ملتقيات العربي

ندوة حوار المشارقة والمغاربة

اليوم الثالث الجلسة الصباحية الثانية

أبحاث الفترة الصباحية الثانية ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. منصور بو خمسين أستاذ التاريخ الأوربي الحديث ـ جامعة الكويت
رسامو مصر
و(الرحلة الباريسية) في القرن العشرين
أشرف أبو اليزيد

         لسنا نأتي بجديد حين نرى في باريس أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ما رآه رسامو العالم من كونها كعبة الفن وقبلة الفنانين. والأسباب أوضح من أن تُسرد: فمن كان يرد هذه المدينة صغيرًا في ميدان الفن، لا يغادرها إلا وهو من أعلامه.

         لقد كان في انتماء باريس آنذاك للعالم أكثر من كونها عاصمة فرنسية أثر كبير في جرأة من تبنتهم، فخرجوا من الاستوديوهات المغلقة إلى الفضاء المفتوح، ومن الأضواء الصناعية أو تلك التي تتسلل خائفة من زجاج النوافذ إلى الأنوار التي سكبتها الشمس في الحقول والمروج. بل وحررت باريس - لغير رجعة - شخصيات اللوحة من الإطار الديني الكنسي الساكن لتقدم راقصات الباليه، ونزلاء علب الليل، وجلوس المقاهي، ولاعبات السيرك وزائري الحدائق. وهي الموضوعات التي حررت بدورها باليته الألوان مما هو أكاديمي محفوظ إلى ما عرفناه فرديا وفريدا.

         ولم يكن الرسام الباريسي - مقيما أو زائرا - ينجو مما تثيره الأجواء الباريسية حوله، مؤلفات وبيانات وحركات نقد وثورة ومعارض فن وصالونات أدب ومتاحف كثيرة وسينما واعدة، حتى لو كانت حين يمسها الفن تصاب بالسوريالية. والخلاصة أن القضايا الفنية كانت أكثر إثارة مما هي عليه الآن، لأن الفن في باريس بشكل خاص وأوروبا بوجه عام أصبح نمط معيشة ينخرط في الحياة العامة مثلما تنخرط الآن السياسة والسينما والرياضة وسواها. أليست هذه الأمور ما يدور حولها الضجيج اليوم؟ هكذا كان الفن في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

         وجدنا في باريس كيف حرق الفن معطف السطوة الدينية، ومزق خيمة الحكام، وهرب من أسوار الشهادات الأكاديمية، وألقى بنفسه خارج القصور، هابطا من جنان عصور النهضة، إلى جنون العصور الحديثة. ولم يعد الفنان يسعى إلى رعاية خارج إطار عمله، فمنهم من لقي حتفه جائعا مريضا ومنهم من كان ينتظر! ولم ينجُ من هذا الأتون سوى قلة محظوظة نعمت في حياتها بما أصبح عليه الفن اليوم من ثروة مادية لم يكن ليحلم بها صانعها وتاركها قبل مائة عام.

         ولا يكاد اسم مصري في معجم الفن لم يشرب من نور باريس أو يظمأ تحت نارها. وحين أختار مجموعة قليلة منهم في هذه الورقة فإنما لأطرح النموذج، ولست أضع القاعدة. فانتهاك القواعد عمل من أعمال الفن، والدعوة إلى حرية التمرد عمل من أعمال النقد. وحين أكتب عن (الغرب بعيون عربية) عند أحمد صبري ومحمود مختار وجورج البهجوري وعدلي رزق الله في باريس فإنني أدعو زملائي للحديث عن باريس رمسيس يونان، ومحمد ناجي، وحامد عبد الله، وإيهاب شاكر، وآدم حنين، وتحية حليم، وفؤاد كامل، وسمير رافع وزكي قدري وفاروق حسني، ويوسف فرنسيس وسمير مجلي، وعمر النجدي وسيد عبده سليم وممدوح أنور وعبد الرازق عكاشة وسواهم.

         ويأتي اختياري لأسماء هذه الورقة تحت سماء أكثر من سبب، فنحن هنا لا ندرس الفن الذي تركه لنا هؤلاء قدر دراستنا للأثر الأدبي الذي رسم صورة هذه الرحلة. وهذه الورقة لا تقدم قراءة نقدية في أعمال مختار وصبري وبهجوري ورزق الله التشكيلية، وإنما هي سبر لما كتبه هؤلاء عن تلك الرحلة الباريسية. ولذلك نحن ننتقل من نقد الفن إلى علم اجتماع الفن.

