهتمام أكاديمي في جميع الحقول المعرفية الحديثة والتخصصات التكنولوجية المعاصرة.

         ولعل من أطرف الأشياء في فنلندا، والتي تدل على مدى احترام هذا الشعب لآدمية الإنسان وحقوقه، أن أهم وأجمل مكان في فنلندا هو مصحة الأمراض النفسية ص 110.

         يظل المحرر الأستاذ مصطفى نبيل، يتحدث عما سبق في تفصيل دقيق، بعين لاقطة لمفردات الثقافة الفنلندية في الحياة اليومية، وبفعل المقارنة الحتمي الذي يستدعيه إلى الذاكرة فعل الرحلة لا يملك إلاّ أن يبوح قائلاً:

         ألحت على ذهني خلال جولتي تلك العلاقةُ القديمة بين الشرق والغرب التي تبرز عند المقارنة بين حالنا وحالهم، بين أوضاع الشرق وأوضاع الغرب... فحيثما ذهبت تجد كل شيء منظماً، وترى وجه الدولة ليس في صورة تعليمات بل في العناية التي تقدمها، وفي القواعد التي تجعل حياة الناس أسهل وأجمل....

         أما في العالم العربي، فأمرنا على النقيض، يقولها المحرر في أسى شديد. ذلك أن موقف الأنا من الحياة يجعلها تعيش حياة، يفرض عليها أن تكون أكثر تعقيداً وقبحاً... فلماذا لا تتمرد على واقعها؟ هذا هوا لسؤال المضمر!

         في ختام الرحلة يفتش المحرر في ذاكرته الحضارية أو التاريخية عن شيء بعيد للذات أو الأنا العربية بعضاً من توازنها أمام الآخر (الفنلندي)، فلا يجد إلا رحلة ابن فضلان (921م) التي تعتبر المصدر التاريخي الوحيد الموثق عن حياة أهل الشمال، والتي ترمز إلى مجد غابر للعرب في زمن مضى لم تكن تعرف فيه دول الشمال القراءة والكتابة، وعلى الرغم من أن هذه الرحلة العربية منجز حضاري قديم للأنا التاريخي، فلا يملك المحرر إلا أن يفتخر به، في محاولة لرد اعتبار الذات للذات.

4/8 بلجيكا من أحزان الملك إلى أفراح الثقافة

استطلاع: د. محمد المنسي قنديل، وتصوير: فهد الكوح

العربي: ص 132 - 149، العدد: 419 - مارس 1993

         شاءت الظروف أن تطأ بعثة العربي أرض بلجيكا وهي تودع جثمان ملكها في حزن بالغ، ذلك أن هذا الملك الذي كان يمتلك - بحكم الدستور - من السلطات ما يحسده عليها أي دكتاتور في العالم الثالث على حد تعبير المحرر، لكنه لم يحدث أن استخدامها قط، وهذا هو سرّ الحزن العظيم عليه، بل إنه حين تعارضت إرادته مع إرادة الشعب آثر الاستقالة من منصبه (!) احتراماً لإرادة شعبه، وتقديساً وإجلالاً لقيم الديمقراطية والحرية على تعدد مستوياتها السياسية والاجتماعية. وقد وقف الدكتور محمد منسي قنديل أمام هذا المشهد مشدوهاً لا من حيث تجليات النظام الديمقراطي الحق (الغربي) وسيادة القانون والعدالة والمساواة واقع ملموس في الحياة اليومية فحسب، ولكن أيضاً بفعل الوعي الذي لا يكف عن المقارنة بين الأنا والآخر، وهو فعل من شأنه أن يستدعي بالضرورة الصورة النقيض للديمقراطيات العربية الشكلية أو الاسمية.

