ملتقيات العربي

ندوة حوار المشارقة والمغاربة

اليوم الثاني الجلسة المسائية الاولي

أبحاث الفترة المسائية الأولى ليوم الأحد
رئيس الجلسة: أ.د. عبدالمحسن المدعج أستاذ التاريخ بجامعة الكويت
رحلة ساتي ماجد بن محمد القاضي إلى أمريكا (1892 - 1927) :
وجهة نظر عربية عن المجتمع الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين.
أ. د. حسن أحمد إبراهيم

         يلاحظ المتتبع للشأن السوداني تزايداَ مطردا، بل وتفاقما، في هجرة السودانيين منذ السبعينيات من القرن الماضي حتى أن الدولة أنشأت جهازاَ خاصا سمته جهاز السودانيين العاملين في الخارج. نعم إن ظاهرة الهجرة لم تكن جديدة على البلاد تماما، فقد عايشتها منذ قرون عديدة، غير أن هجرة هذا الزمان تختلف اختلافا جذريا في حجمها ومضمونها وتداعياتها عن السياحة السابقة. فاغتراب العصر اضطراري واقتصادي، حيث إن الدولة قد عجزت عن توفير فرص العمل التي تتناسب مع مؤهلات وتطلعات أولئك المغتربين الذين قصدوا أصقاع الدنيا المختلفة - الإسلامي وغير الإسلامي - سعيا وراء الرزق رغم ما في ذلك من تداعيات كبيرة وأحيانا خطيرة عليهم وعلى وطنهم. ثم إن هذا الاغتراب قد شمل كل شرائح المجتمع من مهنيين وفنيين وعمال ومزارعين، ومن الرجال والنساء الذين تجاوز عددهم ثلاثة ملايين. أما السياحة السابقة فقد كانت محدودة جدا وطوعية إن صح التعبير. وذلك لأنها اقتصرت على طلاب العلم الذين هدفوا إلى توسيع مداركهم في المؤسسات الإسلامية كالأزهر الشريف والحرمين الشريفين(1)، ومن ثم إلى بعض الجامعات الغربية، إضافة إلى بعض الإداريين وأساتذة اللغة العربية الذين أوفدوا للعمل في بلاد مثل اليمن ونيجيريا(2)، وعدد قليل من التجار المغامرين كالزبير باشا. غير أننا معنيون في هذا المقال بشريحة أخرى من هؤلاء المهاجرين تمثلت في نفر قليل من الدعاة الذين نذروا أنفسهم لنشر الإسلام والدفاع عن عقيدته خارج حدود وطنهم. يحدثنا التاريخ عن عدد من الدعاة السودانيين الذين هاجروا طواعية خلال القرن العشرين لنشر الإسلام والدفاع عنه في وجه الهجمة الغربية الشرسة والتي وصفته بالحسية المفرطة والجمود والتخلف، بل وحتى الإرهاب. ومن هؤلاء محمد علي دوس، الذي ولد عام (1867) تقريبا، وقصد مصر ثم بريطانيا فأمريكا وأخيرا نيجيريا(3). أما الداعية الإسلامي المشهور أحمد محمد السوركتي (ولد عام 1872) فقد قصد إندونيسيا حيث ترك بصمات واضحة في الحياة الفكرية والسياسية هناك وفي منطقة جنوب شرق آسيا بشكل عام(4). وكان الشيخ أحمد حسون (1897-1979) قد لازم الحرم الشريف وذهب إلى أمريكا حيث أسلم على يديه جمهور من الأفارقة الأمريكان، وكان أستاذا للزعيم مالكوم إكس(5). على أننا معنيون بصفة خاصة في هذا المقال بداعية سوداني فريد ركز جهوده في الولايات المتحدة الأمريكية هو ساتي ماجد محمد القاضي الذي لقب نفسه ولقبه تلامذته الكثر من الأفارقة الأمريكيين (شيخ الإسلام في أمريكا). ترك ساتي ماجد بعض الأوراق والمذكرات التي أودعتها أسرته بدار الوثائق القومية بالخرطوم، السودان. ولكن هذا المصدر قلما استخدم - حسب علمي - في المصادر العربية والإنجليزية التي تحدثت عن تاريخ الإسلام في أمريكا. ولعل الباحثين السودانيين الأستاذ عبد الحميد محمد أحمد والدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك هما أبرز من استخدم هذه الوثائق في دراساتهما عن حياة هذا الداعية دوره، فالأستاذ عبد الحميد محمد أحمد أعد عدة دراسات في هذا الموضوع نقحها في كتابه الأخير الذي صدر عام 1995 بعنوان (ساتي ماجد: الداعية الإسلامي السوداني بأمريكا 1904-1929)، والذي اعتمد فيه بشكل رئيس على تلك الوثائق إضافة إلى مقابلة أجراها مع ابنه محمد، وإلى ما سطره عنه المؤرخ السوداني الأول محمد عبد الرحيم، اعتمادا على مقابلة شخصية مطولة أجراها معه عام 1941 وفيها وصفه بقوله: رجل طويل القامة كث اللحية متناسب الأعضاء وقور. وكان كريما دمث الأخلاق يرتدي الملابس الإفرنجية وعلى رأسه قلنسوة سوداء مما يلبسه العرافيون عادة (6) أما الباحث السوداني الثاني فهو الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك الذي كتب مقالا في مجلة الملتقى، أغسطس 1993، بعنوان ساتي ماجد السوداني الذي أصبح شيخا للإسلام في أمريكا. وآخر بالإنجليزية (بالاشتراك مع جون هتوك وشون أوفاهي) في مجلة Sudanic Africa. المجلد الثامن، 1997، ص 137-191 بعنوان: A Sudanese Missionary to the United States: Satti Majid, Shaykh al-Islam in North America and his Encounter with Noble Drew شAli, Prophet of the Moorish Science Temple Movement ولد ساتي ماجد محمد القاضي بقرية الغدار بشمال السودان عام 1883 لأبوين من أسرة الزياداب التي تنتمي عرقيا لقبيلة البديرية الدهمشية(7) المعروفة محليا بعائلة جد المية وأبو العشرة ، والتي لعبت دورا بارزا في نشر الإسلام في تلك المنطقة. ومن مشاهيرها الشيخ سوار الذهب الذي أكد ساتي ماجد الانتماء إليه حيث كتب في بطاقته الشخصية عند عودته النهائية للسودان ما يلي: الواثق بالله السيد ساتي ماجد سوار الذهب، شيخ الإسلام بأمريكا الشمالية سابقا، ورئيس سجادة أسرة سوار الذهب بدنقلا العجوز(8) وتتلمذ الطالب ساتي على بعض شيوخ منطقته إلى أن حفظ القرآن عن ظهر قلب، ولكن شغفه بالعلم والتعلم دفعه للهجرة حوالي عام 1900 إلى الأزهر الشريف كعادة من سبقوه. غير أن المقام لم يطل به طويلا في قاهرة المعز(9)، بل ساقته الأقدار مهاجرا في سبيل الله للجزر البريطانية، وبعد قضاء فترة وجيزة فيها إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث قضى نحو ثلاثين عاما، تحديدا من عام 1904 إلى عام 1929. لا نعرف على وجه التحديد الأسباب المباشرة التي أدت ساتي ماجد لمغادرة القاهرة، فلعل ذلك كان رد فعل على الحملة الرسمية في بريطانيا ضد الإسلام والتي تمثلت خاصة في مقولة جلادستون رئيس وزراء بريطانيا المشهورة: إننا لا نستطيع قهر المسلمين ما بقي فيهم الكعبة والمصحف، وفي زعم اللورد كرومر قنصل بريطانيا في مصر (1883-1906) بأن الإسلام لا يمكن بأي حال من الأحوال إصلاحه ليواكب العصر الحديث. وعلى كل فإن هجرته إلى الغرب قد أدت إلى تغير جذري في وجهته ودوره. فعند وصوله إلى المملكة المتحدة أقام علاقات وثيقة مع اثنين من المهاجرين أحدهما سوداني نوبي والآخر يمني. وقد تعاهد هذا الثالوث على بذل قصارى جهدهم لنشر الدعوة في بريطانيا، فأسسوا جمعية دعوية سموها جمعية التبشير بالدين الإسلامي. ولما كان ساتي ماجد خطيبا بليغا وجريئا جهوري الصوت وخبيرا بالاقتباس من القرآن الكريم، فقد تجول مع زميليه في الجزر البريطانية ملقيا محاضرات بالعربية ترجمها إلى الإنجليزية أحد صديقيه. ويبدو أن حب الاستطلاع والفضول قد دفع جمهورا من الإنجليز من الرجال والنساء إلى هذا الداعية. غير أنه لم يؤثر على ما يبدو على عقيدتهم المسيحية التي حرص مبشرو الكنيسة على تقويتها وتثبيتها، إضافة إلى الحاجز اللغوي الذي وقف حائلا بينهم وبين تفهم منطق ساتي ماجد حججه. على أن العصامي ساتي ماجد انكب على تعلم الإنجليزية بمساعدة صاحبيه وأحرز تقدما ملموسا فيها. هناك روايتان عن أسباب هجرة ساتي ماجد إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فالأولى مصدرها صاحبنا نفسه في السيرة الذاتية المتقطعة التي كتبها على ما يبدو بعد عودته إلى القاهرة عام 9291(01). ففيها دون بعبارات مبهمة غضبه وخيبة أمله من جراء مقالات معادية للإسلام نشرها أحد القساوسة الإيطاليين في جريدة نيويورك تايمز (New York Times) مما دفعه للهجرة لصد هذه الحملة الجائرة في بلاد الحرية والعدالة التي سماها أيضا (بلاد العم سام). أما الرواية الأخرى فتقول بأن الجمعية الدعوية التي أنشأها مع زميليه هي التي قررت إيفاده لهذه المهمة في أمريكا. تمثل الوجود الإسلامي الرسمي في نيويورك حين وصول ساتي ماجد إليها عام 1904 - على حد قول مترجم حياته المؤرخ محمد عبد الرحيم - في خمس من رجالات الدولة العثمانية: السفير أحمد رستم بك، والقنصل العام جلال بك، وإمام جامع السفارة الشيخ محمد علي، إضافة إلى مترجمي السفارة والقنصلية(11). ويقال إن نشاط هؤلاء الدعاة قد جذب عددا من السوريين إلى أمريكا كالشيخ سليمان بدور الدروزي الذي أسس عام 1910 جريدة في نيويورك سماها البيان، إضافة إلى مجموعة من بعلبك منهم الشيخان خاطر يوسف الديراني وأحمد حمزة فؤاد. في هذا الإطار وصل ساتي ماجد إلى نيويورك عن عمر يناهز الواحد والعشرين عاما، وبدأ نشاطه الدعوي. على أنه التفت بادئ ذي بدء إلى مقالات معادية نشرها آنئذ في مجلة نيويورك تايمز قسيس كاثوليكي ادعى النبوة هو جون درو - John Drew الذي لقب نفسه النبي أليجا (Aligah). رد الشيخ ماجد على هذه الحملة الشعواء بمقالات أرسلها إلى تلك الجريدة، إلا أنها رفضت نشرها. عندئذ رفع صاحبنا دعوة قضائية بالمحكمة في نيويورك طالب فيها إلزام الجريدة بنشر تلك المقالات في العمود نفسه الذي نشرت فيه مطاعن القسيس أو الحكم له بمائتي ألف دولار رد شرف نظير التشهير بالإسلام والحط من كرامة المسلمين. حكمت المحكمة بنشر مقالات ساتي ماجد في الجريدة مما أدى إلى ضجة صحفية كبيرة في الأخذ والرد. ونتج عن ذلك تزايد شهرة الشيخ في الأوساط الشعبية، وتجمع حوله عدد من المريدين الأمريكان والأفغان والهنود والأفارقة الذين قبلوا الإسلام(12) على أن الصحافة الأمريكية لم تمكن ساتي ماجد من نشر حججه فيها بالطريقة التي خطط لها، فلجأ إلى وسيلة دعوية أخرى تمثلت في تكوين عدد من الجميعات الخيرية الإسلامية من وقت لآخر. ومنها جمعية الاتحاد الإسلامي، والجمعية التبشيرية الإسلامية، وجمعية الهلال الأحمر، والجمعية الخيرية الإفريقية الإسلامية في أمريكا. والجدير بالذكر أن قادة وأعضاء الجمعية الأخيرة عقدوا في يونيو 1922 اجتماعا استثنائيا لجمعيتهم في ديترويت - ولاية متشجن أضافوا فيه مواد إلى دستور جمعيتهم عين بمقتضاها ساتي ماجد الموجه الأعلى للجمعية ووكيلها في الداخل والخارج. وذلك اعترافا منهم بالخدمات الجليلة التي قدمت للجمعية بوساطة المحترم السيد ماجد محمد مؤسس وصاحب اليد الطولى في الجمعية(13) ولعله من المناسب أن نورد هنا ما دونه ساتي ماجد في مذكراته بهذا الخصوص بلغة فيها شيء من العجمة: إني هاجرت إلى بلاد الحرية والعدالة في مدة تزيد على خمس وعشرين سنة. وكنت أنظر إلى أناس من مهاجري الشرق يتكلمون عن الديانة الإسلامية بوعر الكلام. ولما نظرت إلى هذه التعديات قمت ضد المقاومين، وكنت أرد عليهم في الجرائد الحرة. ولما وجدت أن النشرات في الجرائد لا تجدي نفعا، بدأت أعالج الأمر بنشر الدين الطاهر. وكنت أجد عنتا كبيرا من المقاومين.ولكن بفضل الله وفضل عدالة حكومة أنكل سام لم يكونوا يقدرون على عمل شيء فيما كانوا يقاومون به ضد هذا الدين الطاهر. ولما نظرت إلى كثرة الذين اعتنقوا الديانة الإسلامية، نظرت أن الواجب الديني يلزم له القيام بما فرض الله عليهم من إقامة الصلاة وصوم شهر رمضان المبارك. ولا يتم هذا العمل الشريف إلا بجمع الكلمة والاتحاد اتباعا لقوله تعالى فتمسكوا بحبل الله. ونظرنا أن لا قدرة حالية لهذا العمل، إلا أننا أسسنا لهم جمعيات باسم الخير الإسلامية، وبهذا تحصل القوة المالية الكافية لأجل القيام في بنيان جوامع لإتمامها... ومدارس لتعليم أبنائهم. وقد طلبنا التسريح (يقصد التصريح والتصديق) لهذا العمل من حكومة أمريكا فأجابتنا وأعطتنا جميع مطالبنا (14) ويقول في موضع آخر من أوراقه: (ولما نظرت إلى كثرة المسلمين وجدت أن الواجب الديني يلزم القيام بما فرض الله علينا من إقامة الصلاة المكتوبة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام). وأن هذا العمل الشريف لا يتم إلا بجمع الكلمة واتحاد المسلمين على رأي واحد اتباعا لقوله تعالى: ?وشاورهم في الأمر?(15) استمر صاحبنا في نشاطاته ومناظراته تلك حتى حدث كسوف للشمس دعا على إثره رؤساء الأديان إلى اجتماع عام في نيويورك لدعوة الناس إلى الكف عن المعاصي والتمسك بتعاليم الأديان السماوية. فألقى ساتي ماجد في هذه المناسبة محاضرة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نالت استحسان الحاضرين الذين ضاق بهم رحاب المكان. ونلاحظ هنا أن ساتي ماجد قد حاول من خلال هذه الجمعيات حشد الدعم في أمريكا للخلافة العثمانية التي تعرضت آنذاك لهجوم متزايد داخلي وخارجي. فيقول في هذا الصدد: لم تكن لنا في أمريكا حتى عام 1908 هيئة إسلامية منظمة تقوم بنشر الدعوة الإسلامية، وإنما كنا نعمل نحن المسلمين... أفرادا في هذا الميدان حتى قامت الثورة ضد السلطان عبد الحميد وأعلن الدستور العثماني وتولى عرش الخلافة السلطان محمد رشاد الخامس. ونشأت بين رعايا الدولة العثمانية فكرة العمل لتقوية اسطولها البحري بجمع الاكتتابات. فوصلت إلينا الفكرة في أمريكا فقبلناها بدافع الرغبة في تقوية الخلافة الإسلامية. وألفنا أول لجنة لجمع التبرعات. وقد انضم إلينا كثير من اللبنانيين والسوريين المسيحيين الذين كانوا قد وفدوا قبل ذلك على أمريكا وتفرقوا في مختلف بلدانها طلبا للعيش وجمعا للثروة. وأذكر أننا قد جمعنا مبلغا وافرا لحساب المدرعة رشادية التي كانت الدولة العثمانية تبنيها وقتئذ في إنجلترا، ثم استولت عليها الحكومة البريطانية حين إعلان الحرب العالمية (16) ويقول صاحبنا في موضع آخر من أوراقه: في سنة 1911 تلقينا كتابا من الجمعية الإسلامية في برلين بمناسبة احتلال إيطاليا لطرابلس فنشطنا في أمريكا لتأليف جميعة الهلال الأحمر، وجمعنا باسمها مبلغا وافرا أرسلناه للحكومة العثمانية وقتئذ (17) وبمبادرة من الشيخ ساتي أيدت هذه الجمعية ومثيلاتها ثورة 1919 المصرية حيث يدون الشيخ ماجد التالي: وقد عملت هذه الهيئات لمساعدة القضية المصرية في سنة 1919، فنشرت الدعوة لها في الأوساط الأمريكية. ولما اعتقلت السلطات البريطانية المغفور له سعد زغلول وأرسلته إلى سيشل أرسلنا احتجاجا لعصبة الأمم (19) وتتضمن أوراق ساتي ماجد رسائل تبادلها مع بعض سفراء الدول الغربية بشأن الغبن وشظف العيش الذي عاناه بعض المسلمين في أمريكا، والتي أمهرها أحيانا بتوقيع مرشد المسلمين أو إمام المسلمين وشيخهم والمتحدث باسمهم والداعي إلى الدين الإسلامي في بلاد الحرية هذه الولايات المتحدة. فباسم الإنسانية وعدالة الإنجليز المعهودة، وإيفاء بمسؤولية بريطانيا تجاه رعايا أمة تقع تحت حمايتهاالتمس ساتي ماجد في رسالة إلى السفير البريطاني التدخل العاجل لاستخدام عدد من البحارة العدنيين العطالى في السفن البريطانية. ورد السفير برسالة مجاملة قال فيها أنه سيبذل قصارى جهده متى ما سمحت اللوائح بذلك، كما اقترح على ساتي نصيحة هؤلاء البحارة بتقديم طلبات عون من المنظمات الخيرية.

