ملتقيات العربي

ندوة حوار المشارقة والمغاربة

اليوم الثاني الجلسة المسائية الثانية

أبحاث الفترة المسائية الثانية ليوم الأحد
رئيس الجلسة: الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين رئيس مؤسسة البابطين للإبداع الشعري
الولع الحضاري لدى السندباد العصري
دكتور/ صلاح فضل

         يعلن حسين فوزي في كتابه الأول ضمن سلسلة سندبادياته التي بلغت سبعة كتب، وقد نشره عام 1938 بعنوان (سندباد عصري): جولات في المحيط الهندي يعلن استراتيجيته الثقافية دون مواربة، في هذا الإهداء الذي يمهره بتوقيعه الخطّي:

         درجت على حب الغرب، والإعجاب بحضارة الغرب، وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا، فتمكّنت أواصر حبي، وتقوّت دعائم إعجابي. فلما ذهبت إلى الشرق: عدت إلى بلادي وقد استحال الحب والإعجاب إيمانا بكل ما هو غربي.

         ومن يومها أصبح حسين فوزي، بين أبناء جيله من رواد النهضة الثقافية، نموذجا للمفكر المصري المولع بحضارة الغرب، يتغنى بعلومها وآدابها وفنونها على السواء، ويبقى رحيق إيمانه لقرّاء مقالاته وكتبه، ومستمعي برامجه الإذاعية في التحليل المدهش لروائع فنون الموسيقى الغربية.

         وإذا كانت علاقتنا اليوم بالغرب، تمر فكريا وثقافيا بأزمة ثقة متبادلة، تتجاوز في خطورتها ما شهدته إبان المد الاستعماري في مطلع العصر الحديث، من تجاور العناق والطعن، فإن لنا أن نتساءل عن حدود هذا الإيمان وبواعثه، وشروطه ونتائجه، وعلاقته برؤية الهوية وتمثل المصير، وكيف أسهم في تشكيل وعينا بالماضي والمستقبل.

بذرة الافتتان:

         كان حسين فوزي قد ولد في تباشير مطلع القرن العشرين عام 1900في حيّ الحسين بالقاهرة المعزّية. وقد حفظ القرآن الكريم في الكتاب بعد انتقال أسرته إلى حيّ باب الشعرية المجاور، ثم حصل على الشهادة الإبتدائية من المدارس المدنية، ومن بعدها التوجيهية عام 1917، ودخل مدرسة الطب، ولم تلبث أن أدركته ثورة 1919 فاشترك فاعلا في أحداثها ومظاهراتها، ثم حصل على بكالوريوس الطب عام 1923 وعمل طبيبا للعيون في القاهرة وطنطا، ولكن مسيرة حياته لم تلبث أن تبدلت عندما ابتعث إلى فرنسا في عام 1925 لدراسة الأحياء المائية وعلوم البحار. وحصل على بكالوريوس العلوم من جامعة السوربون، وتزوج من زميلة دراسة فرنسية، رافقته خلال رحلة حياته، وعند عودته إلى الوطن أوائل الثلاثينيات أسس معهد علوم البحار والبيطرة، ثم اشترك بعد بعثته في رحلة الباخرة ((مباحث)) التي جابت البحر الأحمر والمحيط الهندي لمدة تسعة شهور، لإجراء أبحاث علمية متعددة سجلها في كتابه الذي أشرنا إليه، وظل يعمل في ميدان العلوم البحرية حتى أسند إليه تأسيس أول كلية للعلوم بجامعة الاسكندرية تحت إشراف طه حسين عام 1942، وبعد قيام الثورة عين عام 1955 وكيلا لوزارة الثقافة، ثم اشترك مع ثروت عكاشة في تأسيس أكاديمية الفنون وعمل رئيسا لها عام 1965، وانتقل إلى رئاسة الأكاديمية المصرية عام 1968 قبل أن يتفرغ للتأليف العلمي والريادة الموسيقية حتى وفاته عام 1988.

         ولأنه قد سجل تاريخ حياته الفكري والروحي في كتابه الشائق ((سندباد في رحلة الحياة))الذي أصدره في يونيو 1968 فقد كشف فيه عن بذرة افتتانه بالثقافة الأوربية منذ مراحل تعليمه الأولى في العقد الثاني من القرن العشرين، ويجدر بنا أن نتأمل هذه الجذور لندرك طبيعتها المشتركة لدى أبناء جيله، والأجيال التالية حتى يومنا هذا، وتقف على مستويات التناغم في المكونات الأولى للشخصية المصرية والعربية المعاصرة. وإذا كان تحليله المتأخر لهذه المكونات يصطبغ برؤيته في الشيخوخة، إذ لم يتم إبان شرخ الشباب كما فعل طه حسين في ((أيامه)) فإنه يكتسب بذلك طابع الاعتراف الصادق دون مكابرة أو تأنق أدبي. يحكي حسين فوزي أنه ما إن بدأ بدراسة الأدب العربي في ((السعيدية الثانوية)) حتى اندفع يطالع أعلام هذا الأدب في دواوينهم وخطبهم ورسائلهم، ثم حدث أن اتسعت معارفه في اللغة الانجليزية حتى استطاع أن يطالع القصص والقصائد المشهورة فيها، ولم يكتف بما وضعت نظارة المعارف بين يديه من مجموعات شعرية، بل اقتنى ((الخزانة الذهبية)) جمع ((بالجريف)) والتهم منتخباتها التهاما، بفهم ناقص يكمله تأثره بموسيقى الشعر وأوزانه. وكلما تقدمت بنا الدراسة، واتسع الاطلاع نضج الفهم فإذا بالأدب الأجنبي يجتذب التلميذ إليه بقوة، ولا غرابة في هذا لأن الأدب الأجنبي الذي ألقى إليه يرتد إلى القرن السابع عشر، وأغلبه من التاسع عشر فالقرن العشرين، بينما الأدب العربي يعبر عن مشاعر ويصوّر أفكار قرون غابرة، ربما كان أقربها إلينا القرن الحادي عشر، والأمر هنا لا علاقة له بقومية أو وطنية، فلغتنا هي العربية، آمنا، وكنوز العربية ما أروعها وأبلغها!ولكنها تعبر عن وجدان أهل لنا بعيدين عنا جدا في الزمان، فالفارق هنا ليس بين شعب وشعب، بل هو فارق إدراك وإحساس، وطريقة في التعبير عن خوالج الإنسان: أقرب إلينا في الأدب الأوربي لمجرد تقارب الزمان الذي تعبر عنه، ويضيف حسين فوزي إلى هذا العامل التاريخي عوامل فنية أخرى تتصل بتنوع الآداب الغربية من قصة ورواية ومسرحية، إلى جانب الشعر الذي يقف وحده في الثقافة المدرسية العربية، ويطالب بأن تشمل مختارات النصوص العربية صفحات وضيئة تحفل بجوانب الحضارة العربية الإسلامية، من التاريخ والفلسفة والعلوم والفنون والرحلات، حتى تضارع تلك النصوص الثرية بعوالمها وتجاربها في الثقافات الأجنبية، وأعتقد أن بوسعها أن نذهب إلى أبعد من ذلك في تقديمنا للجوانب الفاتنة من تراثنا الأدبي في المناهج التعليمية حتى يتوازى التكوين العقلي والوجداني للشباب العربي، بوسعنا أن نعدل عن هذا النموذج التاريخي الصارم في البدء بالعصور القديمة فحسب، مما يباعدالشقّة ويجافي الألفة، بأن نضع إلى جانب الشعر بدايات القصة والمسرح والفنون الأخرى في المراحل المختلفة، مما يحبب الشبيبة في تراثها، ويكشف عن مذحورها الحضاري المنوع الخلاق، لا لنتفادى بذرة الإعجاب بالغرب التي كشف حسين فوزي عن تربتها، ولكن لنمد دائرة الإعجاب لتشمل الإنجاز الحضاري للإنسان في الشرق والغرب معا، والوعي التاريخي العميق بإسهامنا المبدع في هذا الإنجاز، فتكوين الكفاءة اللغوية والأدبية العالية وبلورة منظومة القيم الرفيعة لا تتأتى بالتجهيل بالآخر وغمطه دوره ومناجزته بالتفاخر المعيب.

قناع السندباد

         اتكأ حسين فوزي طيلة حياته العلمية والفكرية على قناع أسطوري اكتشفه في التراث العربي المصري، ووظّفه بمهارة عالية، لتمثيل شغفه بالعلم، وتوقه إلى رحلات البحر، وإمعانه في كشف أسرار عجائبه ومخلوقاته في عصر الأنوار الإنسانية. مضمرا بذلك حسّا أدبيا رفيعا، وقدرة فنية عالية. وقصة السندباد كما يرى حسين فوزي هي القصة البحرية الكبرى في الأدب العربي طبقا لألف ليلة وليلة. وهي فوق هذا واحدة من أهم قصص البحار في آداب العالم. ولو لم يحتو كتاب ألف ليلة على قصة عبدالله البري والبحري لكانت قصة السندباد هي القصة البحرية الكاملة الوحيدة في اللغة العربية. بيد أن البحر في قصة عبدالله كان وسيلة إلى غاية هي العرض الفلسفي، أما البحر في قصة السندباد فهو الغاية التي تنتهي إليها القصة، البحر هو بطلها، أو هي على حد تعبيره حوار بين اثنين: البحر والسندباد. حوار يتطور من الهدوء إلى العنف، ومن تبادل الود إلى تداول الكلمات والمناجزة والصراع.

         وقد بذل حسين فوزي جهدا علميا فائقا في كتابه (حديث السندباد القديم) 1943 لتأصيل رحلات السندباد، طبقا للمعارف الجغرافية وكتب العجائب السابقة عليه في الثقافة العربية، ليثبت أن من قام بتأليفه على هذه الصورة المكتملة ينتمي إلى هذه الثقافة الغنية، إذ يتبين له من مجموع النصوص التي اختبرها أنه صاحب القصة قد ألفها وفي ذهنه صورة جغرافية للبحر الشرقي الكبير (المحيط الهندي) إن لم تكن شديدة الوضوح، فهي ليست أكثر إبهاما من الصورة التي تنطبع في أذهاننا من مطالعة كتب الرحلات والعجائب والمسالك والممالك. ومعنى هذا في تقديم حسين فوزي بعد البحث العلمي المستفيض أن مصادر كتب الجغرافيا العربية وكتب العجائب ومصادر قصة السندباد واحدة: مجموعة المعارف المتداولة عن البحر الشرقي الكبير فيما بين القرن التاسع والرابع عشر الميلاديين. مثل كتاب (المسالك والممالك) لابن خرداذبة، صاحب بريد الخليفة المعتمد على الله في القرن التاسع الميلادي، و(مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي في العاشر، والآثار الباقية من القرون الخالية (للبيروني في القرن الحادي عشر)، و(نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) للإدريس في الثاني عشر، و(عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) للقزويني في الثالث عشر، ثم (فريدة العجائب) لابن الوردي في الرابع عشر، على سبيل المثال وليس الحصر.

         وقد انتهى في جهده التوثيقي المقارن إلى أن قصة (السندباد البحري) - وهي نموذج لبقية قصص ألف ليلة وليلة - عربية مستحدثة، لا يرجع تأليفها إلى ما قبل القرن الحادي عشر الميلادي، وأسلوبها ولغتها الدارجة - كما تبدو في النصوص المنشورة - قد تنزل بتأليفها إلى القرن الرابع عشر أو بعد ذلك، وليست مترجمة عن أصول هندية أو فارسية، ولا يستبعد أن يكون مؤلفها مصريا أو على الأقل عارفا باللهجة القاهرية في تلك الحقبة كما تداولتها المؤلفات الشعبية الأخرى. وأيا كان مؤلف السندباد، فردا أو جماعة، فقد استطاع أن ينشئ قصته الخلابة من أشتات المعارف الجغرافية، وحكايات الرحالين المتداولة في عصره، دون أن ينتقص هذا من قدره كفنان بارع، فللقصة تخرج على لسان بطلها مفعمة بالحياة، تتدافع أحداثها بعضها في إثر بعض، >كأنها أمواج البحر الزاخر الذي لجّ فيه السندباد، وعرف مرّه أكثر من حلوه، ورضي مع هذا أن يكون أمير سحره، فلا سبيل إلى العجب أن احتضنتها آداب العالم، منذ نشر (جالان) ترجمتها الفرنسية في مطلع القرن الثامن عشر، ونشأت عليها أجيال من الشباب، وتأثر بها كبار الكتّاب الخياليين، أمثال (ديفو) و(سويفت) و(هوفمان) و(إدجار آلان بو) و(لاموت – فوكيد) و(هانس أندريسون) و(جريم) ولا أحسبني مبالغا إذ ألاحظ أثرها في طائفة كبرى من الأدب البحري في العالم. وقد رفعها الناقد (ريتشارد هول)إلى مكانة (الأودية) قياسا مع الفارق.

         والقصة طبقا لتحليل حسين فوزي الممتع تبدأ سهلة السرد هادئة، لا تنم على ما تخبئه من روائع، ثم تترادف أحداثها وتتشعّب حتى تصل إلى عقدتها الكبرى عندما يدفن السندباد حيا - ثم تعود بعد ذلك رويدا إلى هدوئها، كما تعود حياة السندباد سيرتها بين خدمه وأعوانه كأني بها مقطوعة سيمفونية تبدأ هادئة اللحن ثم ترتفع أنغامها وتتفرع عن لحنها الأساسي شتى الألحان، تتلقفها آلات الأوركسترا أفرادا وجماعات حتى تدوي بها كل الآلات الوترية والهوائية والنحاسية، ويعلو لحن البحر والعاصفة وصوت الأمواج المضطربة ، وقعقعة السفينة وشرعها تضرب ممزقة في صواريها وحبالها تلهب ظهرها كالسياط، ثم هي ترتد إلى هدوئها الأول لتنتهي فوق الأوتاد دبيبا وحفيفا، لا تلبث أن تحمله على أجنحتها أخف النسمات.

العروبة ومقومات الحضارة

         عرفت حسين فوزي شخصيا أوائل الثمانينيات، قبيل تدهور ملكاته بالشيخوخة، وخبرته عن كثب خلال زيارته المطوّلة، بصحبة رفيق عمره توفيق الحكيم لإسبانيا، مع كوكبة من رجال الفن والأدب، لحضور مؤتمر عالمي عن المسرح، وكنت أتولى استضافتهم حينئذ بصفتي مستشارا ثقافيا لمصر ومديرا للمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، ومازلت أذكر تحريض الحكيم العبثي لي عند زيارتنا لجامعة مدريد المستقلة كي أبدأ كلمتي بعبارة (باعتباري مثقفا عربيا) حتى يغتاظ حسين فوزي، الذي كان قد شطح فيما يبدو إثر مبادرة (كامب ديفيد) في تنصّله من الرابطة القومية، لكنه كان يتلقى ذلك من صديقه اللعوب بابتسامة وديعة فاهمة، ويستغرق في تأملاته الشفيفة بصفاء نوراني عجيب. وعندما نعود إلى رؤية حسين فوزي الثاقبة لمقومات الحضارة في كتابته الباقية، نرى موقفا شديد الوضوح والأصالة، يؤمن بالمسعى الإنساني الموصول، ويعجب بالإنجاز الحضاري الغربي، لكنه في مراحله الناضجة يتخذ منه موقفا نقديا حادا عندما يتعارض مع الحس القومي، أو يصطدم بالشعور الديني البريء من الهوى والتعصب. ففي كتابه العمدة (سندباد مصري) الذي حرره في الخمسينيات على مدار أعوام عدة، يحدد حسين فوزي رؤيته المتكاملة للبنيان الحضاري، ناقدا مسيرة الثقافة المصرية في أخذها بجوانب الحضارة المادية، من عمران وصناعة، منذ عهد محمد على أوائل القرن التاسع عشر، معتبرا رفاعة الطهطاوي أول مبعوث يدرك أهمية البناء المعنوي للشعوب، ولكننا بالرغم من ذلك ألبسنا الحضارة الغربية كما يلبس قميص المجانين، أقحمت علينا من عل في شكلها المادي، وفي جبروت أهلها وشهوة أطماعهم البشعة. وبذلك اختلطت علينا سبل الإصلاح الروحي، وتاهت منا المقومات الحقيقية للنهضة. كنا إذا آمنا بحضارة الغرب الفكرية والفنية والعلمية - كمجموع متكامل لا ينفصل عن حضارته المادية - قام الرجعيون في وجوهنا، يتهموننا بممالأة الغاصبين والمستعمرين فلا نحن مستطيعون أن نخطو خطوات التطور الطبيعي الكامل بتلك الحضارة، ولا الرجعيون قادرون على الاستغناء عن أدواها وأجهزتها المادية، فإذا طالبنا بالاستفادة من فنون الغرب الرفيعة، وعلومه المتقدمة، وفكره وفلسفته، اتهمنا بالتفرنج والتقليد الأعمى والاعتداء على الأصالة والقومية وإذا كان هذا الصراع المحبط في بنية الثقافة العربية مازال ضاريا حتى اليوم، فإن ما تشهد به أحداث التاريخ أننا نتورط أكثر في نسخ الجوانب المادية للحضارة ومسخها دون أن نقوى على إنتاج نظائرها، لسبب بسيط هو أننا لم نأخذ بجدية حتى الآن قضية المشاركة العلمية في أعمق مستوياتها النظرية والفكرية، ولم تقم لدينا نماذج (المجتمعات العلمية) التي تظفر بالتمويل اللازم والحرية الضرورية، وها هو حسين فوزي يقرن بذكاء شديد بين الإبداع العلمي والفني في رصده لتحولات الاستراتيجية المعرفية عندنا قائلا في سياق رحلة حياته:

         (ذهبت إلى فرنسا مبعوثا معبأ بمعنى الحضارة الأوربية في أصولها الفكرية والفنية، مؤمنا بأن مستقبل الوطن رهين بالتمكن من مقوماتها الحقة، في الفكر والعلم، والفن والأدب. لا في مجرد نقل التطبيقات العلمية والخبرة التكنولوجية، فأساس التكنولوجيا هو العلم البحت، وأساس العلم البحت هو الفكر المجرد، ينطلق بحثا عن حقائق الأشياء في مجال حر. وقد خرجت بلادنا بفكرة عجيبة هي قلة جدوى الدراسات النظرية والبحوث الخالصة لوجه العلم، وهل من داع لوجود كليات آداب في كل جامعة مثلا؟!!! معنى ذلك هو إقامة حياتنا القومية على مجرد النقل، لا على تقييم العقل والوجدان، وإعدادهما للإبداع والابتكار، والابتكار في العلوم يشبه من بعض الوجوه الإبداع في الفنون والآداب، فإنك في الناحيتين إما أن تكون مجرد ناقل ناسخ، ولا قيمة كبيرة لما تنجزه، وإما أن تكون مفكرا أو عالما أو فنانا أصيلا، فتساهم في بناء حضارة وطنية، قوامها الفكر والإحساس، وأساسها العلم والمعرفة).

         وقد يتراءى لبعض القرّاء، خاصة من الإخوة العرب، أن النبرة المصرية العالية في خطاب حسين فوزي تنكر البعد العربي أو تنفيه، وهذا غير صحيح، لأن تفكيره العلمي المستقيم، وروحه التنويرية، وإدراكه لطبقات الشخصية المتراكبة والمتفاعلة، واعتزازه بالتراث العربي الإسلامي، كل هذا يجعل رؤيته أشد اكتنازا وكثافة، خاصة في آرائه المكتوبة، فهو عندما يتأمل الإسهام الحضاري المصري، يركز على شموله للفترات التاريخية كلها، إذ يقول مثلا في كتابه (سندباد إلى الغرب) نحن المصريين أحق الناس بدراسة الحضارات، لأننا أثبتهم حقا في تراث الإنسانية العظيم الذي تواضع الناس على تسميته (الحضارة الغربية)، لا لأنها حضارة احتفى بها الغرب، أو ورثها عن أبيه، بل لأنها في التسلسل التاريخي نمت وترعرعت أخيرا في غرب أوربا، بعد أن تشرّبت وتمثّلت تيارات الحضارة من طيبة وممفيس، وصور وصيدا وبابل، وأثينا والاسكندرية، وروما وبيزنطة، وبغداد ودمشق والقاهرة. حضارة اليوم هي حقي وملكي، بقدر ما هي حق لبعض الأوربيين، لأنني من كبار بنّائيها، فكيف أنكر نفسي وتاريخي، وجهاد فلاسفتي وعلمائي والمفكرين من أجدادي وضيوفهم على مدى آلاف السنين، لأقف من حضارة اليوم هذا الموقف السلبي، وهي من غرس يدي وفكري ومشاعري بأكثر مما هي من غرس الصقلي أو الاسكندنافي.