         وعندما يشرع المحرر بالتجوال في المدن البلجيكية ومنها بروكسل العاصمة بوجهها العلمي والتكنولوجي والتي تقدم - في الوقت نفسه - نموذجاً حضارياً حياً لتجاوز مشكلة القوميات أو التعددية العرقية والثقافية، وسبيلها إلى ذلك ممارسة أفراح الثقافة بعد الانتهاء من أحزان الملك، الثقافة بمعناها الانثروبولوجي، فهي ثقافة تؤمن بالانفتاح، ولا تقيم حواجز بين ما هو رسمي وما هو شعبي، ولا تفرق بين ما هو محلي وما هو عالمي، (مئات الاحتفالات والمهرجانات والعروض الشعبية على مدار العام) وهي ثقافة تقدس الفن، وتعي دوره في الارتقاء بالذوق الجمعي والوعي الاجتماعي والولاء الوطني، ومن ثم لا غرو أن يكون أداتها - كما يقول المحرر - إلى تحقيق الوحدة، وسبيلها إلى تجاوز الخلافات العرقية والثقافية، ودليلها على احترام ثقافة الآخر (التنوع في إطار الوحدة)... ليس ذلك على مستوى الدولة البلجيكية وحدها، بل على مستوى دول الوحدة الأوربية بثقافاتها ولغاتها المتعددة، يقول أحد المسؤولين للمحرر:

         أنه أم مهم أن نؤكد على تمازج الثقافة الأوربية. الاقتصاد وحده لا يكفي أن يكون أساساً للوحدة، ولكن الفن الذي يسمو على كل اللغات والحدود الذي يمكن أن يخلق التفاهم بين الأوربيين.

         وعندما ينطلق المحرر إلى مدينة أنتوويرب بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة البلجيكية والأوربية يومئذ (عام 1993) يزداد إيماناً بدور الفن - عنوان الثقافة - في توحيد المشاعر الإنسانية بين الجميع، ونشر ثقافة التسامح واحترام الآخر، ومن ثم أعجبته فكرة العاصمة الثقافية، وراح يدعو - عبر مجلة العربي - منظمةَ المدن العربية لأن تتبنى مثل هذه الفكرة بأن:

         تختار في كل عام عاصمة ثقافية عربية... مدينةً تجمع بين التراث القديم والإضافات المعاصرة (!) تحاول أن تلقي الضوء عليها، وتساعدها على إبراز معالم الجمال في شخصيتها، وأن توحّد فنونها مع بقية فنون الوطن العربي. إنها وسيلة فعالة كي تتخلّص هذه المدن من دمامتها وقبحها، وأن تنفض الغبار عن كنوزها المطمورة، وأن تتخلّص النفوس من النزاعات السياسية العقيم، وأن نحاول أن نجد من الفن والثقافة وسيلة للتفاهم بعد أن عجزت كل الوسائل الأخرى تقريباً.

         وعلى الرغم من استجابة العرب لهذه الدعوة الرائدة التي حملت مجلة العربي لواءها، ما زال الاحتفال بعواصمنا الثقافية دون المستوى المرغوب بكثير، إذْ يعدو الاحتفال أن يكون تلميعاً سياسياً لبعض الأنظمة السياسية والمؤسسات الثقافية الرسمية، قبل أن يكون مناسبة قومية لإنجاز مشروع فني أو ثقافي خلاق، قادر على بث الوعي المعرفي والاجتماعي والجمالي والحضاري بين أقطار العرب، لعلّها تتخلّص من نزاعاتها السياسية العقيم على حد تعبير محرر الاستطلاع.

4/9 أيرلندا الشمالية.. حقل الزهور والألغام

استطلاع: ماضي الخميس، وتصوير: سليمان حيدر

العربي: ص 38 - 53، العدد: 421 - ديسمبر 1993

         إبان دورة أعمال العنف والتخريب لبعض الجماعات الأيرلندية المتمرّدة، ألغت مجلة العربي بنفسها في حقل الألغام، وقامت (في أواخر عام 1993) برحلة إلى بلفاست، باعتبارها إحدى بؤر الإرهاب، فكانت بذلك أول مطبوعة عربية تجري استطلاعاً مصوراً من داخل أيرلندا، بهدف معرفة الحقيقة، أو استكشاف هذه التجربة التي تشبه نظائر كثيرة لها في العالم العربي، وانعكاساتها السلبية الخطيرة، وكيف واجهت الإرادة السياسية هذا الأمر، والدروس المستفادة، وكان هذا هو ما يُعني به المحرر، ويحدد له زاوية الرؤية لهذا الآخر الغربي، ويقدمها لنا فيما يشبه الوصفة الطبية، ربما نستفيد منها في معالجة أمراضنا المزمنة والقضاء على بؤر الإرهاب في بلادنا. وعلى الرغم من أن جذور الانقسام العميق يعود إلى الماضي، فإن الشعب الأيرلندي في السنوات القليلة الماضية شرع يتجاوزها بنجاح، كما يقول محافظ بلفاست أثناء استقباله لبعثة العربي، وذلك:

         بفضل السياسات المتبعة من قبل الحكومة، حيث سعت إلى تكوين مناخ مناسب للحوار، شريطة أن يتحول هذا الحوار إلى تعزيز فرص المصالحة والاحترام المتبادل للعادات والتقاليد المتباينة والوحدة داخل المجتمع الأيرلندي.. ولذا فقد قامت الحكومة بوضع سياسات للعلاقات الاجتماعية، تستهدف تحقيق الأهداف الأساسية الآتية: (1) زيادة مستوى الاتصالات (التواصل) بين أفراد المجتمع. (2) الدعوة لمزيد من التفاهم المتبادل، ومزيد من الاحترام للثقافات والتقاليد المختلفة. (3) تأمين فرص المساواة والمعاملة الحسنة لجميع المواطنين. كما عمدت الحكومة لإجراء إصلاحات تربوية رئيسية شاسعة... وخصصت مبالغ طائلة لدعم التراث الثقافي... كما قامت بدعم واسع النطاق للأنشطة المتعلقة باللغة الأيرلندية... ووضعت خطة مكثفة من أجل التفاهم الديني بين أفراد المجتمع.

         ثم يضيف المحافظ:

         بدأت الغالبية العظمى من الشعب الأيرلندي تعي أهمية السلام في المنطقة، وأن هذه الأغلبية ستتغلب في النهاية على العنف وعلى الفئات المعاكسة، وأننا سنرى السلام قريباً وقد عمّ بلفاست... الشيء الجميل لدينا أن نعرف المشكلة التي نعاني فيها، ولهذا نسعى لإنهاء المشكلة... وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.

         هذه هي قيم السلام الاجتماعي على حد قول المحافظ، وعندئذ تتراءى أمام عيني ماضي الخميس صورة العالم العربي بمتناقضاته الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل تربة صالحة للإرهاب يومئذ، وسرعان ما تقترن هذه الصورة بمشهد مضمر قوامه شتان بين أنظمة سياسية ترعى مصالح شعوبها وأنظمة سياسية أخرى لا يعنيها إلا الحفاظ على الكرسي، وشتان بين شعوب حيّة وأخرى تحتضر.

         هذه هي روشتة الإصلاح وتحقيق السلام الاجتماعي يقدمها المحرر لمن يهمه أمر هذه الأمة.

         حصاد الرحلة: نداء لإيقاظ الوعي العربي والدعوة إلى التغيير الثقافي الإجتماعي

         لا شك في أن أدب الرحلة - بما هو رافد من روافد التنوير - يعد شكلاً من أشكال الاحتكاك الثقافي الودّي، على حد المصطلح الأنثروبولوجي، الذي يسعى إلى التواصل السلمي مع الآخر والتلاقح الثقافي معه، ولا شك أيضاً في أدب الرحلة - في نهاية الأمر - هو نمط من أنماط الحوار مع الآخر، ظاهره اكتشاف الآخر المتقدم والتعرف عليه، وباطنه اكتشاف الأنا في مراياه، وحين يكون الآخر هو الغرب المتقدم فإن الأنا المتخلّف يحرص على اكتشاف عيوبه في ضوء مزاياه، ويقف على أوجه النقص في إطار كماله، ويبحث عن مكامن ضعفه في مرايا قوته، وعندئذ يتجلّى وعي التخلف بازاء وعي التقدم، وهو وعي من شأنه أن يحمل علامات المجتمع الذي أفرزه، وقد طبع مجتمعه بطابعه، لأنه وعي بنيوي يتخلّل كل البنى في المجتمع: الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