         وعلى ذات النمط أرسل ساتي رسالة أخرى إلى السفير الفرنسي ترجاه فيها مساعدة حوالي ثلاثمائة من السوريين المقيمين في نيويورك للعودة إلى بلادهم (19) المواجهة بين ناشطين: ساتي ماجد ودرو علي (John Drew) لاحظ ساتي ماجد أن الدين الإسلامي في أمريكا قد تعرض لبعض التشويه، وألحقت به كثير من الشوائب على يد بعض الفرق والطوائف الإسلامية المنحرفة كالقاديانية والبهائية. ولكنه ركز جهوده بشكل خاص في هذا الصدد على طائفة درو علي. ومن هنا كانت مواجهته مع هذا الداعية المنحرف والتي تشكل أهم سمات عمله الدعوي في أمريكا. اسمه الأصلي تيموتي درو (Timothy Drew) ولكنه اشتهر باسم النبي نوبل درو علي (Prophet Noble Drew Ali). لا نعرف الكثير عن حياة هذا الرجل الباكرة سوى أنه ولد في ولاية كاليفورنيا الشمالية (North Calocania) عام 1886 لأبوين من سلالة الأرقاء. وقد هاجر في وقت ما إلى شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية حيث عمل بالسكة الحديدية في ولاية نيوجرسي (New Jersey). ويبدو أنه كان عصاميا ألم إلماما عاما بكتابات الفلاسفة والعلماء الشرقيين وبمبادئ الإسلام العامة وإن كان قد زعم أنه تلقى العلم في فاس. ويسود الاعتقاد بين مؤيديه بأنه سافر حول العالم قبل أن يبلغ سن السابعة والعشرين ليكتشف إرث أهله ومبادئ عقيدته الإسلامية. وخلال إحدى رحلاته منحته ملكة بريطانيا لقب نبيل (Noble)، كما أعطاه السلطان عبد العزيز بن سعود اسم علي. وبهذا أصبح اسمه الرسمي والمعترف به النبيل درو علي (Noble Drew Ali). ويعتقد مؤيدوه أيضا بأنه زار شمال إفريقيا حيث كلفه ملك مراكش بنشر العقيدة الإسلامية بين الأمريكان الأفارقة. وكسعي كثير من معاصريه من قادة ومفكري الأمريكان الأفارقة، عمل درو علي جاهدا للكشف عن هوية وجذور أسلافه التي طمسها البيض تماما خلال قرون الاسترقاق والاستعباد في أمريكا. وقد أنشأ هذا الناشط معبدا سماه معبد أمريكا المورسيكي العلمي (the Moorish Science Temple of America)، ليتبنى وينشر نظريته القائلة بأن جذور الأمريكان الأفارقة آسيوية مورسيكية صرفة. وقد ادعى درو أنه آخر أنبياء الإسلام، وله كتابه المقدس الذي سماه القرآن الكريم للمعبد الموريسكي العلمي الأمريكي على أن درو علي لم يقل بأن قرآنه مطابق للقرآن الكريم أو حتى مشابه له، بل زعم أنه شمل خلاصة تعاليم وحكم عدد من قادة الفكر الديني في العالم. وقد أمر درو علي مؤيديه بإضافة مقطع بك - Bey في نهاية أسمائهم، تلك السنَّة التي قلدتها لاحقا حركة أمة الإسلام (Nation of Islam) التي أضافت الحرف X بعد أسماء أعضائها. هذا ويقول البروفيسور سليمان نيانق بأن هذه الحركة قد تأثرت إلى حد ما بإيديولوجية المورسيكيين(20) لا توجد مساحة في هذا البحث لدراسة تطور حركة درو علي(21)، ولكن نكتفي بالإشارة إلى أنها وجدت قبولا متزايدا في أوساط الأمريكان الأفارقة بمن فيهم المسلمون، مما اعتبره ساتي ماجد فتنة خطيرة لا بد من دحضها بالحجج والبراهين. ومن هنا كانت مواجهته مع درو علي الذي اتهمه بالزندقة والخروج من الملة. على أنني لا بد أن أنوه هنا بأن هذه المواجهة لم توثق - حسب علمي - في المصادر الأمريكية بما فيها تلك التي كتبت عن تاريخ الإسلام في أمريكا، بل وإن اسم ساتي ماجد لم يذكر فيها إلا في أبحاث البروفيسور سليمان نيانق الذي أثنى على جهود صاحبنا لنشر الإسلام بين الأمريكان الأفارقة في بيتسيرج بولاية بنسلفينيا، وعبر جمعيته الجمعية الإفريقية الإسلامية الخيرية في أمريكا. إذن فإن مصدرنا الوحيد لهذه المواجهة هو ما دونه عنها ساتي ماجد نفسه في أوراقه المودعة بدار الوثائق القومية بالخرطوم(22) يقول ساتي ماجد أن نشاطه وغيره من الدعاة أسهم إسهاما فاعلا في نشر الإسلام في أمريكا، الأمر الذي أثار حفيظة المتعصبين أعداء الإسلام الذين فشلوا في مناهضة الدعوة الإسلامية. والذين لجأوا إلى استخدام سلاح آخر تمثل في بث الدعوات المشككة في خاتمية الرسالة المحمدية. وأخطر تلك في نظره فتنة درو علي الذي ادعى النبوة وصنف مجلدا أسماه القرآن المقدس الذي لم يتضمن آية قرآنية واحدة أو أي نص حديثي ليضل به من آمن بدين الإسلام. ففي رسالة إلى حضرات علماء الدين الإسلامي الحنيف بمصر (شرح ساتي ماجد الذي لقب نفسه هنا خادم الملة الإسلامية بشمال أمريكا) دعوة هذا المتنبئ بقوله: ما قولكم - دام فضلكم في رجل وجد اليوم يسمى نوبل درو علي معناه النبي المتسلسل من بيت النبوءة علي - مدعيا أنه هو النبي الموعود به آخر الزمان الذي بشر به عيسى عليه السلام وصنف كتابا سماه هولي قرآن. ومعنى هولي قرآن القرآن المقدس الذي نزل بمكة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ومع هذا لا يوجد في كتابه هذا آية من آيات القرآن الشريف أو حديثا من أحاديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. على أنه يتكلم عن رسول الله وخاتم النبيين بغليظ الكلام الذي ما أنزل الله به من سلطان. وهذا الكتاب يشتمل على ما يأتي: أولا: أنه النبي الموعود بمجيئه الذي بشر به عيسى عليه السلام. ثانيا: أنه هو الذي ذكره يوحنا في رؤيته في الإصحاح الثالث. ثالثا: أن الإسلام الذي كان قبله ليس بإسلام صحيح. وقد ادعى أنه تلقى علومه بمدينة فاس، وأنه اجتمع برؤساء الديانة الإسلامية هناك وفي مصر والحجاز والعراق، وأن جميع العلماء شهدوا له بأنه هو النبي الموعود به آخر الزمان(23) ويضيف شيخ الإسلام في أمريكا أنه حاول أولا درء انحراف ذلك المتنبئ بالحجج والبراهين القاطعة. ولما عجز عن مجاهدته بالكلمة قدم طلبا للحكومة الأمريكية مطالبا بعقد مناظرة مفتوحة بينهما يحضرها عدد من العلماء. وبالفعل عقدت هذه المناظرة التي أثبت فيها الشيخ ماجد بطلان هذه الدعوى. وكان ماجد قد وجه إلى غريمه أسئلة حاسمة كان أولها: فهل عيسى الذي تعبده من دون الله في الشرق أم في أوربا؟ فلما أجاب من الشرق سخر منه صاحبنا بقوله: إذا فكيف تحط من كرامة الشرق وهو الذي أنجب إلهك وإله آبائك؟. وهكذا فقد انتصر ساتي ماجد في هذه المناظرة، ولكن أحد المهوسين طعنه بسكين حادة بعد اللقاء مباشرة. ولولا رحمة الله وقدرته لفاضت روحه إلى بارئها. وعلى كل فقد طلب صاحبنا من الحكومة الأمريكية معاقبة هذا المتنبئ لأن في دعوته إهانة للإسلام والمسلمين(24) غير أن الحكومة الأمريكية - على حد قول صاحبنا - تهربت من تنفيذ هذا الطلب بأن وجهت ساتي ماجد بإحضار فتوى من مشيخة إسلامية معترف بها تؤكد بطلان هذه الدعوى. وعليه فقد استفتتى صاحبنا عددا من المراجع الإسلامية نذكر منها مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر الشريف والمسجد الأقصى والمعهد العلمي بالسودان وعلماء الحرمين الشريفين والأتراك والأفغان. بل وسافر بنفسه إلى مصر عام 1929 للحصول على فتوى من شيخ الأزهر. وقد جاءت فتاوى هؤلاء جميعا مؤكدة بطلان هذه الدعوى. وتوثيقا لذلك نورد هنا نص الخطاب الذي أرسله ساتي ماجد إلى مفتى الديار المصرية الشيخ محمد مصطفى المراغي ورد الأخير عليه:

         حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الكبير مفتي الديار المصرية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد. أتقدم إلى فضيلتكم بالسؤال الآتي: أنا ساتي ماجد محمد شيخ الإسلام بالولايات المتحدة بأمريكا أقمت في هذه البلاد سبعة وعشرين عاما أدعو الناس فيها إلى الدين الإسلامي حتى أثمر مجهودي فأسلم علي خلق كثير. وقد ظهر في ولاية شيكاغو بأمريكا رجل يدعى نوبل درو علي يدعي النبوة أي أنه نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وتبعه قوم من الأمريكان أخشى أن يكثر عددهم. وقد وقفت في وجه دعوة هذا الكذاب أرد عليه بالحجة كل دعواه فطلبت مني محكمة الولايات المتحدة فتوى من مشيخة إسلامية معترف بالإسلام فيها فييمت الديار المصرية لما لها من الشهرة الإسلامية في الولايات المتحدة. بذلك أطلب من فضيلتكم فتوى بأن لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأن شرعه ناسخ لجميع الشرائع السابقة وهو باق إلى فناء الدنيا والسلام. ورد عليه الشيخ الظواهري شيخ الجامع الأزهر بالخطاب الآتي نصه: حضرة الفاضل السيد ساتي ماجد. السلام عليكم ورحمة الله، بعد. فجوابا على سؤالكم المتعلق بأن رجلا يدعي أنه النبي الموعود بمجيئه وأنه هو الذي بشر به عيسى وإن الإسلام الذي كان قبله ليس بإسلام صحيح. نفيد: إن كل من ادعى النبوة بعد سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم فهو كاذب قطعا وكافر بنص القرآن الكريم الذي وصف النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) ولا يسع مسلما مهما كان مذهبه ونحله إلا أن يحكم بكفر من يقول في الإسلام ليس بإسلام صحيح. كيف هذا وقد رضيه الله لعباده دينا في قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقامت البراهين القاطعة وثبتت آياته الساطعة وعجز العالمون جميعا أن يجدوا فيه مطعنا مقبولا. فمثل هذه الدعوة لا تصدر إلا عن كافر أو مجنون لا يستمع له إلا من شاركه في جنونه فلا التفات لمثله ولا اعتداد به (25) وفور حصوله على فتوى الجامع الأزهر عزم ساتي ماجد العودة إلى أمريكا لمواصلة جهاده هناك. إلا أن السلطات المصرية رفضت منحه تأشيرة خروج بإيعاز من الشيخ المراغي - على حد زعم صاحبنا - الذي علل رفضه بأن ساتي ماجد لا يملك المؤهلات العلمية لترشيحه للبحوث الدينية التي يوفدها الأزهر إلى الخارج. وكل ما أفهمنا أنه نصب نفسه للدفاع عن الدين الإسلامي في أمريكا (26) وهكذا فقد اضطر ساتي للبقاء في مصر حتى مطلع الأربعينيات من القرن الماضي غادر بعدها أرض الكنانة إلى وطنه السودان، والجدير بالذكر أن الإمام عبد الرحمن المهدي أقام في عام 1941 حفلا كبيرا على شرفه عددت فيه مآثره ومجاهداته في سبيل رفعة الإسلام. على أن صلة صاحبنا لم تنقطع نهائيا بأحبابه ومريديه في أمريكا، بل ظلوا على اتصال به بين الفينة والأخرى عبر البريد. وتتضمن أوراقه عددا من رسائلهم التي وصلته في مصر والسودان، والتي أبدى فيها أولئك المتشوقة تقديرهم واحترامهم وتطلعهم لعودة مرشدهم إلى أمريكا. ونكتفي بتوثيق اثنتين من تلك الرسائل أولهما لمريد اسمه أليجا محمد إلى شيخه بتاريخ 17 ديسمبر 1928 نصها كالآتي: الوالد المحترم ساتي ماجد شيخ الإسلام في أمريكا سيدي: من خلال هذه السطور العجلى نكتب نحن أبناؤك في ظل العقيدة الإسلامية والتي ازدادت أعدادنا دخولا في دين الله. بل وما زال عددنا يتضخم بفضل الله. تجد رفق هذه الرسالة اثنتي عشرة رسالة كان من المفروض أن ترسل لك قبل هذا التاريخ من أبنائك في هذه البلاد. وإن أنسى فلن انس أن أشكر لك كل كلماتك الحكيمة والمفيدة التي استفدنا منها وستظل زادنا في المستقبل. نأمل لقياك قريبا (27) أما المحب الثاني فقد كان من مدينة بيتسبرج، وقد جاء في رسالته بتاريخ 29 فبراير 1932 ما يلي: السيد ماجد محمد السلام عليكم والدي العطوف أكتب لك عن حالتي الصحية وعن العائلة أيضا. ونحس بأنك تظن بأننا نسيناك، ونؤكد لك بأننا ما زلنا نذكرك جيدا، بل وكثيرا ما نسأل عنك عند بعض المصادر. وكنا نتحدث عنك مؤملين أن تصلنا منك رسالة عن المؤتمر الذي عقد 28. لقد وعدتمونا بتلك الأخبار، وما ينتج ويصدر عن المؤتمر المشار إليه. ونفيدك بأننا لم نتمكن من زيارة الفروع في كليفلاند ونيويورك للقيام بجمع المال. وذلك لصعوبة السفر. إلا إنني سأبذل كل جهدي الخاص لزيارة هذه الفروع خلال هذا الربيع. نطمئنك أننا نحن المسلمين هنا في بيتسبرج في تقدم مستمر. وتحياتنا وتمنياتنا للمسلمين الذين معك (29) خلاصة البحث أبدى المسلمون الأفارقة الأمريكان استياءهم من هيمنة المسلمين الوافدين من جنوب آسيا والشرق الأوسط على النشاط والمؤسسات الدعوية من بلادهم الولايات المتحدة الأمريكية. واشتكوا بصفة خاصة من عدم إدراكهم لحاجياتهم وهمومهم وتطلعاتهم، بل واتهمومهم بأنهم قدموا أنفسهم للمجتمع الأمريكي على أنهم بيض أو صفر لا علاقة لهم البتة مع السود. وأدى ذلك إلى حساسيات وتوتر عنصري بين هاتين الفئتين من المسلمين في أمريكا. وكرد فعل مباشر لهذا التذمر انسلخ كثير من المسلمين الأفارقة الأمريكيين عن الجمعيات والمؤسسات التي أنشأها المسلمون الأجانب، وكونوا حركاتهم الخاصة كحركة (دار الإسلام) - التي عرفت فيما بعد باسم مسجد ياسين، التي تمردت عام 1962 على الجمعية الإسلامية الأمريكية التي هيمن على قيادتها بعض العرب بقيادة الشيخ داود فيصل (30) نستخلص من أوراق ومذكرات ساتي ماجد التي اعتمدناها في هذا المقال أنه ابتدع رؤية عربية في النشاط الدعوي الإسلامي في أمريكا تخالف المنهج الصفوي الانعزالي الذي سلكه معظم الدعاة العرب والمسلمين نحو الأفارقة الأمريكان. فخلافا لهؤلاء الدعاة الذين أهملوا الأفارقة الأمريكان، أقام ساتي ماجد علاقات وثيقة معهم. وركز نشاطه الدعوي بينهم، الأمر الذي أثنى عليه، كما أسلفنا، البروفيسور سليمان نيانق أحد الثقاة في تاريخ الدعوة الإسلامية وتطورها في أمريكا. وتمخض عن ذلك المنهج الدعوي الفريد تزايد الأعداد التي قبلت الإسلام على يد هذا الداعية من المسلمين الأفارقة. فالتفوا حول شيخهم معبرين عن إعجابهم به وولائهم له إبان إقامته معهم في أمريكا، كما حرصوا على توثيق عرى المودة والمحبة معه حتى بعد أن غادر البلاد نهائيا في عام 1929. على أن مصداقية وبلورة هذه الرؤية العربية الجديدة في الدعوة الإسلامية في أمريكا التي ننسبها إلى الشيخ ساتي ماجد تحتاج إلى توضيح وتأكيد من مصادر الهيئات والمؤسسات الأمريكية التي قال في أوراقه إنه تعامل وتفاعل معها من وقت لآخر، خاصة بعض الدوائر في الحكومة الأمريكية، وبعض الصحف الأمريكية. ونقصد على وجه التحديد وثائق الحكومة الأمريكية وما قد يكون نشر في الصحف الأمريكية عن هذا الداعية. وهذا ما تفتقده الدراسات الحالية المحدودة التي تحدثت عن رؤية هذا الداعية والناشط العربي ساتي ماجد وعن المجتمع الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين، والتي نأمل أن يلتفت إليها الباحثون في هذا المجال.