نقد الهيمنة الغربية

         إذا كان حسين فوزي قد اصطنع قناع السندباد القديم، فإنه لم يكتف بأن يقص علينا مثله حكاياته الغريبة، ورحلاته المتشوقة لمظاهر الحضارة الفاتنة، كما لم تسمح له وسائل النقل المعاصرة، نتيجة لتطور هذه الحضارة ذاتها، بأن يقتصر على الرحلات البحرية. بل سرعان ما ألحق بها الطائرة والسيارة. وأهم من ذلك، فإنه لم يفقد حسّه التاريخي ولا وعيه النقدي. وربما كان كتابه الأخير (سندباد في سيارة) الذي نشر عام 1973 من أطرف وأخطر جولاته في الفكر والحياة. فهو يحكي فيه فصولا شائقة عن رحلة قام بها وقد جاوز السبعين من عمره من فرنسا، مخترقا اسبانيا حتى الأندلس وعابرا مضيق جبل طارق إلى ربوع المغرب والجزائر وتونس، ثم ليبيا ومصر، بما لا يقوى الشباب على اجتراحه، ما لم يكن رحالة من طراز حسين فوزي.

         وسنقف عند بعض اللفتات الدالة في هذه الرحلة، لنحسب حصيلة موقفه الحضاري من الغرب، ونعرف حقيقة مشاعره العربية والإسلامية دون رياء. فهو يقول مثلا عن مسجد قرطبة إنه أثر حضاري إسلامي شوّهته الحضارة الكاثوليكية، عندما استأذن أسقف قرطبة الامبراطور (شارلكان) في إقامة كنيسة جامعة (كاتدرائية) وسط المسجد الجامع، وأذن له. لم يعرف الخلف: النصارى، حق السلف: المسلمين. لسبب عجيب في ذاته، وإن تكرر في أكثر من موضع في الأرض: هو اختلاف الديانة، بل المذهب أو العنصر أو الأرومة. كلا: (لا تعذلية فإن العذل يوجعه) لا تتعجلي اتهامه بالتعصب، كاتب هذه السطور، فقد حاسب نفسه وساءلها: ما إذا كان شعوري ذات يوم من عام 1935 وأنا أجتاز باب (أياصوفيا) في اسطنبول، وأذكر ما صنع محمد الفاتح بالكنيسة العظمى في عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية...لم أكن أحب للسلطان الفاتح أن يحول مكان عبادة إلى عبادة أخرى، مع أن العثمانيين لم يصنعوا بذلك الأثر العظيم أكثر من إخفاء أو إزالة ما لا يقبله الإسلام من رموز وتصاوير، ولم أرض، ولا أمنت على ما أتاه محمود الغزنوي بالهندوس ومعابدهم، ولم يكن عدم الرضا علامة تخلخل العقيدة أو وهن فيها، بل كان جرحا لشعوري وإيماني بسماحة الإسلام، ومن حقي اليوم ألا أرضى بما اقترفته التعصب بمسجد قرطبة الجامع بغيره من روائع الآثار بأرض الأندلس.

         هذا الاتساق في الموقف، من منظور حضاري، هو ما يرضى ضمير المثقف المعاصر. وهو ما حرص حسين فوزي على إبرازه في كل كتاباته، خاصة وهو يعيش تجربة حميمة في حياته الزوجية، فمهما غلبت ثقافة الزوج على الأسرة المختلطة، تظل طبيعة الحوار مع الآخر، والانتصار للحكمة والعقل دون التعصب، من سمات هذا التعايش النبيل. وعندما يستشهد حسين فوزي ببيت الشاعر العربي (لا تعذلية فإن العذل يوجعه) فإنه يخاطب زوجته وقارئة المختلف عنه بروح إنساني جميل. لكن هذا لم يمنعه من التوهج العاطفي أمام قصر الحمراء في غرناطة إثر ذلك إذ يقول (نظرتي إلى قصر الحمراء كانت نظرة الحسرة في عيني امرئ القيس وهو يتأمل (سقط اللوى بين الدخول فحومل) صعدت إليها تعتمل في نفس مأساة خروج أبي عبدالله، سليل بني نصر، هائما على وجهه بعد تسليم مفاتيحها إلى الملك الإسباني، وتقول الرواية إن أبا عبدالله وقف على أكمة بعيدة يملي ناظره بآخر صورة لملكه، فخنقته العبرات وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة الحرة (فلتبك بكاء النساء، ملكا لم تستطع أن تدافع عنه دفاع الرجال)، وتعرف تلك الأكمة عند الإسبان باسم (زفرة العربي الأخيرة) بهذا الشعور طالعت شعار بني نصر يتكرر مئات المرات وسط زخارف قصر الحمراء (ولا غالب إلا الله) هذا الشعار في نفسي يتصل رأسا بالنهاية المحزنة، هو عندي نذير المأساة، إذ أطالعه وقد تمت فصولا، في حين أن الآمر ببناء القصر أو زخارفه لم يكشف عنه حجاب الغيب، كنت أشعر وسط هذا الجمال المتألق الفتان كلما قرأت (لا غالب إلا الله) أني أجوب وسط المقابر، أردد في نفسي: البقاء لله وحده، وربما اتخذ ترداد الشعار هذا المعنى: لقد فتحنا وظفرنا، وحكمنا ونعمنا، أقمنا حضارة رفيعة وأوربا في غفلة من الزمان، تعمه في ظلام العصر الوسيط، ننشر عليها من كل ركن فيها ضياء ونوار، كانت لنا الغلبة في الأولى، وفي الثانية كانت الغلبة لعدونا، ولا غالب إلا الله). أطلت في اقتباسي كلمات حسين فوزي المفعمة بحرارة الصدق وحكمة التاريخ كي أبرز حقيقة يتغافل عنها كثير من الكتّاب، وهي أن الهوية والعقيدة ليست مسوحا تخلع وتلبس، وتخف صيفا وتثقل شتاء، ولكنها شيء كامن في أعماق الضمير الفردي والجمعي. لا يخضع للمزايدة، ولا يحتاج إلى إثبات. وقد عرفت من تجربة الارتحال الثقافي أننا عندما نكون داخل أوطاننا وبين أهلينا نتخذ موقف الناقد لهم، الداعي إلى تحريكهم وتقدمهم، فإذا ما واجهنا الآخرين كنا ممثلي ثقافتنا وهويتنا، الغيورين بشدة على ماضيها وحاضرها معا. وسأكتفي بمشهد ثالث من حسين فوزي يكشف عن عدائه الشدد للاستعمار الغربي، ومناهضته هيمنته إذ يقول:

         (صدمتني تجربة الاستعمار الفرنسي في عاصمة من أبهى عواصم المغرب وهي الجزائر، اكتفيت منها بالصعود إلى القصبة، للإحساس بأهل البلاد الأصالي، ولكي أطل على بحرنا من الأعالي. وقد كرهت ألا أرى لأهل البلاد في عاصمتهم التاريخية أثرا بين المستعصرين، فالمسجد الكبير في المدينة المنخفضة قد تحول إلى غير ما أنشئ له. وغادرت الجزائر بعد يوم وليلة عندما لم أطق البقاء في ذلك الجو الاستعماري الذريع، وكنت قد عشت في تونس تجربة استعمارية تركت في نفسي جرحا عميقا عرفت في زمانها باسم (المؤتمر الأفخارستي) - كان ذلك منذ نيف وأربعين عاما عندما سافرت من باريس إلى تونس لأتابع بحثا علميا بمعهد (سلامبو) الأوقيانوغرافي بضاحية تونس، شاهدت في المؤتمر الرسول الكاثوليكي يستقبله المقيم العام الفرنسي (الحاكم بأمر الجمهورية العلمانية) استقبال الفاتحين، والسفن الداخلة ميناء تونس تهزم بالتراتيل اللاتينية، وقد جاءت لتشيد بذكرى القديس الصليبي لويس التاسع عشر أسير ابن لقمان بالمنصورة، والمتوفى بالوباء في تونس. ورأيت الوفود تقف بتمثال الكاردينال (لافيجري) المستعمر الديني منصوبا قبل باب تونس الخضراء رافعا الصليب).

         ومع أن مظاهر التعصب الديني قد خفت كثيرا بعد انقضاء هذه الفترة الاستعمارية الأليمة، غير أن أطماع الهيمنة الغربية على مقدرات الشعوب العربية مازالت تحكم سياستها، وهنا ينبغي لنا أن نميز - كما فعل حسين فوزي وأبناء جيله دائما - بين النموذج الحضاري الغربي الذي اشتركنا تاريخيا في صياغته، وما انتهى إليه من منظومة قيم إنسانية تعلي من شأن الحرية والعلم والشراكة الحضارية، وبين ممارسات هذه الدول السياسية والاقتصادية التي تبغى تحقيق مصالحها وتهميش منافسيها والسيطرة عليهم.

         ويبقى نموذج هذا السندباد المولع بالحضارة، الداعي إلى الإنتاج العلمي في النظرية والتطبيق والتقدم المادي المقترن بالنضج الروحي في الآداب والفنون، والممثل لحركة الحضارة في ارتفاعها وانخفاضها وتضافر الآلات المختلفة والثقافات المتعددة على المشاركة في معزوفتها العظمى، يبقى هذا النموذج لدى حسين فوزي العالم الفنان علامة على سبقنا في مسعى حوار الحضارات وقدرتنا على رؤية أجمل ما في الآخر ونقد أنفسنا في الآن ذاته.





أبحاث الفترة المسائية الثانية ليوم الأحد
رئيس الجلسة: الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين رئيس مؤسسة البابطين للإبداع الشعري
البلاد الروسية في عين الشيخ محمد بن عياد الطنطاوي
1840-1860م
أ . د. محمد عيسى صالحية

         (إن كتاب الشيخ الطنطاوي قريب جداً لأنفسنا نحن الروسيين، فهو يعكس بروعة،طبيعة الطنطاوي المتطلعة، واستجابته لكل مظاهر حياتنا، كما يعكس نظرته الدقيقة ومزاجه اللطيف).

         كراتشكوفسكي، مع المخطوطات العربية 236-237

         سجل الشيخ محمد بن عياد الطنطاوي مشاهداته وملاحظاته وانطباعاته عن المجتمع الروسي والبلاد الروسية في كتابين، هما:
- تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا.
- كتاب وصف روسيا.

         ومن حسن الطالع وصول الكتاب الأول إلينا، وقد قمنا بنشره سنة 1992م، وأما الثاني، فقد كانت نسخة منه محفوظة في مكتبة إيريني نوفل، الأستاذ الذي خلف الشيخ الطنطاوي في تدريس العربية في معهد اللغات الشرقية التابع لوزارة الخارجية ببطرسبورغ، وبعد وفاته انتقلت صفحات منه لأحد الكتبيين، فقد باعها أبناؤه بدريهمات، وكان أن وصلت تلك الوريقات إلى يد المستشرق أغناطيوس كراتشكوفسكي.

         ويبدو أن الشيخ الطنطاوي كان يجيد اللغة الفرنسية، واللغة التترية، والفارسية، بالإضافة إلى الروسية، فقد صنف قاموس عربي - فرنسي، طبع في قازان سنة 1849، ووضع معجم تتري - عربي، وله شعر بالفارسية، وجاء الفصل العاشر من كتابه التحفة (في لسان الروس).

         وهذا يدل على انخراط الشيخ الطنطاوي بعمق في ثقافة المجتمع الروسي، الاجتماعية والسياسية والعلمية.

         كتب سافيلييف في جريدة أخبار سانت بطرسبورغ، وفي عددها الصادر بتاريخ 22 أغسطس سنة 1840م، مقالة بعنوان: (من هو هذا الرجل الوسيم)، جاء فيها؛ تسألني من هو هذا الرجل الوسيم في حلته الشرقية وعمامته البيضاء، ولحيته السوداء كالقطران، وعيونه الحية الزاخرة بالنار، ووجهه المعبر الذكي المحترق لا بشمسنا الشمالية الباهتة، لقد قابلته أنت مرتين من قبل، يسير مختالاً على الجانب المشمس من شارع نيفسكي الرئيسي في ذلك الهواء الجميل، سرعان ما تراه، ولا بد أنك تريد أن تعرف من هو).

         ويبين الكاتب أنه هو الشيخ محمد عياد الطنطاوي الذي رحل من شاطئ النيل ليشغل الكرسي الخالي للغة العربية في معهد اللغات الشرقية التابع لوزارة الخارجية ببطرسبورغ.

         وبعد عشرين عاماً ظهر قبر جديد قرب قرية فولكوفو في المقبرة التتارية عليه شاهد رخامي كتب عليه بالعربية (هذا مرقد الشيخ العالم محمد عياد الطنطاوي، كان مدرس العربية في المدرسة الكبيرة الإمبراطورية ببطرسبورغ المحروسة، وتوفي في شهر جمادى الثاني سنة 1278 من الهجرة عن خمسين سنة).

         وعلى الوجه الآخر لشاهد القبر كتب بالروسية (الأستاذ بجامعة سانت بطرسبورغ والمستشار برتبة عقيد، الشيخ محمد عياد الطنطاوي، مات في 27 تشرين الأول (أكتوبر) 1861، وله من العمر خمسون عاماً ).

         تروي سيرة حياة الشيخ محمد بن عياد الطنطاوي أنه ولد في قرية نجريد من أعمال طنطا، سنة 1225 هـ/ 1810م، وينسب إلى قرية مرحوم من أعمال غربية مصر والتي كان أبوه يتوطنها، حيث عمل والده سعد ببيع القماش والصابون والبن. وفي بلدته مرحوم تلقى الطفل محمد عياد علومه الأولية، حيث حفظ القرآن وأعاده، ومن ثم قصد طنطا لإكمال دراسته (1)، وهي المدينة التي كانت حافلة بالعلماء والفقهاء والقراء، فدرس هناك على يد الشيخ محمد الكومي، شرح ابن قاسم في الفقه سنة 1236هـ/1820م، وعلى الشيخ محمد أبي النجا، الشرح السالف الذكر، وشرح الخطيب سنة 1238هـ/1822م، والشيخ مصطفى القناوي الشافعي الأحمدي، شيخ الجامع الأحمدي بطنطا سنة 1244هـ/ 1828م، فروى عنه حديث الأولية وكتب السنة (2).

         ويبدو أن محمد عياد قد ورد القاهرة بعد سنة 1238هـ/ 1822م، واستمر دارساً ومدرساً حتى سنة 1256هـ/ 1840م، درس خلال ذلك على جملة من شيوخ الأزهر المتنورين أمثال الشيخ حسن العطار، ت 1250هـ/ 1835م، شيخ الجامع الأزهر، منذ سنة 1246هـ/ 1836م، صاحب التصانيف في العلوم العقلية، ورائد منهج التدريس بالنزعة الأدبية (1)، حيث قرأ عليه تفسير البيضاوي والشيخ إبراهيم بن محمد بن أحمد البيجوري، شيخ الجامع الأزهر، ت 1277هـ/ 1869م، الذي غشي مجلسه ولازمه سنين قرأ عليه خلالها أصول الكتب، ونظر في علوم النحو والفقه والبلاغة والأصول والمنطق والكلام، وقد كان تأثير البيجوري على تلميذه محمد عياد كبيراً، فسار يختار لحلقته موضوعاً أدبياً مثل مقامات الحريري والمعلقات (2)، وكذا الشيخ برهان الدين، أبو المعالي، إبراهيم السقا، ت 1298هـ/ 1880م، خطيب الأزهر المفوه وشيخه، وصاحب التصانيف العديدة (3).

         لقد كان تأثير هؤلاء الشيوخ بالغاً في محمد بن عياد الطنطاوي، فاتجه نحو الدراسات الأدبية، يشرح المقامات ويفسر غريبها، فاتهم بترويج البدع، إذ انصرف إلى الشعر والأدب بدلاً من الانصراف إلى مباحث الفقه والحديث (4)، حتى تمنى البعض موته حين أصيب بالطاعون سنة 1252هـ/ 1836م، الذي عاناه مدة عشرة أيام بلا نوم، وغاب عنه الإحساس والإدراك حتى سلمه الله وانفتحت البثور، ثم تعافى بعد أسبوعين، وفي ذلك يقول حين أشيع خبر موته شعراً:

فتلك طريق لست فيها بأوحـد تمنى أناس أن أموت وإن مت
إذا أظهر الشيطان موت محمد(5) وإن أظهروا موتي فليس بمنكر

         ويفهم من خلال مراسلات محمد عياد الطنطاوي أنه حظي بمجموعة طيبة من الصداقة والصلة، ربطت بينه وبين الشيخ محمد الأشموني الذي تتلمذ وإياه في الأزهر، وصداقة جمعته ومحمد قطة العدوي، المصحح الأول بمطبعة بولاق الأميرية (1)، وإبراهيم الدسوقي وعبد السلام الحلبي الترمانيني وعبد الرحمن الصفتي، وعبد الهادي نجا الأبياري وسرور الدمنهوري، ورفاعة بك الطهطاوي ويوسف الصيداوي المتولي على بيته أثناء غيبته وغيرهم، كانت رسائله تحمل أخبار رحلته العلمية واتصاله بدوائر الاستشراق الروسية.

         ظلت قصة اتصال محمد عياد الطنطاوي بدوائر الاستشراق الروسية، موضع بحث خلال ثلاثة عقود من الزمن، إذ اعتقد البعض بأن طنطاوي قد اشتغل مدرساً للعربية بمدرسة الإرسالية البروتستانتية في القاهرة، سنة 1835م، وأنه من خلال عمله هذا تعرف على برون الفرنسي Perron، أستاذ الطبيعة والكيمياء بمدرسة الطب المصرية، ومن ثم عرف فراهن الألماني R. Fraehn، والذي كان والده مدرساً للشرقيات في كلية قازان الروسية، وكذا جستاف فيل G. Weil، مدرس الشرقيات في كلية هيدلبرج، وإنه من خلال اشتهار الطنطاوي في دوائر الاستشراق، بسبب علاقاته مع الوافدين على مصر من المستشرقين، وقع عليه الاختيار للتدريس في بطرسبورغ، حيث كلف (بكتي) المندوب القنصلي Agent Consul الشيخ الطنطاوي للسفر إلى بترسبورغ للتدريس هناك (2).

         ومع تقديرنا لجهود هؤلاء البحاثة الأوائل، فإن كتاب >تحفة الأذكياء< يوضح حقيقة اتصاله بالدوائر الاستشراقية الروسية، إذ تعود البدايات الأولى إلى دراسة المسيوفرنيل كتباً عربية وأدبية وتاريخية على الشيخ محمد عياد الطنطاوي، وكذا الروسي موخين والذي كان يعمل مترجماً للقنصلية الروسية في إستانبول سنة 1840م، والذي كان قد قرأ على الشيخ طنطاوي شيئاً من المعلقات وأخبار شعرائها (3)، ومن خلال ذلك نسجت وشائج العلاقة مع فرنيل، حيث قام الأخير بتقديم محمد عياد طنطاوي إلى القنصل الجنرال الكونت ميدن، أحد أعيان دولة روسيا وكبرائها، والذي عمل فيما بعد سفيراً لروسيا في بلاد فارس، وبلاد أمريكا (1)، ويبدو أن مدرسة الألسن الشرقية في بترسبورغ كانت بحاجة لمعلم للغة العربية، فكلف وزير الغرباء نسل روض الكونت ميدن بالتفتيش على معلم للسان العربي، فوقع الاختيار على الشيخ محمد عياد الطنطاوي حيث طلب الكونت ميدن من والي مصر، محمد علي باشا، إعارة كلية الألسن الشرقية، الشيخ محمد عياد الطنطاوي لتدريس العربية، ولاقى هذا الطلب القبول من محمد علي باشا، فاستدعى إلى ديوانه الطنطاوي ورخص له بالسفر، وطلب إليه الجد بتعلم اللسان الروسي، لأنه -أي محمد علي- مشغول بجلب الألسن الغريبة إلى مصر، ليعرف مدى التقدم العلمي والاجتماعي الذي وصلت إليه بلاد الروس، يروي الشيخ: >فأذن لي ؛ أي (محمد علي باشا) وطلب حضوري، فمثلت بين يديه فأمرني بالجلوس، فامتثلت أمره المأنوس، ثم حضني على تعلم لسان الروسيا، ووعدني بالإكرام إذا تعلمته، لأنه مشغوف بجلب الألسن الغريبة إلى بلاده، ولهذا ترى في مدارسها نجابة التلامذة خصوصاً اللسان الفرنساوي، وكتب لي مرسوماً بختمه كالالتزام بما وعد) (2).

         فكانت وفادة الشيخ الطنطاوي في أهدافها في الصف الثاني بعد بعثة رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا ولندن، والتي ضمنها كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، فإذا كان رفاعة الطهطاوي رائد عصر التنوير من خلال بعثته في أوروبا الغربية، فإن محمد عياد الطنطاوي هو رائد التنوير من خلال وفادته في أوروبا الشرقية.

         وصل محمد عياد الطنطاوي إلى مركز الروسيا في 26 أيار - مايو1840م (3)، وانضم إلى المدرسة الشرقية، حيث ألقى أول محاضرة بعد سبعة وثلاثين يوماً من حضوره، وفي صيف عام 1844 سافر بإجازة إلى مصر، ومن ثم عاد خريف ذلك العام إلى بترسبورغ، ويبدو أنه في رحلته هذه حمل معه زوجته (علوية)، وابنه أحمد، ثم التمسته الجامعة أن يدرس فيها، فعمل مدرساً فيها من بداية 1847م حتى 8 تشرين الأول (أكتوبر) 1847م. وانتقل للتدريس في الكلية الشرقية خلال السنوات 1850-1854م، حيث درس القواعد والأدب والخط والتاريخ والعروض ووضع العديد من المؤلفات التعليمية لتلاميذه.