         ومن ثم لا غرو أن يكون السؤال المحوري لهذه الندوة هو لماذا كان التفوق والغلبة من نصيب الغرب الأوربي، وكان التخلف من نصيبنا؟ وعلى الرغم من أن هذا السؤال لم يغب عن ذهن رحالة مجلة العربي لحظة، فقد أضافوا إليه - كما سبق أن ذكرنا -سؤالاً آخر أوسع أفقاً مع اتساع آفاق الرحلة إلى الآخر غير الأوربي(6)، قوامه:

         ما الذي فعلته أمم أخرى كانت في مثل موقفنا الحضاري، لكنها تجاوزت الأزمة وحققت مشروعها الحضاري، فكيف كان ذلك؟ وما سبيلهم إلى تنفيذه؟ وتكمن الإجابة - بفعل الوعي الذي لا يكف عن المساءلة والمقارنة والذي ينطوي عليه فعل الرحلة بين الأنا والآخر - في معرفة إيجابيات الآخر وسلبيات الأنا كما كشف عنها وقائع الرحلات التسع التي وقفنا عندها، وفي سائر رحلات العربي إلى فضاء العالم المتقدم، وغاية الرحلة عندئذ محاكاة ما هو إيجابي حيث تكمن أسرار التقدم، وأن معرفة قرّاء مجلة العربي بهذه الأسرار هو سبيلنا إلى تنمية الوعي الاجتماعي الخلاق الذي ينشد التغيير، أو بالأحرى ثقافة التغيير التي تتبناها مجلة العربي، وهي الثقافة التي تشكل - على المستوى الثقافي - أو يمكن أن تشكل في مجموعها مشروعاً حضارياً قوامه نشر الوعي الاجتماعي - بكل أبعاده المعرفية والسياسية والثقافية، وتمثل في الوقت نفسه حركة فكرية - على المستوى الاجتماعي - لها ملامحها ومقوماتها وعناصرها التي تشير إلى واقع متعين منشود، أو رغبة في تحقيق ذلك الواقع، بهدف الإصلاح والنهوض والتقدم والارتقاء بالعالم العربي والوصول به إلى المرتبة التي وصل إليها الآخر المتقدم في مختلف المجالات.

         وهذا يعني أن رحّالة مجلة العربي اعتبروا أنفسهم، بما هم امتداد طبيعي لرحالة عصر التنوير، مسؤولين - مثلهم - عن التوجيه المعرفي والاجتماعي والأخلاقي أمام قرّاء مجلة العربي، فكانوا حريصين على اكتشاف الذات ونقدها من أجل تحقيق مجتمع يتمتع أفراده بالقيم الديمقراطية، ويعمل فيه الناس بتواضع ومحبة، ويهتم بقضايا التعليم وتربية النشء ويحترم الطبيعة ويحافظ على مواردها، وينمي الحس الفني والجمالي والثقافي إلى غير ذلك من فضائل ومزايا وإيجابيات ارتآها ولمسها عند الآخر الغربي المتقدم، وعلى نحو يفضي إلى بث الوعي المعرفي والاجتماعي بين القراء العرب بمفاهيم وقيم الآخر الغربي، ومنها: الإيمان بالديمقراطية وقيمها ومبادئها ونظمها وأنساقها التي تشكل جوهر الثقافة الديمقراطية، مثل الإيمان بالحريات العامة، والإعلاء من قيمة الفرد في مقابل المجموع، والمجتمع في مقابل السلطة، وسيادة القانون، والحرية الفردية، والحقوق المدنية، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، والمساواة، والعدالة والشفافية، ومساواة المرأة مع الرجل، وشيوع ثقافة التسامح ونبذ ثقافة العنف، والعمل على ترسيخ الوحدة الوطنية والقومية، والتأكيد على ثقافة الاختلاف والبعد الحضاري للأديان، وقبول الآخر، والاعتراف به واحترامه. الإيمان بالعلم والعقلانية، وأن المعرفة قوة ما دامت تهدف إلى التجديد والتحديث والتغيير، الإيمان بالتعددية العرقية والتنوع الثقافي واللغوي، واحترام الثقافات الفرعية، وتراث الأقليات، والاعتراف بخصوصياتهم الثقافية واللغوية (التنوع في إطار الوحدة)، واحترام إرادة الشعوب، وإيثار المصلحة العامة. الارتباط العقلاني بالتراث... إلى غير ذلك من قيم السلام الاجتماعي التي جعلت من الغرب غرباً.