         لكن ذلك ليس وحده سببا، وإنما لكون هذه الأسماء قد خبرت باريس في مرحلتين مغايرتين تماما، بينهما مسافة زمنية تبلغ أكثر من ستين عامًا، ومن هنا سيتسنى لنا التعرف على باريس خلال تلك الخريطة الزمنية، والإجابة عن سؤال التحول التشكيلي الذي مر بها أو عصف بزائريها الفنانين. رزق الله وسيرة باريس تبدو أهمية قراءة كتب السيرة الذاتية بالغة، فأدب السيرة الذاتية في عالمنا العربي شحيح في دفقه، وهو قليل في عالم الأدب إن لم يكن نادرا، وغير موجود في عالم الفن في وطننا العربي. وهنا نقصد السير الذاتية التي تستحق التدوين، على طريق أيام طه حسين، وأصداء نجيب محفوظ، ورحلة فدوى طوقان الجبلية والصعبة، ومشارف خمسين صلاح عبد الصبور، ومذكرات لويس عوض طالب البعثة، وغيرها. وما أكثر كتابنا وفنانينا الذين غافلونا ومضوا دون أن يتركوا لنا مثل هذا الكنز الأدبي الرفيع. والذي قد يعود في معظمه إلى البيئة المحافظة للفنان العربي، تلك البيئة التي تفرض الصمت عليه، وهنا تأتي هذه الاستثناءات التي أعرض لها، والتي تخرج من عباءة الصمت في أكثر من مقام.

         وما يعنينا - بداية - في هذا المقام السيرتان اللتان صدرتا للفنانين التشكيليين جورج البهجوري وعدلي رزق الله وبهما إشارات وافاضات عن رحلتهما الباريسية. وقد اتفق رزق الله والبهجوري على كون الرحلة الباريسية قد جعلت مرحلة ق. ب (قبل باريس) غير المرحلة بعدها. ومثلت باريس لكليهما بداية مختلفة، وميلادا جديدا.

         فبعد أن وصل رزق الله إلى باريس وفي حوزته عشرون فرنكا، هي كل ما تبقى لديه من المائة فرنك و33 دولارا المسموح بخروجها من مطار القاهرة (مطلع السبعينيات)، رسم الفنان 100 لوحة صغيرة، في ثلاثة أيام. ودَعت صديقته نيكول إيتير - التي نزل ضيفا عليها - الأصدقاء لمشاهدة عدلي الذي حدثتهم كثيرا عنه، وذهلوا بجمال ما رسم عدلي، وجنوا أكثر عندما عرفوا أن السعر المطلوب للوحة هو ثلاث فرنكات فقط، وكانت البداية التي قادته من نجاح فني إلى نجاح على مستوى تسويق عمله. عمِل الفنان يوميا وبشغف، وبهجة، كالمسحور المأخوذ يسأل نفسه: هل جاءني الفن أخير؟

         ولعل تلك الرحلة هي ما جعلت رزق الله يعنون سيرته (الوصول إلى البداية في الفن والحياة). يقول: كانت رحلتي الباريسية التي استمرت خلال السبعينيات كلها ذات وقع كبير على قلب وعيون فنان لم يجد طريقه بعد. شراهة في التلقي وخوف على الذات من أن تضيع وسط ذلك الزخم والثراء الذي لا حدود له. كان الخوف على الذات ضرورة لها ميزاتها وعيوبها، أما رحلتي الثانية فقد كنت فيها الفنان الذي وجد طريقه وزال عني حينئذ الخوف بعيوبه ومزاياه أيضا.

         وهو حين يتأمل أحد المتاحف الخاصة يقول: طالني الشجن بعد المتعة وسألت نفسي هل يقتحم أثرياؤنا في مصر هذا المجال بحيث نحتفظ ونوثق تاريخنا، سأهدي هؤلاء أسماء لا تقل في القيمة عن مايول، لهم كل الشكر إن فعلوا، راغب عياد، حامد عبد الله، تحية حليم، كمال خليفة، (عبد الهادي) الجزار، رمسيس يونان، فؤاد كامل وآخرين كُثر.

         إن باريس ليست عقدة نقص في مخيلته الكتابية، ولا يزال موقفه من الغرب موقفا نقديا، (فلا تتصوروا أنني أهلل أو أرغب في اتخاذ موقف رومانسي مثلما فعل المثقف الليبرالي المصري حينما اجتاحته الثقافة الفرنسية في بدايات القرن (العشرين)، لكنني أقول إن هناك الكثير من المنجزات التي يجب احتذاؤها والتمسك بها. ليس المظهر العبثي في الأعمال المجمعة أو بويز وأمثاله هو حاجتنا الفنية مثلما يحدث الترويج الفج في تظاهراتنا أو بعض العروض التي تجتاح القاهرة منذ سنوات. ما نحتاج إليه هو المشروع الثقافي المؤسسي الذي ما زال يقدم إنجازات غير متكررة في العاصمة الفرنسية.

         ويستدل رزق الله على ذلك من دعم المؤسسات للفن، حيث كانت تمول مؤسسة كهرباء الفن على مدى نصف قرن دون انقطاع.