         كان الشيخ محمد عياد الطنطاوي يقضي إجازته متنقلاً بين البلدان الروسية، يطوف المتنزهات والغابات ويحضر الاحتفالات الرسمية والشعبية، وقد حظي بعناية متميزة في الدولة الروسية، حيث عين مستشاراً في الدولة الروسية، وقلده القيصر نشأت (وسام) ستانيسلان ووسام حنه، بسبب امتياز التلاميذ في البحث، وفي ذلك يقول طنطاوي:

إني رأيـت عجيـباً في بتربـورغ وإنـه
شيـخ مـن المسلمين يضم في الصدور حنه

         كما قلده القيصر خاتماً مرصعاً بالألماس الغالي، في البحث الثالث، وفي روسيا تتلمذ عليه عدد من المستشرقين منهم، G. A. Wallin الفنلندي الذي ساح في الجزيرة العربية ومصر وسوريا لسنين تحت اسم عبد الولي، وله مع الطنطاوي مراسلات، جمعها وطبعها إلى بالأسوجية، وهي محفوظة في جامعة هلسنكي Helsinki والتي أصبحت فيما بعد تعرف بـ Helsingfors عاصمة فنلندا، والمستشرق أنطوني موخلينسكي، الذي قرأ على طنطاوي العديد من الكتب العربية واللطائف الأدبية، ومنها ديوان عبد الرحمن الصفتي، وكذا المستشرق نافروتسكي وكروكاس.

         كتب الشيخ محمد بن عياد رسالة إلى رفاعة الطهطاوي جاء فيها: أنا مشغوف بكيفية معيشة الأوروبيين وانبساطهم وحسن إدارتهم وتربيتهم خصوصاً ريفهم، وبيوته المحدقة بالبساتين والأنهار إلى ذلك مما شاهدتهم قبلي بمدة في باريز، إذ بتربورغ لا تنقص عن باريز في ذلك، بل تفضلها في أشياء كاتساع الطرق، وأما من قبل البرد فلم يضرني جدا، إنما ألزمني ربط منديل في العنق ولبس فروة إذا خرجت، وأما في البيت المدافئ المتينة معدة لإدفاء الأوض، وطالما أنشدت عند جلوسي قرب النار؛

النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه في الشتاء فليصطل (1)

كتابه الرحلة:

         في رسالة بعثها، ن . ح . بولوتسكي، مدرس اللغة القبطية في معهد العلوم الشرقية بالجامعة العبرية بالقدس، ونشرت في مجلة الكتاب، عدد يوليو 1946، ص510 لفت نظر محمد عبد الغني حسـن إلى أن الشيخ الطنطاوي قد ترك أثراً هو (تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا) تحفظ نسخة منه في دار الكتب لجامعة استانبول، ونسخة أخرى منه تصان في مكتبة الخزانة الشرقية في ليننغراد، ونوه بجهود كراجكوفسكي بهذا الصدد، والذي تحدث عن اكتشافه لهذا الأثر.

         ويخيل إلينا أن النسخة كانت محفوظة فعلاً في خزانة جامع مسجد رضا باستانبول، وبعد ثورة مصطفى كمال أتاتورك، نقلت محفوظات المساجد، ومنها محفوظات خزانة مسجد رضا، ووزع ما سلم منها على المكتبات العامة في جميع أنحاء الجمهورية التركية، ويبدو أنه من حسن الطالع استقرار النسخة أخيراً في مكتبة جامعة استانبول تحت الرقم الذي سأشير إليه لاحقا.

         تحتفظ مكتبة جامعة استانبول بنسخة وحيدة من كتاب (تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا) مسجلة تحت رقم 766 عربجة، نقلت إليها من مكتبة مسجد رضا وجاءت النسخة في 194 صفحة، مسطرتها 23 سطراً، وعلى صفحة العنوان سجل هذا كتاب
تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا
للعبد الفقير الشيخ محمد عياد
المصري الطنطاوي
غفر الله ذنوبه
وستر عيوبه

         وجاء بآخر دعوة أن يكون هذا التعليق مقبولاً عند السدة العليا والعتبة الخاقانية، وأن ينظر إليه العلماء بعين الإنصاف وأن يحودوا عن سبيل الاعتساف، ثم إثبات تاريخ الانتهاء منه، حيث ذكر:

         وقد تم بحمد الله تبييضه في أوائل شهر ربيع الأول سنة 1266 من الهجرة النبوية على صاحبها وآله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التحية، الموافق ذلك لأوائل كانون الثاني سنة 1850، من الميلاد، والله ولي السداد على يد مصنفه الفقير محمد عياد الطنطاوي المصري ببتربورغ.

         وقع كتاب تحفة الأذكياء في رواية لرحلة الشيخ محمد عياد الطنطاوي التي بدأت في 24 محرم 1256هـ/26 مارس 1840م من القاهرة حتى وصوله إلى بتربورغ في 30 حزيران 1840م، 11 جمادى الأولى 1256هـ، وغطت 52 صفحة من الكتاب، ثم عقد ثلاثة أبواب اتصل الأول منها، بمنشأ الروس وولاية نوفغورد Novgord، والباب الثاني تعلق بتاريخ بتربورغ الطبوغرافي والأثنوغرافي والطبيعي البشري، فكان دراسة تاريخية، جغرافية جيولوجية، وقد جعل للباب الثاني ثلاثة فصول ركزت في معظم مادتها على حياة بطرس الأكبر وإنجازاته وإصلاحاته، ودوره في نهوض روسيا وتقدمها في المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ثم عرض للأحوال السياسية والعسكرية والاجتماعية في بتربورغ خاصة وروسيا عامة في عهد خلفاء بطرس الأكبر.

         وأما الباب الثالث فقد أرخ فيه لعادات الروس وأخلاقهم وملابسهم ودينهم وعادات الزواج والتعميد والدفن ومراسم الولادة والأعياد والتنظيمات الاجتماعية ودور المرأة في ذلك المجتمع، وتقدم الروس في العلوم والفنون والسكن وأنماط المعيشة، ثم ختم الباب بفصل عاشر تناول فيه اللغة الروسية وقواعدها وكيفية الترجمة منها وإليها.

         وقد حرص الشيخ محمد عياد الطنطاوي في بداية كتابه على توضيح البواعث التي دعته لتصنيف كتابه، فقد سأله جماعة من الأصدقاء والمعارف أن يسطر في سفره هذا كتاباً يودع فيه ما يقف عليه من حال البلاد التي يزورها من عجائب وغرائب، مع ما صادف ذلك عنده من ميل أدبي، فسجل في كتابه، بدائع البلاد التي رحل إليها وغرائب عادات أهلها، مع شذرات علمية ونكات أدبية وطرف استحسانية اختراعية ليضفي على الكتاب لمسة ظرف طرداً للملل وجذباً للقارئ، فقد أورد العديد من النكات اللغوية واللطائف والمواقف الغرامية.

         وكان خط سير الرحلة من القاهرة إلى جنينة شبرى ومروراً بزاوية رزين، فالاسكندرية، حيث انتقل إلى باخرة نمساوية وصف درجاتها ونظام الإقامة فيها، والخدمات التي يقدمها العاملون فيها، ثم إلى جزيرة جريد (كريت) العثمانية، حيث تحدث عن مبانيها ووصف بناياتها وعدد سكانها، ومنها إلى مرسى كنى وجزيرة سير، ثم إلى أزمير، وقد أطنب في الحديث عنها، فبحر مرمرة حتى استانبول التي أقام بها أياماً، ووصف ما شاهده فيها بعين فاحصة ناقدة، من قباب ومؤسسات ومساجد وخاصة أيا صوفيا وغلطة ومصانع الورق والمتنزهات فيها، ثم إقامته قبل ذلك في الاسكدار ورحيله إلى أوديسا، والإجراءات الصحية بسبب الطواعين التي كانت متفشية في بلدان العرب وخاصة مصر، ومن ثم ركب عربة تجرها الخيل بعد تزويده بتذكرة مرور ورافقه مترجم روسي خاص، وقد وصف الطريق إلى بتربورغ، فمر بنهر بوخ وكييف والغربول وموهلوف وبودن وسكندرية الأخرى وفينيسك وتسارسكيا سلو حتى وصل إلى بتربورغ، وخلال عرضه لما شاهد كان يحرص على وصف أدق الأشياء ويقارنها بحال مصر، فالخبز نظيف والماء عذب، والمتنزهات تغطيها الأشجار والورد، والرياحين تشرح الصدور وتنسي الهموم، الناس فرحون، نوبات الموسيقى تعزف والراقصون يبهرون الأنظار والأطفال يمرحون ويلعبون في الحدائق، وقد أعدت لهم وسائل الكتب والتسلية، والمدارس، كثيرة ومنتشرة في البلاد الروسية وخاصة مدارس البنات، والمعامل كثيرة لصناعة العطور والقطران، والمرستانات والتياترات. حتى إذا ما استقر به الحال في البلاد الروسية لمدة عشر سنوات، وباشر عمله في التدريس، ومن خلال دراساته لتاريخ تلك البلاد وما شاهد عياناً وما خبره تجربة، سجل من خلاله أحوال البلاد الروسية . وجاءت في ثلاثة أبواب، احتوى الباب الأول على تاريخ روسيا القديم، وتاريخ الصقالبة السكان الأول لتلك البلاد، حيث وصف معتقداتهم الوثنية وطرائق عيشهم وانتجاعهم من مكان إلى آخر، وعشقهم للحروب وبراعتهم في صنع السلاح، القسي والحراب والسهام والسيوف، وأورد الرواية الرومانية التي تفيد بأن أصل السكان سكيفي وصرماطي، ومن ثم قام على بقاياهم الصقلب، ومن ثم اتصلت تلك الشعوب باليونان عن طريق التجارة، كما أرخ لأصل ولاية نوفغورد Novgord وظروف بناء المدينة، وعادات وتقاليد أهلها في السياسة والاجتماع، ومن ثم انضوائها ضمن الروسيا، وسجل أصل ولاية كييف Kiev، ورواية بنائها من قبل أخوة ثلاثة، أطلق إسم الأكبر منهم على المدينة، ثم انتقالها من الخضوع للخزر إلى الروسيا (1)، ومن ثم كيفية اختيار فلاديمير سنة 988م أحد ملوك الروسيا للنصرانية وإعراضه عن الإسلام الذي سبق أن عرض عليه، وذلك بسبب تحريم الإسلام للخمر، والروسي حسب رأي فلاديمير لا بد له من الخمر بسبب كثرة البرد والصر، ولكن الشيخ محمد عياد يورد رأياً آخر يتصل بقرب بلاد الروس من بلاد الروم، وفي ذلك تقوية للروس إذا ما اتخذوا ديانة النصرانية، وسهولة وتمتيناً للروابط التجارية والعلمية (1).

         أما الباب الثاني، فقد خصصه لدراسة أوضاع مدينة بتربورغ من الناحية الجغرافية والطبوغرافية والسكانية، ووصف طبيعة مناخها وتجلد مياهها حتى أن العربات تسير على أنهار متجلدة، وينحت فيها بيوت من الجليد، ومن ثم تقدمها في العلوم والفنون وطرز البناء واتخاذها عاصمة لبلاد الروسيا (2)، وقد قسم الباب إلى ثلاثة فصول، كان الفصل الأول منها لأصل الكلمة المكونة من مقطعين، بتر يعني بطرس بانيها وبورغ يعني بلد أو محل، فهي مدينة بطرس بانيها ومتخذها عاصمة لبلاده، وقد فصل في موقعها وخطوط طولها وعرضها وارتفاعها، واتصالها بالأنهار، ووصف بناياتها وأشجارها ومياهها وحدائقها وبساتينها وقصورها ورياحها وتجلد نهر النيفا والفياضانات التي وقعت في المدينة، وما سببته من كوارث وأضرار، وتحدث بإفاضة عن طول الليل والنهار فيها ودوام هطول الأمطار، ولكن كل ذلك لم يحل دون مداومة الناس على أشغالهم واجتهادهم في إنجاز أعمالهم (3).

         وقد تحدث بإفاضة عن بيت الجليد الذي بني على نهر النيفا أمام القصر في كانون الثاني 1740م حيث استخدمت صخور مكعبة من الجليد، وعلى السقف بنى ممشى مربعة مزينة بكبوش مصورة، وأمامه أعمدة عليها تماثيل وأبوابه وشبابيكه مرخمة وملحق به حديقة أشجار عليها طيور وثمار وغيرها كثير، كل هذه من الجليد المنشور والمنحوت المصقول(4)، أما الفصل الثاني فكان في أسباب اتخاذ بتربورغ عاصمة لروسيا بل وقاعدة أوروبا، وحروبها مع السويد ومجريات ووقائع تلك الحروب والخطط الروسية، والتي أدت إلى النصر بفضل فطنة وكياسة وقيادة القيصر (5)، وبعد استقرار الأحوال أعمل القيصر جهده في تحسين وتوسيع وتنظيم المدينة وتنمية العلاقات التجارية الخارجية، ثم التفات بطرس لتمدين الروس بتقدمهم في العلوم، وأصدر عدة فرمانات اتصلت بالعمارة في بتربورغ والإقامة فيها وتنظيم الجمارك ورعاية بعثات التعليم إلى أوروبا للاطلاع على تمدنها وتقدمها، وتأسيسه معاهد التعليم العليا وأكاديميا الملاحة، وأكاديميا العلوم ومدارس التجارة والحرب وأكاديميا التصوير والمكتبات وإقامة المسارح، والتياتر، والمتاحف، وخاصة للتاريخ الطبيعي، وأقام المكتبات لمطالعة الجمهور، كما اهتم القيصر بطرس بإحداث ضابطة سياسية للمدينة، مثل اللوائح التنظيمية للأبنية والشواطئ والخلجان، والسرقة والنظافة والأسواق ومراقبة البيوت المتهمة والألعاب المحرمة وإلقاء القبض على المشاغبين والبطالين، ووضع لوائح تنظيمية للجمعيات وخاصة المختلطة، حيث تراعى قوانين لاجتماع الرجال والنساء، وحدد شروط وواجبات صاحب الدعوة والأصول التي يجب أن يراعيها عند التئام الجمعية (الاجتماع) في بيته ووقته والآداب التي يجب أن تراعى(1)، ومجمله أن الفصل تناول أعمال ومنجزات وتنظيمات بطرس الأكبر ممدن روسيا، ورائد نهضتها.

         أما الفصل الثالث، فقد جعله لخلفاء بطرس، فترة حكم كترينا وبطرس الثاني، والقيصرة حنا يوحنا نوفنة، ثم القيصر نقولا الأول، وقد تناول ما أنجزه كل واحد منهم من عمارة ومنشآت ومباني وتنظيمات اجتماعية واقتصادية وثقافية وجهود علمية والآثار التي خلفوها وتحكي جهودهم في تقدم الدولة.

         وكان الباب الثالث هو أمتع ما في كتاب تحفة الأذكياء، لأنه يزود القارئ والباحث بمعلومات اجتماعية عن عوائد الروس وأخلاقهم وملابسهم وأعيادهم وأديانهم وخطوطهم وتقدمهم في العلوم والفنون، ويعتقد الباحث أن أهمية هذه الفصول تأتي من كونها هي المادة الرئيسية الثانية في التراث العربي التي تناولت بلاد الروس بعد رسالة ابن فضلان الشهيرة التي وقعت سنة 309هـ/ 921هـ . هذا إذا استثنينا الإشارات التي وردت في المراجع العربية والتي جمعها الكسندر سييل في كتابه (أخبار أمم المجوس).

         من الأرمان وورنك والروس، والملتقطة من مروج الذهب للمسعودي وتاريخ الأندلس لأبي بكر محمد بن عمر بن عبد العزي المعروف بابن القوطية ، ومن المقتبس والمسالك والممالك ونزهة المشتاق والاستبصار والمطرب في أشعار أهل المغرب لابن دحية والكامل في التاريخ، وكتاب بسط الأرض لابن سعيد المغربي وآثار البلاد، والبيان المغرب والمختصر في أخبار البشر ونهاية الإرب والعبر ونفح الطيب، والبلدان لليعقوبي والأعلاق النفيسة لابن رستة ونظم الجوهر لسعيد بن البطريق وكتب البلدان وخاصة معجم ياقوت وغيرها من المؤلفات التي اكتفت بإيراد نصوص محدودة، بل لعلي لا أبالغ إن قلت >كان كتاب الشيخ الطنطاوي هو الأكثر تفضيلاً في تناوله للجوانب الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الروسي من خلال مشاهداته وخبرته الطويلة، فقد عاش هناك أكثر من عشرين سنة، وسجل ملاحظاته بدقة متناهية. وقد تناولت دراساته الاجتماعية الأمور التالية:

- عوائـد الروس:

         ذهب طنطاوي إلى أن عادة الروس عامة الكرم والإنفاق وحسن المعاشرة، وهم يميلون إلى الفخر والكبر، وقد عزا ذلك إلى تقدم الروس في التمدن والعلوم زمن بطرس، ولكنه أورد هنا مقالة للعلاء بن صاعد، صاحب طبقات الأمم، ليذكر بما كانوا عليه قبل عهد بطرس الكبير، فقال: مقتبساً من ابن صاعد، <أخلاق الروس موصوفة بحسن الشكل وبياض اللون وقابلية الصنائع ولطافة الخدمة وإطاعة السيد، وقلة العبادة وقلة الصلاح وكثرة الأباق> (1)، وقرر الطنطاوي بأن الروس كانوا في القديم مشهورين بالجبن حتى استعبدهم التتار، أما الآن فانعكست القضية، والناس في المجتمع الروسي ليسوا متساوين ولا من مرتبة واحدة، بل هم مراتب، ولكل مرتبة امتيازاتها وحقوقها ولا يجوز لأحد أن يتخطى مرتبته إلا في النادر، هذه المراتب هي:

         المرتبة الأولى: الأعيان، المتوارثة، حيث إن الرتبة يرثها الابن عن والده، وهؤلاء يجوز لهم شراء الأراضي والعبيد، ولا يحرمون من مجالس الشرف، وإن تزوج أحدهـم بامرأة دون مقامه رفع رتبتها وتسمت باسمه، غير أن هذه الرتبة تنقسم بدورها إلى درجتين:
- أعيان الأعيان : وهم من كانوا أعياناً قبل زمن بطرس الأكبر، وأسماؤهم محفوظة في الكتاب الثالث.
- وأعيان: وهم من كانوا بعد زمان بطرس الأكبر، وأسماؤهم في الكتاب السادس.

         والتفاضل بينهم يكون إذ يسمح للفئة الأولى بتربية بناتهم في دير أسموليني بدون إذن القيصر، في حين أن الأعيان لا بد لهم من الاستثناء من القيصر نفسه حتى يمكن لبناتهم الالتحاق بتلك المدرسة.

         كما إذا انضم أحد الأعيان إلى النظام (الهيئة السياسية) عين برتبة وكيل ضابط (تحت ضابط) وبعد سنتين يترقى إلى رتبة ضابط.

         المرتبة الثانية: الأعيان الذين لا تتوارث رتبهم، وهم الغرباء والمستخدمون الذين أنعم عليهم القيصر بالأوسمة، حتى إذا ما أنعم عليهم القيصر بالرتبة عدوا من الأعيان المتوارثة رتبهم، ولهم امتيازاتهم في الأرض وشراء العبيد.

         المرتبة الثالثة: التجار، وهم لا يعدون من الأعيان، ولو ملكوا الملايين، حتى إذا تزوج من الأعيان حط رتبتها، ويمكن أن يرقى لرتبة الأعيان إن فعل وقدم خدمات جليلة للدولة، ولكنها نادرة، وهم لا يدخلون النظام إلا طوعاً ويكون وكيل ضابط وبعد ثلاث سنوات يترقى، ولهم الخروج من النظام متى شاءوا وإذا أفلس التاجر أصبح من أولاد البلد، ولكن سمح للتاجر بعدم حلــق ذقنـــه، إذ العادة بأن إطلاق شعر اللحية لا يكون إلا للأعيان وأعيان الأعيان والأمراء والأسرة القيصرية.

         المرتبة الرابعة : أولاد البلد، وهم عامة الناس، وبإمكانهم الترقي إلى رتبة التجار، فإذا دخلوا النظام فلهم حكمهم.

         المرتبة الخامسة : الفلاحون، ويبقون كما هم إلا إذا أخذوا في النظام فلهم حكمهم وإلا فلايترقون إلى الرتبة الأولى.

         المرتبة السادسة : العسكر، إلا إذا ترقى العسكري إلى رتبة يستحق فيها كسوة الأكتاف بالقصب صار من الأعيان، وبعد خدمة خمس عشرة سنة ربما يترقى إلى وكيل ضابط (تحت ضابط)، إذا كان حسن السلوك ثم إلى مرتبة ضابط أو يمكنه التقاعد.

         المرتبة السابعة : الأرقاء، ولا يجوز شراؤهم إلا من قبل الأعيان مع الأرض وليس لهم سوق يباعون فيه كما عند العرب، ويجوز إعتاقهم أو يشترون أنفسهم، والرقيق حتى ولو اغتنى لا يصير عيناً إلا إذا صار عسكرياً وترقى.