         ويحمد لأدب الرحلة في مجلة العربي أنه يدعو إلى تغيير الفرد قبل الجماعة، والبدء من المجتمع قبل السلطة، وهذا هو الوعي الاجتماعي الشعبي القادر على أن يحدّ من قوة السلطة، وأن يحفزها أو يجبرها على التغيير.

         ومن إيجابيات الآخر المتقدم (الغربي وغير الغربي) أيضاً شيوع الثقافة العلمية، أو علمية الثقافة، وضرورة الأخذ بها إذا شئنا حقاً أن نعيش عصر العلم وثورة المعلومات والانفجار المعرفي، وأن نأخذ بتكنولوجيا المعلومات التي تؤسس لمجتمع المعرفة، حيث غزت كل الميادين والمجالات على نحو متعاظم ومتسارع، وغير مسبوق، وأصبح اعلم عندهم العامل الحاسم في تشكيل العقل والواقع معاً، كما أصبح الفاعل المؤثر - بلا منازع، في تشكيل ثقافة المستقبل ؛ وهذا يعني أن الثقافة العلمية هي سبيلنا اليوم إلى تجاوز مركبات النقص وعقد الدونية، لأنها سبيلنا الأول إلى سدّ فجوات التخلّف، والدخول في فضاءات العصر، واكتساب التكنولوجيا وتحقيق ثورة المعلومات وتأسيس مجتمع المعرفة، ومن شأن هذه الثقافة العلمية أيضاً أن تدعو إلى نبذ وعي التخلّف وأن تؤسس للعقل العربي النقدي (الجمعي)، وأن تدفع إلى احترام التفكير العلمي واتخاذه منهاجاً في حياتنا العملية والعلمية، وأن تخلق عندئذ - هذه الثقافة العلمية - وعيها الخاص بضرورة تغيير الواقع الاجتماعي عندنا.

         ومن إيجابيات الآخر المتقدم (الغربي وغير الغربي) إيمانه بأن التقانة والثقافة معاً السبيل الأمثل إلى تشكيل عالم اليوم، الأمر الذي دفعهم إلى احترام الموروث الثقافي، والاعتراف بالثقافات الشعبية - وفي القلب منها الفلولكلور - مع إيلائها ما تستحقه من اهتمام ورعاية، باعتبارها خط الدفاع الأول في الحفاظ على الخصوصية الثقافية في عصر العولمة، باعتبارها كذلك عامل انتماء وحافز ولاء في سبيل تأكيد الهوية الوطنية أو القومية، وبهذا تتكامل - ولا تتعارض - ثقافة التكنولوجيا مع الثقافة الاجتماعية السائدة بمعناها الأنثروبولوجي. ومن اللافت للنظر أن ثنائية الأصالة والمعاصرة - بما هي هاجس عربي وعبء على حاضره، لا توجد لدى الآخر المتقدم، إذ لا تعارض بينهما، ولكنها لا توجد إلا في ذهن المتخلف حتى يتجاوز عصور التخلف والهزيمة، لأنها ثنائية ثقافية مصدرها الشعور بالنقص إزاء ثقافة الغالب القاهرة.