         والواقع أن تلك نقطة بارزة في الرحلة الباريسية، تلك الرحلة التي يراها رزق الله في مجمل سيرته رحلة مؤقتة، رغم سهولة الحياة في الغرب والحرية التي يتيحها. فدور الفنان العربي هو بين أهله وشعبه رغم الاعتراف بالصعوبات. ويعمم التجربة فما ينطبق على الفنان هو بالضرورة ما ينطبق على المفكر والكاتب والصحفي وفي أي مجال آخر حتى لو كان علميا. الاتصال بالغرب ضرورة والقطيعة مرفوضة لكن الحياة الفنية أو الفكرية أو العلمية تثمر داخل الوطن للمبدع والناس وللوطن، بينما النجاح في الغربة هو محض نجاح ذاتي لا أكثر ولا أقل. لذا يتفق الفنان حامد عبد الله مع رزق الله حين ينهي رحلته الباريسية الأولى في 1980 بعد نحو عقد كامل ذاق خلاله حلاوة النجاح الفني، والأسري أيضا وكانت برفقته شريكة حياته.

         ولا ينسى رزق الله أن يسرب رسالة ناصحة للأجيال القادمة في ألا يأسرهم الغرب: أغيب لسنوات ثم أعود لكي أرى تغيرا جذريا قد حدث فيمن آثروا البقاء بالغرب، وقد ارتبطت حياتهم بالمجتمع الفرنسي وتشابكت الخيوط، , وأصبح انتزاع النفس من تلك السهولة في ذلك المجتمع أشبه بالاستحالة، تقطعت أو كادت خيوط تصور أن لهم دورا بالنسبة لمجتمعاتهم الأصلية. عيونهم حزينة شجية تثير في نفسي لوعة عليهم لأنني أرى ما يدور في الأعماق.

باريس الوهم والحقيقة

         لكننا لا نقف عند رؤية الفنان لنفسه - أمام مرآة الرحلة الباريسية - بل نراه وهو يترك الريشة ليكتب رأيه فيما فعلته باريس برسامي مصر: فأحمد صبري ويوسف كامل نقلا المخملية والانعزالية الأكاديمية والمدرسية لما أطلق عليه التأثيرية الفرنسية التي كان قد ولى زمانها بعد أن استنفدت أغراضها الفنية في بدايات القرن. أما رمسيس يونان الذي أقام بباريس، وعرض بها في جاليري دراجون عام 1948 فإنه توقف عقدًا كاملا حتى يعود بمعرض شخصي في القاهرة عام 1958. يقول رزق الله: حلم باريس المدينة الأم لكل فناني العالم ليس حقيقة. بيكاسو وخوان ميرو الأسبانيان نعم. كاندينسكي وشاجال الروسيان نعم. جياكومتي نعم. لكن رمسيس يونان فنان مصري،.. فهل صدم رمسيس يونان في أحلامه بثورة عالمية تجعل خطابهم مشاركا ومقتحما وحالما بعالم أفضل؟.. تندلع حرب 1956 وتهاجم القوات الفرنسية والإنجليزية بمشاركة القوات إسرائيل الوطن. ويرفض رمسيس يونان الثوري فيعود ويمنحه الدكتور ثروت عكاشة التفرغ الفني، مع فنانين سواه. منحته باريس حرية الدخول والخروج، وفي القاهرة يرحل رحلته الأخيرة في 1966 تاركا وهو في أزهى سنوات عطائه العالم الذي أسسه. ومن المثير للحزن والأسى أن نعرف أنه رحل وهو يقيم أوده من الترجمة بالصفحة بعد أن سحبوا منه منحة التفرغ.

         لكنني أعترض ومعي كثيرون على ضآلة تصوير التأثير المتبادل بين باريس ورمسيس يونان، الذي كان حضوره في الأربعينيات تتويجا لمرحلة بدأها في الفن وقدم خلالها (غاية الرسام المعاصر) بالعربية والفرنسية رداً على فنان التكعيبية ازاونفان. ويذكر الرسام عبد الرازق عكاشة كيف لاقى معرضه 1948 الذي قدمه جاك لاشين مدير متحف الفن بفرنسا صدى كبيرا، وظل يونان يلعب دورًا مهمًا في الحياة الثقافية الفرنسية حتى أنه قدم برامج ثقافية في الإذاعة الفرنسية، ويؤكد الدكتور لويس عوض في مقدمة كتاب (دراسات في الفن) لرمسيس يونان على فرنسية مجموعة رمسيس يونان، فؤاد كامل، وسمير رافع، ويقول إن فرنسيتهم تتجاوز حدود الأدباء، انهم شعراء لغة ومفكرو مجتمع.

         ولا ينسى رزق الله الإشارة إلى تجربة حامد عبد الله الذي عاش هو الآخر عشرين عامًا في باريس دون المشاركة في الحركة التشكيلية الفرنسية. ويرى الفنان أن اللقاء الثقافي بين مصر وفرنسا لم يبدأ مع الحملة الفرنسية، بل قبلها بقرون، حينما غزت الثقافة العربية أوروبا مجتمعة ومن بينها فرنسا. وإذا كانت فرنسا قد جاءت بجيوشها لمصر مرتين - مع نابليون ومع حرب 1956 - فإن مصر قاومت ودفعت من دم الأبناء ثمن هذه المقاومة. لكنها استقبلت بحفاوة شامبليون والأدب والشعر الفرنسي.