هوامش البحث:

1 - اعتاد السودانيون منذ قرون عديدة - خاصة منذ عهد دولة الفونج الإسلامية (1504-1821) - على السفر إلى الأزهر الشريف حيث خصص لهم رواق خاص هو (رواق السنارية). وقد اضطروا خلال السيطرة البريطانية - خاصة بعد انتفاضة 1924 - إلى التسلل إلى أرض الكنانة خلسة عبر المراكب الشراعية لتفادي القيود المشددة التي فرضها المستعمرون لمنع هذه الهجرة.
2 - من أشهر الأساتذة السودانيين الذين خدموا خارج وطنهم المرحوم الشيخ القدال الذي تقلد وظائف مختلفة بحضرموت إلى أن أصبح وزير السلطنة القعيطية بها. لسيرة الشيخ القدال، انظر محمد سعيد القدال: الشيخ القدال باشا، معلم سوداني في حضرموت، ومضات من سيرته 1903-1975 (جامعة عدن 1997).
3 - كان محمد علي دوس من ألمع الأسماء في حركةالرابطة الترتجية أو (الرابطة الإفريقية) التي أسسها في بريطانيا في النصف الأول من القرن العشرين وسط الأفارقة وذوي الأصول الإفريقية من ضحايا الرق، والتي ضمت شخصيات بارزة كالزعيم الغاني الراحل كوامي نكروما. وقد أنشأ دوس صحيفة في بريطانيا (الشئون الإفريقية والمسائل الشرقية - African Time and Oriental Review) كما شارك في نشاطات مماثلة من أهمها حضور مؤتمر ضد العنصرية عقد في نيويورك عام 1911. للمزيد من المعلومات عن دوس انظر: دائرة المعارف العالمية ومقال عنه نشره عبد الرحمن أحمد عثمان في مجلة دراسات إفريقية، العدد السابع، ص 65-85.
4 - راجع مؤلفات الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك عن حياة ودور سوركتي خاصة الكتاب الذي حققه تحت عنوان: تاريخ حركة الإصلاح والإرشاد وشيخ الإرشاديين أحمد محمد السوركتي في إندونيسيا، (ماليزيا: دار الفجر، 2000).
5 - أشاد مالكوم إكس في مذكراته بالشيخ أحمد حسون. انظر الصورة التي تجمع بينهما في الملحق. راجع أيضا ترجمة للشيخ حسون في كتاب محجوب عمر باشري: رواد الفكر السوداني (بيروت: دار الجيل، 1991).
6 - محمد عبد الرحيم: النداء في دفع الافتراء (القاهرة، 1953) ص 228-229.
7 - المقصود بعبارة جد الميه وأبو العشرة هو أن عميد هذه الأسرة الشيخ صالح سوار الذهب رزق عشرة من البنين الصالحين أنجب كل منهم عشرة أبناء ذكورا، فبلغ عدد حفدته مائة حفيد.
8 - Abu Shouk, A.I., Hunwick, J and Oش Fahey, C.: A Sudanese
9 - Missionaryز, Sudanic Africa, vol8, 1997, p. 139. – من المرجح أن الشيخ ساتي لم يشارك آنذاك في أي نشاط دعوي أو اجتماعي في مصر، بل ظل طوال بقائه هناك متتلمذا أو عاملا. راجع سيرته التي كتبها عبد الحميد محمد أحمد، ساتي ماجد: الداعية السوداني بأمريكا (الخرطوم: 1995) ص 85.
10 - انظر ص.
11 - محمد عبد الرحيم: النداء في رفع الافتراء، ص 329.
12 - يزعم مؤلفو مقال Sudanic Africa الآنف الذكر أنهم تتبعوا أعداد مجلة نيويورك تايمز، إلا أنهم لم يجدوا صدى لهذه الأحداث في صفحاتها.
13 - عبد الحميد محمد أحمد، المصدر السابق، ص122.
14 - نقلا عن المصدر السابق، ص 94-95.
15 - المصدر السابق، ص109.
16 - المصدر السابق، ص 108-109.
17 - المصدر السابق، ص112.
18 - المصدر السابق، ص117.
19 - لنص هذه الرسائل ومثيلاتها ارجع إلى المصدر السابق، ص126-142.
20 - دون البروفيسور سليمان بيانق هذا الرأي في مقدمة له لأحد الكتب عن الإسلام في إفريقيا، انظر: Adib Rashad: the History of Islam and Black Nationalism in the Americas (Maryland1995) p. xiii
21 - لمعلومات كافية عن هذه الحركة ارجع إلى: Hadad, Y.Y. and Smith,J.I: Mission to America: Five Islamic Section Communities in north America (University Press, Florida 1993), chapter four, pp, 79-104
22 - نقلا عن المصدر السابق، ص 6-7.
23 - نقلا عن لقاء صحفي أجرته جريدة البلاغ المصرية مع الشيخ ساتي ماجد عام 1935.
24 - دار الوثائق القومية، منوعات، أوراق ساتي ماجد، 1/92/1478، نقلا عن أحمد أبي شوك: (ساتي ماجد) السوداني الذي أصبح شيخا للإسلام في أمريكا، مجلة الملتقى، الخرطوم، 1993.
25 - المصدر السابق.
26 - المصدر السابق.
27 - لصورة عن الأصل الإنجليزي لهذا الخطاب وترجمته إلى العربية انظر: عبد الحميد محمد أحمد، المصدر السابق، ص 149-150.
28 - لعله يقصد بذلك المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد بالقدس عام 1931، والذي شارك فيه ممثلون من الدول العربية والإسلامية. وكان السيد عبد الرحمن المهدي إمام حركة الأنصار في السودان قد حاول حضور هذا المؤتمر، ولكن السلطات البريطانية رفضت التصديق له بالسفر.
29 - عبد الحميد محمد أحمد، المصدر السابق، ص 157.
30 - Sulayman S. Nyang: Islam in the United States of America (ABC International Group, 1999) pp. 143-149. نلاحظ أن اسم ساتي ماجد لم يرد البتة في هذا الكتاب الذي يعتبر من المصادر الأساسية عن تاريخ وتطور الدعوة الإسلامية في أمريكا.




أبحاث الفترة المسائية الأولى ليوم الأحد
رئيس الجلسة: أ.د. عبدالمحسن المدعج أستاذ التاريخ بجامعة الكويت
الذهب والعاصفة
د.قاسم عبده قاسم
مقدمة تاريخية عن الرحلة في التراث العربي الإسلامي - الرحلة إلى الغرب الغالب - ملاحظات أساسية عن رحلة إلياس الموصلي.

         الرحلة، وسيلة مثلى من وسائل المعرفة، وربما كانت أقدم وسائل الإنسان للحصول على المعرفة قبل اختراع الكتابة، فما تراه العين، ويحسّه الإنسان بمدركاته الحسيّة، أقوى كثيرًا من تلك المعرفة التي يحصلها بالسماع من الغير، أو بقراءة ما كتبه الآخرون، فما يدركه واحد قد لا يدركه آخر، إذ إن كل إنسان ينظر إلى الكون من نافذته الخاصة، وهي نافذة تحكمها بالضرورة ثقافته، ومدى اتساع أفقه، وما يحب وما يكره، فضلاً عن حصيلته من العلم والمعرفة، فقد اكتشف الإنسان الأولى بالرحلة كثيرًا من حقائق الحياة على سطح هذا الكوكب، فعن طريق الرحلة - الفردية والجماعية - عرف الإنسان تضاريس الأرض، ومسارات الأنهار، وأماكن الزراعة، وأقاليم الرعي، كما اكتشف خصائص الأقاليم الجغرافية المختلفة فاختار منها ما يناسبه لتكون بيئته التي يعيش فيها. وما تاريخ الهجرات البشرية الأولى التي يعرفها المتخصصون إلا نوع من الهجرة الجماعية من أجل المعرفة النفعية المباشرة.

         ثم جاء على الإنسان زمن تراكمت فيه خبراته المعرفية، وسيطر فيه، نسبيًا، على موارد الطبيعة في بيئته. وجاءته الرحلة بأخبار بيئات أخرى مختلفة في طبيعتها، مغايرة في عطائها، فعرف التجارة التي كانت من أهم أسباب الرحلة، ومع التجارة وتبادل البضائع كان تبادل المعرفة والخبرات الثقافية، وبات الإنسان يعرف المزيد عن الكون الذي نعيش في رحابه. وربما كانت الرحلة أيضا من أسباب الغزو الذي عرفه العالم القديم حينما كانت أخبار الثروات في بلاد بعيدة أو قريبة تغرى الحكام الغزاة بالهجوم على تلك البلاد الغنية من أجل الاستحواذ على ثرواتها (وهو أمر مايزال يحدث حتى اليوم في ثياب عصرية)، ولم يخل تاريخ حضارة من حضارات البشر من أخبار الرحلة التي تعددت أسبابها وتكاثرت مع تطور الحياة البشرية وتنوع مقاصدها: ما بين الدين (الحج وزيارة الأماكن المقدسة والاقتصاد (التجارة والنشاط المالي) والسياسة (السفارات، والعمل الدبلوماسي) والحرب (الجاسوسية، والاستخبارات) والعلم (الدراسة، والاستكشاف) والسياحة والمغامرة.

         فالرحلة وسيلة الإنسان لكسب المعرفة، والتعرف على البيئة والإنسان الذي يعيش فيها منذ أقدم العصور، وماتزال الرحلة من أنجح وسائل الإنسان في الحصول على المعرفة، ولذا السبب حظيت الرحلة باهتمام القدماء والمحدثين على حد سواء، كما احتفى العلماء بما قدمته الرحلة من إسهامات ساعدت على اكتشاف مختلف البيئات والتعرف على نشاط الإنسان في رحابها. ومن ثم، تسابق العلماء والباحثون على تقديم الأوصاف الجليلة، التي أسبغوها بكرم شديد، على الرحلة.

         وعلى الرغم من أنه كانت، وماتزال، للرحلة جوانبها المشينة والمظلمة، مثل التجسس، والتمهيد للعدوان على الآخر الإنسان، والاستعمار، والاستيطان، والتخريب... وما إلى ذلك، فإن الرحلة قدمت خدمات جليلة للإنسانية جمعاء من حيث أنها كانت وسيلة للمعرفة، والكشوف الجغرافية وتمهيد الطرق لسفر الإنسان والتجارة - باختصار، كانت الرحلة هي العمل الرائد لحركة البشر والأفكار والبضائع من ناحية، كما كانت الرحلة مفيدة للإنسان على المستوى الفردي من ناحية أخرى.

         لقد كانت الرحلة بمنزلة الأم لعلوم إنسانية واجتماعية عدة نشأت في رحم الرحلة، وترعرعت في حجرها، مثل الجغرافيا، والاثنوجرافيا والانثربولوجيا، وعلم السكان، والتاريخ الاجتماعي، والفولكلور... وغيرها، بيد أن أهم إسهامات الرحلة، في تصوّرنا، جاءت من خلال طرح معرفة الإنسان بالإنسان، وإشاعة إدراك وحدة الإنسانية، ماضيًا وحاضرًا ومصيرًا، إذ إن الرحلة تكشف عن حال يتعرف فيها الإنسان على (الآخر)، ومن ثم يصير أكثر استعدادًا للاعتراف بوجود هذا الآخر والتعاون معه. فقد كانت عين الرحالة الغربية دائمًَا بمنزلة آلة تصوير دقيقة تسجل ما حسبه الناس في البلاد التي يزورها الرحّالة غير جدير بالتسجيل والملاحظة بسبب ألفتهم واعتيادهم عليه، ويعني هذا في التحليل الأخير أن الرحلة قدمت لنا الكثير من المعلومات التي تعتبر مصدرًا أوليا، أو مادة خاما، للدراسات التي قامت عليها علوم التاريخ، والاثنوجرافيا، والسكان، والانثروبولوجيا، والفولكلور فضلاً عن فروع الدراسات الإنسانية والاجتماعية الأخرى.

         ويمكن القول، بلا تردد، إن تاريخ الرحلة بدأ مع تاريخ الإنسان نفسه، ربما بقصد البحث عن مصادر الرزق الذي تسبب في حركة البشر وهجراتهم في العصور القديمة من تاريخ الإنسانية. وفي تلك الفترة يلاحظ الباحثون أن الدافعين الاقتصادي والعسكري قد امتزجا بحوافز الكشف والمعرفة على نحو يصعب تحديد مداه، وفي هذه الفترة أيضا بدأت الرحلة الفردية التي سجلتها أساطير الشعوب القديمة جميعًا.

         هكذا، كانت الرحلة وسيلة ناجحة للمعرفة عند الإنسان في تاريخ الفكر الإنساني والثقافة الإنسانية بوجه عام، كما كانت أيضًا وسيلة لأداء الشعائر الدينية عند شعوب الأرض. فالحج إلى الأماكن المقدسة والمزارات المبجلة، وقبور الصالحين والأولياء والقدّيسين، كان - ومايزال - من أهم دوافع الرحلة الفردية.