         على الضفة الأخرى من نهر الرحلة، بفعل المقارنة الواعية أو اللاواعية، بين الأنا والآخر تتجسد سلبيات الأنا عند قراء العربي وجمهور المواطنين، بعضها معروف وبعضها مسكوت عنه... ولكن استمرار أو استمراء الإرادة السياسية لهذه السلبيات، أو عجزها عن تجاوزها من ناحية، وضعف الإرادة الشعبية وهشاشة النخب الثقافية وانعزالها عن قواعدها الشعبية، وعدم تفعيل مؤسسات المجتمع المدني من ناحية أخرى قد ساهم في شيوع هذه السلبيات وتفشي أدواء التخلّف في حياتنا الاجتماعية، ومنها:

         هيمنة ثقافة التخلّف والجمود، خصوصاً التخلّف العلمي والتقني والجمود السياسي والاجتماعي، والخوف من بطش الحاكم في ظل ديمقراطية اسمية أو شكلية أو هيمنة نظم الحكم الشمولي التي لا تأبه لإرادة الشعوب، إلى جانب إعلام مريض لا همّ له إلا تلميع السلطان وتغييب الشعوب، ومنها تفشي روح القبيلة بالمعنى السياسي، ورفض ثقافة الاختلاف وفرص ثقافة القطيع، مما أدّى إلى افتقاد الحرية التي ترتبط بالمسؤولية وفعل الاختيار (وهي بهذا المعنى أصل كل فعل اجتماعي)، وافتقاد ثقافة الديمقراطية التي تنهض على التعددية والتنوع والتنافس الحر) ومنها شيوع الثقافة الاستهلاكية دون أن يواكبها ثقافة إنتاجية موازية (ثقافة الأداء والامتياز في العمل) حيث التهاون وهدر الوقت وضآلة الإبداع الجمالي والتكنولوجي، الفكري والمادي، وازدراء العمل اليدوي، ومنها شيوع الأنانية وإيثار المصالح الذاتية على حساب الوطن، وتفشي الفساد الإداري والاقتصادي والأخلاقي وانتشار المحسوبية وغياب الشفافية والنزاهة، والهيمنة والتسلط والاستبداد والتعصب الديني، وانتشار الفقر والجهل والأمية الثقافية والألفبائية، وافتقاد الحقوق المدنية، وعدم احترام آدمية الإنسان العربي، وأزمة المجتمع المدني، والخوف الموهوم من ضياع الهوية وفقدان الذاتية. وعدم الثقة بالنفس، ومن ثم الخوف من التغيير، وإيثار الانكماش على الذات والتردد في الانفتاح على الآخر على نحو يقود إلى العزلة والوجود الانفصامي في الحضارة العالمية. ومنها الركون إلى جلد الذات أو تبخيس الذات، إدمان إلقاء مسؤولية تخلفنا وضعفنا وما نتعرض له من ظلم وإجحاف على الآخر الغربي تحديداً وشيوع نظرته المؤامرة والركون إليها من غير أن نلوم أنفسنا أو نعترف بمسئوليتنا عن أوضاعنا الراهنة وعن مصائرنا، مما يشي بانعدام المسؤولية وفقدان العقلانية، والعجز عن إنجاز الفعل اكتفاء بترديد الشعار البراق أو بلاغة القول، فضلاً عن تدني معدلات الأداء الاقتصادي، وتواضع معدلات النموّ، وقبول الضيم والهوان على النفس والشعور بالاغتراب، وعدم إقرار حق المرأة في المساواة والعناية بالنشء، وشيوع الإحباط القومي والثقافة النكدية في زمن الانكسار الحضاري، ناهيك عن ازدراء الثقافة الشعبية والفولكلور والاستعلاء عليهما (على النحو الذي توشك معه الذات العربية على الضياع أو الذوبان في ثقافة الآخر، من غير أن نعي الأهمية القصوى للثقافة الشعبية شريطة التعامل مع هذه الثقافة من منظور عقلاني وفكر نقدي واع لمتطلبات العصر). إلى جانب نظم تعليمية مهترئة لا هدف وطنياً أو قومياً لها، عاجز عن إنتاج الخطاب العلمي ومنجزاته الحضارية، نظم تعلّم الخنوع، ولا تحرض على ثقافة التغيير أو التفكير، وعدم الشعور بالواجب الحضاري، تقديس التراث اللاعقلاني وعبادة الماضي على نحو أدّى إلى هيمنة العقل الغيبي والفكر الخرافي ونفي الآخر الثقافي أو المغاير.