         وقد وضع نظام دقيق لتربية وتعليم الأعيان، فمن درس في المدرسة الإمبراطورية الكبرى ووصل إلى درجة النجيب (كايذيذان) يكون من الصنف العاشر، إن أحسن البحث والإجابة، وإلا فيعطون درجة (التلميذ المجتهد)، وإن قصر فلا يستحق شيئاً أما إن درسوا في المدارس الصغيرة، فلا يستحقون رتبة إلا إذا أعطت لهم، وتكون الرابعة عشرة ثم يترقون إلى رتبة الجنرالات.

         وأما ابن التاجر إذا درس في المدرسة الكبيرة ووصل مرتبة النجيب ثم أعمل الجد والاجتهاد في البحث والمناقشة، أعطي رتبة مجيستير يعني (عالم) ويكون من الصنف التاسع ثم إذا اجتهد أيضاً، وعمل بحثاً ونوقش فيه ومهر وصل إلى رتبة الدكتور وتعني (فاضل)، ويكون من الصنف الثامن ثم إذا خدم وترقى وصل إلى مرتبة (السابع)، ومن الممكن أن يترقى إلى رتبة الجنرال.

         - أما عادات الزواج عند الروس : فتكاد أن تكون كما هو متعارف عليه عندنا.

         فالروس لا يحجبون نساءهم عن حضور المجالس مكشوفات الوجوه . فيتم الاختيار المباشر بواسطة الخاطبة، وحيث الطلاق عسر، فلا بد من معرفة الطباع، فإن وقع العشق، كانت الخطبة وتقديم خاتم الذهب، ويتم الزواج ومراسيمه بحسب أصول الديانة النصرانية، والاحتفال كما هو معروف، لكن الانتقال لا يكون إلا بعربات الملك، ولكن في اليوم الثاني يقوم العروسان بزيارة الأقارب حيث تعقد حفلات الرقص، وإذا ما اختلف مذهب العروس والعريس فإنه يتم عقد القران مرتين، مرة عند قسيس الطائفة التي تنتمي إليها العروس ومرة أخرى عند قسيس الطائفة التي ينتمي إليها العريس، وأما المهر وكل ما يتعلق بالأثاث والبيت فتعطيه الزوجة.

         وقد تحدث الشيخ الطنطاوي عن كثير عن حالات الغش والخداع بين العشاق، حتى إذا نال الشاب إربه اختفى من حياة الفتاة المخدوعة، وأشار إلى افتراق العديد من الأزواج عن زوجاتهم واختيار كل واحد معشوقه ليساكنه.

         وأما عادات التتر في الزواج فكما عند المسلمين، وليمة فعقد نكاح بخطبة نكاح ووكيل وشهود ومهر يدفعه الزوج، ومن ثم تقديم الهدايا للضيوف وأخذ النقطة من الضيوف.

         وتناول الطنطاوي عادات الروس في التعميد والاحتفالات التي تقام بالمناسبة، كما شرح الأعياد التي يحتفل بها الروس، والأيام التي تعطل فيها المدارس والمعاهد والجامعات وكان عددها 28 مناسبة.

         أما ما أسماه بالخط العمومي (الفصل التاسع) فقد اشتمل على وسائل التسلية العامة للناس، ومنها التياتر والنوبة والرقص والمسخرات ولعب الورق وجري الخيل حيث سجل تاريخ نشأة التياتر وكيف وصل إلى روسيا سواء من إيطاليا أو فرنسا أو انجلترا أو النمسا، حتى غدا دار أوبرا تعرض فيه الفنون الروسية والأوروبية الأخرى، كما فصل في تكوين الفرق الموسيقية، (النوبة) وتحدث عن آلاتها ولاعبيها وقارنها بمثيلتها في مصر، وعلق الطنطاوي على الرقص، ووصفه بأنه مجرد حركات خالية من الفحش وهز الأرداف، وفيه يجتمع الرجال بالنساء، حيث يتكلف الرجل في مخاطبة المرأة مالا يتكلفه في مخاطبة الرجل وذهب طنطاوي لو لم يكن من ثمرات اجتماع النساء بالرجال إلا قصر النظر عليهم وعدم التعلق بالغلمان لكفى، كيف وفيه فوائد أخرى من العشرة وحسن الأدب وغير ذلك، وقد قال في ذلك شعراً:

ما سمعنا تغزلاً في غلام ولو أن النساء تبدو بمصر
ساطـع نوره بغير لـثام كل هيفاء كالغزال بوجـه
أفمن لدغه الخدود دوامي قلبت برقعاً بعقرب صدغ
فاتقوا الله يا أولي الأحلام ولكل امرئ جليس أنيس
في هوى الغانيات أي ملام أي عذر في عشق رب عذار

         وأما أنواع الرقص التي كان يمارسها الروسي، فالفلس، والقادريل الفرنساوي والمازورق وقد وصفها وصفاً دقيقاً، ويبدو منه أن الشيخ كان راقصاً متفوقاً وفصل في وسائل وأساليب المسخرات ولعب الورق وأنواعه وكيفيته وجري الخيل وطرائقه وأنواعه حيث خلا من المراهنات والخسارة المادية وقام على المهارة في أداء حركات الفروسية.

وأما في الملابس:

         فقد وصف الطنطاوي ملابس الروس، وقارن بين أزيائهم القديمة والجديدة، ففي القديم كان لباسهم مقتصراً على قميص افرنجي، من الشيت أو البفت أو الجوخ ثم جبة طويلة محزقة، وأما القسس فلهم جيب طويلة عريضة الأكمام مثل الفرجيات عند علماء مصر، ولكن منذ عهد بطرس، غدت ملابس الروس كما ملابس الأوروبيين، ويتكون من قميص أبيض، غطى جيبه بقطعة بفت عريضة ثم الصديريات المفتوحة ثم السروال الضيق والجبة الافرنجية.

         ولكل فئة من فئات المجتمع ملابسها الخاصة، فالضباط يلبسون بدلة بطوق قصب بحسب الرتبة، ومنهم من تكون بدلته كلها مقصبة.

         وللمناسبات عند الروس ملابس خاصة، فبذلة الرقص هي الولبة، ولغطاء الرأس أشكاله من القبعات ( البرانيط )، ومنها المسنمة الريشة أو لا ريش ، أو القبعة السوداء المدورة العالية بحواف عراض، مستطيلة أو مربعة، وتلبس النظام مثلها - وفي آخرها مثل الدبوس فوقه كرة وشرابة من شعر الخيل.

         وأما لباس النساء فيتكون من القمصان والألبسة والإزارات المربوطة على الوسط، إضافة إلى الفساتين المعمول لها الكرسيت، أو فساتين واسعة الجيوب ويربطن على أعناقهن مناديل، وأما فساتين الرقص فتكون بلا أكمام ونصف صدورهن تكون مكشوفة، وفي الأيدي توضع الكفوف والفلاحات يلبسن السرفات(1) وتضع على رأسها قبعة عريضة.

الضابطة السياسية:

         أحدث القيصر ضابطة سياسية لمدينة بطرسبورغ، وكانت قواعد منحصرة في ثلاثة عشر نوعاً هي:
1 - الأبنية بحسب الأصول المقررة قبل.
2 - أحكام شواطئ الأنهار والخلجان وحفظها.
3 - السرقة.
4 - النظافة وتعيين الأماكن لبناء القوارب المعينة لتجارة الوقود.
5 - النظر في صفة البضائع المعروضة للبيع وثمنها وذرعها ووزنها.
6 - رعاية النظافة أمام البيوت المسكونة وسوق السمك وحفظ القناطر.
7 - فصل الخصومات والمنازعات بالسرقة.
8 - النظر في مداخن البيوت والأقمنة والمستوقدات.
9 - النظر في البيوت المتهمة والألعاب المحرمة.
10 - إمساك المساجين والهربانين والبطالين.
11 - إلزام كل السكان أن ينهوا إلى السياسة كل الأشخاص التي تصل أو تسكن عندهم.
12 - الاعتناء بإمساك المؤذين وإطفاء الحريقة ووضع حاجز في كل حارة، وإبقائه طول الليل.
13 - الاعتناء بنصب مسدّات في المدينة وأون (1) باشوات لحفظ السكون والترتيب العام.

         وزاد القيصر بخط يده على هذه الأنواع:
1 - إسكان النظام في بيوت الناس أياً كانوا كباراً أو صغاراً.

         وعلّق الشيخ الطنطاوي بقوله:

         هذه الأمور كلها مراعاة الآن بغاية الإحكام وألف شيء آخر، فالأبنية في غاية الإتقان، يبنى البيت الكبير بأربعة أدوار أو خمسة في أقل زمن، وشواطئ الأنهار والخلجان مرصفة أحسن الترصيف، ولهم في كشف السرقة تفتيش حصيف، ولا تنفع عندهم حيلة السارق الظريف، والنظافة مراعاة، ففي الخريف والصيف، بكنس الطرق وتوصيل ماء المطر إلى البالوعات وإزالة الوحل والقاذورات، وتجديد قطع الخشب والأحجار بالرمل ، وفي الشتاء والربيع بكنس الثلج وتنظيف المماشي منه، وربما توالى الثلج، فكلما سكن نظفوا وإذا جمد حكوه بالحديد، ثم رشوا عليه الرمل وكنسوه ، فدائماً يمكن التفسح بسهولة، وأمّا طرق العربات التي في الوسط فلا تنظف إلا في آخر الشتاء، وكذلك الأسطحة قبل أن تحلل شمس الربيع ذلك فيكون البلل والوحل، وأما شمس الشتاء فلا تحلل الثلج بل الصحو والنشف غالباً عنده شدة البرد، فكأنها تبرد كما قيل:

إن أتت النار إلى قرصها يوم تود الشمس من بردها

         وكذلك القناطر في غاية المتانة والظرافة، وإذا حصل أدنى خلل أصلح في الحال، وأمّا المداخن، ففي كل أسبوع يأتي الهبابون لتنظيفها لما أنها مظن الحريقة، وهناك محال يرصد منها الحريقة فحينئذ يولع فانوس لإعلام الناس، فيأتي المطفئون بالطرنبات وغيرها من آلات الإطفاء وأمرهم في ذلك عجيب، والفلقات والخفراء في كل حارة، ومن سكن في محل فلا بد من التعليم على تذكرة مروره . ولكل أحد تذكرة يغيرها في الغالب كل سنة، ويدفع شيئاً مخصوصاً، ولكل بيت بواب أو أكثر بحسب صغر البيوت وكبرها، ويمشي البواب أمام البيت في الليل بعصا يخبطها على الأرض، وفي البيوت الميرية زيادة على ذلك حراس وديدبانات، وللأقوات من طرف الضابط سعر مخصوص يكتب في الجرنالات لتعرفه العامة، ومن طفف في الكيل أو الميزان فعليه الغرامة . والمجرمون يُقادون في السلاسل ويعاقبون على حسب جريمتهم، إلى غير ذلك من أنواع السياسة الدقيقة الباعثة على الراحة العامة، والسّادة على المُؤذين كل طريق(1).

         مشاركة المرأة الروسية في الحياة العامة:

         يصور الشيخ طنطاوي حال المرأة الروسية قبل عهد القيصر الأكبر، إذا كانت النساء يقبعن في البيوت، ليس لهن إلا التأوه والملل والطاعة الكاملة لأوامر الظالم البيتي، ويكفي لضياع صيت امرأة شابة من الأكابر أن تخاطب رجلاً ولو بكلمة.

         وقد عمل القيصر على معالجة هذه المسألة فأصدر في تشرين الثاني 1718م فرماناً لترتيب الجمعيات، وابتدأت النساء في تحلية الجمعيات، ووصفت قواعد لذلك منها:
1 - إذا أراد شخص أن يعمل جمعية، لا بد أن يعلم الأشخاص الذين يجيئون رجالاً أو نساءً بالكتابة أو غيرها محل الجمعية وأن يجيئوا إن يريدوا.
2 - الجمعية لا تبتدئ قبل أربع ساعات أو خمس بعد الظهر، ولا تمتد بعد الساعة عشرة.
3 - صاحب البيت ليس مضطراً إلى ملاقاة المعزومين ولا توصيلهم ولا تحيتهم ومؤانستهم، بل يقدر أن يغيب بلا لوم في وقت الجمعية بشرط أن يهيئ ذلك الأرض بالسّفر والنور اللازمين والمشروبات التي يطلبونها، وأن يضع على سُّفر مخصوص ما يلعب به كالورق.
4 - لا تعين الساعات بل الضيوف يقدرون أن يجيئوا في أي ساعة شاءوا بشرط أن لا يكون قبل 4 ولا بعد 10.
5 - يمكن التفسح واللعب في الجمعية بلا مضايقة ولا إضرار لآخر، ويمنع من القيام عند ذهاب أيٍّ كان، ومن توصيله إلى الباب، أو فعل التكلف والرسم، وفاعل ذلك يعاقَب بالنسر الكبير، وذلك أنه يلزم أن يشرب كأساً كبيراً عليه نسر، ولا يقبل الاعتذار فبمجرد الإثم يصب الآثم ويحتسي فقط. ويلزم الاقتصار عند الدخول على توطئة الرأس قليلاً للسلام على الجماعة.
6 - يعين كل أنواع الناس الذين يترددون في الجمعيات وهم كبراء العساكر والأعيان وأصحاب الخدم الشريفة كلهم مع زوجاتهم.
7 - الخَدَمَة والقواسة لا يدخلون داخل الأرض، لكن يمكثون في المدخل أو في محل آخر يعينه لهم صاحب البيت، وهذه الشروط ملاحظة في المضايف ونحوها إن أعطي فيها رقص أو ضيافة.
8 - الرقص في أوضة، وفي أخرى يُلعب الورق أو الضامة أو الشطرنج، وفي ثالثة يشرب الدخان والسيجار، وفيها سفرات عليها الخمر والكبريت.. الخ. والقيصر كان يحب لعب الضامة، وكان ماهراً فيها بحيث يندر من يغلبه(1).

         وأفرد الشيخ الطنطاوي صفحات عديدة من كتابه للحالة العلمية في البلاد الروسية، ومدى تقدم الروس في العلوم والفنون، وأشار بهذا الصدد إلى أكاديمية العلوم الروسية والتي كان من أهدافها تنشئة علماء كبار للمملكة الروسية ولتضيف الكتب النافعة وحمل المشكلات وكتابة الوقائع والتاريخ المتعلق بروسيا، وكان جهازها التعليمي يتكون من رئيس واثني عشر عضواً ماهراً في أنواع العلوم، وكاتب وناظر كتب وأربعة مترجمين وبها اثنا عشر تلميذاً ممن أنهوا الدراسة العليا واختيروا ليكونوا علماء فيما بعد. كما خصصت لها ميزانية ضخمة للاتفاق عليها. إضافة إلى الأكاديميات الأخرى الخاصة بالطب والتصوير والهندسة والملاحة والصناعات الحربية وغيرها.

         كما تحدث عن تأسيس المدارس الكبرى مثل المدرسة القيصرية الكبرى، حيث يدرس فيها الطلبة أربع سنوات بعد المرحلة الأولى وفيها يتعلمون الفقه والدين والرياضيات والأدبيات والمنطق وعلم المعادن والطبيعة والجغرافيا والتواريخ والألسن، حتى الألسن الشرقية : العربي والتركي والتتاري والفارسي والأرمني والكرجي، وفي كل سنة يعمل لهم بحث ( امتحان ) فإن أجابوا نقلوا إلى الصف الأعلى وإلا بقوا. وكان عدد المدارس الكبرى في البلاد الروسية ستة بالإضافة إلى المدارس الإعدادية ومكاتب الأطفال التي بلغ عددها 230 مكتباً وفي المكاتب والمدارس الصغرى يعلمون البنات أيضاً كالصبيان ويتعلمون النحو والمنطق والرياضيات والأدبيات والجغرافيا والتاريخ والألسن والرقص والتصوير والموسيقى، ويضاف في البرنامج لتعليم البنات الخياطة وشغل الطارة والإبرة والنسج، والأطفال يضاف لبرنامجهم اللاتيني والروماني القديم.

         كما وصف مدارس الصم والبكم، وحضر الشيخ الطنطاوي حفلة رقص للصم والبكم، حيث كان العازف على القانون أعمى والراقصون صم بكم، وأدى العازف نوبة راقية، ورقص الصم والبكم بتعبيرات أدهشت الشيخ.

         وحتى اللقطاء فلهم بيوت للتربية ذكوراً كانوا أم إناثاً، وقد قرر بأنه حتى تاريخه لم يكن هناك بيوت للقطاء في دار الإسلام.

         ولتشجيع التلاميذ والمعلمين على التعليم في مصر اقترح الشيخ طنطاوي مجاراة الروس في إعطاء النياشين والألقاب للدارسين مثل نجيب وتلميذ مجتهد وتاجر وحاصل على رتبة ماجستير وحاصل على درجة دكتور أي فاضل وللفاضل أي الدكتور درجات إضافة إلى النياشين التي تمنح للدارسين والمدرسين، وهو يقترح أن ينفذ في بلاد المسلمين مثل هذا النظام فإذا فرغ الصبي من التعليم في الكتّاب ودخل في المدرسة يتعلم العلوم فبعد أربع سنين يقضيها في المدرسة، وبعد الامتحان يعطى ثبتاً وإجازة في كاغذ منسق أي شهادة، ويطلق عليه لقب نجيب، وبعد سنة أو سنتين إن استمر يعطى رتبة العالم أو الفاضل، والفاضل له رتبة المدرس الأول والثاني. أما الألفاظ فيقترح الشيخ الطنطاوي أن يعطى للجنرال لفظ الجناب وللوزير لفظ السعادة والشاه زادة، وعائلة السلطان لفظ السيادة وللسلطان لفظ الأبهة.

         كما نبه إلى أنه لا حرج من أخذ الأديب أو العالم أجراً إضافياً عما يكتبه في الجرائد والمجلات، وضرب مثالاً بما تقاضاه الأديب مسيو سكريب حيث بلغ دخله الإضافة 1832م 48,000 فرنك.

         وفصل طنطاوي في المجلات والجرائد التي كانت معروفة عند الروس وعيشتهم ومركوبهم مما لا يختلف كثيراً عما هو معروف في أوروبا بصفة عامة، ووصف أنواع الطعام التي يتناولها الروسي عند الإفطار والغداء وعند المساء، وعادات التدخين وحتى استخدام النرجيلة، وكذا العربات بأنواعها التي تجرها الخيول أو عربات الزحلقة.

         وختم كتابه بإعطاء لمحة سريعة عن اللغة الروسية وقواعدها النحوية وكيفية اشتقاقها من اللسان الصقلبي والتاتاري والفرنساوي والنمساوي، وإلى هنا حبس عنان قلمه قائلاً:

ولا تتجارى قد جرى منك يا كفي يراعى كفي الخوض فالبحر زاخر

         لقد كان رائد الشيخ الطنطاوي رحمه الله وضع مدينة وتقدم الروس أمام أولي الأمر سواء في مصر أو الدولة العثمانية، فكأن كتابه جاء تقريراً مطولاً يهدف إلى التنوير والإصلاح، يحاول من خلاله أن يحذو حذو الشيخ الطهطاوي فهل كان لتقريره الأثر المنشود؟!

أهمية رحلة الشيخ الطنطاوي:

         لا أرى أن رحلة الشيخ الطنطاوي كانت ذات تأثير في الفكر العربي الحديث مقارنة برحلة الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا، فالرحلة إلى البلاد الروسية بقيت بعيدة عن تناول الباحثين والكتاب لسنوات طويلة، بل إنها ظلت مغمورة على رفوف المكتبات فيما عدا النفر القليل الذي ساعدته الظروف في الاطلاع عليها، ولعل مرد ذلك يعود لعدة أمور منها:

         - إن رحلة الشيخ طهطاوي كانت لبلاد قد تقدمت في مضمار النظم الدستورية والتعليم والصحافة والحرية والتربية والثقافة في حين أن رحلة الشيخ الطنطاوي قد وقعت لبلاد آخذة في أسباب المدنية والثقافة وتسعى للنهوض بالمجتمع.

         - لقد عاد الشيخ الطهطاوي إلى بلده مصر، ووضع ما شاهده وخبره وما صادفه من الأمور الغريبة والأشياء العجيبة ليكون نافعاً في كشف القناع عن محيا تلك البقاع، من فكر سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي وعلمي، وساهم بذلك من خلال المؤسسات والمعاهد العلمية التي عمل في إدارتها ، والجرائد التي رأس تحريرها والمصنفات المترجمة التي نقلها إلى اللسان العربي، فكان تأثيرها النظري مقروناً بالتطبيق العلمي في حين أن الشيخ الطنطاوي عاد إلى بلده بعد أربع سنوات ليصحب زوجته إلى مكان عمله واستمر هناك حتى لقي ربه.

         - لقد كان هدف رحلة الشيخ الطهطاوي محدداً وواضحاً منذ البداية وهو إمامة طلبة البعثات إلى فرنسا، ومن ثم الدراسة والانخراط في الحياة العامة، ولكن بعين ناقدة ناقلة، في حين أن رحلة الشيخ الطنطاوي كانت للعمل في التدريس في بطرسبرغ.