         تشهد على ذلك رحلة الحج إلى الكعبة قبل الإسلام وبعده، كما تشهد عليه تلك الرحلات العديدة التي قام بها الأوربيون إلى الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، لاسيما بعد اعتراف الامبراطور قسطنطين الكبير بالمسيحية ديانة لرعاياه، ووقف الاضطهادات ضد المسيحيين. وعندما بنت أمه هيلين كنيسة القيامة في بيت المقدس تضاعفت أعداد الحجاج الوافدين من أوربا الكاثوليكية بالشكل الذي جعل المؤرخين يعتبرونها أحد الروافد المهمة للحركة الصليبية التي جاءت لتهاجم المنطقة العربية تحت الراية الكاثوليكية في القرن الحادي عشر.

         كذلك كان طلب العلم من أهم بواعث الرحلة ومايزال. فقد ارتحل علماء الإغريق القدامى إلى مراكز العلم في مصر القديمة، وكان كتاب هيرودوت الشهير تجسيدًا للرحلة في طلب العلم والمعرفة، فقد سافر الرجل إلى مصر وغيرها من البلاد التي سمع بها، وجاء كتابه (التواريخ) ثمرة لهذه الرحلة، ومن ناحية أخرى، كانت الاسكندرية ومكتبتها القديمة ذائعة الصيت هدفًا ومقصدًا للرحلة والرحالة في هذا المجال، كما كانت أثينا في عصرها الذهبي، وبلاد فارس وبلاد الشام تجتذب الرحلة والرحالة من شتى أنحاء المعمورة في تلك العصور.

         ولم تكن الحضارة العربية الإسلامية استثناء في ذلك، فقد كانت الرحلة من أهم فعاليات هذه الحضارة، وقد تنوعت دوافع الرحالة المسلمين ما بين الاقتصاد والدين والعلم والسياسة، بيد أن الرحلة في طلب العلم كانت من أهم ملامح الثقافة العربية الإسلامية، وقد أشار المؤرخ العربي الشهير (ابن خلدون) إلى هذه الحقيقة في مقدمته الشهيرة بقوله: (.... والرحلة لابد منها في طلب العلم، ولاكتساب الفوائد والكمال، بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال، وتجسّد هذه الحقيقة رحلات عدة قام بها أعلام الثقاقة العربية الإسلامية منهم عبدالرحمن بن خلدون نفسه الذي رحل من بلده الأصلي إلى مصر لأسباب كثيرة منها طلب العلم، وقد سبقه كثيرون لا تكفي مثل هذه الدراسة لرصد أسمائهم ومؤلفاتهم فقط، فضلاً عن سيرتهم ونشاطهم.

         وقد كان الفضل في ذلك راجعًا إلى أن العالم الإسلامي الذي امتد من سور الصين العظيم شرقًا حتى مياه المحيط الأطلنطي غربًا، ومن البحر المتوسط وبحر قزوين شمالاً إلى المناطق الاستوائية في آسيا وأفريقيا جنوبًا، قد عرف نوعًا فريدًا من الوحدة الثقافية القائمة على أساس التنوع والتنافس الإيجابي بين الثقافات الفرعية التي نشأت من التفاعل بين ما جاء به الدين الإسلامي واللغة العربية من ناحية، والموروثات الحضارية للشعوب التي اعتنقت الإسلام من ناحية أخرى، لقد برزت مراكز ثقافية متنافسة ومتفاعلة في كل أرجاء العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، بغداد ودمشق ومكة والمدينة، والفسطاط ثم القاهرة، والقيروان ومدن المغرب الإسلامي والأندلس، وكانت الرحلة في طلب العلم ولاكتساب الفوائد والكمال، ومباشرة الرجال... على حد تعبير ابن خلدون من سمات الثقافة العربية الإسلامية في ذلك الزمان.

         كذلك كانت التجارة من العوامل المهمة الدافعة إلى الرحلة في التراث العربي الإسلامي، إذ كان التاجر العربي المسلم شخصية عالمية يعرفها سكان العالم المتحضّر آنذاك. كما أن تنوع الأقاليم الجغرافية لدار الإسلام جعل في متناول التجار المسلمين منتجات شديدة التنوع تقوم عليها التجارة العالمية. ومن المعلوم أن تجار ذلك الزمان كانوا يقومون برحلاتهم التجارية بأنفسهم من ناحية، كما أنهم كانوا عادة من أبناء النخبة الثقافية في مجتمعاتهم من ناحية أخرى، وقد أدى ذلك - بطبيعة الحال - إلى أن عددًا منهم كانوا من العلماء الذين تركوا لنا نفائس يفخر بها تراث الحضارة العربية الإسلامية، وتقف رحلة التاجر سليمان السيرافي، فوق مياه المحيط الهندي في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) دليلاً فذّا على ذلك. كما أن ياقوت الحموي (626هـ/1229م) خلّف كتابه الكبير المسمى معجم البلدان ليكون دليلاً ساطعًا على رحلة التاجر العربي في عصور السيادة الإسلامية، إذ كان ياقوت الحموي يقوم برحلاته بهدف التجارة أساسًا.

         وكانت هناك أسباب أخرى متنوعة للرحلة عند المسلمين، بعضها شخصي فردي، وبعضها الآخر كانت سفارات بتكليف من الحكام لسبب أو لآخر، على أن أهم ما يلفت النظر في تاريخ الرحلة العربية الإسلامية هو أن طابع المبادرة الشخصية كان العامل الحاسم في غالبية هذه الرحلات، ولم تكن الدولة، أيّا كان اسمها، تقوم بتمويل هذه الرحلات إلا في أضيق نطاق، وربما كان ذلك مقصورًا، على الحالات التي كانت الرحلة فيها سفارة أو مهمة رسمية بتكلف من الحكام.

         ويحتل أدب الرحلة عند العرب مكانة متميزة في التراث الثقافي العربي، وتقف الرحلات التي شهدها تاريخ الثقافة العربية الإسلامية في طليعة أدب الرحلات الذي عرفتها كل الثقافات الإنسانية، وتراث أدب الرحلة العربي، بدءًا من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي ترصعه عناوين مؤلفات رحالة من أمثال أبي دلف الينبوعي، وابن فضلان، وابن جبير، والعبدري، وابن بطوطة، وعبداللطيف البغدادي، ثم الرحالة المحدثين نسبيًا مثل أحمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي، ومحمد كرد على، وأمين الريحاني.... وغيرهم.

         وخلال عصور السيادة العربية الإسلامية طاف الرحالة العرب أرجاء الدنيا يسجلون ما يشاهدونه وما يسمعونه عن الأمكنة والناس، المظاهر الطبيعية، العادات والتقاليد، الثقافات، وكانت ثمرة هذا كله ثروة معرفية هائلة حفظتها بطون الكتب، وقد شمل أدب الرحلات المكتوب بالعربية شتى نواحي المعرفة الإنسانية في مختلف أنماط الرحلة، فهناك رحلات السياح العاديين، ورحلات الجغرافيين، ورحلات المفكرين والباحثين عن الحقائق الروحية والفكرية، ورحلات المتصوّفة والحجاج إلى الأماكن المقدسة والمزارات الدينية، ورحلات الدبلوماسيين، ورحلات المغامرين والصيادين والمستكشفين، فضلاً عن رحلات الجواسيس...وغير ذلك من الرحلات.

***

         وقد سبق أن أشرنا إلى جزء من تراث أدب الرحلة الأوربي، وقد بدأت الرحلة الأوربية بعد العصر المسيحي لأسباب دينية تتعلق بزيارة الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين غالبًا، ثم ارتبطت رويدًا رويدًا بالحرب والمغامرة والاستكشاف. ولعل أهم تلك الرحلات الأوربية على الإطلاق هي تلك الرحلة الفذة التي قام بها المغامر الجسور كريستوفر كولومبس (1541-1506م) في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. ونجح كولومبس مع نجاح هذه الرحلة البحرية وهي تكتشف الدنيا الجديدة: أمريكا، ونتج عن ذلك أن تقدمت الرحلة البحرية إلى الصدارة لأنها اخترقت بجسارة مجاهل المحيط الأطلنطي، ومن ثم تواصلت أوربا مع الدنيا الجديدة بلا حدود بفضل الرحلات البحرية.

         ويرى الدكتور حسين فهيم (أدب الرحلات، ص22-ص23) أن(...رحلات كولومبس بالذات، وكشفه العالم الجديد، أثمرت عن مادة إثنوجرافية قيمة، بل كانت لها أهمية تاريخية كبرى في مجال الفكر والسياسة، الأمر الذي جعل بعض المؤرخين الأوربيين المهتمين بالتقسيم الزمني للتاريخ يتفقون على أنه إذا كان سقوط روما سنة 476م يعتبر نهاية العصور القديمة، فإن اكتشاف أمريكا سنة 1492م قد أدخل أوربا حقبة جديدة. تلك التي كانت لها أثرها الكبير في تغيير النظرة إلى الإنسان عامة، والإنسان الأوربي خاصة، الأمر الذي انعكس صداه على الفكر الاجتماعي والحضاري عن الإنسان. فلقد أوضحت الاستكشافات الجغرافية، بجلاء، حقيقة وجود تنوع بين الجنس البشري...).

         تقودنا هذه الفقرة الأخيرة إلى موضوع الورقة التي نقدمها عن رحلة إلياس الموصلي إلى أمريكا في النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، وهي أقدم نص لأول رحلة معروفة قام بها عربي، وسجلها باللغة العربية، إلى أمريكا، وتكتسي هذه الرحلة أهمية زائدة من خلال الحقيقة القائلة بأن الفترة التي زار فيها إلياس الموصلي أمريكا...جاءت في الفترة التي شهدت فيها القارة الأمريكية حمى بناء المستوطنات، والبحث عن الذهب والفضة، وانتشار العبودية، ونشاط ديوان التفتيش الكاثوليكي، وعمليات التنصير والتعذيب والإبادة التي مارسها المستعمرون الإسبان ضد أبناء القارة الأمريكية. والرحلة... حافلة بالقصص والمرويات والوقائع حول ذلك... حسبما يقرر محرر الرحلة نوري الجراح في مقدمته (ص14).

***

         ربما يكون من المناسب أن نقدم تعريفا بصاحب الرحلة، ثم عرضًا لأحداثها قبل أن نقدم ملاحظاتنا الأساسية عنها.

         هذا النص يدون أحداث أقدم رحلة عربية معروفة إلى أمريكا. وقد تم نشر النص مرتين قبل هذه النشرة التي حملت عنوان (الذهب والعاصفة)، وصدرت عن دار السويدي للنشر والتوزيع (الطبعة الأولى 2001م) من تحرير وتقديم نوري الجراح، وكانت النشرة الأولى لهذه المرحلة على يد الأب أنطون رباط اليسوعي بعنوان (رحلة أول سائح شرقي إلى أمركة) في مجلة المشرق، المجلد الثامن، سنة 1905م، ثم كانت النشرة الثانية، بعد سبعين سنة من النشرة الأولى، على يد الباحثة العراقية ابتهاج الراضي. وقد أشار المستشرق الروسي كراتشوفسكي إلى هذه الرحلة وصاحبها في كتابه (تاريخ الأدب الجغرافي العربي) (ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، القاهرة 1961م). فمن صاحب الرحلة؟

         المعلومات المتوافرة عن صاحب هذه الرحلة شحيحة للغاية حسبما كتب محرر الرحلة، لكن أهم ما فيها أنه قسيس كاثوليكي من أصل كلداني، وأنه من عائلة من البطاركة كانت لهم صلات وثيقة بالفاتيكان والبابوية. ويبدو مما سجله هو بنفسه عن الرحلة أنه كان صاحب حظوة لدى البابوية من ناحية، ولدى السلطات الإسبانية والفرنسية في إسبانيا وفرنسا، والسلطات الاستعمارية في أمريكا الجنوبية من ناحية أخرى، فضلاً عن ديوان التفتيش الكاثوليكي الإسباني في صورته التي عُرف بها في المستعمرات الإسبانية. وتتضح هذه الحقيقة من خلال الألقاب التي أسبغتها عليه البابوية، والحفاوة التي قوبل بها من السلطات في كل مكان زاره أثناء رحلته التي استمرت ستًا وعشرين سنة.

         وقد بدأت الرحلة من بغداد سنة 1668م، صوب دمشق ومنها اتجه إلى بيت المقدس حيث وصلها في نهار عيد القيامة. وقد تعرض لهجوم اللصوص وقطاع الطرق، ولكن الأسلحة النارية التي كانت معه ومع الطوبجي باشا (أي قائد المدفعية العثمانية في الشام وحلب وبغداد) ميخائيل أغا، رفيقه في هذا الجزء من الرحلة، جعلتهم ينتصرون على اللصوص، ويواصلون سيرهم إلى دمشق، ثم القدس الشريف.

         واتجه هو إلى حلب، ثم ميناء الإسكندرونة، حيث استقل مركبا إنجليزيًا إلى قبرص، ثم وصل إلى البندقية بعد سبعين يوما من مغادرة الإسكندرونة. وهناك تم حجزهم في الحجر الصحي خارج المدينة على مدى واحد وأربعين يومًا. ومن هناك اتجه إلى روما حيث مكث ستة أشهر ومن هناك سافر إلى فرنسا. ثم تجول في فرنسا ووصل إلى أفينيون التي كانت ملكًا للبابوية منذ العصور الوسطى حينما أهداها ملوك فرنسا إلى البابوية حتى استردتها الثورة الفرنسية سنة 1789 (أي بعد زيارة إلياس الموصلي بعشرين عاما).وفي باريس زار الملك لويس الرابع عشر الذي أكرمه هو وأخوه أمير أورليانز. وقد امتدح باريس كثيرًا.. التي لا مثيل لها في كل الدنيا، بحسنها وعدالة حكمها واستقامة شرعها... (ص58). ويلفت النظر هنا أن الثورة الفرنسية التي اندلعت بعد عشرين سنة من زيارته كانت ثورة ضد ظلم الملكية والإقطاع المتحالفين مع الكنيسة، وهو ما يلقي ظلالاً من الشك حول أحكام هذا القسيس الأرستقراطي!!

         على أي حال، بقي إلياس في باريس ثمانية أشهر بناء على طلب السفير السلطان العثماني محمد الرابع إلى الملك الفرنسي لويس الرابع عشر. وبعدها توجه إلى إسبانيا حتى وصل إلى مدريد العاصمة حيث كانت الوصية الملكة آن النمساوية لأن الملك ارلوس الثاني كان قاصرًا.

         وأمرت بأن يصرف له مبلغ من المال من حاكم صقلية ومثله من حاكم نابولي، ولكنه لم يحصل على هذه الأموال مما جعله يكرس معظم حديثه في رحلته في إيطاليا عن فشله في الحصول على المال، وسوف نرى أن المال كان يشغل حيزا مهمًا من تفكير هذا القسيس. وقد رجع مرة أخرى إلى إسبانيا خائب الرجاء على حد تعبيره.

         وذهب إلى البرتغال ليحدثنا عن النصارى الجدد... وهم من ملة اليهود المتنصرين وهم معلومون عند الكل، وما يتزوجوا من النصارى القدماء. والبعض منهم، بالحقيقة، ناكرو دين المسيح. فلما يتحققون أمرهم أنهم كذلك، يحكم عليهم ديوان الإيمان (محاكم التفتيش) بالحريق... هذه إشارة واضحة إلى أن فظائع محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت لا تزال موجودة و مستعرة في شبه الجزيرة الأيبيرية، ويتحدث الرجل عنها ببرود شديد باعتبارها أمرًا طبيعيا.

         كان هذا هو الجزء الأول من الرحلة الذي قضاه في أوربا، وقد انتهى بأن حصل من الملكة الوصية على عرش إسبانيا على تصريح بالسفر إلى بلاد هند الغرب أي أمريكا (ولم يكن ممكنًا لأحد أن يسافر إلى تلك الأرجاء سوى بإذن من التاج كما أن السفن الإسبانية لم تكن تنقل بشرًا أو بضائع غير إسبانية إلا بموجب تصريح مثل هذا). ومن ميناء قادش غادر إلى أمريكا يوم 12 فبراير 1675م، بعد أن أمضى في أوربا سبع سنوات، محملاً بلوازم السفر والتوصيات والأوامر الملكية لتسهيل رحلته. وخُصصت له قمرة في مركب القيادة (وهو ما يشير إلى احتمال أنه كان مكلفًا بمهمة لصالح البابوية أو الملكية الإسبانية، أو لصالحهما معًا).