         وواتت الفنان الفرصة - في الرحلة الباريسية الثانية - حين عمل مديرًا للمركز الثقافي المصري بباريس، ليؤسس بعدًا جديدًا لهذا الحوار الثقافي الخلاق بين الثقافتين المصرية والفرنسية على أرض باريس، بين عروض للكتب المترجمة من الفرنسية وإليها، وإحياء نصوص فنية مجهولة منها ما كتبه الشيخ الأزهري مصطفى عبد الرازق عن الفنان هيلبيرت جارو، ضمن نصوص أخرى نشرها بدورية المركز كتبها عن باريس وفرنسا، والقاهرة ومصر: إدمون جابيس، جورج حنين، ألبير قصيري، روبير سوليه، أندريه شديد، توفيق الحكيم، طه حسين، الحسين فوزي.

         وإذا كانت باريس قد أنضجت أعمال رزق الله في مجال الرسم للأطفال، وقد زاول ذلك بها، وقبلها، إلا أنها تحتفظ له بحكاية حزينة أيضا. فليست كل حكاياته الفرنسية تثير في القلب البهجة كما يقول. فعندما طلب منه رئيس تحرير مجلة (أوكابي) رسم ملحق من 10 صفحات عن صبي مصري، رسم رزق الله صبيه في إحدى قرى الصعيد، لكن رئيس التحرير يطلب منه أن يضيف طائرة إلى سماء القرية، ويرفض الفنان. فقد أدرك أن رسالة رئيس التحرير مفادها أن تلك القرية البدائية تعيش هكذا في عصر الطائرات، كما لو كان يسمنا بالتخلف. إنها القصة المكرورة والحزينة التي يريد الغرب أن يؤطرنا بها، خلافا لما نحن عليه.

صاحب الأيقونة

         أما رحلة الفنان جورج البهجوري إلى باريس فقد كانت بدايتها مع رغبته في رؤية الأعمال الخالدة على طبيعتها بعد عمله في مجلة صباح الخير وذلك (بعد أن تعب من رؤية هذه اللوحات على صفحات الكتب التي كان يستعيرها من المكتبة ويعيدها مهلهلة فيعاقبه أمينها، كما يقول في سيرته الذاتية.

         وفي المقطع التالي نعود إلى سيرة رزق الله سريعًا لنقرأ عن لقاء باريسي خالص: كنت أسير أنا وصديقي جورج البهجوري بشارع سان جيرمان بالحي اللاتيني نتبادل الحديث، وفاجأني قائلا: أنا سعيد بك لأنك معنا الآن في باريس تبحث عن العالمية. أجبته ساخرا: صديقي جورج إن هذه الكلمة زائفة وهي لا تعنيني في قليل أو كثير. اشمأنط مني جورج قائلا: كيف لا تعنيك؟ قلت له صدقني إنها كذبة كبيرة يروج لها البعض عن عدم فهم، ويروج لها البعض الآخر عن سوء قصد. رأيت في عينيه أنني سببت له مشكلة وضيقا لم يكن يتوقعهما مني. مفاجئا قلت له: أنظر يا جورج الدم تحت قدميك، باغته كلامي فنظر تحت قدميه فلم يجد شيئا. قلت له صدقني إن دم (موديلياني) و(فان جوخ) و(سيزان) وقافلة كبيرة من الفنانين المخلصين قد أريقت على هذه الأرض ولكنها جفت الآن ولا نراها ولكنني أحسها بقلبي... باريس ستخدعك كثيرا. إنها متحف كبير نعم، نحن فيها نرى ونشاهد ونهضم ونتعلم ثم نرحل وكفى.

         عندما قرأت هذه المحاورة في سيرة رزق الله، تذكرت ما كتبه اللباد إلى جورج البهجوري مرة: كلنا نحب باريس، لكن باريس - يسأل - بتحب مين؟ لقد آمن رزق الله واللباد أن لدى العرب ما يقدمونه، وعملا على أن يكون مختلفا ومميزا. يقول رزق الله : أحببتك يا باريس لكن مصر هي القلب والنبض. فليكن ولتكن العودة واتخذت القرار.

         في الجزأين اللذين صدرا عن دار شرقيات أيقونة فلتس (230 صفحة من القطع الصغير) وأيقونة الفن 190 صفحة من القطع الصغير) قدم جورج البهجوري لنا عملا روائيا كاملا، حتى أنه كمؤلف أخفى وراء قناع البطل شخصية فلتس الأيقونة الرمز لاسمه. وقد أعطى مساحة أكبر لطفولته وصباه، ونشأته، وأقاربه، ربما لأن مساحة المتخيل الروائية ستكون أكثر رحابة مما لو بذلها لمعاصريه.

         في الطائرة المتجهة به إلى باريس ينام ويحلم أنه يطير فوق الأشجار، وتتحول ذراعاه إلى جناحين، يطير فوق الكرة الأرضي يكركر ويضحك، بجواره طيور النورس المهاجرة إلى الشمال، عندما تقترب الطائرة من مطار باريس تتلون الأيقونة وتزداد في الكف لمعانا وقوة. يعود إلى رحم جديد ويصبح مع الحنين جنينا من نوع آخر.