         وبعدما وافق على العرض، استأذن محمد علي في السفر، فحضه محمد علي على تعلُّم لسان الروسيا، ووعده بالإكرام إذا تعلمه، وكتب له مرسوماً بختمه كدليل على التزام محمد علي بما وعد، ولا نعرف من سيرة الشيخ إن كان قد قابل محمد علي مرة أخرى أو كتب له بما شاهده وخَبَره وصادفه في البلاد الروسية، بل إننا نجد في ديباجة مقدمة الرحلة ما يفيد أنها أُهديت للسلطان عبد المجيد، وافتتحها بقصيدة في مدح السلطان عبد المجيد. والباحث يطرح سؤالاً مهماً إزاء ذلك، فالعلاقات بين الدولة العلية ومحمد علي باشا كانت متوترة، بل وعدائية في بعض الأحيان، ورأينا أن الشيخ طنطاوي قد أقدم على إهداء الكتاب للسلطان عبد المجيد بعد وفاة محمد علي باشا وسوء الأحوال في مصر، فرأى في الدولة العلية الأكثر أحقية في تقديم الكتاب إلى سلطانها.

         - إنّ منهج رحلة الشيخ الطنطاوي قد نسج على منوال رحلة الطهطاوي، والرسالة المتبادلة بين الاثنين، الطنطاوي والطهطاوي تدعمنا فيما ذهبنا إليه ، فقد اشتملت على منهج رواية الرحلة وجغرافية المكان والسكان ونظام الحكم والملبس والملاهي (وخاصة التياتر والرقص) والتربية والصحة والتعليم والنظافة، ويهتم بالوسائل الاثنوجرافية (موقع المدينة ومناخها، وطبيعة تربتها والطبقات التي تكونها خطوط الطول والعرض الآخذة بكروية الأرض والمناخ وكذا المظاهر الحضارية المتمثلة في التعريف بفروع المعرفة، وأسماء المعاهد والجمعيات العلمية والأدبية، وأسماء المكتبات والمتاحف والحدائق العامة، وقضية المرأة في مجال العمل والعلم والاجتماع، وقضايا السفور والحجاب ).

         - وبالرغم من ذلك، فإن رحلة الشيخ الطنطاوي تعد وثيقة أدبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تعرف أيضاً بحال اللغة في القرن التاسع عشر والمصطلحات التي كانت سائدة وتعرض للعديد من القضايا اللغوية من تورية وتلميح ونحت واشتقاق واقتباس، وكذا النقل والترجمة من اللغة الروسية إلى العربية، إضافة إلى ما تزخر به ثنايا الرحلة من كلمات عامية مثل ( فرنجي، ساوت، الأضياف، انسر، فوقانها، السُفر أي الموائد، وغيرها) علاوة على المواويل التي ضمنت في الكتاب، والنكات واللطائف.

         ومع ذلك، فإن رحلة الشيخ الطنطاوي تظل ذات قيمة عالية وشاهداً على العلاقات العربية - الروسية، وأثر الفكر العربي في التأثير على حركة الاستشراق في القرن التاسع عشر، والرحلة وإن كانت تالية لرحلة الشيخ الطهطاوي من حيث الأهمية، فإنها تقف في صف واحد مع رحلة الشدياق، كشف المخبا والساق على الساق، ومُقَدَّمة على رحلة فرنسيس مراش، رحلة إلى أوروبا، ورحلة محمد شريف سالم إلى أوروبا، وأمين فكري في إرشاد الألباء إلى محاسن الأوروبا، ورحلة محمد بلجوجة، سلوك الأبرياء في مسالك باريس، وعلي أبو الفتوح، سياحة في أوروبا، والدنيا في باريس لأحمد زكي، ورحلة علم الدين للشيخ علي مبارك، وجولة في ربوع أوروبا لمحمد ثابت، وتحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث.

المصادر والمراجـع

- أحمد مختار، رحلة سمو الأمير محمد علي باشا في جنوب إفريقيا سنة 1342هـ/ 1924م، ط القاهرة، مطبعة الاعتماد. د.ت.
- آدمز، شارلز، الإسلام والتجديد في مصر، ترجمة عباس العقاد، ط القاهرة، 1960م.
- حجازي، محمود فهمي، اصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974م.
- حسين فوزي النجار، رفاعة الطهطاوي (رائد فكر وإمام نهضته)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م (سلسلة أعلام العرب رقم 130).
- خالد زيادة، ثلاث رحلات جزائرية إلى باريس، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979م.
- خليل مردم، أعيان القرن الثالث عشر، قدم له وعلق على حواشيه عدنان مردم، ط الثانية، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1977م.
- الخفاجي، محمد عبد المنعم، الأزهر في ألف عام، بيروت، عالم الكتب، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 3 مجلدات، ط الثانية، 1408هـ/1988م.
- الزركلي، خير الدين، الأعلام، بيروت، 1979م.
- شيخو، لويس، الآداب العربية في القرن التاسع عشر، ط بيروت.
- الطهطاوي، رفاعة رافع، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، القاهرة، مطبعة بولاق، 1265هـ.
- مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية، مطبعة الرغائب، 1320هـ/1912م.
- علي مبارك، الخطط التوفيقية، ط مصر، 1986م.
- فتحي رضوان، دور العمائم في تاريخ مصر الحديث، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، 1986م.
- كراجكوفسكي، (أغناطيوس)، مع المخطوطات العربية، ط، موسكو، 1963م.
- قلفاط (نخلة)، تاريخ بطرس الأكبر، ط بيروت، المطبعة اللبنانية، 1886م.
- محمد ثابت، جولة في ربوع أوروبا 0بين مصر وايسلندا، طـ مصر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1948م.
- محمد عبد الغني حسن، أعلام من الشرق والغرب وعرب في بلاد الصقالبة، الشيخ محمد عياد الطنطاوي، مصر، دار الفكر العربي، مطبعة الاعتماد، 1949م.
- ناجي نجيب، الرحلة إلى الغرب والرحلة إلى الشرق، بيروت، دار الكلمة، 1983م.
- الدوريات والمجلات (مقالات)
أحمد تيمور، مقالة (الشيخ محمد عياد الطنطاوي)، مجلة الزهراء، المجلد الأول الجزء السابع، (417-428)، 1347هـ. ونشرت أيضاً في مجلة المجمع العلمي العربي، المجلد الرابع، الجزء التاسع، والجزء الثاني عشر، 1924م.
- كراجكوفسكي (أغناطيوس)، مقالة< الشيخ محمد عياد الطنطاوي <، مجلة الزهراء، المجلد الأول، الجزء السابع، 1347 (بالتعاون مع أحمد تيمور).
- محفوظ حسين علي، محمد عياد الطنطاوي، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد السابع، 1964م
- محمد أمين حسونة، محمد عياد الطنطاوي، مجلة الرسالة، العدد 549، يناير 1943م.

-Kosegarten, J.G; Scheihk Tantawi Zeitschrift Fur die Kuwde des Morgenlands, vll: 1850 PP. 43-67, 197-200. - Levitsky, H

Kiev, Mistetstvo Publishers Kiev, Progress Publishers, Moscow, 1980. - Marquis de Custine Empiro of the Czar (a journey through etemal Russia. 1539. U.S.A. 1989.

(1) الزهراء، م 7 / 420.
(2) أجاز الشيخ مصطفى القناوي بالرواية ونص الإجازة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:

         فقد أجزت العمدة الفاضل، ولدنا العزيز الشيخ محمد عياد بن المرحوم الحاج سعد عياد المرحومي بحديث الأولية وهو قوله: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) كما أجازني به شيخي وأستاذي فخر السادة الأشراف، ونخبة آل عبد مناف ، الحسيب النسيب السيد محمد مرتضى الزبيدي الحسيني اليمني، كما أجازه بذلك مشايخه.

         وأجزته كذلك بما أجازني به شيخي وأستاذي الشيخ محمد عبادة الغنيمي بلداً البيومي طريقة، كما يرويه عن مشايخه : أجلهم سيدي عمر الطنطاوي المغربي الشاذلي، والمبادرة إلى طاعة الله تعالى فإنها السبب الأقوى، ولا ينسانا من دعواته.

         وأجزته أيضاً بما رويته عن الأستاذ الأعظم سيدي محمد الحنفي الخلوتي الشاذلي بقراءة الكتب المشهورة في علم الحديث : البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والموطأ للإمام مالك بن أنس، رضوان الله عليهم أجمعين، ونفعنا بهم وحشرنا في زمرتهم آمين، وأوصيته أن لا ينسانا من صالح دعواته، في خلواته وجلواته. حصل ذلك عشرين المحرم الحرام سنة 1244 هـ.

الفقير مصطفى القناوي الشافعي الأحمدي
خادم أهل العلم بالمقام الأحمدي
انظر، تاريخ الزهراء، المجلد الأول، الجزء السابع، ص 420.
(1) انظر، تاريخ الأزهر، 138 ؛ الخفاجي : الأزهر في ألف عام، 1/247-248.
(2) محمد عبد الغني حسن : الشيخ محمد عياد الطنطاوي، 32.
(3) خليل مردم : أعيان القرن الثالث عشر، 160 ؛ خطط مبارك، 9/2، الأعلام، 1/70.
(4) الزركلي، الأعلام، 1/ 54.
(5) انظر، تحفة الأذكياء، 16.
(1) الزهراء، 7/ 420.
(2) أعلام النهضة، 276-277 ؛ شيخو : الآداب العربية في القرن 19، 1/85.
(3) تحفة الأذكياء، 9، 23.
(1) تحفة الأذكياء، 8
(2) الرحلة، ص8.
(3) التواريخ هنا تحسب على أساس التاريخ المعمول به في روسيا وينقص 12 يوماً عن الميلادي، وفق ما ذكره محمد عياد في مقدمة كتاب تحفة الأذكياء.
(1) أحمد تيمور، محمد عياد الطنطاوي، مجلة المجمع العلمي العربي، 4/ 390.

(1) Levitsky, Hi Kiev, a short guide, Mistetstvo Publishers, Kiev progress Publishers, Moscow, 1980. PP. 25-34.

(1) تحفة الأذكياء،
(2) تحفة الأذكياء، 59.
(3) المصدر السابق،69.
(4) انظر، وصف البيت في ص 71-73 من التحفة.
(5) حول الحروب، انظر : Marquis de Custine, Empiro of the Czar cajourney through eternal Russia (1839). U.S.A.
1989PP. 115-135.
(1) تحفة الأذكياء، 125 - 127.
(1) تحفة الأذكياء، ق 151.
(1) السرفة : خرقة فيها عيدان مثل الجبيرة تكون لترفيع الخصر.
(1) أون، عشرة، باشي : رئيس عشرة، الكلمة تركية.
(1) الرحلة، 159 - 160.
(1) الرحلة، 161-162.




أبحاث الفترة المسائية الثانية ليوم الأحد
رئيس الجلسة: الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين رئيس مؤسسة البابطين للإبداع الشعري
شهادة نورج: مدينة الحانات والكنائس
يوسف المحيميد

         في محطة (ليفربول ستريت) طلبت شاياً فسألني العامل الهندي بإنجليزية تكاد تخرج مخنوقة من أنفه، عمّا إذا كنت أريد شاياً أسود، وكان يعني بذلك الشاي السادة، غير المضاف إليه الحليب، ساعتذاك عرفت أنه يجب أن أحدّد نوع الشاي، إما أسود أو شاي مع الحليب. كانت المرّة الأولى في حياتي التي أركب فيها قطاراً يشق الطبيعة والشجر والمراعي والدواب والبقر والخنازير والأغنام وطواحين الهواء وبيوت القرميد. لم يكن الراكب في قطار بين مدن بريطانيا يحسّ بالوقت وهو يحدّق عبر زجاج النافذة إلى المشهد الحيّ، وكأنما هو يطالع مشاهد سينمائية صامتة. كان الراكب المقابل رجلا عجوزا يغرس نظارتيه في كتاب بين يديه، وفي المقعدين المجاورين الذين يفصلني عنهما الممر، تجلس امرأة ثلاثينية تقرأ أيضاً بصمت في كتاب، يبدو أنه رواية ما، بينما طفلها في السابعة تقريباً ينهمك في شاشة لعبة الفيديو اليدوية الصغيرة. لم أكن أقرأ لحظتها، إذ يكفي لزائر غريب يكتشف المكان للمرة الأولى أن يقرأ تفاصيل المكان ووجوه القرى والريف الإنجليزي. كنت أتأمل وأفكر بمن حولي وهم منهمكون بالقراءة، وأتذكر نسب الأمية في العالم العربي، وأتخيّل نسب الأمية الثقافية أيضاً، فكم من العرب من يعرفون القراءة والكتابة، لكنهم يتوقفون عند كتب المقرّرات المدرسية والجامعية.

         في (نورج) سأهتدي إلى مكتبة رائعة في وسط المدينة، وسأرى كيف تتوزع إلى أقسام وأجنحة ودورين مكتنزين بالكتب الرائعة. كان بجوار كل قسم يتوفر مقعد أو مقعدين، إذ يجلس مرتاد المكتبة ويقرأ جزءاً لا بأس به من الكتاب، لكي يقرّر اقتناءه أو إعادته إلى الرفّ. فلا يمكن أن يقتني الإنسان الإنجليزي كتاباً لن يقرأه، ولن يقرأ كتاباً لا يغريه في متابعة صفحاته، واللهاث وراء كلماته التي تجلب المتعة.

مدينة الصمت والخذلان

         شوارع مدينة (نورج) نهار الأحد، يوم وصولي، كانت شبه مهجورة. شعرتُ أنني وصلت إلى مقبرة أو منفى أو معتقل معزول في أقصى شرق إنجلترا. معتقل يُجلب إليه المعتقلون والمنفيون من جهة البحر في الشرق، حيث ملتقى بحر الشمال والقنال الإنجليزي، ويدفعون أسرى عبر مدينة بحرية صغيرة تدعى (قريت يارموث)، ومنها ينقلون في عربات السجن المغلقة إلى مدينة (نورج). كنت أبحث في الشوارع عمّا يبهج، ولكن كانت الكآبة تملأ الطرقات والشوارع. كان الصمت والكآبة أيضاً تهطلان من السماء فيما يشبه ندف الثلج، فوق البنايات والكنائس والتماثيل وفوق وجهي أيضاً. كنت كل فينة أمسح وجهي بكفيّ ثم أنظر في بطنهما، فأرى حزناً وافراً له لون السواد. في شارع (آرمس) الصغير، تنتشر المنازل على جانبيه، وتركن بجوارها السيارات، فما يبقى من الشارع يسمح لمرور سيارة واحدة بصعوبة. وقف السائق عند رقم أبيض كبير(79)، وعند باب البيت وقفت السيدة (جين)، ففتح السائق مؤخرة السيارة وسلمني حقيبتي، فدفعت باب الحديقة الخشبي القصير، ثم دلفتُ وهي ترحّب بي بابتسامة مجاملة. جاء من خلفها رجل ضخم، رحَّبَ بآلية وهو يحمل حقيبتي، ويصارع بها سلم الدرج الضيّق، صاعداً إلى الدور العلوي. كنت أظن أنني سأكون في الدور الثاني، لكن السيدة (جين) قادتني إلى غرفة علوية وحيدة في دور ثالث. لم يكن هناك دور ثالث، فقط كان الدرج العلوي يقود إلى هذه الغرفة الصغيرة. كان سقف الغرفة هرميّا، وفيه نافذة زجاجية تنفتح للأعلى، ويمكن من خلالها النظر إلى رؤوس المنازل القريبة، والحدائق المحيطة بها، وحبال الغسيل البلاستيكية بالمشابك الملوّنة. لا أعرف كيف تذكرت فجأة الخادمات الأندونيسيات حين يقدمن لأول مرة من أجل العمل في دول الخليج، وكيف يشعرن بالوحدة القاتلة وهن يذهبن إلى النوم في غرفهن العلوية في السطوح. لم أعد الآن معتقلا أو منفياً بل تحوّلت إلى عامل أو خادم أو سائق بنغالي أو أندونيسي يقيم لدى أسرة إنجليزية.

         كان الوقت عصراً، فقرّرت أن أخرج من المنزل كي أتجوّل، وأقتل الوحدة التي انتابتني، أو بالأقل لأخدّر مؤقتاً هذه الوحدة والكآبة، فاعترضتني السيدة (جين)، وأعطتني مفتاح الباب الخلفي المطلّ على الحديقة، وهي تؤكد عليّ بأن أحافظ على المفتاح من الضياع، وأن أقفل الباب حال دخولي، ثم كرَّرَتْ عليّ رقم المنزل واسم الشارع كي لا أنسى العنوان عند العودة. هل كنت أشبه عقلة الأصبع كي أرمي الحبَّ خلفي في غابة الإنجليز لأتمكن من معرفة الطريق عندما أعود؟ وهل ستأتي نعامة الملل والسأم لتلتهم حبوبي المرميّة في الطريق، فلا أعرف طريق العودة خلفاً؟ ولا أعرف طريق الأمام؟ ولا أعرف وصفي؟ ولا اسمي؟ فأكون ضالا وتائهاً حقيقياً في مدينة غريبة! وجدت في الركن بقالة صغيرة، فدلفت مثل يربوع صحراويّ غريب، واقتنيت علبة عصير صغيرة، بهدف أن أحصل على عملة جنيهات معدنية، كي أستخدمها في كابينة الهاتف. قمت باتصالات على أمي وزوجتي، وشممت رائحة العبرة تخنق صوتيهما.

جامعة (إست إنجليا)

         تعرّفت على صديق اسمه محمد أخذني في جولة على المدينة، وكنت ذاهلا وقانطاً من فراغ شوارع وساحات (السيتي سنتر) من الناس، كنتُ محفوفاً بالوحشة، لكنه ذكر لي أن اليوم إجازة نهاية الأسبوع، وفي الغد نهار الاثنين ستكون هذه الشوارع حافلة بالبشر والمتنزهين. خرجنا من وسط المدينة تجاه جنوبها الغربي، ومن شارع (بلو بل رود) المنطلق من منطقة (إيتون) دخلنا إلى مبنى جامعة (است انجليا). أوقفنا السيارة ومشينا داخل الجامعة.

         كانت التلال الخضراء تلفت النظر، وقد فاجأتني وفرة الأرانب الطليقة وهي تتخاطف أمامنا كالقطط، علقت بأن هذه الأرانب لو كانت في بلادنا لنثر أشلاءها رصاص القنّاصة. كان كل شيء يعيش بطمأنينة بالغة: الأرانب تتراكض بين التلال والجحور، والاوز يعوم حرّاً في البحيرة، والحمام ينتشر في الأسواق، وهو يحطُ فوق مساند كراسي الانتظار، ثم يركض على الأرض وينقر الحبّ بين أقدام المتجوّلين، أما الكلاب فهي تتمتع بدلال وتقدير مذهل، من قبل العجائز والنساء والأطفال والرجال.

         كانت مساحة جامعة (است إنجليا) ضخمة، وتنتشر فيها مباني القاعات والأقسام والملاعب والسكن. في الصالة المغلقة كان شباب سعوديون يلعبون كرة القدم كل مساء أحد. وفي إحدى قاعات الجامعة الواسعة تقام خطبة وصلاة الجمعة للمسلمين، وصلوات التراويح في ليالي رمضان. كان نظام الجامعة لا يسمح بدخول السيارات في المساء فقط، لذلك يوقف المصلون في ليل رمضان سياراتهم في المواقف الخارجية، ويمشون مسافة سبع أو عشر دقائق تجاه قاعة الصلاة. كان رجال الأمن الإنجليز في مخارج الجامعة يتعاونون مع السيارة التي تحمل عدداً من الركاب، ويجعلونها تدخل حتى في المساء شريطة أن ينزل الركاب، ويعود السائق خارجاً بسيارته إلى مواقف السيارات الخارجية. ذات ليل دخل مجموعة شباب ملتحون من أجل الصلاة، لكنهم أوقفوا السيارة في الداخل، ولم يخرج بها السائق تبعاً لنظام الجامعة. في المساء التالي وقف السائق ذاته، بالركاب ذاتهم أمام رجل الأمن الإنجليزي، فلما تأملهم ملياً، سأل السائق: (ألستَ مسلماً؟) أجاب السائق: بلى!! قال له رجل الأمن متأسفاً: (المسلم لا يكذب، صح؟). وافقه السائق وهو يشعر بخجل من نكثه بالأمس وعد الخروج بالسيارة.

نساء يتبعن الكلاب!!

         في المجتمع الإنجليزي من الصعب إقامة علاقة دائمة، سواء مع الأجانب، أو حتى بين الإنجليز أنفسهم، لذا وجدت أن معظم المنازل لا تضم سوى امرأة فحسب، أو رجل فقط، وأحياناً امرأة ورجل معاً، فلم يكن النظام العائلي الكبير في العالم العربي معروفاً لديهم. لذلك كانت السيدة (جين) فرحة كثيراً، وهي تطلعني على مجموعة صور داخل صورة واحدة، إذ قامت بقصّ دقيق لبعض الوجوه من صور متعدّدة، وألصقتها بجوار بعضها، لتكوّن صورة كبيرة مزدحمة بالوجوه، وكأن فقدان العلاقة بين هؤلاء الأقارب، وشتاتهم في الواقع المعيش، جعلها تجمعهم -على أقل تقدير- على هذا الورق المقوّى. ولم تكن الرابطة بين الرجل والمرأة تفضي بالضرورة إلى زواج، بل يكفي أن يكونا مجرّد صديقين، تستضيفه المرأة في بيتها أثناء عطلة نهاية الأسبوع، ويفعل هو مثل ذلك معها.