         وقد أمدنا بمعلومات مهمة عن الرحلة البحرية من إسبانيا إلى بيرو في أمريكا الجنوبية، فقد كانت المراكب تسافر مرة واحدة كل ثلاث سنوات... لكي يحضروا من هناك خزانة الملك. وأيضا التجار يوسقون الغلايين من كل أجناس البضايع ويبيعونها في تلك البلاد، ولا يدعون إنسانًا غريبًا عن الجنس السبنيولي يرافقهم، لا تاجرًا ولا كاهنًا، إن لم يكن معه أمر من الملك....

         وقد صادفت مركب إلياس الموصلي مركبا إنجليزيا موسوقًا من العبيد السود عددهم سبعمائة نفس، قد جاءوا بهم من بلاد برازيل من حكم البورتكال حتى يبيعوهم في بعض جزائر الهند... وهذه إشارة إلى خاصية أخرى من خصائص تلك الفترة التي ازدهرت فيها تجارة الرقيق ولعب الإنجليز دورًا مهمًا فيها.

         وعند شواطئ كاراكاس تحدث عن جزيرة مرجريتا وذكر أسطورة دينية نعتاد على مثلها في كتابات رجال الدين. وذكر ما يشير إلى وجود نوع من حرب العصابات ضد الحكم الإسباني في بيرو، كما تحدث عن جزيرة السلاحف، وأشار إلى استيلاء الإسبان على مركب فرنسية تحمل سلاحف مملحة بسبب حالة الحرب التي كانت قائمة بين إسبانيا وفرنسا آنذاك.

         وعندما رست بهم السفن في أرض بيرو، كان أهم ما لفت نظره ثراء أهل المدينة، وديانتهم الكاثوليكية، وكثرة الكنائس والقسوس وأديرة الرهبان والراهبات. وتحدث عن عمليات البيع والشراء التي كانت تستمر أربعين يوما بين الإسبان والسكان الأصليين. وتحدث عن انتقام الفرنسيين من الإسبان بسبب المركب الذي استولوا عليه. بيد أن أهم شيء هو الأموال التي تمت جبايتها للنتاج الإسباني وشاهدها صاحب الرحلة فرأيت شيئا لا يحصى من الفضة والذهب.

         وقد وصف الرجل النباتات والحيوانات والحشرات التي صادفها من تلك البلاد الجديدة، بقدر غير قليل من المبالغة، كما حدثنا عن حيل السكان المحليين لصيد التماسيح الأمريكية Caiman التي عاشت في بيرو. وتحدث عن طيور الببغاء الناطقة ذات الألوان الزاهية، وجبال كاتوكاكسي التي توجد بها بعض البراكين.

         لا يخلو كلامه من الأحاديث المعتادة لدى القساوسة عن الرؤى الإعجازية والقصص الأسطورية التي يزعم أنها حدثت، وأن أبطالها من رموز الديانة المسيحية. كما أنه تحدث بإسهاب عن رحلته البرية في أمريكا الجنوبية، وذكر القصص الرائجة عن استخراج الذهب كما تحدث عن العلاقات بين السكان الأصليين (الذين يسميهم الهنود) والإسبان الذين يسميهم السبنيولية.

         وتحدث عن استخراج الذهب ورغبته في الذهاب إلى أماكن استخراجه، ولكن البعض أشار عليه بعدم الذهاب لصعوبة الطريق فاكتفى بالشراء من ذلك الذهب في بلدة كيتو ووصف بعض النباتات في تلك الأرجاء.

         ثم خرج من ليما، في بيرو، قاصدًا جبال الفضة والذهب، ووصف عملية استخراج الزئبق، وتحدث عن اقتصاديات استخراج الزئبق وفرق الحساب لصالح الملك. وكان نصيبه في هذه الزيارة مقدار خمسين قنطارا من الزئبق، فترك هناك وكيلاً ليتسلم منهم الزئبق، كما حدثنا عن صناعة الحجارة من ماء أسمر يتجمد فيصير حجارة.

         ونزل في دير اليسوعية الذي كان رئيسه غنيًا لأنه كان قبل ذلك رئيس ديوان الإيمان (أي محاكم التفتيش) فأهداه جنزير ذهب.

         ثم تحدث عن استخراج الفضة وشاهد عملية سبك الفضة نقودًا مختومة بخاتم الملك. وتحدث عن القتال بين السكان الأصليين والإسبان.

         بعد ذلك تحدث عن رحلته إلى المكسيك التي يذكرها باسم بلاد ينكي دنيا أي الدنيا الجديدة، وذكر أشجار الكاكاو، وتحدث عن شراء القرمز ثم عاد إلى أوربا حيث وصل إلى ميناء قادش الإسباني وقدم هدية فاخرة إلى البابا إنوسنت الحادي عشر الذي أنعم عليه بوظائف جليلة.

         ونأتي الآن إلى الملاحظات الأساسية على رحلة إلياس الموصلي:

         أولاً: أن صاحب الرحلة قس كاثوليكي قام برحلته لأسباب شخصية غير معروفة على وجه الدقة، وإن كان المرجح لدى الأساتذة الثلاثة الذين نشروا الرحلة، ولدى كراتشوفسكي في الأدب الجغرافي العربي، أنه قام بمهمة لحساب البابوية، أو التاج الإسباني، أو كليهما معًا، وهذا ما يمكن استنباطه أيضا من سياق الرحلة نفسها.

         ثانيًا: أنه، نتيجة لما ذكرناه في أولا، كان الوسط الذي خالطه إلياس الموصلي بالضرورة، الوسط الكهنوتي الكاثوليكي في أوربا وأمريكا الجنوبية على السواء، وقد تركزت علاقاته بهذا الوسط على الرغم من علاقاته الحميمة ببعض الحكام العلمانيين أيضا. وقد أثر هذا على اهتماماته التي ركزت في الغالب الأعم على الأديرة والكنائس والقساوسة والرهبان.

         ثالثًا: أن الرحالة، لم يكن رحَّالة بالمعنى الدقيق للكلمة، على الرغم من أنه تحرك في أرجاء أمريكا الجنوبية، حتى وصل إلى منطقة خط الاستواء، وإنما كان مبعوثًا يمثل البابوية بدليل استخدامه الدائم للملابس والشعارات التي منحها له البابا في كل صلاة أو قداس قام به في كنائس أمريكا الجنوبية وأديرتها.

         رابعًا: أن الرجل، نتيجة لما سبق، كان يورد أخبار الخوارق والمعجزات التي سمعها باعتبارها حقائق، على الرغم من أنه لم يذكر أنه شاهد أيا من هذه المعجزات بنفسه، وتكشف كتابته عن قدر كبير من ضيق الأفق والتعصب الكاثوليكي الذي جعله على صلة قوية بالقائمين على محاكم التفتيش التي يسميها (ديوان الإيمان)، وجعله يتحدث عن أصحاب البلاد الأصليين الذين يسملهم الهنود بقدر كبير من العنصرية والتعصب حينما يتحدث عن المسيحيين منهم، وبلهجة كاثوليكية العصور الوسطى المتعصبة عندما يتحدث عن الذين لم يتنصروا باعتبارهم (الهنود الكفرة). بيد أنه يكشف دونما قصد عن الأوضاع المؤلمة والحزينة التي عاش في ظلها أحفاد حضارات المايا، والإنكا، والإزتك من سكان تلك القارة دون أن يخطر على باله أنهم أصحاب هذه الأرض.

         خامسًا: على الرغم من أنه يورد لنا لمحات عن الصراع الاستعماري بين الإسبان والفرنسيين، فإن ضيق أفقه واهتماماته الكنسية حالت دون أن يمدنا بالتفاصيل المهمة لذلك الصراع. إذ كان جل اهتمامه منصبًا على ذاته وعلى ما قام به من خدمات كنسية،وما أقيم له من ولائم، وما كسبه من المال والهدايا هنا وهناك. ويبدو حبه للمال واضحًا في كل صفحة من صفحات رحلته: فمن الصفات المتكررة في وصفه للرجال (كنسيين وعلمانيين) صفة الثراء، كما أنه حريص على ذكر أثمان البضائع والمأكولات، وإحصاء المكاسب التي يجنيها التاج الإسباني من عمليات استخراج الفضة والزئبق والذهب.. بل إنه كان يقرض المال بفائدة تصل إلى 40% حسبما ذكر بنفسه. ومن الواضح أنه عاد من هذه الرحلة بثروة كبيرة.

         سادسًا: قدم لنا أوصافًا طبيعية مهمة للتضاريس، والمسافات بين المدن، وطبيعة الملاحة في أمريكا الجنوبية والوسطى، كما وصف بعض الحيوانات والنباتات وإن حاول أن يربط بين بعضها وبين الديانة المسيحية بشكل ساذج.

         سابعًا: يبدو صاحب الرحلة نموذجًا واضحًا على التضافر بين الاستغلال الرأسمالي والاستغلال الديني في حركة الاستعمار، فقد كان رجال الدين يساندون رجال الدين يساندون رجال الإدارة الاستعمارية، بل إن بعضهم كان يترك وظيفته الدينية إلى وظيفة إدارية في الجهاز الاستعماري في أمريكا الجنوبية. ويكفي أنه حينما كان في باريس لم يفطن إلى أزمة الملكية الإقطاعية التي أدت إلى نشوب الثورة الفرنسية بعد عشرين عامًا، وربما يكون قد تجاهلها بحديثه عن عدل لويس الرابع عشر.

         ثامنًا: تخلو الرحلة، أو تكاد، من المعلومات المتعلقة بجوانب الحياة الاجتماعية لسكان أمريكا الجنوبية، فهو لا يتحدث سوى عن الصلوات والاحتفالات الكنسية. بيد أن الأخبار التي ترد عرضًا تكشف عن قسوة ممارسات المستعمرين بعد أكثر من قرنين ونصف القرن على رحلة كريستوفر كولومبوس.




أبحاث الفترة المسائية الأولى ليوم الأحد
رئيس الجلسة: أ.د. عبدالمحسن المدعج أستاذ التاريخ بجامعة الكويت
أدباء المهجر وأزمة الانشطار الروحي
( يلوحُ لي أنْ ليس في حياتنا مِن حقيقةٍ إلا الألم ) أمين الريحاني
د. لطيف زيتوني

         أزمةُ الانشطار الروحي التي عرفها أدباءُ المهجر هي لونٌ من ألوان الصدمة الثقافية التي يتعرّض لها المهاجرون. فالسائح في البلد الغريب يُشغل نفسَه بالتفرّج على الجديد، والتعرّف إلى المفيد، والتمتّع بالمثير، بينما المهاجرُ ينشغل بالبحث عن موقعه في أرضٍ غريبة تختلف عن أرضه في التقاليد والعادات والنظم العقلية والاجتماعية، أي في ما أنتجه التاريخ والجغرافيا.

         يترك المهاجرُ وطنَه نفوراً من ضائقة اقتصادية ألمّت ببلاده وجعلت العيشَ فيها مستحيلاً، أو من حوادث وقعتْ وهدّدت حياتَه، أو من مسألة شخصية لا حلّ لها سوى الابتعاد. وقد يترك بلدَه طمعاً بتحقيق ثروة، أو حباً بالمغامرة، أو رغبة في العيش في بلاد راقية. أما أدباء المهجر، وجلّهم من المهاجرين اللبنانيين، فجمَعهم سببٌ واحد هو النفور، فقد ضاقوا بحال بلدهم الذي أوقعه الصراع التركي الأوروبي في حوادث دموية امتدّت نارُها إليه من دمشق عام 1840، وتأصّلت مذ ذاك في أرضه، وضاقوا بحال أرضهم الصخرية المجدبة التي تدفع أهلها إلى طلب الرزق بعيداً عنها. وما زال يتردّد فيهم صوت القائل:

فَسِرْ في بلاد الله والتمِسِ العلى تعشْ ذا يسار أو تَمُتْ فتُعذرا
         وصوت إبي تمام:
وطولُ مقام المرءِ في الحي مخْلِق لديباجتيـه، فاغتربْ تتجــددِ
فإني رأيتُ الشمس زيدت محبةً إلى الناس إذْ ليستْ عليهم بسرمد2

         لهذا كان البقاءُ في الوطن استسلاماً للفقر والهوان ترفََّع عنه إيليا أبو ماضي، فخاطب وطنَه مودّعاً:

لبنانُ لا تعذلْ بنيكَ إذا هُمُ ركبوا إلى العلياء كلّ سفـينِ
لم يهجروك ملالةً لكنّهم خُلقوا لصيد اللؤلؤ المكنون
لما ولدتهمُ نسوراً حلّقوا لا يقنعون من العلا بالـدون
والنسر لا يرضى السجون وإنْ تكنْ ذهباً، فكيف محابسَ من طين؟
الأرضُ للحشرات تزحف فوقها والجوّ للبازي وللشاهــين 3

         هذه الحماسة للهجرة كانت تستمرّ ما استمرّ الإنسان في وطنه، بل تستمرّ طولَ رحلته على متن الباخرة مع ما كان يرافقها من الاذلال4 كان المهم هو الوصول؛ فكم من مرةٍ أنزلتِ الباخرةُ المهاجرينَ حيث لا يقصدون. أما ما بعد الوصول، فلم يفكرْ فيه أحد. لهذا كانت صدمةُ الواقع الجديد قاسيةً ومؤلمة.

         الألم الشخصي

يا رحمتا للغريب في البلد النّا زِحِ ماذا بنفسـه صَنَعـا
فارقَ أحبابـَهُ فما انتفعـوا بالعيشِ من بَعده وما انتفعا5

         هكذا تبدأ حياة الأديب في المهجر: الخاطرُ مكسور والمعنوياتُ في درجة الصفر. لا أمل ولا نجاة إلا في العمل. ولكنْ في أي حقل يعمل وهو الغريب الجاهل الأبكم الخالي الوفاض. التجارة تستلزم رأس مال، والزراعة تتقاضى المهاجر جهود السنين الطويلة وما هو في حدْسه إلا عابرُ سبيل، يستعجل الثراءَ ليغذّيَ أهلَه الجيّاعَ في الوطن وليدفعَ ما استدان من المرابي وليعودَ إلى داره في أقرب وقت60 .

         لهذا كانت ردة الفعل الأولى دائماً هي الندم على الهجرة:

وطني أين أنا ممن أود أوَ ما للحظّ بعد الجذر مد ؟
ما رسَتْ حيث رستْ فلكُ النوى لو أباحوا ليَ في الدفـة يد7

         وبعد الندم تبدأ الشكوى من وحشة الهجرة :

ناءٍ عن الأوطان يفصلني عمّن أحبّ البرّ والبحرُ
في وحشة لا شيء يؤنسها إلا أنـا والعود والشعر8

         يمكننا أمام هذا الموقف أن نفكّر على طريقة الوجوديين بأن المهاجر كان حراً في البقاء في بلاده أو الهجرة منها، وحرّاً في البقاء في مهجره أو العودة إلى الوطن. فاختياره البقاء في بلاد الهجرة يستلزم قبوله بالنتيجة المترتبة عليه وهي الانقطاع. ولكنّ المهاجر لا يرى الأمر على هذه الصورة، بل يرى أن الوضع السياسي والاقتصادي أرخى بثقله على خياره، فينفي حريته في الاختيار، ويرفض تحمّل مسؤولية الانقطاع. وهذا النفي، بالمعنى الذي يستخدمه التحليل النفسي، يتمثّل في الغالب بإنكار البعد الإرادي للهجرة، وإنكار اختيار البلد المضيف والتنكّر له، وتجميل صورة الوطن الأصلي، وتجميل صورة الوضع الشخصي السابق في الوطن الأصلي، وإحلال فكرة الرحلة المؤقتة مكان فكرة الهجرة الدائمة. وضرر هذا الميل إلى النفي هو ضرر نفسي، فهو يمنع التكيّف مع الواقع الاجتماعي الجديد، ويصيب أحياناً كثيرة علاقةَ المهاجر بالواقع، وبصورة أعمق علاقتَه بنفسه.