         وتحولت باريس لدى جورج البهجوري إلى أبجدية لا يستطيع التحدث دون استخدام حروفها ومفرداتها. فعلى مدار السيرة الروائية نلمح الاستعارة البلاغية الباريسية في فصول الكتابين. ورغم أن الأحداث لا تدور في باريس إلا أن باريس حاضرة - كمتخيل مكاني وزمني ولغوي أيضا - في صفحات الأيقونتين. فهو حين يرسم المتهمين في إحدى محاكم مصر يتخيل رسوم الفنان دومييه في المحاكم الفرنسية قبل أكثر من قرنين. وهو حين يصور نفسه حاملا سيفه يشبه الحصان أدناه بحصان سلفادور دالي الذي رآه في لوحاته الباريسية. بل ويسخر من نفسه حينا فيقول عن بطله مقارنا إياه بباريسي آخر: يقف معتدلا مشدودًا بقامته القصيرة وساقيه اللتين تكادان تشبها في قصرهما تولوز لوتريك. أو يصف فتاة بأن رأسها (قطعة من رخام رودان). أو تراه يذهب كل ليلة خلف كواليس الأوبرا لاكتشاف سيقان الفتيات الجميلات، ويتذكر لوتريك وديجا..

         لكنه لا يستعير أسماء فناني باريس وأعمالهم فقط، بل تراه يستحضر المكان أيضا: في حدائق القبة.. على طول الطريق قصور صغيرة تشبه قصور حاشية الملك لويس السادس عشر في فرساي التي توزعت على أجمل منطقة في ضواحي باريس... أو هو يصف عاشقا (كأنه أحد فرسان القرون الوسطى، هبط للتو من حصانه وأصبح يتنزه بين جذوع أشجار بولونيا - الباريسية - الفارعة). أو تراه يستدعي صورة الأثاث الفرنسي حتى وهو في القاهرة: أقدام مقاعد الصالون لها حلي ذهبية وملمس القطيفة ولونها أحمر كالنبيذ، تقليد رخيص لطراز لويس الرابع عشر.. بل وهو في زحام قطار كبري الليمون لا ينسى باريس: الطريق ينحرف إلى الشمال بعد الخروج من باب الحديد في شارع ضيق طويل، يبدو على أحد جانبيه تمثال العذراء حاملة الطفل نسخة منقولة من كاتدرائية النوتردام في باريس..

         في سبتمبر 1994 يروي البهجوري في إحدى مقالاته، عن أكثر من حدث باريسي ليس له سوى مغزى وحيد، أن باريس لم تعطه كما منحها، فتراه يسأل: لم ظلت المسافة كبيرة بيننا رغم أنني في وسطهم؟! فنان أنا حملت لوحاتي إلى كل مكان في أحياء باريس، احتفظ بها كبار أصحاب قاعات العرض.. وانتظرت بلا طائل.. لم تعد اللوحات.. ولا ثمنها... أشهر قاعة لعرض اللوحات في حي السينما هي قاعة إتيان دي كوزانس.. باع كل أعمالي، وعندما طالبت بثمنها قال لي بصريح العبارة: ماذا تريد مني وقد قدمت لك افتتاحًا رائعا سالت منه زجاجات الشمبانيا، وازدحم البار بما لذ وطاب وعزفت لك فرقة خاصة من (البلوز) أنغامًا حديثة. ولوحاتك معلقة على الجدران ليلة الافتتاح؟

         ويكتب في موضع آخر: نبقى نحن الفنانين القادمين من العالم الثالث في القاع في نظرتهم لنا مع المجتمع الذي يجنح إلى العنصرية لا يحسون بنا ولا يحتفلون بنا. لا يدعوننا إلى أجهزة الإعلام. ويبرر البهجوري دعوته وزملاء له من اليابان وتركيا ودول أخرى للمشاركة، بأنهم يفعلون ذلك: ليكتبوا على المهرجان كلمة الصالون العالمي لرسامي الضحك، كأني ألعب في أولمبياد البحر الأبيض أو مونديال إيطاليا.

         هكذا يعود جورج البهجوري إلى القاهرة ليكتب سيرته، لكنه في كل مراحلها يكتب بوعي فرنسي خالص، لقد منحته باريس لغتها وفنها ولكنها لم تخلص له وحده فتركها، رغم أنه يقول عنها: تبقى باريس رائعة كما هي.. لاتكبر في العمر.. تخلع رداءها وتخلع كل شيء بمعنى الحرية.. مثل فينوس إلهة الجمال.. تصبح عارية تماما في الفكر والحب والأزياء.

دروس مختار

         يحكي الفنان محمود مختار عن الدرس الأول للرحلة الباريسية أواخر عام 1911 ولم يكن درسًا تشكيليا! كان عمره تسعة عشر عامًا، مبعوثا على نفقة الأمير يوسف كمال لدراسة الفنون، بعد إكمال دراسته لها في القاهرة. وعلى متن الباخرة فاته طعام الظهر لظنه أن المائدة ليس بها مكان له، وكاد يفوته طعام العشاء لولا مساعدة كبير الخدم الذي قاده لمقعده. تسأله سيدة أن يقرب إليها الخبز فيمسك قطعة بيده ليعطيها إياها، فيجد الجميع يتبادل النظرات، وأدرك أنه ارتكب خطأ فاحشا، وكان يجب أن يمسك السلة ويقدمها كلها، وأن يرى كيف يفعلون ذلك ويقلدهم.