         بعد مرور يومين من الأسبوع افتقدتُ الرجل الضخم الذي نقل أغراضي إلى الغرفة العلوية، وسألتُ الإماراتي الذي يسكن معي لدى العائلة، عن زوج السيدة (جين)، فضحك طويلا، وهو يخبرني أنه وقع في نفس الوهم أول إقامته لدى السيدة، لكنه عرف فيما بعد أنه صديقها، ينام معها في عطلة نهاية الأسبوع، ثم يختفي عنها منهمكاً في عمله وحياته الخاصة، وكذلك هي في عملها كممرضة في مستشفى (نورج) العام.

         خارج مبنى المدرسة تظهر حديقة صغيرة بجوار شارع صغير يفضي إلى مواقف المدرسة، وعند تجاوزه يصل السائر إلى مركز تجاري واسع، يضم بالإضافة إلى (سوبر ماركت آزدا) بعض محلات صغيرة من مطعم ومكتبة قرطاسية وتحف وغيرها. في الباحة بين هذه المتاجر الصغيرة تنتشر عجائز متقاعدات عن العمل، يقدن كلابهن خلفهن، وأحياناً تقودهن الكلاب إذ يمشين خلفها مستسلمات وهن يمسكن بالحبال الجلدية. في محل المكتبة والتحف الصغيرة لا تكف الطالبات اليابانيات عن شراء العديد من العرائس الصغيرة، والدببة الجلدية في حجم ميدالية مفاتيح، وأختام عبارات الحبّ والشوق والفقدان.

جنيات يحرسن المدينة

         مدينة (نورج) داخلية، لا تطل على البحر، رغم أنها على مسافة أميال قليلة من ملتقى بحر الشمال والقنال الإنجليزي، بحيث يصل سائق السيارة في ظرف نصف ساعة، إلى مدينة بحرية صغيرة في الشرق منها، إسمها (قريت يارموث)، ويختزل اسمها في شطره الأول إلى (قت) لتصبح (قت يارموث). كما يحيط بمركز ووسط مدينة (نورج) شارع دائري صغير اسمه (سيتي لينك رود)، ويتفرع منه عدد من الطرق التي تؤدي إلى المدن المجاورة، ففي الشمال جهة المطار، ينطلق طريق إلى (كرومر) و(نورث ويلشهام)، وفي الجنوب يفضي طريق (إبسويتش رود) إلى (إبسويتش)، كما يقود طريق (نيو ماركت رود) إلى كامبرج ولندن. في الشرق ينطلق طريق متعرّج إلى مدينة (قت يارموث) البحرية، بينما في الغرب يقود الطريق إلى (كينجس لن).

         يقطع هذه الطرق جميعاً في شكل دائري يحيط بالمدينة طريق (رنق رود) وهو ذو حلقة أكبر من (سيتي لينك رود). كما تكثر في مدينة نورج الميادين الصغيرة، والواحد منها عبارة عن (دوّار) صغير يربط بين الشوارع عند التقائها، كبديل سريع وعملي لنظام الإشارات الضوئية، خاصة مع احترام السائق الإنجليزي لحق الآخرين في العبور، وذلك بوقوفه الإجباري عند الدوّار، حتى يتأكد من عدم وجود أي سيارة أخرى داخل الدوّار، فيعبر داخلا إلى الدوّار حتى يحظى هو بحقه في الالتفاف. هذا النمط يختلف جذرياً عن قيادة السيارة في ميادين (الرياض)، التي تتطلب شراسة وانقضاضاً على الدوّار حتى يقف مذعوراً من يلتف بسيارته بسلام داخل الدوّار.

         لم يكن الشجر الضخم الذي يظلل شوارع (نورج) شيئاً عادياً بالنسبة لي، خاصة مع غروب الشمس في فصل الخريف، إذ تبدو الأشجار العارية الضخمة مثل جنيات يحرسن المدينة، وذلك في شارع (أنثانك رود). كما تكثر الكنائس والحانات في (نورج) بشكل لافت، مما يجعل الزائر يلحظ أن بجوار كل كنيسة حانة، لدرجة أن العجوز الهولندي (هانك)، الذي عشتُ في منزله قرابة شهرين، كان يقول لي إن أهل (نورج) مختلفون حول هذا الأمر، إذ يرى المسيحيون الكاثوليك أن المؤمن المدمن على الحانات، يجعله قربه من الكنيسة مستعداً للندم والتوبة، بينما يرى آخرون أن دخولهم إلى الكنيسة يحتاج منهم إلى أن يدلفوا الحانة حتى يطيروا بأحلامهم بعيداً عن سطوة الكنائس.

         كانت مدينة (نورج) تعدّ المدينة الثانية بعد لندن من حيث عدد الكنائس، وتحظى بكاتدرائية ضخمة وعريقة تقع على شارع (كاسل ميدو)، بحيث يجاورها مبنى القلعة. رغم أن مبنى الكاتدرائية يوحي بالقدم والمهابة، إلا أن المتأمل لمبناها العتيق لا يشعر أنه مرّ عليه أكثر من خمسة قرون، وأنه خضع لعمليات هدم وحرائق، وتعرّض لحروب بين الحكام والرهبان، كما حدث في عهد هنري الثامن. كانت تصطف على الجانبين أعمدة ضخمة قبل الوصول إلى المذبح، وتزدهر نقوش وأشكال ملائكة ترفرف بأجنحة، وتماثيل لمريم العذراء. أذكر أن أحد الزملاء العرب كان يسكن لدى أسرة، وتصاحبه السكن فتاة برازيلية جميلة، يذكر عنها تديّنها الشديد، فلا يمكن أن تقيم علاقة عابرة مع شاب، وهي لا تتأخر عن القداس يوم الأحد.

         أما العجائز من النساء الإنجليزيات، فهن يعتنين بأنفسهن لدرجة أن يشعر المرء أنهن متصابيات كثيراً، وهن يتعبن على أجسادهن ووجوههن، ليس ذلك فحسب، بل إن بعضهن يتقمصن تصرفات المراهقات في اللبس والشكل، ففي أوخر الصيف وبدء البرد، يكون الإنسان متردّدا إزاء الملابس، فلا يعرف ما إذا كان يفترض أن يلبس قميصاً خفيفاً بلا أكمام فقط، أم يحتاج إلى أن يلبس كنزة صوفية فوقه. كان الإنجليز عموماً، خصوصاً الفتيات والشباب يلبسون كنزة صوف أو بالأقل قميصا بأكمام طويلة، وحين يشعرون بالحرّ، يخلعون الكنزة أو القميص ذا الأكمام، ويربطونه حول أوساطهم، بحيث يكون القميص في الخلف، يغطي المؤخرة، بينما الأكمام تربط ببعضها حول البطن. هناك بعض العجائز المدرّسات يدلفن الصفّ بطريقة وضع القميص ذاتها، وهن يتضاحكن وكأنما يشعرن بأنهن صغيرات ومراهقات. كلما تذكرتُ هذه المشاهد أحزن على أمهاتنا النجديات اللاتي يشعرن بأنهن عجائز في سنّ الثلاثين أو الأربعين على أبعد تقدير. كان هذا الشعور يكرّسه الرجال حولهن، وهم يتندرون ويسخرون منهن كعجائز، مفسحين لأنفسهم فرصة الزواج بفتيات صغيرات في أعمار بناتهم، أو أصغر أحياناً. كنت أشعر أحياناً أن هؤلاء الأمهات والجدّات في نجد تحديداً لم يعشن حياتهن كأي نساء أخريات في العالم. كنّ يعشن خادمات مخلصات للرجال، ثم ينهمكن برعاية وخدمة الصغار، قبل أن يتحولن إلى جثث مهملة في إحدى زوايا البيوت.

سيتي سنتر نورج

         وسط مدينة (نورج) تظهر محلات مسقوفة بالأشرعة، وتبيع سلعاً رخيصة، من الملابس ومفارش السرر والخضار والفواكه، وحتى الكتب الجديدة والمستعملة وأشرطة الفيديو والكاسيت وغيرها. يسمى مجموع هذه المحلات في الساحة (ربش ماركت) وهي تعني السلع التي تشبه النفاية، لرداءة صناعتها، وتواضع احتمالات جودتها. عرب وهنود وإنجليز معدمون يتجولون في هذا السوق، يشترون بمبالغ ضئيلة في حدود قدراتهم الشرائية. هناك يمكن أن يجد المتجوّل نوعيات من الإنجليز، يعتبرون أناس الشوارع، سواء بملابسهم القذرة أو أشكالهم المهملة، وهم إما يتجولون بين المحلات المظللة، أو يكونون هم من الباعة البسطاء. كنت مع صديقي محمد نتنزه في المحلات الرخيصة، وحين أطال صديقي تفحّص بنطلون جينز، باحثاً عن اسم دولة تصنيعه، أثار البائع الإنجليزي الضخم، بملابسه المتسخة، مما جعله حالما سأله محمد عن مكان صناعته يتفوّه بشراسة ولؤم وازدراء وهو يقول: (مصنوع في الشرق الأوسط). كان محمد ينوي أن يجادله بسخرية أكبر، لكنني سحبته من ذراعه، وغادرنا السوق، بعد أن اقتنيت جهاز تسجيل رخيصا، ورواية (أوليفر تويست) للإنجليزي ديكنز، بغلافها السميك.

         كان الداخل إلى (سيتي سنتر) من جهة الغرب، تاركاً الدوّار خلفه، يجد على يمينه متجر (باوند لاند) وعلى يساره (كيو آند دي). ثم بضع محلات ألبسة وأحذية، بعدها يكون بنك (باركليز) على اليمين، مشرفاً على زاوية، فيها ماكينة صرف آلي. ثم يظهر على اليسار متجر (ماركس آند سبنسر) بضخامته ولائحة عرضه المغرية. يقابله جهة اليمين محل لتحميض الصور، يأتي بعده عند المنعطف محل (جيسوبس) لبيع الكاميرات والأفلام وأدوات التصوير من ورق وسوائل. كثير من عوائل الغرباء ترتاد محل (باوند لاند)الذي يبيع أدوات وأغراض المنازل بأسعار معقولة. أما محل (كيو آند دي) فهو متخصص في بيع الملابس والأحذية والفرش وأغطية ولحافات الأسرّة والمخدّات وغيرها، وبأسعار معقولة أيضاً للمستهلك العادي، خصوصاً بالمقارنة بمتجر (ماركس آند سبنسر) الباهظ.

         قبل الوصول إلى محل (جيسوبس) للتصوير يتفرع طريق إلى اليسار، يأتي في نهايته إلى اليسار مطعم (بيتزاهت)، ومن بعده محل شركة (مارتن داوز) المتحدة للأتصالات، حيث اقتنيتُ جهاز الجوّال لأول مرّة. في عمق منطقة (سيتي سنتر)، وفي الجهة المقابلة لسوق المظلات (ربش) الرخيص، يوجد طريق مسقوف لاتدخله السيارات، في طرفه مكتبة رائعة مكوّنة من دورين وأجنحة عديدة، وقبلها على اليمين مطعم ومقهى جميل، بمقاعد وطاولات من الإستنلس ستيل، وزجاج يطلّ على الطريق المرصوف بالأحجار، يقابله محل (جاليري) لعرض اللوحات الزيتية والمائية، وقبل محل اللوحات يبدو على الزاوية محل لبيع أنواع متعدّدة من الحلوى. في الساحة المجاورة يظهر صفّ من الأكشاك المسقوفة، تبيع الحقائب اليدوية ومظلات المطر الملوّنة والتماثيل الحجرية الصغيرة ومحافظ النقود الرجالية والنسائية وغيرها. في طرفها الأدنى محل لبيع (الآي سكريم) والمشروبات الباردة، حيث يصطف أمامه المراهقون الإنجليز مع صديقاتهم، ويأخذون نصيبهم من (الآيس كريم) ثم يجلسون على الجدار القصير لنافورة الماء المزدان وسطها بتماثيل نساء عاريات.

دروس السيدة (جين)

         كان من الصعب أن يندمج الغريب مع بلد أجنبي، بعاداته وأنظمته وتقاليده ولغته، وشروط التعامل مع الناس، من أبسطها إذ يتوجب على من يُعرض عليه شيء، كالشاي أو القهوة، بأن يجيب بشكل محدّد وواضح: (نعم، من فضلك) أو لا، شكراً. كنتُ أجيبُ باختصار (شكراً) حاذفاً كلمة (لا)، فلا تعرف السيدة (جين) إن كنت أوافق على عرض القهوة أم أعتذر. بعد أن علمتني ضرورة أن أحدّد بدءاً (نعم) أو (لا) شعرت أننا في لغتنا العربية نتعامل بطريقة مجازية أو إشارية أحياناً. كان أيضاً من الصعب أن آكل وأنا أمشي في الطرقات، إذ كنت أشعر أن ذلك خطأ تربوياً، وقد يجلب لي نظرات الاستهجان من قبل الآخرين. لكن السيدة (جين) في الأيام الأولى - بعد أن غادر زميلي الإماراتي، حيث صرت أمشي وحدي إلى نقطة انتظار الحافلة- قالت لي وقد رأتني أنزل مستعجلا من الدرج، وأحاول أن أتناول إفطاري بشكل مرتبك، قالت بأن آخذ فطيرة الجبن معي، وآكلها في الطريق، متجهاً إلى (درهم رود).

         رغم برودة طقس (نورج) فيما عدا فصل الصيف، فإن الناس تعلموا أن يستحمّوا فجراً قبل الخروج إلى أعمالهم ومدارسهم، مما يضفي نشاطاً رائعاً على الجسد، خاصة وهو يستقبل نسمة هواء باردة، وسماء مكتظة بالغيم الرمادي. لم يكن المطر في (نورج) وفي (بريطانيا) عموماً يحتاج إلى برق يلتمع كل ثوان، ولا رعد يفرقع بوحشية، كما هو في بلادنا، بل حتى المطر إذ يهطل، فإنه يهطل بنعومة فائقة، كأنما يد حانية في السماء تمسح على رءوس التلاميذ الذاهبين إلى مدارسهم. كان المطر لا يكفّ عن الهطول، مما يجعل فضاء المدينة نقيّاً وصافياً، لدرجة أن أردأ أنواع كاميرات التصوير تنتج صوراً رائعة، بسبب النقاء الشديد في الجوّ. في مدرسة (بوثروب هول)كانت الطالبات يرتدين معاطف مطرية، ويتباهين بمظلات المطر الملوّنة والغريبة. وكما كان الطلاب يخرجون أمامهم قواميس اللغة الإلكترونية، وأجهزة المذكرات الإلكترونية، كانت الطالبات، خاصة اليابانيات، يهتممن بأشكال أقلامهن وحقائبهن، فمرة قلم برأس إنسان يلبس قبعة، ومرة حقيبة صغيرة على شكل دبّ قطبي بنّي، فضلا عن الاهتمام والتنافس على أشكال الوشم، على الأكف أو فوق الأصابع وأحياناً على الرقبة أو الذراع المكشوفة.

         كانت السيدة (جين) تحكي أحياناً عن ولدها الذي خرج ولم يعد مرة أخرى. وعن بنتيها اللتين تزوجتا وغادرتا، وهما تحضران بصحبة أطفالهما أحياناً في عطل نهاية الأسبوع. لم تكن السيدة (جين) وهي في الخمسين بحاجة إلى أن تخفي علاقتها بالرجل الضخم الذي ينام معها في عطل نهاية الأسبوع عن بنتيها المتزوجتين، بل كان يحضر حتى في وجودهما، وأحياناً تعتذر الأم هاتفياً عن استقبالهما، بحجة أنها ستذهب في عطلة نهاية الأسبوع إلى منزل صديقها، لتنام معه. أما بنتها الثالثة فهي تعاني من إعاقة عقلية بسيطة، رغم انها تتدبر أمورها، وتقيم بمفردها في شقة قريبة.

12 بومبستد كورت

         بعد أن ودّعت السيدة (جين) وانتقلت إلى منزلي الجديد، شعرت بالراحة والاستقلال، إلا أن مشاغبات مراهقي الحيّ الإنجليز كانت تؤرقني، ففي كل صباح أجد بقايا البيض السائلة تلتصق على زجاج سيارتي. بل إن الأمر وصل مرة إلى أن فزعتُ على خبطة عنيفة هزّت زجاج نافذة الصالة المطلة على مواقف السيارات، فرفعت الستارة بخوف وحذر، ورأيت السائل الأصفر للبيضة وهو ينزلق ببطء على زجاج النافذة. لم أكن أعرف آنذاك، ولم أجد تفسيراً لهذا العداء لدى الإنجليز تجاه الغرباء. كنت أواجه تلك التحرشات بالصمت، خاصة وأنا أشعر أن هؤلاء المراهقين هم أبناء شوارع، إذ كنتُ ألمحهم من وراء ستارة غرفتي العلوية، وقت ما بعد الظهيرة، قبيل أن أضع رأسي لأنام، وهم يتخذون من زاوية المواقف مكاناً لتجمهرهم. كنت أشاهد أحياناً ثلاثة أولاد مراهقين، وهم يقفون بدراجاتهم الهوائية، متحلقين برابعهم وهم يحدّقون به منهمكاً في قبلة طويلة لبنت مراهقة تصحبهم دوماً في تنقلاتهم داخل الحي. كان الأمر أكثر صعوبة بوصول أطفالي الثلاثة، الذين قد يفهمون مثل هذا السلوك، مما يضطرنا، أنا وزوجتي، إلى تجنيبهم رؤية مثل ذلك، حيث صرفنا الكثير من الوقت لإبعادهم عن رؤية مثل هذه المشاهد غير الأخلاقية.

         لعل هذه المسألة تزداد حول رغبة مشاهدة أفلام السينما التي تناسب الطفل، إذ إن جزءا من رحلة طويلة كهذه أن يتمتع الصغار والكبار بمشاهدة السينما، وما توفره من فضاء بصري ونفسي مذهل. في مدينة نورج يخصص نهار الأحد، تحديداً صباح الأحد، لأفلام الرسوم المتحرّكة الخاصة بالأطفال، فكان أن قرّرنا حضور ومشاهدة فيلم (بقز لايف) في سينما (آي بي سي). كان يوماً مذهلا، إذ حضر العرض حشد من الأطفال، لا يمكن أن تسمع منهم أثناء العرض صوتاً أو بكاءً أو نفَساً. تذكرتُ على الفور عرضا مسرحيا فرنسيا للأطفال حضرته منذ سنوات في (أبوظبي) أثناء معرض الكتاب الدولي، وأدهشني كيف يمرّ الأطفال أمام الآخرين وهم في وضع الركوع الصامت، منعاً لإثارة الجلبة والبلبلة والتشويش على متابعي العرض المسرحي. كنت لحظة ذاك مسكونا بالدهشة من احترام هؤلاء الأطفال الأجانب لحقوق الآخرين والحفاظ عليها، وأنا أتذكر حال الأطفال العرب. كما ورد في ذهني العرض الموسيقي والأدائي الصامت للفنان موتسارت في مسرح نورج، الذي حضره معي ما يقارب ألف مشاهد، وكنت كأنني الوحيد الذي يشاهد العرض لهول الصمت المحيط. وهو ما لا يمكن أن تجده في أي بلد عربي، أثناء عرض مسرحي لا تكفّ أجهزة الهاتف النقال عن الرنين، أو ما يشوب محاضرة عربية ما من دق المحاضر سطح الطاولة بأصابعه كل فينة آمراً الحضور ذا الثرثرة بالصمت والإنصات.

حفلات المساء

         لم تكن مدرسة (بوثروب هول) تتأخر عن إقامة حفلات في نهاية كل دورة تدريبية، وكان أن تحوّلتْ، ذات مساء، الصالة التي تتاخم المطعم إلى قاعة احتفال مزدحمة بالمقاعد، وقد أصبح الطالب الياباني (ياوتشي) ممثلا في ليلة الاحتفال، بينما ثلاث مدرّسات يقمن بدور عاشقات له، وهن متنكرات بزي غريب، ويفتعلن أصواتاً غريبة، بينما ربطت عيناه بعصابة سوداء كي لا يرى، ويتم سؤاله عن السيدة التي تحادثه، من تكون من بين المدرسات، وأحياناً كانت إحداهن تمسك بيده وهي تتحدّث، وتتجوّل به على ساحة العرض.