         ها هو مثلاً الشاعر القروي رشيد سليم الخوري يصوّر نفسه مدفوعاً إلى الهجرة لا مختاراً، مجبراً عليها لا حراً:

أروم إلى ربى لبنان عوْداً فيمنعني عن العوْد افتقـار
ولو خيّرت لم أهجر بلادي ولكن ليس في العيش اختيار9

         أما المسؤول عن هجرته فهو الوطن نفسه، فهو الذي دفع به إليها، وبالتالي هو السبب في نكده:

وطني طوّحْتَ بي في مهجرٍ يرهقُ الحرَّ بأنواعِ النكد10

         وهكذا يجد المهاجرُ نفسه في مأزق لا مخرجَ منه. فهو لا يستطيع أن يعودَ خائباً فقيراً بعد كلّ ما رسم من أحلام وما علّقه عليه ذووه المقيمون من آمال، فيتحمّل عذاب الهجرة لأنه أهون عليه من ذل العودة الخائبة. وقد عبّر نسيب عريضة عن هذا المأزق عندما قال:

أحبّ بلادي وإن لم أنمْ قريرَ الجفون بأحضانها
فكم أنّتِ النفسُ من يأسها وناءتْ بأثقال أشجانها
تودّ الرجوعَ إلى عشّها وليس الرجوعُ بإمكانها11

         وهو أيضاً لا يستطيع أن يعود إذا سارت الأعمال وكثرت الارتباطات. وهذا عذر الكثير من المهاجرين، ومنهم جبران الذي كتب إلى مي زيادة يقول : إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني. ولولا هذا القفص - هذا القفص الذي حبكتُ قضبانَه بيديّ- لاعتليتُ متنَ أول سفينة سائرة شرقاً. ولكن أيّ رجل يستطيع أن يترك بناءً صرف عمرَه بنحْت حجارته وصفّها حتى وإنْ كان ذاك البناء سجناً له، فهو لا يقدر أو لا يريد أن يتخلّص منه في يوم واحد12.

         والسجن الذي يتكلّم عنه جبران سجن حقيقي. فالمهاجرون العرب في أميركا، في الثلث الأول من القرن العشرين، لم يندمجوا في نسيج المجتمع الجديد إلا تدريجاً، فكانت صلتهم به في المرحلة الأولى محصورة بمقتضيات العمل والقليل من المجاملات. لهذا انضم بعضهم إلى بعض وكوّنوا مجتمعاً على هامش المجتمع القائم، وفي عزلة عنه، وكأنهم مسجونون فيه. وجعلتهم عزلتهم يواصلون حياتهم كما كانوا في الوطن، ويحافظون على عاداتهم ولغتهم ويهتمون بشؤون بلادهم وقضاياها ويتابعون ما تنشره دورها ومجلاتها ويرسلون إليها بمقالاتهم وكتبهم.

         كان الشعور السائد بينهم هو الشعور بالانسلاخ. فالمهاجر صنيعة أرضه، فمنها استمدّ خصائصه البدنية والعقلية. لهذا أحسّوا أنفسهم بمنزلة شجرة اقتُلعت من أرضها وغُرست في بلاد أخرى. وكان انسلاخهم انفصالَ جسدٍ عن جسد، لا روحٍ عن روح. فقد بقيت روحُهم في الشرق بينما انتقل الجسد إلى أميركا.

         وقد عبّر أبو ماضي عن ذلك بقوله:

أيهـا السائـل عني مَنْ أنـا أنا كالشمس إلى الشرق انتسابي
لغـة الفولاذ هاضت لغتـي لا يعيش الشدو في بحر اصطخاب
لست أشكو إن شكا غيري النوى غربة الأجسام ليست باغتراب
أنا في نيويورك بالجسم، وبالروح في الشرق على تلك الهضابِ13

         أما نسيب عريضه فجعل التمزّق أشدّ هولاً إذ حوّل نفسه إلى شطرين:

أنا المهاجر ذو نفسين: واحدة تسير سيري وأخرى رهن أوطاني14

         إنها عملية جراحية مؤلمة، فيها بترٌ لجزء من الذات15؛ وهي، رمزياً، قريبة مما يسميه علم النفس التحليلي بالخصاء (castrastion). ويتمثّل الخصاء الذي تعرّض له المهاجر بسلسلة من الحرمان تناولت المكوّنات الأساسية لذاته.

         فالهجرة حرمته أولاً من لغته، فتعطلت قدرته على استعمال الإشارات والعلامات التي كانت تربط لسانه وسمعه بالناس والتي كانت تشكّل هويته، فصار أبكم، مجهول الهويـة:

حولي أعاجم يرطنون فما للضاد عند لسانهم قدر
ناسٌ ولكنْ لا أنيس بهم ومدينةٌ، ولكنّهـا قفر16

         ثم حرمته من يقينه في قيمه الثقافية، وأدخلت الشك إلى قلبه بعدما عاش في التسليم، فعاش زمناً طويلاً في الشك والرفض إلى أن بدا له وجه الحقيقة الواحد في كل الرسالات.

وكنت مع الله في قريتي فصرت بلا الله في غربتي17

         وحرمته الهجرة أخيراً من راحته، لأن الباحث عن الرزق خلف البحار لا يحلم بالراحة بل يسابق الزمن ليفوز ويعودَ إلى حيث يستعيد لسانه وقيَمه ويحقّق وجودَه.

         ولا شكّ في أنّ الصدمة الثقافية تختلف بحسب السن، والجنس، والمعتقدات، والطبقة الاجتماعية، وبحسب شخصية المهاجر، وسبب هجرته، ومقدرته العقلية، واستعداده النفسي للتكيّف، وبحسب درجة معرفته بلغة البلد المضيف وتقاليده. ونحن لو نظرنا في سيرة هؤلاء الأدباء لوجدنا معظمَهم هاجرَ في نهاية مرحلة الطفولة. فأبو ماضي غادر لبنان في الحادية عشرة من عمره، والريحاني في الثانية عشرة، وجبران كذلك، ونعيمة في الثالثة عشرة، الخ.. وهذا يعني أن هؤلاء تركوا بيوتهم حين كانوا ما زالوا بحاجة إلى حنو الوالدين وعطفهم، وحين كان زادُهم من خبرة الحياة يكاد يكون معدوماً، وثقافتُهم ما تزال في بداية تكوّنها، وشعورُهم بهويتهم القومية لا يتعدّى حدودَ القرية التي ولدوا فيها، وتحصيلُهم الدراسي قليلاً، ولغتُهم العربية لا تتجاوز بعض القصائد المحفوظة. فكيف توصّل هؤلاء الأطفال إلى هذه المكانة في دنيا الأدب، وإلى هذا الإبداع الفني والفكري، وإلى الوعي القومي ..؟ أيّ تجارب مرّت بها قلوبهم الفتية، وأيّ غربة قاسوها، وأيّ جهد بذلوه ليشقّوا دروبهم، وأيّ وحي زيّن لهم الخيارات الراقية، وأيّ شعور أسعفهم للمحافظة على انتمائهم وكرّس أقلامهم لخدمة لغتهم وقومهم؟ ليس هذا مما يؤرّخه المؤرّخون، فهو يبقى طيّ الصدر فلا يظهر منه إلا ما تنضحه الزفرات الحارة والأشواق الحارقة والانفعالات الحادة فيلتمع في سطورهم كالدمع داخل حدقة العين.

         ولعل أول ما شعر به هؤلاء بعَيْد وصولهم هو أنهم متروكون لمصيرهم، تائهون في مَهاجرهم، مسؤولون وحدَهم عن أنفسهم ومستقبلهم. وهذه الوحدة زادت فيهم الحنين إلى كنف الأم18، إلى حمى الوطن، حيث كان لهم وجود، وهوية، ولغة، واسم19 وصار هذا الحنين إلى الشطر المفقود قاسماً مشتركاً بين كل الأدباء المهاجرين:

نازحٌ أقعده وجدٌ مقيمْ في الحشا بين خمود واتقادْ
كلما افترَّ له البدرُ الوسيمْ عضّه الحزنُ بأنياب حدادْ
يذكرُ الرَبْعَ القديمْ فينادي أين جنّاتُ النعيمْ من بلادي ؟ 20

         وصار كلّ شيء يذكّرهم بالوطن، فإنْ طلع البدر من وراء التلال، أو هبّت الريح من الشرق، هتفوا مع نسيب عريضة:

تدفّقي يا رياحَ الشرقِ هائجةً فأنتِ لا شكَّ من أهلـي وإخواني
قد كنتُ أشتاقهم والعينُ تنظرهم واعِظْمَ شوقي على بعدٍ وهجرانِ21

         وإنْ تساقَط الثلج وغطّى القمم، أنشدوا مع رشيد أيوب:

يا ثلج قد هيجتَ أشجاني ذكّرتَني أهلي بلبنــان
بالله عني قلْ لإخواني ما زال يرعى حرمةَ العهد22

         وكان الأمل بالعودة لا يفارقهم23، ولو بدا أحياناً كالسراب. وسرعان ما تحوّلت الرغبة في العودة عند بعضهم إلى رفضٍ للبلد الجديد، وكأنّ الأديب يردّ على تجاهل البلد المضيف له بالتجاهل، أو كأنه يحاول أن يقطع ما نبت له في الأرض الغريبة تعجيلاً للعودة المأمولة. فهذا عقل الجُرّ ينادي ربّـه:

أعِدني إلى الأرز يا خالقي فليستْ بلادي هذي البلاد24

         وهذا الشاعر القروي يقارن بين نسيم المحيط في مهجره ونسيم البحر في وطنه، فإذا بالأول يحمل الأسقام والثاني يحمل الشفاء:

يا نسيمَ المحيط ما هكذا في ساحل البحر عندنا الأنسام
أنتَ إن زرتَ في المنام صحيحاً غلغلتْ في عظامـه الأسقام
مشبعٌ بالبخار روحٌ ثقيل باردٌ تستعيذ منـه المسـام
لستَ ذاك الذي عهدتُ يفوح الشيحُ إنْ جرّ ذيلَـه والثمـام
ذاك أزكى شمّاً وألطفُ ضماً ذاك تشفى بلمسه الأجسام25

         ومثل هذا الموقف لا يعبّر عمّا في النسيم بل عمّا في القلب، فقد تحوّل كرهُ الهجرة إلى كراهية لبلد المهجر:

غرسْتُ بلبنانَ ورْدَ الأمَل فقُلْ للبرازيـل أنْ تمحـلا
وجُدْتُ عليه بدمع المُقَلْ فقُلْ للأمـازون أنْ يبخلا
وحلّيتُ قلبي بنبع العسلْ فقُلْ لليالي: أمطري حنظلا26

         وها هو ميخائيل نعيمة في كتاب (المراحل ) يقارن بين نيويورك، تنين البحر والبر، والشخروب مكان عزلته في سفح صنين في لبنان، فيجد السـقم هناك والعــــافية هنا. وها هو يتحدث عن نيويورك في كتابه (زاد المعاد) فيسميها مدينة الآلات والأزمات27 ونجد مثل هذه الأمثلة في كتابات الريحاني ورسائل جبران والكثير من رفاقهم.

         هذا الأسلوب الانفعالي في التعامل مع البلد المضيف لم يكن أسلوبَ أدباء المهجر جميعـاًً. فقد استخدم أدباء آخرون أسلوبَ النقد، لا الرفض، في دفاعهم الواعي واللاواعي عن انتمائهم إلى وطنهم وعن هويتهم العربية. فالنفور من نيويورك لم يكن دائماً لموقف أيديولوجي بل لغلبة المظهر المادي فيها على المظهر الاجتماعي الذي تعوّده المهاجر في بلاده. فمدينة المصانع الكبيرة والجسور الضخمة والضوضاء لا تلائم مألوفَ أبناء القرى، ومعظمُ المهاجرين اللبنانيين كانوا من أبناء القرى. ولا تلائم مَن يبحث عن العزلة والتأمل، وبين المهاجرين عددٌ منهم. فالريحاني ينفر من نيويورك28، كما ينفر من كل مدينة كبيرة. فكتابه (قلب لبنان) الذي ضمّ رحلاته في أنحاء بلده خلال أكثر من ثلاثين سنة، خلا من أي وصف لبيروت رغم مروره فيها. يمكن القول إذن إن نفور الريحاني من المدينة وإيثاره الريف يرتدّ إلى مزاج شخصي، ولكنْ لا بد من ربط هذا المزاج بالجو العام الذي ولّده انتشار الروح الرومانسية بين أدبائنـا.

         مع ذلك لا يمكننا أن ننكر نفور المهاجر من دار غربته، سواء جرى التعبير عنه بالرفض أو بالنقد أو بأي أسلوب آخر. فالمهاجر لم يأتِ من العدم بل من شعب له تصوراته للحياة وما بعد الحياة، وله معاييره للمجتمع والأخلاق. وهذه التصورات المشتركة يعرفها أفراده من دون أن يتعلموها في كتاب، وهي تشكل لهم مرجعية مشتركة. ولكن المرجعية تختلف من بيئة إلى بيئة، ويزداد الاختلاف كلما طالت المسافة الجغرافية بين البيئتين وتدنّت العلاقات بينهما. وهذه المرجعية هي التي تحكم العلاقة بين أبناء البلاد والمهاجرين. فيطلق كل منهما على الآخر أحكاماً قيمية مستمدة من مرجعيته، ويزِن أخلاقَ الآخر وسلوكه وتفكيره بمعاييره المثالية الخاصة، لا بمعايير بشرية كونية جامعة. ولكن قيمة الحكم ليست في ذاتها، بل في فعاليتها وتأثيرها في المحكوم عليه. والحال أن حكم أهل البلاد هو الأفعل لأن المهاجر محتاج إليهم وهم غير محتاجين إليه. لهذا يتحوّل النفور إلى احتقار من هنا وكراهية من هناك. ولا علاج لهذا المسألة سوى الزمن الذي ينمّي في المهاجر الاستعداد للتكيّف.

         ومن وجوه التكيّف لجوء المهاجر إلى البحث عن العزاء في مهجره، على طريقة أبي نواس القائل (وداوِني بالتي كانت هي الداء). فها هو أبو ماضي يتلمّس هذا العزاء فيقول:

ذَريني أضطربُ في الأرض إني رأيتُ السيفَ يصدأُ في القِراب
وما أنا بالغريب الدار وحدي فكلّ الناس عندي في اغتراب29

         وها هو يخاطب نيويورك يريد منها معاملة عادلة تفتح الباب أمام علاقة إيجابية:

نيويورك! يا بنتَ البخار بنا اقصدي فلعلنا بالغرب ننسى المشرقا30

         ومن وجوه التكيّف التغييرُ في المفهوم الاجتماعي. فانخراط المرأة في العمل، والتشريعات التي ساوتها بالرجل، بدّلت مفهوم العلاقات الزوجية عند المهاجرين، وأثرت في الصورة التي كوّنها المهاجر عن رجولته. وانقطاع الروابط بين النواة المهاجرة وشبكة العلاقات الأسرية في الوطن الأصلي جعل فكرة العشيرة والعائلة الواسعة تتلاشى، وولّد مكانها مفهوم الأسرة الضيقة وأنشأ روابط جديدة منطلقة من علاقات العمل والسكن.

         ومن وجوه التكيّف تعلّمُ المهاجر لغةَ البلاد الجديدة واستخدامُها في شؤونه. ولهذا أثر كبير في تغيير شخصيته، لأن اللغة تعكس تصور أهلها للواقع وشؤونه، وتبني التصورات العقلية للمتكلم. وهي في يده منظار يرى من خلاله العالم. والخطر في التكيّف اللغوي ليس في استخدام المهاجر وسيلة تعبير جديدة بل في اعتماده هذه الوسيلة، أي باستخدامها مكانَ اللغة الأم من غير ضرورة.

         ولكن أدباء المهجر لم يتكيّفوا بالشكل الذي يُضيع هويتهم، بل تمسّكوا باللغة العربية في الكلام والكتابة وعالجوا بها كل ما يتّصل بالواقع العربي. وشغلتهم الموضوعات التي شغلت الأدباء في الوطن، فتابعوها، وأدلوا بدلوهم فيها.

         يقول مارون عبود متحدثاً عن جبران خليل جبران:

         إقرأْ جبران في كلّ ما كتب، من (دمعة وابتسامة ) إلى (الأجنحة المتكسرة)، إلى (النبي)، فـ ( يسوع ابن الانسان )، و(آلهة الأرض)، ترَ أنه ... لا يستعير صورةً ولا موضوعاً من مهجره، فكأنه يكتب في محيط شرقي، وكأن أذنيه مسدودتان لا تسمعان ضجيج الدواليب وزئير صواريخ المعامل والبواخر. وهو في أروع ما كتب باللغة الانكليزية لا يتعدّى هذه الحدود، فالليل والناي، والوادي والنهر، والبحر والثلج والضباب مواد منتوجاته الأولى. يذكر البيدرَ والكروم ونواحَ المعصرة، فكأن جرنَ المعصرة كان سريرَه، والضبابَ أقمطته، والبيدرَ ملعب صبوته31.