         كان وصول محمود مختار إلى باريس ليلا، شتاء وظلام وشعور سيئ ينتابه للمرة الأولى من المدينة. لكن المدينة البوهيمية سرعان ما تدجن محمود مختار فيطيعها صاغرًا. فطلاب الفن الجدد مجبولون ومجبورون على طاعة القدامى الذين اشتهر عنهم شذوذ عاداتهم. فالجدد يدفعون للقدامى ثمن الدعوات إلى مآدب الطعام والنبيذ. ورأى مختار المزاح الباريسي لطلبة الفنون الذي ينقلب إلى قسوة مميتة، قد تنتهي بالطالب مختنقا في المصرف، أو محبوسا في برميل مغلق على شاطئ السين، أو التجرد من ثيابه والبقاء عاريا تماما - كما فعلوا به - مشدود الوثاق إلى كرسي وقد علا رأسَه تاجٌ من الورق كتب عليه رمسيس الثاني، ثم يُحمل إلى عرض الطريق حتى كنيسة سان جان دي بريه، في آخر شارع بونابرت. حيث وضع الفنان الشاب بمقهى تحمل اسم الشارع، يأكلون ويطعمونه، ويرمونه بفضلات الطعام، ومن المشاركات في هذه الاحتفالية طالبات.

         يقول محمود مختار: وهذا، وغير هذا مما يشابهه ومما اشتركت فيه، قد خلق في للحال انطلاقا من قيود المحافظة وحبا في الحرية وتكسير أغلال الكلفة.. فهو يعد من الانقلابات التي طرأت على نفسي وكان لها أثر فيها طوال حياتي.

         ثم يقيم الفنان في نزل عائلي مع عائلة فرنسية بها فتاتان. ويدرس محمود مختار - كفنان - الفتاتين، وإحداهما جميلة والأخرى تنتصر بحيويتها وفطنتها رغم عدم الجمال البادي عليها بوضوح. يقول مختار: وجعلت ألاحظهما وأدرسهما كفنان، وكثيرا ما وجدت جمال النفس ينتصر على جمال الجسم: وهذا مما يثبت بداهة ما يجب على الفنان عندما يريد تصوير إنسان، أن يتغلغل في قرارة نفس الشخص الذي عليه تصويره أو تمثيله. فمن القواعد المعروفة والتي كانت تدرس لنا أن الشبه وحده لا يكفي للدلالة، بل هي الروح والخلق التي يجب نزعها وإخراجها على وجه الشخص.

         وشرع مختار في عمل تمثالين للفتاتين، مستفيدا من هذه النظرية، إلا أن عاملين كانا سببا في عدم إكمال المشروع، أولهما أنه بدأ يميل إلى غير الجميلة، والثاني قيام الحرب العالمية الأولى، مما جعل تلك العائلة تنزح من باريس إلى مسقط رأسها في الأقاليم. يقول الفنان: وربما كان الخيرة فيما وقع.. وأنا الآن وقد فاتت نزعة الشباب أدرك ذلك لأنني كنت متحمسا فعلا للنتيجة، ولكن ترى هل كان تكويني يومئذ يمكنني فعلا من الوصول إليها وهي من المشاكل العويصة في الفن؟

         ولا ننسى أثرًا باريسيا آخر في سيرة مختار، وهو التقليد الذي أدخله ذلك الفنان الذي عرف كمثال، إلا أن له رسومًا كاريكاتورية عديدة، بل وساهم في رسم شخصيات مهمة رسوما حية لتصحب الرسوم أحاديث لها إلى الصحافة المصرية مثلما فعل مع الممثلة الفرنسية الذائعة الصيت سيمون.

         لكن ذلك كله من حديث يتضاءل عندما يكتب محمود مختار عن مرقص الفنون الأربعة، وهي ليلة واحدة في العام كله يقصد إليها أهل الفنون الجميلة - وتستحيل على الغرباء إلا من استطاع إلى ذلك سبيلا - ويحظر بها التقاط الصور الفوتوغرافية أو السينمائية. وينسقها طلبة مدرسة الفنون (التصوير والنحت والهندسة المعمارية والزخرفة) ويظلون يعدونها قبل موعدها بشهور.

         الليلة التي يتجلى فيها الفن - كما يصف مختار - تميز المكان بديكورات تمثل حضارات مختلفة من العصور القديمة: مصر، روما، الإغريق، الهند، إيران أو العرب، يختار منها عصر كل عام، فتصبح الصالة خالصة لهذا العصر تماما. وإذ تغلق القاعة على من بها من الثامنة مساء وحتى ما بعد منتصف الليل بساعات حيث يندمج الجميع، وتقام مسابقات من قبيل أجمل العاريات..