         وعلى الرغم من أن الذات العربية تعي هذه السلبيات وعياً كاملاً، لكنه - فيما تقول مجلة العربي - وعي سلبي، لأنه لا يقدّم البديل الناجع، فنحن نعرف ما نريد ولكن نعجز عن تحقيق ما نريد، ولأننا ببساطة نفتقد آليات التنفيذ والتطبيق على جميع الأصعدة السياسية والنخبوية والشعبية، وخير مثال على ذلك الوعي، إدراكنا بأن الافتخار بتراث الماضي وحده لا يبني مجتمعاً ناهضاً ولا يشيد حضارة معاصرة قادرة على انتشال الذات العربية من وهدة التخلف إلى ذرى التقدم ما لم تواكبها منجزات العصر التكنولوجية والعلمية، استيعاباً وتحقيقاً، ممارسة وتطبيقاً، مع ذلك ما زلنا عاجزين عن الإنجاز، وكلنا يعلم أن العلوم والتكنولوجيا في عالم اليوم - وأساسهما العلم والفكر العلمي - هما مفتاح العصر لتحقيق التنمية الإنسانية العربية، على حد قول مجلة العربي في رحلاتها إلى الآخر المتقدم، وبرهنت عليه من خلال رحلاتها إلى شعوب كبيرة كانت في مثل حالنا من التخلّف، ولكنها تجاوزته اليوم.

         ومما له مغزى في هذا المقام أيضاً - ويؤكده أدب الرحلات في مجلة العربي - أن تجنب هذه السلبيات التي تعوق الذات العامة وتجاوزها والقضاء عليها هو سبيلنا إلى تحقيق الذات، خصوصاً الذات الحضارية، العلمية والتكنولوجية، فهي قادرة بالتأكيد على استيعاب أعقد المنجزات المادية للحداثة، بدليل أن مئات الآلاف من العلماء العرب المهاجرين إلى الآخر الغربي قد حققوا ذواتهم وساهموا في تحقيق حضارة العصر العلمية والتكنولوجية على نحو عالمي مشهود به في مختلف المجالات بغير استثناء، مستفيدين من (إيجابيات الآخر) ولو ظلوا في بلادنا لعاقتهم سلبيات الأنا ووأدت مواهبهم الإبداعية، المادية والفكرية، والسؤال الجوهري المضمر هو: كيف نجحوا هناك وفشلوا هنا؟

         وهنا تتبدّى الوظيفة التحريضية التي تقودها مجلة العربي لتحقيق ثقافة التغيير، وهي ثقافة من شأنها تغيير الواقع، في كل جوانب الحياة والمجتمع، عبر دورها في تنمية الشعور أو الوعي بأهمية التغيير، ونبذ وعي التخلف (تخلّف الثقافة المهيمنة) سبيلاً على الارتقاء بالمجتمع العربي، وتجديد الفكر الاجتماعي ومواكبة العصر. كما تتجلّى في الوقت نفسه الوظيفة المعرفية لأدب الرحلة، وما تفضي إليه من تنمية الوعي المعرفي بما هو السبيل إلى تحريك سلوك الإنسان العربي سياسياً واجتماعياً، وبما هو العامل الحاسم والشرط الأساسي في تقدم المجتمع وازدهاره، وهو أمر من شأنه أن يرقى بالأنا، ويدفعها إلى تحقيق الإصلاحات الضرورية في المجتمع، والقضاء على سلبيات الذات العامة، والنهوض بها نحو التقدم وآفاق العصر. ذلك أن التغيير لا يحصل ما لم يحصل الوعي بالتغيير، وأن التغيير الموضوعي لا يحصل إلا بالتغيير الشعوري، وهذا هو الهدف الأسمى لأدب الرحلة في مجلة العربي الذي تحاول أن تغرسه في نفوس قرائها تثقيفاً وتنويراً، في إطار سعيها (أداء رسالتها) لإرساء دعائم المجتمع العصري القائم على تعزيز المشاركة المجتمعية، والعمل الدائم نحو التطوير والتحديث، شريطة توافر ثلاثة أركان رئيسة، تأكدت لدينا عبر نصوص الرحلة في مجلة العربي (تجارب الشعوب) هي:

         إرادة سياسية جادة لها رؤية واضحة وجادة نحو التنمية الإنسانية لمجتمعاتها، وخطط تنموية طموح في ضوء الواقع الراهن أو الجارح، وقيادات تنفيذية على درجة عالية من الوعي والشجاعة تعمل بقوة وضمن آليات محددة على تطبيق الخطط الموضوعة وتطويرها وفق مقتضيات المجتمع المنشود.