الألم القومي

         أدّى تكيّف المهجريين الاجتماعي واللغوي، على محدوديته، إلى النظر نظرة عادلة إلى البلد المضيف، وإلى المقارنة بينه وبين المجتمع الذي ينتمون إليه. وسمحت لهم النظرة العادلة برؤية إيجابيات في المجتمع الجديد، وأدّت المقارنة إلى رؤية نقائص في مجتمعهم الأصلي. فآلمتهم هذه النواقص. ولأنهم تماهوا طويلاً بالوطن، صاروا يشعرون كل نقص فيه نقصاً فيهم. وهكذا نشأ وضع جديد توقف فيه المهاجر عن استعادة الوطن من ذاكرة الطفولة ومن مشاعر الحنين، وبدأ يفكر فيه بعقل الرجل المسؤول. فحلّ عنده الألم الوطني مكان الألم الشخصي. وكان أولَ ما فرضته الغيرة الوطنية على أدباء المهجر السعيُ إلى إصلاح المجتمع من خلال غربلة الثقافة السائدة. وطهّر الحنين نظرتهم إلى الوطن فترفّعوا عن الغرض الذاتي. غربل المهجريون الثقافة السائدة في مجتمعهم بغربال الزمن، فنظروا إلى تقاليدهم في ضوء العصر، وإلى أدبهم عبر ما بلغته الآداب العالمية، وإلى مستقبل العرب انطلاقاً من المصلحة القومية. فوجدوا الجمود في الأساليب والموضوعات الأدبية، وفي التقاليد الاجتماعية وعقلية رجال الدين، ووجدوا ما هو أدهى وهو مصانعة النافذين للاحتلال التركي وتغاضيهم عن الانتداب الأجنبي وصمتهم أمام الغزو الصهيوني واغتصاب أرض فلسطين. وبدت لهم هذه العيوب خطيرة.

         لم يكن نقد المهجريين لأمراض مجتمعهم من موحيات العالم الجديد، ولم يكن العلاج الذي قدموه مصنوعاً من أعشاب غريبة. فهذا أمين الريحاني يحمل على البكاء في كتابه( أنتم الشعراء)، فيعيب على الشعراء إسرافهم في النحيب، ويصف لهم شعر أبي العلاء المعري علاجـاً. فقد نأى المعرّي بشعره عن النواح، وتجاوز ألمه الشخصي إلى الألم القومي والانساني، وانتقد ما كان في زمانه من المفاسد والمظالم الاجتماعية والسياسية والدينية. قال الريحاني:

         أريد من شعراء القرن العشرين أن يتمثّلوا في هذا الأيام بشاعر القرن الحادي عشر، شاعرِنا الأكبر المعرّي. (...) وهذا الشاعر الفيلسوف المتألم الذي عرف الحياة (جاهمة سوداء قبيحة ظالمة...) لا يعبس دائماً ولا يتجهّم. فإنّ له في مزاجه شتى المزايا الطيبة، فيجيد ماجناً، كما يجيد ناقماً أو واصفاً أو متأملاً مفكراً 32.

         وهذا ميخائيل نعيمة يحمل في (غرباله) على الأزياء اللغوية، والبهرجة العروضية، و(الوصف السطحي الذي لا يحرّك فكراً في رأس، ولا يرسم صورة في مخيّلة، ولا يهيج عاطفة في قلب)33.

         والعلل التي نبّه إليها المهجريون كثيرة، وأخطر ما فيها أنها تأصّلت في جسم الأمّة فاعتادت عليها وأصبح العلاج صعباً. وجبران يشبّه هذه العلل بالسوس الذي يصيب الأسنان فينخرها ويجعل الحلّ في اقتلاعها، والأمة التي تكون أضراسُها معتلّة تكون معدتها ضعيفة، وكم أمة ذهبت شهيدة عسر الهضم34

         ومن العلل التي دعا المهجريون إلى معالجتها سيطرةُ الخرافة على الكثير من أبناء العامة لغياب التفكير العقلاني35، ومنها أيضاً تقاليد الزواج القائمة على اختيار الأهل لا على رباط الحب36، وقهر الأنثى العاقر37، والتمسك بالألقاب والتباهي بها38. أما أبرز العلل فهي العصبية والتعصّب. وقد أكثر الريحاني من الإشارات إلى ما جرّته العصبية القبلية على العرب. فهي عنده السبب في خسارتهم سيادتهم على أرضهم وعلى البلاد التي افتتحوها. وهي عنده سبب تفرّق شمل العرب وفشل كل محاولة للوحدة. يقول الريحاني واصفاً هذه العصبية وداعياً إلى نبذها:

         (إن الأديانَ كالقبائل تولّدُ تلك الروحَ المحدودة التي لا ترى، في غير شؤونها وفي غير عاداتها وتقاليدها، في غير دائرتها الضيّقة الصغيرة، ما يستحقّ غيرَ الازدراء والكره والذمّ والاضطهاد. فلا خيرَ في العصبية، دينية كانت أو دموية ) 39.

         أما نعيمة فقد وصف سلوكَ المتعصّب وتفكيرَه وصفاً حياً، واعتبر أن دين المتعصب من فمه لا من قلبه. وإليكم هذا التصوير الحي للمتعصب الذي يفهم تعصبه حرصاً على الله الذي يتمهّل في الدفاع عن نفسه:

         (ومَنْ كان دينُه من فمه دون قلبه كان قيّماً على ربه لا ربُّه قيماً عليه. فكأنه يقول لله: لقد آمنتُ بك يا الله وبعلمك وعدلك وقدرتك. لكنني أعرَف منك بسياسة عبادك. فسأجعل كلّ الناس يعرفونك مثلما عرفتُك، ويعبدونك مثلما أعبـدك. ومن شذّ منهم قتلتُه، إنْ لم يكنْ بساعدي فببغضي وانتقامي. ولكنني أعدَل منك. وعدلي في أن أرحم من جاراني في عبادتك، وأقتصّ ممن عاندني وناوأني...40.

         وربما كان هذا التعصب من أكثر الموضوعات الاجتماعية التي انصبّ عليها نقد المهجريين. وقد توسعوا في نقده فصوّروا دور رجال الدين في تغذيته وفي تعميق الهوة بين الطوائف وبين الأديان، وصوّروا رياء المتدينين الذين يتاجرون بالدين، ومادية إيمانهم المبني على مبدأ المقايضة. يقول جبران في المواكب:

والدين في الناس حقلٌ ليس يزرعُه غيرُ الألى لهمُ في زرعـه وطَـرُ
مِنْ آملٍ بنعيم الخلـد مبتشــرٍ ومن جَهول يخاف النارَ تستعـر
فالقوم لولا عقاب البعث ما عبدوا ربـاً ولولا الثواب المرتجى كفَروا
كأنما الدينُ ضربٌ من متاجرهم إن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا41

         أما في الشأن القومي فقد أثبت هؤلاء الأدباء غيرتهم على وطنهم من خلال الدفاع عن حقوق شعبهم والسعي إلى إنهاضه وحثه على التمسك بشخصيته ومصالحه. فكان احتلال الأتراك العثمانيين للبلاد العربية، واغتصابهم لواء الاسكندرون، وشنقهم للأحرار في بيروت ودمشق، وحصارهم جبل لبنان وتجويع أهله، وكذلك الانتداب الفرنسي والانكليزي، والغزو الصهيوني لفلسطين واغتصاب أرضها، من الموضوعات التي اهتم لها أدباء المهجر.

         نبّه جبران أبناء شعبه من العرب إلى ما أوقعهم فيه الأتراك الذين استغلوا الدين للسيطرة عليهم، فصوروا لهم الاسلام قومية بينما هو عقيدة. وتوجّه إلى المؤيدين للاحتلال موّعياً ومنبّهاً من اليد التي هدمت مباني أمجادكم، بل هي الموت الذي يراود وجودكم ؟

         أولم تنتهِ المدنية الإسلامية ببدء الفتوحات العثمانية ؟

         أولم يتقهقر أمراء العرب بظهور سلاطين المغول ؟42.

         وختم مقالته بهذا التحذير:

         إن لم يتغلب الاسلام على الدولة العثمانية فسوف تتغلب أمم الافرنج على الإسلام .. إن لم يقمْ فيكم من ينصر الاسلام على عدوّه الداخلي، فلا ينقضي هذا الجيل إلا والشرق في قبضة ذوي الوجوه البائخة والعيون الزرقاء43.

         ونادى جورج عساف العرب من الأرجنتين للنهوض ضد الاحتلال التركي فقد طال بؤسهم من هذا الاحتلال الذي حرمهم كلّ عزّ:

جفّ المداد فكم أنادي أمة معصوبةَ العينين كالعميان
لولا تخاذلكم لما بتّم بلا عزّ ولا ملك ولا سلطان
فانهار ملكُكم، فلا في جلّقٍ منكم خليفُتكم ولا بغدان44.

وهاجم الياس فرحات رجال الدين الذين يثورون إذا ما قصّر أحد في نوافل الدين ويسكتون أمام اغتصاب لواء الاسكندرون وفلسطين:

لا يفهمون الدين إلا جبّةً وعمامة وتنطعاً وهـراء
أن يخسر الوطنُ اللواءَ وأختَه وسواهما، فالأمر ليس بلاء
أما إذا نقض الوضوء فنكبة تذري الجبال وتغمر الأوداء45.

         وأثارتهم قضية فلسطين، فبرز لها أمين الريحاني يجول في ولايات أمريكا يلقي المحاضرات ويقيم المناظرات مبيناً حق الفلسطينيين في أرضهم وبطلان ادعاء اليهود. وقام الشاعر القروي يهيج النفوس ويحمل على بلفور صاحب الوعد المشئوم ويطالبه إن كان يريد الاحسان بأن يُحسن من جيبه لا من جيب سواه:

الحق منك ومن وعودك أكبر فاحسب حساب الحق يا متجبر
تعد الوعود وتقتضي إنجازها مهجَ العباد، خسئت يا مستعمر
لو كنتَ من أهل المكارم لم تكن من جيب غيرك محسناً يا بلفر46.

         وكثرت الكتابات التي تحض العرب على النهوض ونبذ التخاذل والضعف وعلى التسلّح بالقوة لأنها وحدها السبيل إلى حماية الأرض والكرامة الوطنية. واختصر الريحاني كل ذلك في قصيدته، (أنا الشرق)، التي ألقاها خلال الاحتفال الذي أقامه أدباء مصر لتكريمه، فعبر عن حاجة العرب إلى القوة أكثر من الفلسفات والعقائد:

         أنا الشرق، عندي فلسفات وعندي ديانات فمن يبيعني بها طيارات ؟! 47

الألم الانساني

         بعد (المحالفة الثلاثية) (والمكاري والكاهن) و(القوميات) و(الريحانيات) هدأ الريحاني فجاءنا بكتاب (خالد). وبعد (العواصف) و(الأرواح المتمردة) هدأ جبران وبحث عن الحكمة في قلبه فجاءنا بكتاب (النبي). وبعد (المراحل) و(دروب) و(مذكرات الأرقش) استكمل نعيمة صورة الحكمة فوافانا بها في كتابه (مرداد).

         (إن شمس الحكمة لتحتجب غالباً عند هبوب الزوابع والأعاصير. فمن الأنفس المنفردة الهادئة السامية ينبثق نور الحقيقة والحكمة والحب48).

         فالغربة التي أحسوها في بلاد هجرتهم تحوّلت مع الزمن إلى غربة شاملة، وحماسةُ الشباب التي رافقت دعوتهم إلى الاصلاح هدأت واكتسبت وقار الشيوخ. وتراجعت الثورة عندهم كطريق للإصلاح وحلّ محلها الترقي العقلي. ولكن الترقي ليس طريق شعب واحد بل البشر أجمعين. لهذا تحوّل خطاب أدباء المهجر، وخصوصاً الريحاني ونعيمة وجبران، إلى خطاب إنساني شامل.

         سبق هذا التحوّل ورافقه ميلٌ واضح عند هؤلاء إلى العزلة. ولم تكن غايتهم من العزلة الهروب من الناس، بل التأمل. فالانخراط في الواقع يحصرهم في دائرة واقع واحد، ويحدّ خيالهم فيمنعه من اكتشاف مفاتيح المعاني التي تحملها المعتقدات. وقد فتح لهم اطلاعهم على ثقافات عديدة آفاقاً للنظر لا تنحصر، وقادهم التأمل إلى الخروج من الدائرة التي رسمتها لهم ولادتهم فتجاوزوا ذواتهم وعقائد أهلهم وحدود وطنهم. مع ذلك لم يشفَ هؤلاء تماماً من أنفسهم. فحين طلبوا العزلة للتأمل لم يبحثوا عنها في مهجرهم بل آثروا العودة إلى بلادهم والانعزال فيها. فربما بدا لهم أن التأمل الروحي لا يكون إلا حيث تركوا أرواحهم. وقد وصف هؤلاء عزلتهم في أماكن مختلفة من كتبهم وبيّنوا السبب والغاية. يقول أمين الريحاني في مقالة له بعنوان (العزلة):

         أوقفتُ عملي وخرجت .. لأرى أين أنا من نفسي ومن الله .. تألمت كثيراً لما رأيتُني في الغربة بين شعب لا يعرف معنى السكينة ولا الراحة ولا الجمال.. فخرجت من بينهم وأنا على اعتقاد أن المرء إذ قرب من العالم الجديد يبعد عن الطبيعة وعن الشعر وعن الجمال الروحي وعن الله .. عدت إلى مسقط رأسي باحثاً عما أضعته هناك أيام الصبا.. طالباً فيه راحة العقل وراحة النفس وراحة الجسد، بل طالباً فيه شيئاً أشرف من كل ذلك وأسمى، طالباً فيه الطبيعة 49.

         وإذا كان الريحاني ونعيمة قد عادا إلى لبنان، بل عاد كل منهما إلى قريته منعزلاً متأملاً، فإن حلم جبران بالعودة إلى بلدته والعزلة في دير مار سركيس القائم إلى جوارها، وهو ما ردّده في رسائله، لم يتحقق في حياته. فبقي في نيويورك وحيداً غريباً، وكبرت الوحشة في نفسه فهتف:

         (أنا غريب في هذا العالم. وفي الغربة وحشة موجعة تجعلني أفكر أبداً بوطن سحري لا أعرفه وتملأ أحلامي أشباح أرض قصية ما رأتها عيناي50) ونراه يتلمّس هذا الوطنَ السحري في قصيدته (البلاد المحجوبة)، فإذا هو وطن يشعّ على الأرواح بنوره وتتعشّقه القلوب، ولا وجود له في ناحية من نواحي الأرض. ولكن هذا الوطن السحري، المحجوب عن البصر والمنكشف لبصيرة المتأمل فيه، لم يكن واحداً عند المهجريين، أو هو واحد ولكن كلاً منهم أبصر الجانب الذي يبحث عنه. وقد رسم كلّ من جبران والريحاني ونعيمة وطنه المثالي في كتاب، فظهرت ثلاثة كتب ترسم لنا صور ثلاث جمهوريات فاضلة. وكان الريحاني الأسبق، فرسم جمهوريته في كتاب (خالد)، ثم تبعه جبران في كتاب (النبي)، فنعيمه في كتابه (مرداد). ونلاحظ أن هذه الكتب الثلاثة كُتبت بالانكليزية لا بالعربية، لأن أصحابها لم يتوجّهوا بها إلى قومهم بل إلى البشر أجمعين51. فقد أثمرت نفوسهم بعد كل هذا التأمّل وهذا الألم الشخصي والقومي والانساني، ونضجت ثمارها وحان القطاف. وقد عبّر جبران عن هذا الشعور في مقالة له في (البدائع والطرائف) قال فيها:

         نفسي مثقلة بأثمارها فهل من جائع يجني ويأكل ويشبع ؟

         أليس بين الناس من صائم رؤوف يفطر على نتاجي ويريحني من أعباء خصبي وغزارتي؟ ..

         ألا ليتني كنت شجرة لا تزهر، ولا تثمر، فألم الخصب أمرّ من ألم العقم، وأوجاع ميسور لا يؤخذ منه أشدّ هولاً من قنوط فقير لا يُرزق 52. هذا الألم الانساني هو ألم المخاض. فعزلة الريحاني ونعيمة في أحضان الطبيعة، وعزلة جبران في محترفه، كانتا فترة الحمْل التي سبقت الولادة. وها هو الموعد قد اقترب. أما الانسان في هذه الكتب الثلاثة فتلوّن بلون الغذاء الذي نما عليه: وغذاؤه كان من عطاء الأرض التي انطلق منها مؤلفُه، ومن ثمار الفكر البشري الذي طالعه، ومن عصارة التأمل الذي رافق عزلته.