         يستطرد مختار: أما ما يحدث في تلك الليلة فهو يُعجز اللسان.. إذ كل ما يمكن فعله يُفعل في تلك الليلة ولا حرج ولا غضب! وبعد تلك الليلة بقيت خمسة عشر يومًا كأنني في حلم وغباء.. لأن تلك الحرية المطلقة كان لها في نفسي أثر أبعد من كل ما كان من قبل، وخرجت أتساءل لماذا لا تبقى الناس هكذا، لماذا تلك القيود والتقاليد التي وضعها الناس لشقائهم؟! ولماذا لا يكون العالم كله على هذا النسق الذي رأيته في حفلة الفنون الأربعة؟.. وكأن الناس في عيني وكل ما حولي بعد تلك الليلة تافه، خامل، بارد، كاذب، مراء، يكاد يكون ميتا..

أحمد صبري: الجنة والجحيم

         كان الفنان أحمد صبري يستمع إلى جاريه في بيت الفن بدرب اللبانة بحي القلعة القاهري بدهشة وتلهف. فقد كان الفنان السكندري محمد ناجي وزميله الفرنسي بيبي مارتان Beppi Martin يصبان في كأس سمع صبري قطرات من إبريق الحروف الفرنسية عن الفن والفنانين في باريس. وإذ هو يسأل نفسه: متى يستطيع السفر إلى هذه المدينة الساحرة؟ وهل يقدر له أن يرى تلك البدائع الفنية التي يتحدثان عنها؟

         في 1919 يتحقق حلم صبري، وإذا به يمضي شهور إقامته الأولى بين أكاديميتي شوميير وجوليان، لا ليرسم، بل - كما يقول محمد صدقي الجباخنجي في مؤلفه (أحمد صبري - سيرة حياة فنان) ليرى ويتأمل كيف يرسم أساتذة الفن من ذوي اللحى الطويلة إلى أن استطاع أن يمد يده بالقلم في اطمئنان، وخاصة بعد حدثين مهمين: لقائه بزميله المثال محمود مختار، ثم زيارة الوفد المصري لباريس برئاسة الزعيم سعد زغلول.

         ولعلنا هنا نلتقط الخيط الأول لسيرة الفنانين الكبيرين في فرنسا، لنرى الثقة بالنفس التي كان يتمتع بها مختار، والاضطراب الذي كان يعتري صبري. كان مختار في باريس يستعد لإقامة مشروعه (نهضة مصر) وإلى مرسمه يدعو أحد أفراد الوفد، وهو ويصا واصف (بك). ويوصي مختار بأحمد صبري خيرًا، فيحصل هذا الأخير على مكافأة لقاء رسمه لصورة حمد الباسل (باشا)، وتعينه هذه المكافأة على مد فترة إقامته في باريس فترة أخرى. وحين ينفق صبري كل ما معه، وتستحيل إقامته في فرنسا، رغم مساعدة مختار المالية له، يستعد للعودة لمصر. لكن مختارا لا يتركه بل يشجعه على مواصلة سعيه بعد العودة للحصول على بعثة على نفقة الحكومة المصرية تعيده إلى باريس مرة أخرى في 1923م.

         هذه العودة رغم كل ما كان يكتنفها من قلق وضيق، إلا أنها كانت تضع قدمي صبري على الطريق الصحيح، ولنقرأ في جريدة الأهرام سنة 1929 هذا الخبر:

نجاح مصر في معرض الفن الفرنسوي

         باريس في 6 يونيو من مراسل الأهرام الخاص: أقيم في (الجران باليه) أخيرا معرض الفن الفرنسوي، وكان حظ مصر من النجاح فيه مما يدعو إلى الاغتباط والتنويه بقدرة رجال الفن المصريين. وقد ذكرنا منذ أيام أن الأستاذ محمود مختار المثال المشهور عرض تمثالا من بدائع الفن يمثل عروس النيل لفت إليه نظر كل من زاروا المعرض وكان موضع إعجاب كبار رجال الفن، حتى أن المحكمين اختاروه مع 22 تمثالا آخر ومنحوه الميدالية، وذلك من بين أكثر من ثمانمائة عارض. وكما تفوقت مصر في فن الحفر، وكما بز مختار مئات المثالين من جميع الجنسيات، تفوقت أيضا في الرسم، فقد عرض أحمد صبري لوحة (تأملات) فنالت شهادة فخرية، وهي الجائزة التي تلي الميداليات مباشرة، ولم تمنح إلا لعدد قليل أيضا من مئات العارضين.

         ومختار معروف للقراء، أما أحمد صبري الذي يسرنا نجاحه فتخرج في مدرسة الفنون الجميلة بمصر وذهب إلى فرنسا في سنة 1919 إلى سنة 1921 ثم عاد إلى مصر. وفي سنة 1923 أوفدته الحكومة المصرية للتعلم على نفقتها، وكان مما عني به دراسة رسم الأستاذ (فوجيرا) واشتغل بكل جد وهمة في (نانت) ثلاث سنوات، ثم في باريس، وسيعود إلى مصر قريبا بعد أن أتم دراسته. وقد هنأ كثيرون من المحكمين أحمد صبري على الطريقة التي اتبعها في رسمه وجمال الألوان ودقة الرسم وعنايته بالتفاصيل المختلفة مما جعله يخرج رسما متقنا متناسقا بديعا. هذا عضو من بعثة الحكومة يعود إلى مصر بفوائد قيمة ومعلومات ستجعله يصبح في القريب في الصف الأول بين الفنيين المصريين.