         وفيما عدا ذلك، فإن جوهر المسألة والسؤال الذي لا يمل رحّالة العربي من تكراره - في كل رحلة - سيبقى قائماً، وهو المتمثل في كيفية نجاح الحداثة في بلدان وبنى مجتمعية تتقارب مع ظروفنا على نحو كبير، وكيفية فشلها أو تعثرها المتكرر في وطننا العربي... ذلك أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

الهوامش

(1) انظر: محمد رجب النجار، أدب الرحلة وتطوره، مجلة العربي نموذجا، ص40 وما بعدها (تحت الطبع).
(2) من المعروف أن معظم المفكرين ومثقفي النخبة بعامة يرون العالم وحياة كل أمة في ضوء الشارع الغربي، وبات الغرب يرى نفسه العالم وما عداه أطراف وهوامش، وتحاول الولايات المتحدة بفكرها الرسمي تأصيل المركزية الأوربية، على نحو ما هو ما يروّج له صمويل هنتنجتون حين يتحدث عن العالم فيقول الغرب.. والبقية: The West and The Rest.
(3) مثل اليابان ودول النمور الأسيوية، أو بعض دول أوربا الغريية نفسها كألمانيا وفرنسا وقد خرجت كلتاهما من الحرب مدمرتين تماماً بعد الحرب العالمية الثانية وغير ذلك من دول يشار إليها في المتن.
(4) يقف المحرر طويلاً عند الحيّ الصيني في نيويورك، ممنبهراً بقدرة الصينيين على المحافظة على استقلالهم الثقافي ونمط حياتهم الاجتماعية المحافظ على تقاليدهم وتراثهم وفولكلورهم، كما يتجلى في فنونهم وأطعمتهم وأزيائهم ومهرجاناتهم... إلخ. برغم كونهم مواطنين أمريكيين، وبرغم انتمائهم لثقافة التكنولوجيا التي تمثلها نيويورك.
(5) مثال ذلك: حديث المحرر مع الأستاذ الدكتور يوسف مروّة (اللبناني الأصل) عالم الفيزياء النووية الشهير، والباحث في الشؤون العربية والإسلامية، ومن جهوده العلمية المميّزة - في خدمة الحضارة العربية - أنه استطاع أن يثبت بالدليل العلمي القاطع، ومن خلال النقوش والكتابات والآثار الإسلامية، أن المسلمين قد وصلوا إلى أمريكا قبل الفايكنج وكولومبس بحوالي خمسمئة سنة، وأن الفينيقيين أيضاً كانوا قد وصلوا أيضاً إلى القارة الجديدة قبل كولومبس بألفي سنة قادمين من لبنان. (ص 59 عدد 487).
(6) من هنا كانت رحلات العربي إلى كثير من الدول غير الأوربية كانت في مثل موقفنا الحضاري ولكنها تجاوزته مثل الصين والهند وفيتنام، ومثلها دول النمور الأسيوية، وبعض دول أمريكا اللاتينية، جميعها حققت الوطنية وانطلقت تحقق بنجاح نهضتها وتقدمها (خاصة على مستوى التصنيع والتشغيل والإنتاج وارتفاع مستوى الدخل، بل إن بعضها دخل النادي الذري وصار يهدد الغرب، بعد أن وضعت أقدامها على عتبة الاقتصاد الصناعي الحرّ... حتى دول أوربا الشرقية استطاعت أن تطور نظمها السياسية إلى نظم ديمقراطية، كما نرى في الكثير من رحلات العربي إلى هذ الدول. ومن ثم فالسؤال التحريضي المضمر هنا: ما هو دورنا الفاعل ومنهجنا للخطو على طريق الصعود وبناء المجتمع العربي الحديث؟