         يضعنا الريحاني في (كتاب خالد) أمام عالمين متميزين، الغرب والشرق، وبالأحرى أميركا والبلاد العربية. والتمايز لا يعني الصدام بل الاحتكاك الذي يولّد شرارات الفكر. ومن هذه الشرارات تكوَّن النور الذي حمله لهداية أمته 53 الشرق والغرب، الذكر والأنثى لدى الروح (الكونية)... إن الكائن الأشد تطوراً على نحو رفيع ليس أوروبياً ولا شرقياً، بل بالأحرى من يشارك في الصفات والمزايا الممتازة لكل من العبقري الأوروبي والنبي الآسيوي 54. ويأخذ الكتاب بأسلوب السيرة الغيرية55 ليضع أمامنا شخصية خالد، ويسلّط الضوء على تكوّنها الثقافي والعقلي والروحي، ويعرض لنا أفكارها من خلال حركتها داخل المجتمعات التي عاشت فيها.

         أما كتاب (النبي) فيتجاوز المكان إلى الإنسان. فبطله نبي من الشرق يعيش في الغـرب. والكتاب يبدأ عندما حانت ساعة الرحيل. في هذه الساعة يتجمع الناس حوله يسألونه وهو يجيب 56. لهذا كان للكتاب هذه الصورة التعليمية. ولا شك أن ما علّمه جبران في (النبي) كان حصاداً من الشرق ومن الغـرب. ولا أعني بالغرب ما نلمحه من تشابه بسيط في الإخراج بين كتاب (النبي) وكتاب (هكذا تكلم زرادشت) لنيتشه. فقد توجّه نيتشه في كتابه إلى الجمهور تارة وأصدقائه طوراً وحدّثهم عن الصداقة والموت والجسد والعفة الخ .. ووضع كلامه على لسان حكيم من الشرق واعتبر عمله بمثابة إنجيل خامس، أي كتاب موحى. ولكن كتابه جاء بعيداً عن روح إنجيل المسيح. أما جبران فبشر بالقيم الإيجابية التي بشر بها المسيح، وشدّد مثله على المحبة والعطاء والتواضع والترفّع.

         ولا يختلف (كتاب مرداد) عن الكتابين السابقين لجهة الملامح الشرقية فيه. فنعيمه يعود زمنياً إلى بداية الخليقة ومكانياً إلى الشرق ليصوغ قصة خيالية تأخذ من فلك نوح مدخلاً لها. وقد استعار الكثير من حوادث الانجيل وأسلوبه ليضع تعاليمه في إطار مقدسات الشرق الذي تغذى منه. ويتشابه (كتاب خالد) و(كتاب مرداد) في أنهما كتاب في كتاب، فراوي الكتاب الأول يقدم لنا (مخطوطاً) عثر عليه محفوظاً في المكتبة الخديوية بمصر، وراوي الكتاب الثاني يقدم لنا (مخطوطاً) كان بانتظاره منذ أجيال. ويتشابهان أيضاً في أن لهما شكل السيرة الغيرية، فكتاب خالد دوّنه صديقه شكيب، وكتاب مرداد دوّنه تلميذه نروندا. ويتشابهان أخيراً في أن كلاً من خالد ومرداد يعبر، في الحقيقة، عما انتهى إليه تفكير مؤلفه في الانسان والله. من جهة أخرى، يتشابه (كتاب مرداد) و(النبي) في أسلوبهما التعليمي، فمرداد أيضاً يقف بين رفاقه السبعة يسألونه فيجيب: عن الانسان، والله، والدينونة، والصلاة، والمال، والإيمان، والزواج، والحرب والسلم، الخ.. أما الروح الطاغية في الكتاب فهي الوحدة الكونية:

         (ما أغرب هذه الأنا التي وُلِدت لآدم حالما انفتحت عيناه، والتي راحت ترى ذاتها غير ذات حواء، وغير ذات الله، وغير كل مخلوقات الله! لكنها ما كانت غير وهْم صوّرتْه العين المنفتحة حديثاً. فلا جوهر فيها ولا حقيقة لها. وهي ما وُلِدت لآدم إلا ليعرف بموتها ذاته الحقّة التي هي ذات الله)57.

         وتتميز هذه الكتب الثلاثة بالطابع المثالي الذي يَسِم الكتب الدينية عموماً، وبأن بطلها ينتمي إلى مكان ولا ينتمي إلى أي مكان في وقت واحـد. فهو ابن الطبيعة والانسان، بل هو شاعر يغني للكون وللإنسان الأعلى (السوبرمان).

         والله الذي يتكلّم عنه هؤلاء الثلاثة ليس الله الذي تكلمت عنه الأديان، بل هو المطلق الماورائي الذي يتطلّع إليه البطل ومؤلفُه. إنه المطلق الذي يشعر به المؤلفُ في داخله، ويحاول بلوغَه بالرغم مما يتطلّب ذلك من الجهد. وهو يشعر أنه مشدود إليه، منجذب نحوه بقوة لا تقاوَم. ويذكّرنا هذا الانجذاب بالمغامرين الذين يندفعون إلى تسلق القمم العالية، كقمة إيفرست، رغم ما في ذلك من العذاب والخطر. وكثيراً ما نتساءل متعجبين: ماذا يجذب هؤلاء في القمم الشاهقة، ما الأصوات التي تناديهم وتملأ نفوسهم حماسة، ما مصدرها ؟ ما هذا الشعور الذي يحسّه الواقف في القمة وهو يغرز علمه في الأرض؟ إن هذا لا يمكن من دون دافع داخلي أشد قوة من الحرمان والعذاب والخطر والوحدة التي يعيش فيها المتسلّق المغامر.

         يمكن القول إذن إنّ الإلهي في كتابات المهجريين الثلاثة نابع من الانسان، من إحساسٍ لديه بأنه يحمل في داخله حقيقة لا يمكنه سترها، أو رسالةً ينبغي عليه نشرها. إنه شعور المرسَل، أو على الأقل الملهَم. وقد أوضح الريحاني هذا الاحساس حين اعتبر أن الإلهام لا يقتصر على الأنبياء، وأن العباقرة الذين حقّقوا للبشر التقدّم هم أيضاً من الملهمين.

         وفي هذه المرحلة الأخيرة، مرحلة المرسَلين، يبلغ الانشطار مداه، ويتحوّل الألم إلى ألم روحي محضّ، لأن الوطن المتروك ليس من هذا العالم. فإذا كان الجسد يعتاد الغربة، والفكر يعتاد السفر بين المناهل الكثيرة بحيث يصير ابن الأرض بكاملها، فإن الروح تبقى مشدودة إلى أصلها.لم تعد الهجرة عند المهجريين الثلاثة تعني الانتقال الجسدي. صارت الروح هي التي تسافر، وفي سفرها انسلاخ عن عالمها المألوف وألم. ولكن الروح عندهم تعود، وفي كل عودة تتقمّص جسداً جديداً. ولكنها تتعرّض عند كل عودة لانشطار جديد، مما يجعل ألمها ألماً دائماً.

د. لطيف زيتوني
الجامعة اللبنانية الأميركية - بيروت
العنوان:
- الجامعة اللبنانية الأميركية
- ص ب 5053 - 13 شوران، بيروت 2801 1102 لبنان
- بريد ألكتروني [email protected]
- فاكس: 9611867098 - 9611603703
- هاتف محمول: 961-3-881005

1. انظر ميخائيل نعيمة : البيادر، المجموعة الكاملة، دار العلم للملايين، المجلد الرابع، ص 502
2. جورج صيدح: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1964، ص 18
3. إيليل أبو ماضي: ديوان إيليا أبو ماضي، دار العودة، بيروت، لا ت.، ص 726
4. تجد وصفاً لطريقة سفر المهاجر وسوءالمعاملة التي كان يلقاها على متن الباخرة وفي البلد الذي يصل إليه في (كتاب خالد) لأمين الريحاني، الفصل الثالث والرابع.
5. علي بن الجهم : ديوان علي بن الجهم، تحقيق خليل مردم بك، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، 1949، ص 154 وانظر كتاب أدب الغرباء لأبي الفرج الأصبهاني، دار الكتاب الجديد، بيروت 1972، ص 60
6. جورج صيدح: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية، مرجع سابق، ص 39
7. جورج صيدح ، أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية، مرجع سابق، ص 37
8. الشاعر القروي : الأعمال الكاملة، الشعر، جروس برس، طرابلس لبنان، لا ت. ص 234
9. عيسى الناعوري: أدب المهجر، دار المعارف بمصر، 1959، ص 75- 76 .
10. جورج صيدح: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية، مرجع سابق، ص 37
11. المرجع نفسه، ص 35
12. جميل جبر: مي وجبران، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1950 ، ص 46 . وشبيه بهذا المعنى ما عبر عنه قيصر سليم الخوري الملقب بالشاعر المدني وكان مهاجراً في البرازيل:

يا برازيل لو دعتني بلادي يوم لا عذر لي سوى أن أسافر
لست أدري وقد بذرت شبابي فيك هل عائد أنا أم مهاجر
انظر جورج صيدح: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية، مرجع سابق، ص 23
13. إيليا أبو ماضي: ديوان إيليا أبو ماضي، مرجع سابق، ص 155
14. جورج صيدح: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية، مرجع سابق، ص 79
15. يعبر الحنين عموماً عن حالتين نفسيتين مختلفتين ومتقاطعتين أحياناً. الأولى هي حالة اكتئاب تمثل فيها العودة إلى الوضع السابق أولوية قصوى، سواء تعلق هذا الوضع ببلد أوبجماعة بشرية، وتتخذ هذه الحالة صورة مأتم غير مكتمل لأنه يستحيل التخلي عن الفقيد والقبول بأي بديل. الثانية، الأكثر شيوعاً، هي وسيلة للمحافظة على علاقتنا بالأشياء من أجل ضمان استمرار الذات وحمايتها من التفكك والضياع.
16. الشاعر القروي: الأعمال الكاملة، الشعر، مرجع سابق، ص 234
17. نعمة قازان: معلقة الأرز، أنظر: عيسى الناعوري: أدب المهجر، دار المعارف بمصر، 1959، ص 74
18. يرى كانط أن الوطن الذي يتجه إليه الحنين ليس سوى رمز مكاني للطفولة، لِما كان ولم يعد كائناً. فما نحنّ إليه ليس الغائب الذي يقابل الموجود، بل الماضي الذي يقابل الحاضر. فالحنين، في الأساس، حالة تكون فيها ذاتنا الماضية نائمة فتستيقظ وتتحرك وتنادي. (أنظر كتابه: (l' Anthropologie du point de vue pragmatique, Paris, 1964, p740)
19. يرافق الحنين دائماً عملية تجميل تمنح الغائب صفات مثالية مما يزيد الرغبة باسترجاعه ولو في الخيال. وترافقه أيضاً عملية انتقاء تحذف من الغائب كل وجه سلبي وتحفظ الإيجابي وحده، وعملية تحويل تبدّل دلالة الحدث المستعاد، وعملية خلق أحياناً تؤدي إلى إبداع أحداث وجود لها.
20. عيسى الناعوري، أدب المهجر، ص 77 ، (البيت للياس فرحات)
21. المرجع السابق، ص 78- 79 ، (البيت لنسيب عريضة).
22. رشيد أيوب: أغاني الدرويش، دار صادر ودار بيروت، 1959، ص 128
23. يقول الياس طعمة مناجياً الوطن مناجاة اليائس من العودة إليه:
قد ذاب يا لبنان قلبي في النوى فمتى بعَود تسمح الأيام
انظر عيسى الناعوري، أدب المهجر، ص81
24. عقل الجر : ديوان عقل الجر، دار الثقافة، بيروت، لا ت. ص53
25. الشاعر القروي: الأعمال الكاملة، الشعر، مرجع سابق، ص 381
26. الشاعر القروي: الأعاصير، دار الآداب، بيروت، 1962، ص 33
27. انظر المجموعة الكاملة، ص51، وص 142
28. انظر مواضع كثيرة من كتابيه : الريحانيات، وكتاب خالد
29. إيليا أبو ماضي: ديوان إيليا أبو ماضي، مرجع سابق، 68
30. المرجع نفسه والصفحة نفسها.
31. سهيل بشروئي: جبران خليل جبران، مختارات ودراسات، دار المشرق، بيروت، 197.، ص 1.5
32. الريحاني : أنتم الشعراء، مكتبة الكشاف بيروت لا تاريخ ص 46
33. نعيمة: الغربال، دار صادر ودار بيروت، بيروت 196.، ص 149
34. جبران: العواصف، المجموعة الكاملة، دار صادر ودار بيروت، 1964، ص 420
35. انظر نعيمة: كان ما كان، أقصوصة الذخيرة
36. جبران في عرائس المروج، والارواح المتمردة و الأجنحة المتكسرة.
37. انظر نعيمة في أقصوصة العاقر في مجموعته كان ما كان.
38. انظر نعيمة في كان ما كان، وفي دروب.
39. الريحاني: الريحانيات، دار ريحاني، بيروت، طبعة ثالثة 1956، ص 237
40. ميخائيل نعيمة: البيادر، المجموعة الكاملة، دار العلم للملايين، بيروت 1971، ص 558
41. جبران: المواكب، المجموعة الكاملة، دار صادر ودار بيروت، 1964، ص 355
42. الفنون 1913، العدد 8 ص 37 ، أنظر النص في كتاب نبيل كرامة : جبران والقومية العربية، ص 31-33
43. المرجع نفسه، ص 33
44. جورج صيدح: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية، مرجع سابق، ص 139
45. المرجع نفسه، ص 80
46. الشاعر القروي : الأعاصير، مرجع سابق، ص 68
47. الريحاني : هتاف الأودية، دار ريحاني، بيروت، 1955، ص 84
48. الريحاني: الريحانيات، مرجع سابق، الجزء الأول ، ص 127-128
49. المرجع السابق، ص 117- 119
50 جبران : العواصف، المجموعة الكاملة، مرجع سابق، ص 487
51. يسمي الريحاني جمهوريته (مملكة الروح) ويطلق عل كتابه اسم (المدخل) إنه حقاً مدخل. والدعوة موجّهة إلى شعب معين وإلى كافة الشعوب لكي يعبر الجميع هذا المدخل صاعدين نحو ذلك الهيكل الأسمى، هيكل العقل والروح الريحاني: كتاب خالد، ترجمة أسعد رزوق، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص 14 و15 ).
52. جبران: البدائع والطرائف، المجموعة الكاملة، ص 499-500
53. يتوقف خالد طويلاً عن جملة كتبها محرّر صحفي دمشقي يصفه فيها (الرجل المرتقب أو المنتظر - والقائد الحقيقي والمحرّر الفعلي- الذي يجمع في شخصه روح الشرق وعقل الغرب، والباني لإمبراطورية آسيوية عظمى) ويقول إنه كشف أعمق أهدافه وغاياته (كتاب خالد، مرجع سابق، ص 305).
54. أمين الريحاني: كتاب خالد، مرجع سابق، ص 305 .
55. يشير الريحاني إلى فائدة هذا الأسلوب في مفتتح أحد فصول كتابه فيقول: لو ان خالداً في اعتزاله لم يمزج نشواته وشطحاته الفلسفية بشيء من اللون المحلّي، ولو انه لم يروِ قصة جولته التسكعية (سيراً على القدمين) في جبال لبنان، لما أمكن سدّ الثغرة في كتاب (التاريخ الحميم) لمؤلفه شكيب. ولكان من شأن الكتاب، وهذا ما يغيظنا ويحزننا فعلاً، أن يبقى مثل ذلك الوادي شديد الانحدار حيث كاد خالد أن يفقد حياته (كتاب خالد، مرجع سابق، ص 281)
56. وحيته المرأة بشغف وقالت: يا نبيّ الله، يا مَن سعى وراء أسمى الغايات. يا مَن ظلّ يتطلع إلى الآفاق بحثاً عن سفينته. ها هي ذي قد آبت، وأصبح رحيلك أمراً محتوماً .. غير أنّا سائلوك قبل أن ترحل عنا أن تتحدّث إلينا، فتزوّدنا مما عندك من الحق. وسنزوّده أبناءنا من بعدنا، وسيزوّدونه هم أبناءهم من بعدهم، فلن يبيد. (جبران: النبي، ترجمة ثروت عكاشة، دار المعارف بمصر، ط2، 1966، ص 66).
57. ميخائيل نعيمة: كتاب مرداد، منارة وميناء، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1966، ص 272