         قبل أن أصل إلى هذه البلاد كنت أنظر بإعجاب وتقدير للشعوب المتقدّمة، تلك الشعوب التي حققت قفزات اقتصادية وصناعية، لدرجة أنني كنت أظن أن أي إنسان ياباني هو مثقف ومنجز بالفطرة، وهو كما أجهزة الحاسوب مزدحم الذاكرة بالمعلومات والمعارف، لكن كل ذلك كان وهماً بعد أن قرَّرَتْ إحدى المدرّسات في بدء الدراسة، أن توزّع طلاب وطالبات الصف إلى مجموعات قطرية متجانسة، على أن تستعرض كل مجموعة من بلد ما، تقاليد وثقافة هذا البلد، لتقوم المجموعات الأخرى بطرح الأسئلة حول ذلك. أذكر أنني طرحت عدداً من الأسئلة عن الثقافة التقليدية في اليابان، كملابس الكيمونو للنساء، ونمط قصائد (الهايكو) وأعمال السينمائي العالمي (أكيرا كيروساوا)، دون أن أجد إجابة شافية وواضحة عن هؤلاء، وهم شاب عشريني اسمه (ياوتشي)، وفتاة في الثلاثين اسمها (ماقومي)، وشاب ثالث لا أتذكر اسمه. قرّرت المدرِّسة أن تدوّن أسئلتي وقد شعرت بدهشة وشكّ، دهشة أن يسأل غريبٌ أهلَ بلد ما، فلا يجد لديهم إجابة شافية، وشك أن تكون أسئلتي خاطئة أو مختلقة أصلا. في اليوم التالي جاءت طالبة يابانية من الصفوف المتقدمة في دراسة اللغة الإنجليزية، وشرحَتْ لنا كل ما سألتُ عنه، لدرجة أنني طلبت منها أن تقرأ لنا من ذاكرتها بعض قصائد الهايكو القصيرة، وذلك بلغتها الأصل، أي اللغة اليابانية، لأكتشف كمّ الإيقاع المذهل فيها، فضلا عن الرؤية العميقة التي أعرفها من قبل، عبر قراءاتي العربية، أو الإنجليزية فيما بعد.

         هذا الموقف أشعرني أن الحضارة التقليدية اليابانية معرّضة للزوال تحت سيطرة النموذج الغربي في الملبس والمأكل والمشرب، لدرجة أنني أذكر كيف كان (ياوتشي) يلبس القلائد والأساور بالطريقة الغربية عينها، وكذلك كانت (ماقومي) تهتم بمسألة الوشم، وقد زارت لندن مراراً كي تضع الوشوم في مناطق متعدّدة في جسدها. كما أن الإنجليز الذين كنت أظن أنهم جميعاً قرأوا (تشارلز ديكنز)، والشاعر (فيليب لاركن)، أو حتى الشاعر المعاصر –(تيد هيوز) الذي توفي خلال وجودي هناك، إلا أنه تبين لي أنه ليس بالضرورة أن يكون كل هؤلاء قرَّاء، بل حتى القارئ منهم قد لا يحب قراءة الأدب مثلا، بل يقرأ في العلوم المتنوعة، أو في الفلسفة أو في التاريخ وغيرها.

الأسكوتلندي (جوناثان) و(سافو)

         كان من مبادرات مدرِّسة إنجليزية حاصلة على ماجستير في الأدب أن اقترح على من يرغب، من طلاب وطالبات الصف، بالكتابة في أي موضوع يعشقه، بأن يقدّم لها أسبوعياً مقالا أو موضوعاً جديداً، كنشاط اختياري، وغير أساسي أو اجباري. كثير من الطلاب والطالبات، من اليابان وأمريكا اللاتينية، كانوا حريصين على الكتابة، وتعلم أصولها وفنونها. أما الطلاب العرب، الخليجيون والليبيون فلم يبادر أحد منهم بالكتابة سواي. لدرجة أن أحدهم قال معلقاً في فترة استراحة بين الحصص، أنه غير قادر على الكتابة باللغة العربية، فكيف بالإنجليزية، وآزره آخر مؤكداً أن أسوأ مواد الدراسة في الصغر كانت مادة التعبير، إذ كان يترك ذلك لأخته التي تحلّ له واجب التعبير. أكد الأول أن البنات هن أفضل من يكتب موضوعات التعبير. اتفقا على ذلك في محاولة إهانتي - حسب وعيهم - بأن أنشطة النساء هي في المطبخ والتعبير بكلمات رومانسية. كانا يشعران أنهما يقدمان على شتيمتي، إذ إن وصف الرجل بامرأة تعد - في أعرافهم - أسوأ من وصفه بحيوان مثلا. ظللت أكتب شعراً قصيراً بالإنجليزية بعد أن قرأتُ بعض تجارب قصائد (الهايكو) الإنجليزية. كنت أكتب ما يشبه محاكاة هذا الشعر.

         لم تكن تشعر بالدهشة فحسب، وهي تراجع ما أكتب من خربشات في خريطة الشعر، بعدما أدمنتُ المكتبة في (سيتي سنتر)، لأقتني كل مرة كتاباً جديداً، وأقرأ فيه بصحبة قواميس اللغة، من القاموس الإلكتروني السريع، وحتى قاموس (إكسفورد). بل إنها قدّمت لي عرضاً رأيته ساذجاً لطباعة ما أكتب بالإنجليزية في كتاب، وقد سألتني عمّا إذا كنت أكتب شعراً بالعربية، وما إذا كانت تلك القصائد هي ترجمات لذلك الشعر.

         لم تخدمني كتابة القصائد في تعلم مهارة الكتابة فحسب، بل إنها قدّمتني بشكل رائع إلى مدرسة (أولد هاوس) في شارع (تشرش لين)، إذ استقبلني طاقم التدريس هناك كشاعر جيد من حضارة أخرى، وتمّت توصية المدرّس الشاعر الأسكتلندي جوناثان عليّ، إذ استضفته فيما بعد في بيتي، ثم دعاني إلى بيته بعد أن تحدثتُ معه طويلا عن شعراء اليونان القدماء والجدد، وأبديت إعجابي الشديد بالشاعر يانيس ريتسوس، وقسطنطين كافافيس، والروائي نيكوس كازانتزاكي، وعرّفني في بيته الصغير في منطقة (إيتون)على زوجته اليونانية.

         بعدما قرأ لي بعض التجارب البسيطة، وأطلعني على قصائده القديمة، مؤكداً توقفه عن الشعر، نصحني بقراءة الشاعرة اليونانية القديمة (سافو). وظلّ في كل لقاء يتحدث عن قصيدتها (الراعي والنجوم) وهو يشعر بمتعة نادرة أن يتلو مقاطعها الأخيرة. بعد أن انهمكتُ بالدراسة الجادة، التي تتطلب مني حفظ الكثير من المفردات أسبوعياً، انشغلت عن الصديق جوناثان، ولم أعد أراه في المدرسة، إذ كان يعمل مدرّساً متعاوناً يقدّم حصصاً قليلة في يوم واحد فقط من الأسبوع.

         لم يكن الكرم نمطاً حياتياً لدى الإنجليز عموماً، إن لم يكن البخل أو التقتير صفة واضحة فيهم، فأذكر أن صديقي (جوناثان) حين زارني في بيتي قمتُ لأصنع له كأس شاي، وتبعني مثرثراً إلى المطبخ، وقد ظلّ يشكرني على كأس الشاي حتى خرج، دون أن أشرح له كيف ينحر الناس الخراف لأجل ضيف واحد، حتى يملأ عينه بالسفرة، ويشعر بتقدير مضيفه له. لو كنت شرحت له ذلك لجزم أن ذلك ضرب من ضروب الجنون، وأزمة نفسية يعيشها الإنسان العربي، كما كان يحاول دائماً ربط سلوك الإنسان بحالته النفسية.

         عندما كنت أعيش في منزل السيدة (جين) كانت تظن أن بعض السلوك الذي آتي به مردّه أزمة نفسية، وحاولتْ أن تشرح لي بصبر وأناة عبر قاموس اللغة بعض تصرفاتي. أذكر أن حرصي على أن لا يبقى الحذاء أو النعل مقلوباً جعلها تربط ذلك بوسواس قهري في النظافة، رغم محاولتي إفهامها أن ذلك من عادات الشعوب، إذ نرى أن وسخ النعل يجب أن يبقى باتجاه الأرض، حيث الشيطان، ولا يبقى متوجّهاً إلى السماء.

الهولندي (هانك)

         بعد خروجي من منزل (12 بومبستد كورت) سكنتُ في (كولمان رود) مع رجل هولندي عجوز، اسمه هانك جاكوبس، بعدما عثرتُ على إعلان عرض غرف للإيجار، في جريدة محليّة في (نورج) من نوع (تابلويد). إذ قدّم أسعاراً تشجيعية لغرفة مفردة بلا وجبات. كان الهولندي هانك الذي تزوّج لثلاث مرّات، الأولى هولندية تركها في هولندا بعد أن هاجر إلى بريطانيا بغرض التجارة، وقد أنجبا ولداً عمره الآن في الثلاثين، أما الثانية فكانت امرأة يابانية أنجب منها طفلة في الرابعة عشرة من العمر. أخيراً تزوّج شابة روسية جميلة، علق صورتها في صالة الجلوس، وقد تركته وسافرت إلى باريس بحجة دراسة الدكتوراه في القانون، إذ كان تكفل بنفقات دراستها وإقامتها في باريس، وقد قال لي ذات مساء كئيب، إنه قال لها هاتفياً بالأمس، لك الحق في أن تعيشي مع رجل آخر حالما تشعرين بحبك له، وسأدعك تذهبين براحة واقتناع.

         الهولندي هانك كان يكره الإنجليز ويسخر منهم كثيراً، ويقول إن الشخص يشعر بقدوم الإنجليزي على مسافة بعيدة بسبب رائحته العطنة!! رغم أن لديه الكثير من الأصدقاء الإنجليز الذين يسهر معهم في حانة (الجهات الخمس) مساء كل سبت. كان قد حقق نجاحاً باهراً في التجارة، بعد عدد من الرحلات والصفقات التجارية، وكوّن رأسمالا جيداً، ولو جاء شخص - حسب كلامه- وقال له إنك ستفلس وستضطر إلى تأجير غرف بيتك لطلاب غرباء، لقلت له إنك مجنون أو أحمق!!

         كان هانك رجلا متقاعدا عن العمل والتجارة، ويعيش بمبلغ شهري ضئيل، وهو يسهر في الليل أمام التلفزيون، مما يشجعني على السهر معه، والحديث الطويل في شؤون الاقتصاد والسياسة، وقد زار دبي منذ زمن، وكان يظن أنها مدينتي حسب وصفي لموقع بلدي. ذات مساء قال لي إن خساراته الفادحة والمتتالية في سوق الأسهم الأوربية جعلته يلازم المستشفى لأكثر من شهر، بسبب اضطراب عقلي. كنت شككت بترجمة الكلمة، لكنني استخرجت قاموس اللغة، واكتشفت أن الرجل كان تعرّض لمشكلة عقلية، رغم أن من يجالسه لا يشعر حالياً بأي شيء من هذا القبيل. لم أخف من هذا المأزق الصحي القديم لديه، بل إن طبيب وطبيبة صينيين سكنا معنا لاحقاً، واتخذا الغرفتين العلويتين بجوار غرفته، بينما كانت غرفتي في الدور الأرضي، وبجوار الباب الخارجي مباشرة. لذا أشعر أحيانا بالغثيان لدى تصاعد رائحة الطبخ الصيني في المطبخ، وقد أشرك الطبيبان الصينيان مالك المنزل الهولندي بالأكل، وشعرا بألفة أكبر مما شعرتُ بها، خاصة بعد أن دخلت ذات مساء ووجدته ممدداً على أريكة الصالة، وقد غرزا في جبينه ورأسه وأطرافه إبراً صينية.

         بعد أن سألني الهولندي مراراً عن مبلغ إيجار الغرفة، البالغ أربعين جنيهاً، عدت ذات ظهيرة من المدرسة وقد سحبت له المبلغ من ماكينة الصرف الآلي. حاولت أن أفتح باب البيت، لكنني لم أتمكن من ذلك، دهشت وقد تأكدت من رقم المنزل، ومن زجاج غرفتي المطلّ على (كولمان رود)، ونظرت في الطريق المحاذي للباب، فوجدتُ سيارته المرسيدس الصفراء القديمة. همزت ضاغط الجرس، ففوجئت به يفتح القفل الداخلي، وينظر نحوي بجسده الضخم المرتعش، وعينيه المضطربتين بغضب طافح، وهو يزعق بوجهي أنني لن أدخل قبل أن يرى النقود في يدي، فأخرجت محفظتي بذعر، وسحبت من جوفها أربع ورقات من فئة العشرة جنيهات، فاختطفها منّي وهو لم يزل يسدّ الباب الموارب، وبعد أن وضعها في جيب سترته، قال لي بأن عليّ أن أحمل أغراضي خلال عشرين دقيقة فقط، وأغادر، وإذا بقيت أكثر بدقائق معدودة فسيبلغ الشرطة بأن لصا في البيت. لحظة ذاك جزمت أن الرجل لم يزل يعاني من اضطرابه العقلي، ولم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م قد وقعت بعد، وإلا لحرّض على القبض عليّ، ووضعت كأحد منظمي القاعدة الخطرين، خصوصاً أنني عربي، فضلا عن كوني من بلد تتهم بأن أربعة عشر شخصا من إجمالي تسعة عشر شاركوا في تفجير نيويورك هم من جنسيتها.

         شعر هانك أنني قد أهرب في أي لحظة، خاصة أنني أفهمته أن هذا الشهر سيكون الأخير معه، بعدما عثرتُ على منزل للإيجار في منطقة (إيتون) تلك المنطقة السكنية الآمنة، والتي يكثر فيها العرب والمسلمون، وتنتشر فيها الجالية السعودية من الطلاب المبتعثين، وهي أيضاً كانت قريبة جداً من مدرسة (أولد هاوس). أذكر أنني عثرت على إعلان في الجريدة لتأجير منزل (86 أمدرلي درايف) في (إيتون)، وبعد أن اتصلت بمكتب (ميتشلس) العقاري في شارع (كورتيس هاوس) ذكروا لي مواصفات البيت، وموقعه تحديداً وقيمة إيجاره الشهري، فذهبت لرؤيته، وأعجبني. بعد أن أبديت موافقتي بدأت الموظفة في المكتب تتجاهل اتصالاتي بحجج تتعلق بعدم جاهزية المنزل، ثم أكدت أخيراً أن المالك صرف النظر عن تأجير المنزل، وقرّر بيعه. أحسست أن المسألة تتعلق بنظرة عنصرية صرفة، فحواها عدم الرغبة بتأجير المسكن لأي عربي. شرحت الموضوع للهولندي هانك، واقترحتُ أن يقوم بالاتصال بالمكتب، ويسأل عما إذا كان متوفراً أي منزل للإيجار في منطقة (إيتون)، حتى نكتشف الأمر. طلبت الرقم له، وناولته سماعة الهاتف، فكانت السيدة تقول له عن المنزل ذاته: (86 إمدرلي درايف)، ثم اعطته كافة التفاصيل والغرف والسعر، وأخذت اسمه. انطلقت إلى مكتب (ميتشلس) قرب (السيتي سنتر) وبعد عشرين دقيقة كنت أقف أمامها، وأقول لها أنني السيد هانك الذي هاتفها قبل دقائق بخصوص منزل (86 إمدرلي درايف). كانت قد تجمدت وقد عرفتني، ثم اعتذرت قائلة إن المالك عاد وغيّر رأيه في مسألة البيع، إذ لم يعثر على مشتر قادر على الدفع!! بعد ذلك أخذتْ مني مبلغاً، وطلبت تعريفاً بالراتب من جهة عملي، فراسلت في الغد الملحقية الثقافية السعودية في لندن، وأنهيت إجراءات المسكن الجديد.

         بعد أسبوع من خروجي من منزل الهولندي هانك فكرت أن أزوره وآخذ معي باقة ورد، كأسلوب حضاري للإعتذار عن تأخري في سداد أجرة الغرفة، وحفظاً للود مع رجل عاملني كأب لمدة شهرين كاملين، لكن أحد أصدقائي نصحني بأن أترك رجلا مجنوناً، إذ ليس هناك ما يدعو للاعتذار، خاصة أنه واجه الخطأ بسلوك سلبي وعنصري متخلف جداً.

(علي) في(كاربج سيل)

         في طرف مدينة (نورج) وعبر طرق ترابية ممهدة يقع سوق (كاربج سيل) لبيع الأدوات والأجهزة المستعملة، كأدوات المطبخ من صحون وغلاية ومحمصة خبز، وأثاث منزلي كالأرائك والطاولات والكراسي ومصابيح الأسرّة ولعب الأطفال وعربات دفع الرضّع، وأشرطة الكاسيت وأقراص (السي دي)، وأجهزة التسجيل والتلفزيونات والفيديو، والكتب الرخيصة وغيرها. كان سوق (الكاربج سيل) يعمل في يوم واحد من الأسبوع، وهو صباح يوم الأحد، حيث يتكاثر البائعون والمشترون منذ الصباح الباكر.

         لم يكن الأجانب يتغيبون عن هذا السوق المنقذ، فهو يمثل حلا سحريّاً لمن يبحث عن تأثيث بيت بأسعار زهيدة. كان يشبه سوق (حراج بن قاسم) في الرياض، ففيه يعثر المرء على أشياء غير متوقعة، وقد يشتري أشياء لم يكن خطط لشرائها.

         لم يكن (علي) حذراً بما فيه الكفاية وهو يرتاد سوق (الكاربج سيل)، وقد سكن بيتاً جديداً، بعد أن نقل معه أغراض بيته القديم، ومن بينها ستارة من الكتّان الرخيص، ومزيّنة بورود ضخمة. كانت ستارته تلك قد قرّر أن يثبتها على نافذة البيت الجديد، لكنه اكتشف أن صالة البيت لها نافذتان، ولا بد من توفير ستارة أخرى، بنفس درجة اللون والرسوم، أو على الأقل قريبة من التصميم ذاته، فلم يكن أمامه سوى سوق (الكاربج سيل). حمل الصديق القروي ستارته على كتفه، كي يقارنها بما يتوفر في السوق من ستائر مستعملة معروضة للبيع.

         بعد أن ظلّ قرابة ساعة وهو يتجول في السوق بستارته المحمولة على كتفه، وبعد أن اعتذر لراغبي الشراء أكثر من مرّة، بأن الستارة معه ليست للبيع، أسندها بجواره عند محل لديه تشكيلة جيدة من أقمشة الستائر، مقنعاً نفسه كحل أخير بشراء قماش مشابه، لتقوم زوجته بخياطتها كستارة نافذة غير متقنة التنفيذ. بعد أن جادل (علي) البائع قليلا حول السعر، أراد الانصراف، والتفت ليحمل ستارته التي أسندها على مصطبة البائع، ولكن لا شيء!! لم تكن هناك ثمّة ستارة. تلفت (علي) في الأنحاء، يميناً ويساراً، ولكن لم يجد أي أثر لستارته، ونظر في الطريق المؤدي إلى محلات أجهزة التسجيل والأشرطة، فرأى ستارته تهتز فوق كتف رجل ضخم، يلبس (تي شيرت) أسود، ويظهر زنداه المفتولان، فلحق به (علي) وأوقفه مؤكداً له أن هذه التي يحملها على كتفه إنما هي ستارته، وهو لن يبيعها. نظر نحوه الرجل الإنجليزي الضخم بعينين تغليان غضباً، وأشار إليه بقبضته إلى أن ينصرف وإلا تولى أمره. بعد أن وجد (علي) نفسه ضئيلا وغريباً أمام مواطن إنجليزي ضخم الجثة، آثر أن ينسحب بهدوء حسيراً ومقهوراً. ثم ركب سيارته الخردة التي اشتراها من عجوز باكستاني الأصل، بريطاني الجنسية، وانطلق شاعراً بغصّة في حلقه، يكاد يبكي لشدّة ما يعاني آنذاك من اضطهاد واستغلال وشعور بالمهانة، دون أن يملك أن يعمل شيئاً، يدفع به الاضطهاد والإهانة.

         في البيت، وحفظاً لكرامته، لم يذكر (علي) لزوجته القصة التي تعرّض لها، لكنه قال لها إنه لم يجد اللون ذاته، ولا التصميم المشابه، فاضطر إلى أن يبيعها في السوق، فتخلص منها بسعر زهيد، ثم عاد خالي الوفاض.

أزواج عرب وشقراوات

         كان أسمر ووحيداً، يعيش في ناحية من (نورج) في بيت بالإيجار، ويزوره أطفاله الثلاثة من طليقته الإنجليزية في عطل نهاية الأسبوع، ثم يبقى وحيداً خلال أيام الأسبوع كله. كان ثابتاً وباقياً، وزملاؤه الطلاب متغيّرون ومتنقلون، ما أن يتعرّف على أصدقاء ويقدّم لهم خدمات مقابل مبالغ بسيطة، حتى يغادرون إلى مدن بريطانية أخرى. جاء منذ خمسة عشر عاماً طالباً مراهقاً، في عطلة صيف، مع زملاء مراهقين من مدينة الدمام، وبعد دراسة اللغة لثلاثة أشهر، تعرّف خلالها على فتاة إنجليزية ستكون زوجته وأم أولاده، عاد إلى الدمام، وباع سيارته (الكابريس) القديمة، أمام بكاء أمه وتشبثها به، لكنه نكص إلى بلد النهر والفتاة الشقراء، وسقط في حضنها لسنوات، أنجب خلالها ولدان وبنتا، وعاد بزوجته إلى الدمام، فلم تتأقلم مع حياة غريبة وبدائية كما تراها، ثم عاشا معاً في (المنامة) كحل وسط، لكن حرب الخليج الثانية قضت على الحلم تماماً، بعد أن جاءت التعليمات للمواطنين الإنجليز بمغادرة الخليج، وكانت الكارثة أن اكتشفت أن زوجها الأسمر، قد منعها من السفر بالتأشير على جوازها، مما كان يعني في عرفها الخيانة والكذب وقمع الحرية، فطلبت تدخل السفارة البريطانية في البحرين، وهربت بالأولاد، وأرغمته لحظة أن لحق بها على تطليقها بسبب استبداده، ليبقى وحيداً في مدينة (نورج) منتظراً ظهيرة الجمعة، كي يستمتع بمرأى صغاره، والتسلي معهم، حتى نهار الأحد.

         كانت المفاهيم والمبادئ والرؤى والأفكار تختلف بين الرجال العرب، وبين زوجاتهم الإنجليزيات. صحيح أن بعضهن أسلمن ولبسن الحجاب، وقررن في بيوتهن، ولكن يبقى الرجل الشرقي بأفكاره ورؤاه مختلفا جذرياً عن الإنجليزي، ومن هنا اختلفت النظرة إلى الحرية، وحدود هذه الحرية، وما إذا كانت حرية مسئولة أم بلا حدود، كما أن النظرة إلى الكذب تختلف، فما يراه العربي من كذب زوجي كوسيلة إلى الحفاظ على البيت، يراه الغربي حلا مؤقتاً سيقود حتماً إلى دمار البيت. كان ليبيون مهاجرون يعيشون مع زوجات إنجليزيات. كان أشهرهم في (نورج)رجلا ليبيا يوفر اللحوم الطازجة من مدن مجاورة، بسيارته البيجو الصالون، قبل أن يفتح مطعماً عربياً حقق به بعض النجاح، ورغم أنه أكثر العرب خبرة ودراية بالقانون والأنظمة في بريطانيا، إلا أنه وقع في ورطة تعزّز نظرة الغرب إلى أن العرب مجرّد لصوص ومتطاولون على القانون، وذلك بعد أن دخل زميل له ليبي في خلافات دائمة مع زوجته الإنجليزية، فقرّر أن يهرب بأطفاله إلى ليبيا عن طريق فرنسا، فوافق تاجر اللحوم الليبي على تسهيل أمر تهريب صديقه، مقابل جميع مدخراته. في فجر لم تشرق شمسه أخذ الليبي تاجر اللحوم صاحبه وأطفاله في سيارته البيجو الصالون، وانطلق بهم إلى الحدود، حتى أوصلهم إلى مطار شارل ديجول في باريس، فطاروا إلى ليبيا، أما هو فقد عاد وكأن شيئاً لم يحدث. بعد أيام ضجّ جرس بيته، فإذا عناصر من الشرطة، تأخذه من أجل التحقيق، فأصر على أنه لم يرَ صاحبه الليبي المفقود منذ أسبوع، ودوّنت أقواله ووقع عليها، حتى تمّ عرض الفيلم التسجيلي لهروبه بهم إلى الحدود مع فرنسا، وهو في سيارته البيجو، فاعترف، وسجلت ضدّه مخالفة اختطاف أطفال إنجليز، وتهريبهم إلى خارج البلاد، إضافة إلى جريرة الكذب في المحكمة بعد حلف اليمين، فحكم عليه بالسجن عشر سنين.

         رغم الاستقرار والهدوء الذي يعيشه العرب في بريطانيا لسنوات طويله، إلا أنهم يفاجئون الآخرين هناك، بتصرفات غير لائقة، تساعد على تأكيد النظرة العنصرية إلى أن هؤلاء العرب همج وإرهابيون ولصوص وخونة، ويجب التعامل معهم بطرق بدائية وتسلطية.

         لقد عمل الرجل الأسمر الوحيد، الذي ينتظر أطفاله في العطل، سائق سيارة شحن في بلدية مدينة (نورج)، وذلك بجمع نفايات الورق تحديداً، من أجل بيعها وإعادة تأهيلها للصناعات الورقية. وبعد أن قام الرجل بجولته الصباحية، جامعاً ما توفر لدى الأبواب من بقايا ورقية، صحف وجرائد وكراتين، عاد إلى مكتبه، فما أن دخل وجلس، حتى وجد فوق طاولته ورقة تفيد بأنه لم يجلب معه نفاية ورق المنزل رقم كذا بشارع كذا، الذي يخصّ امرأة انجليزية عجوز، مما اضطره إلى العودة إلى العنوان المذكور في مشوار خاص، كي يتعلم الإحساس بالمسؤولية، من هذه العجوز، بعد أن سُجلت ضده مذكرة لفت نظر.

         ما كان لافتاً بالنسبة لي، أن العرب لا يمكن لمعظمهم أن يندمجوا كالهنود مثلا في ثقافات الشعوب الأخرى، مما يجعلهم يعيشون في بريطانيا كأقلية غير مرغوب فيها. هل ثمّة خلل في النسيج الثقافي والاجتماعي العربي؟ هل كان الخلل في التنشئة لدى الأسر العربية؟ هل الطفولة العربية تمثل المأزق الحقيقي، الذي يتأسس عليه جيل لا يمتلك مقومات الحوار مع الآخر، ولا يحظى بقدر مناسب من مهارات التواصل الاجتماعية؟ كانت الأسئلة دائماً تجعلني في حيرة، وأنا أرى كيف تصبح الجنسيات المتعدّدة، غير العربية، فاعلة ومؤثرة في نسيج المجتمع الإنجليزي.

الجريدة الصفراء

         في منطقة (نورفولك) في بريطانيا توجد جريدة صفراء من قطع (تابلويد) اسمها (فري آدز) وتعني الإعلان المجاني، فهي جريدة متخصصة بالإعلانات المبوبة المجانية، إذ يمكن لأي شخص أن يعلن فيها عن بيع أي قطع وأثاث وسيارات عبر الهاتف، بتسجيل معلومات عن الشيء المراد بيعه، ومعلومات شخصية عنه، ويتم تمويل الجريدة الصفراء عبر مبيعاتها عند نقاط التوزيع، إذ يتم بيعها بما يعادل جنيه إسترليني واحد.

         يمكن لمتصفح الجريدة الصفراء، جريدة الإعلانات المبوّبة، أن يقرأ عن تسويق كل شيء، حتى العلاقات الشخصية والصداقات، بإعلان شخص يبحث عن صديق أو صديقة، يتوفر فيه أو فيها الصدق والأمانة والوفاء وما إلى ذلك، فضلا عن مبيعات الأثاث المنزلي، والأجهزة الكهربائية، وأجهزة الأثاث المكتبي، والسيارات والدراجات النارية، وتأجيرأو بيع المنازل، وتأجير الغرف داخل منازل العائلات، وبيع الحيوانات وأجهزة استقبال البث الفضائي، وغيرها.

         في هذه الجريدة عثرت على شخص يرغب في بيع جهاز استقبال قنوات فضائية، بعد أن تعذر عليّ أن أجد في المحل الوحيد لبيع هذه الأجهزة في شارع (درهم رود) قرب (الستي سنتر)، وأخذت السيارة مع صديقي محمد إلى منزله تبعاً للعنوان في الجريدة، وما أن وصلنا حتى أرانا الجهاز النائم في رفّ طاولة التلفزيون، وأقنعنا أنه يعمل بشكل جيد، وسيبيعه لأنه اشترى جهازاً آخر جديدا. أحضر سلما طويلا جدّاً، وهو عبارة عن سلمين ينفرجان إلى أقصى حد، ويصبحان سلماً واحداً وطويلا، وبدأ يخلع قرص الاستقبال الصغير المثبّت بقائمتي حديد بجدار القرميد الأحمر. بعد أن استلمنا القطع ودفعنا المبلغ الزهيد، أكد محمد ساخراً أن المبلغ المدفوع للرجل الإنجليزي لا يكفي أجرة فكّ القرص العلوي فقط، فضلا عن القرص والجهاز. في البيت اكتشفنا أن الجهاز لا يستقبل شيئاً يستحق العناء، وبعد أن زارني العراقي وليد، أكد أن جهاز الاستقبال جهاز قديم جداً، وهو غير صالح للاستخدام الآن، مقترحاً أن يبيعه بنصف الثمن. وهكذا نقع كغرباء في فخ استغلال الإنجليز من جهة، واستغلال الأخوة العرب المهاجرين والمرتزقين من جهة أخرى.

مدينة (ريدنق)

         كان عليّ أن أزور صديقاً دارساً في مدينة (ريدنق) قرب لندن، حيث يقيم في منطقة (وودلي)، إذ كان ينتظرني في محطة القطار، قبل أن ننطلق في شوارع المدينة الهادئة للغاية. كانت المدينة تشبه المدن البريطانية الأخرى، لكن نهر (التايمز) فيها رائع وصاف وحميم، إذ كنت أشعر داخلياً أن النهر في (ريدنق) مختلف عنه في لندن. كانت أسراب البط البيضاء، بمناقيرها الحمراء، تشكل مشهداً سحرياً في عرض النهر، بل إنها تكون أكثر فتنة وهي تقترب في حشد فاتن صوب حافة النهر، تتخاطف قطع الخبز من الأطفال والعشاق ومرتادي النهر. تتمايل المراكب الشراعية بنعومة بالغة، رغم ما تثيره ماكينات القوارب النهرية من ضجّة مربكة. في الضفة الأخرى من النهر، حيث تتكاتف الأشجار، يقف رجال بسراويل قصيرة، وهم يطوّحون بين فينة وأخرى بسناراتهم في الماء.

         كانت منطقة (كفر شيم)التي يتمدّد فيها النهر الفضي مثل عاشقة نائمة من أكثر مناطق المدينة رقيّاً، وهي لا تبعد كثيراً عن جامعة (ريدنق).

         من أكثر المواقف غرابة هو ما تعرّض له صاحبي في (ريدنق)من قرع عنيف على باب منزله ليلا، مما جعله يهبط سريعاً مرتبكاً نحو الباب، فإذا عناصر من الشرطة تقف بالباب، وتسأله عمّا إذا كان لديه أطفال، فأجاب موافقاً، فما كان منهم إلا أن دخلوا البيت، وطلبوا إحضار طفله أو طفلته، فقال لهم إنها طفلة في الثالثة من العمر، وهي في الدور العلوي تستعد للنوم!! أكدّوا له أنهم من شرطة حماية الأطفال من العنف الأسري، وقد تلقوا اتصالا من منزله قبل دقائق، جازمين بذكر رقم هاتف منزله. حاول أن يشرح لهم أنه ربما عبثت طفلته بجهاز التلفون، وهمزت عابثة بالأرقام الثلاثة لشرطة حماية الأطفال. رفض رجال الشرطة تبريراته، وطالبوا بإحضار الطفلة حالا، فما كان منه إلا أن حملها، وهبط بها من سلم الدرج، ووضعها بينهم. طلبوا منه أن يخلع ملابسها، فخلعها، وتفحّصوا جسد الطفلة جيداً، حتى إذا لم يجدوا أثراً لعنف أو ضرب أو كيّ، اعتذروا من صاحبي وغادروا البيت.

         كلما تذكرت هذا الموقف أشعر بمهانة الأطفال العرب الذين يتعرّضون إلى أنواع من العنف والإيذاء الجسدي والنفسي، من ضرب وقمع وإهانة، سواء في البيوت العربية من قبل أسرهم، أو من المدارس من قبل مدرّسيهم، دون أن يحرّك أحد ساكناً، لدرجة أن أصبحت أدوات مثل العصا والسوط من عناصر المهابة لدى المدرّس والأب.

         رغم روعة هذا الموقف، وما يوحي به من اهتمام وحرص على صحة وسلامة وحماية الطفل، إلا أن مشهد النساء في نهارات السبت، في منطقة (سيتي سنتر) بمدينة نورج، يجلب الحزن والكآبة، إذ يقدن أطفالهن ذوي السنتين والثلاث سنوات، بسيور من الجلد تربط في صدورهم على شكل علامة الضرب، ويقمن بسحبهم خلفهن كما لو كانوا كلاباً. حين شاهدت هذا الموقف، لأول مرّة، خالطني شعور لا يمكن وصفه أبداً، كنت أشعر بالرثاء نحو هؤلاء الصغار، وبدأت أتخيّل فقدان حنان اللمسة الأبوية التي يفقدها الطفل، وقد تخلت الأم أو الأب عن الإمساك به يداً بيد!! هذا العناق بين يد الأم الدافئة، وبين يد الطفل الصغيرة المتلهفة على الدفء، لا يمكن تعويضه أبداً!!

         هذا المشهد لم أره في بلد عربي، وإن كان استخدام عربات الأطفال يعدّ أمراً شائعاً في البلدان العربية، وهذا النمط من العربات التي تدفعها الأمهات في الرياض، مثلا، كان بديلا لحمل الأمهات النجديات القديمات أطفالهن، وضمهم إلى دفء صدورهن، فلم يعد الأطفال يشعرون بدفء صدور أمهاتهم وعناقهن أثناء المشي في الطرقات!! قد تحمل الحضارة الغربية لنا في المستقبل بعض السلوكيات الخالية من المشاعر الإنسانية، إذ نسحب أطفالنا أو آباءنا العجزة بسيور جلدية، دون أن نحسسهم بدفء أيدينا وأكفنا وأصابعنا النابضة.

مدينة البحر والجبل

         كانت (قت يارموث) مدينة صغيرة تقع إلى الشرق من مدينة (نورج)الأكبر مساحة والأكثر سكاناً. تلك المدينة الصغيرة لا يشعر المرء بارتفاعها، وكأنما هي تقع فوق جبل، إلا في طرفها الشرقي حيث يظهر البحر في هوّة منخفضة للغاية، إذ تطل على ملتقى بحر الشمال بالقنال الإنجليزي، مما يجعل مرتادي الشاطئ الرملي يهبطون من سلالم درج طويلة جداً، قد تتجاوز مائة درجة اسمنتية ملتوية باتجاه الأسفل. على كورنيش المدينة يتكاثر السيّاح والمتنزهون، وتطل نوافذ الفنادق ذات الزجاج الطولي على ساحل البحر الرملي. بين الفنادق والمباني المشرفة على البحر وبين شاطئ البحر في الأسفل، يمتد طريق كورنيش (قت يارموث)، وتسير فيه دراجات نارية ضخمة وأنيقة يقودها رجال بزنود ضخمة ونظارات شمسية وربطات شعر، كما تكثر في الطريق الألعاب والملاهي المتطوّرة، التي تعجّ بالأطفال والمراهقين، وهم يتنقلون من لعبة هوائية إلى أخرى، ومن لعبة حظ إلى أخرى. مقابل جنيه استرليني يلقي المتنزّه سنارة صيد سمك بلاستيكي عائم كي تربح دبّاً سعره أكثر من عشرة جنيهات، أو عروساً بعشرة سنتات. كما أن الدمى الضخمة المفتوحة الأذرع والفم تجلب الرعب أحياناً قبل أن تحرّض على المتعة والفرح. تتوزّع في الممرات بائعات المشروبات والآيس كريم وصابغات الشعر بعد تجديله بشكل جاذب للنظر، حيث كانت الطفلات يجلسن على كراسي أمامهن، ويتركن رؤوسهن لتلك الأصابع المدرّبة.

         في الصيف يتحوّل الكورنيش إلى صخب لا يطاق، وخلف الأكمات والشجيرات القصيرة النابتة في شاطئ الرمل يختبئ عشاق وهم يغرقون في عناق أبدي، فضلا عن الرجال والنساء شبه العراة وهم يسيرون دونما اكتراث على الشاطئ. أما في الشتاء فقد يهبط الغيم أحياناً فلا يكاد الرائي يميز الأفق وراء البحر، فالغيم يعانق أفق البحر في مشهد بديع، تصحبه غالباً رياح باردة لا يخففها الشاي بالزنجبيل الذي يرشفه الغرباء على الساحل الرملي. كانت الموجة في البحر لا تتوقف عن الصخب وهي في هيجان يجعلها كأنما تحكي أو تبكي بحارة هاجروا من هذا المكان باتجاه الشرق الأقصى.

         أما الطريق إلى (نورج) باتجاه الغرب أولا، فإنه ملىء بالمزارع والأبقار والخراف السمينة، ويكاد المسافر ينتبه لمنبه القطار وهو يمرّ كالأفعى محاذياً طريق الإسفلت. كان أكثر ما يوفر المتعة للمسافر بين مدن وقرى بريطانية هو متعة النظر والتأمل في الطبيعة، لدرجة أنني كنت أشعر بجوع البصر وجفافه المقيم، مما يجعله شرهاً وهو يحدّق ببلاهة لافتة. كانت أعين الغرباء السوداء محاطة بالبياض تغسل حدقاتها بالخضرة الوافرة، وبالغيم المتطامن حتى يمسّ شعيرات الرؤوس. حتى السمع كان يطرب بموسيقى المطر الرتيبة، ذلك المطر الذي يواصل الهطول بنعومة بالغة لعدة أيام متتالية، حتى لتشعر أن الروح ابتلت بالماء، وطفقت تخفق مثل طيور فرحة.

الثلج يعانق القرميد

         في أواخر كانون الأول من عام 1999م كنت على موعد مذهل مع الطبيعة، إذ كان نهار أحد، حيث الحزن يخيّم على منطقة (إيتون) في مدينة (نورج)، بينما السماء بيضاء وهابطة، لدرجة أنني أرى من نافذة صالة منزلي (12 إمدرلي درايف) السماء بغيمها الأبيض تلامس أسقف القرميد الداكن في البيوت المصطفة أمامي. كانت الشجيرات الصغيرة على جوانب أبواب المنازل تتهيأ لاحتفال باذخ وبهيّ. أما الأشجار الضخمة في الحديقة القريبة، في نهاية طريق (إمدرلي درايف) فقد كانت عملاقة بما يكفي لأن تحتجب رؤوسها فيما فوق الغيم الكثيف.

         خلال ثوان وبينما أنصت وأحدّق بقناة (بي بي سي) في التلفزيون رأيت في الخارج كائنات تتقافز حول النافذة. كانت كائنات تشبه حشرات بيضاء وهي تدق زجاج النافذة بنعومة قبل أن تهبط على زرع الحديقة الصغيرة الخضراء. أخفضت رأسي وأنا على الأريكة حتى كدتُ ألامس أرضية الصالة لأرى السماء، فرأيت كائنات بيضاء هائلة وهي تموج في السماء، وقد جعلها القرميد الداكن أكثر وضوحاً، إذ كانت بيضاء جداً، وخلفها قرميد أحمر داكن. كانت تشبه ريش دجاج أو غرانيق بيضاء وهي تكث من الأعلى. ما الذي يحدث يا إلهي؟ قمت فزعاً واقتربت من النافذة، فرأيت خضرة الحديقة قد اختفت، والشارع الإسفلتي الأسود قد ضاع، والرصيف اختلط بالشارع التائه، كل شيء قد تحوّل إلى بياض عميم!!

(إنه الثلج يا أبي!!)

         قال لي طفلي، وهززتُ رأسي مثل طفل، نعم إنه الثلج يا ولدي!! فتحت الباب ذا الزجاج الأصفر المضبّب، وهالني الثلج الذي يملأ الشوارع، ويغطي الأرصفة، ويكسو الحدائق، ويتعلق بالأشجار العالية مثل أجراس بيضاء، بدأت فجأة أركض في الشارع مثل مجنون: الثلج.. الثلج!! كنت آخذ بكفي وأقذف الأنحاء بكرات ثلج هشة، بينما بدأ أطفالي يلحقون بي مهووسين بالثلج، وقت أن بدأت زوجتي تصرخ بهم خشية الإصابة بنوبات برد مزمنة، كنت أحشو قبضتي من ركام ثلج على زجاج سيارتي المركونة بجوار البيت، وأقذف بها السماء مرّة، وصغاري الأشقياء مرة أخرى. كانت لحظات اكتشاف لا تنسى أبداً. لم يكن مرور سيارتين من أمام باب بيتي شيئاً مؤثراً لي، ولا للسائقين الإنجليز المارّين، إذ لم يزل الإنسان يصاب بالفرحة الغامرة أيّاً كان هذا الإنسان، حتى الأطفال الإنجليز يشعرون بفرحة استثنائية حين يباغتهم الثلج خلال موسم المطر الدؤوب. كانت فرحتهم بالثلج تشبه فرحتنا بالمطر في بلادنا، لكن فرحتنا بالمطر تعدّ حدثاً فريداً. كنت وأنا أرى الثلج للمرة الأولى أشبه الطفل الذي يرى ساحل البحر للمرة الأولى، إذ يقترب من الماء متوجساً ومستريباً، وما أن تندفع نحوه الموجة المغامرة حتى ينكص مذعوراً للوراء. كنت أشبه الإنسان البدائي الذي يكتشف الطبيعة بنفسه للمرة الأولى.

         كانت رحلتي إلى بريطانيا، تعني رحلة رجل من صحراء جافة، تستجدي مطر السماء في الشتاء، وتهبُ ناسَها بعض شجيرات صحراوية يمكن أن تظللهم من وهج الصيف. كانت رحلة رجل لم تعتد عيناه على شيء زاهٍ وملوّن، على شجر هائل الضخامة، وتلال خضراء متماوجة لم يرها سوى في حلم أو شاشة مرئية، وطيور لا تكفّ عن النشيد، وزهر يغسل الشوارع في بعض الفصول، وثلج أبيض يهبط مثل طيور بيضاء تبحث عن شجر قاتم.

         كانت رحلة مؤثرة على مستوى البصر والبصيرة، فيها متعة النظر ودهشة الاكتشاف ومعرفة المجهول.