         كانت الرحلة إلى باريس لدى أحمد صبري هي رحلة الخطوات الأولى التي لا يكاد ما قبلها أن يكون محسوبا من طريق الفن. وإذا كان البناء المعماري هو إحدى خصال لوحاته التي ميزت مشواره الفني، فقد وصل إليه من بوابة باريس. يحكي صبري كيف فاجأه المصور بول ألبير Paul Albert في عام 1920 وهو يرى بعض لوحاته: اسمع يا بني، هل أنت مصري؟ إن مصر ينبوع الفن الخالص.. يجب أن تتعلم وتعلم أن الرسم هو أساس كل شيء. بعدها ترك صبري الألوان عامين، لم يكن يرسم إلا بالقلم. وعرض في 1921 رسومه القلمية هذه على البروفسور أدولف دوشنون Adolf Dushenon فكانت كلماته إشارة أخرى نحو الاتجاه الصحيح: أقصر جهودك على الخطوط الأساسية الضرورية.. إنك تعالج رسومك بخطوط كأنها الهمس، فزدها قوة وإحكامًا.

         ثم كانت رحلة أحمد صبري الثانية إلى فرنسا التي استمرت ست سنوات (1923 - 1929) خلالها تزوج - رغبة في الاستقرار - للمرة الأولى من الفرنسية جولييت (1924). لم يهرب صبري من الزواج في مصر إلا بعد أن رفضته إحدى قريباته لأن أسرتها لم ترض عن مهنته. كان حب صبري لجولييت جارفا، لكن الزواج لم يدم إلا شهورًا، رغم أن ولعه بها دام حتى سني عمره الأخيرة.

         ولقد سبب هذا الزواج ــ بل الأحرى نهايته ــ الصدمة الباريسية الأقسى في حياة صبري، بعد أن أجبرته على الطلاق منها، يقول: لقد زعمت لي ذات يوم أنها اتخذت عشيقا وأنه لم يبق أمامي إلا تطليقها. ولكني كنت أحبها، كنت شديد التعلق بها. ومن فرط تعلقي بها لم تكن تطاوعني نفسي على تصديقها. كان معنى صدقها عندي هو فقدها إلى الأبد.

         الزواج الثاني لصبري كان من هنرييت - محاولة ليبرأ من هوى الأولى - وهي إحدى زميلاته الفرنسيات في مدرسة الفنون الجميلة، حين بدأ صبري يهدأ ويتعلم ويحصد جوائز أولى في فن التصوير. ورافقته هنرييت بعد عودته إلى مصر، وأنجبت له ثلاثة أبناء، لكن الخلافات المتلاحقة بين الزوجين غير المتفاهمين أدت إلى الطلاق. وهكذا مثلت أنثى باريس للفنان تجربتين فاشلتين، وظل يعاني نار التجربتين طويلا بعد أن نعم بنورهما زمنا يسيرًا، حتى دخلت المرأة المصرية حياته، ليشعر للمرة الأولى بالاستقرار، وهو أمر لم يدم طويلا، بعد أن تسلل ظلام البصر إلى حياته، حتى رحل في 1955م.

         عن حصاد الرحلة الثانية يقول الفنان حسين بيكار: على الرغم من أنه عاد من باريس أكثر خبرة ونضجًا، إلا أن الكفاءة وحدها في مناخ كهذا ليست السبيل إلى الشهرة والتألق والنجاح. ويقصد بيكار إلى مناخ الفن الرفيع الذي لا يروج إلا بين الطبقة البرجوازية ويفرض على الفنان ما كان ينقص صبري: درجة كبيرة من اللباقة، والدبلوماسية، وإجادة فن التعامل مع الآخرين. وأحسب أن كلام الفنان الكبير بيكار صحيح، ولعل هذه الصفات وحدها هي ما جعلته يصطدم بالأنثى الباريسية التي تعد مرآة مدينتها. وعلينا أن نجد التماثل الشديد بين هذه السيرة وسيرة المهاجرين إلى الشمال بحثا عن الحرية، فإذا بهم يصطدمون بقيمها.

         في هذه الرحلة الباريسية يكاد جهد صبري يكون استثنائيا، وهو لا يرى سوى الاجتهاد في طريق الفن بديلا عن الحياة الاجتماعية والعاطفية البائسة التي عاشها في مدينة عشقها وآلمته. يكتب مدير بعثته الدكتور محمود الديواني في الخامس من يونيو 1925: كان اجتهاد أحمد صبري هذا العام ملحوظا، ولقد أنجز كثيرًا من اللوحات العارية والزهور. وعرض في معرض الفنانين الفرنسيين لوحة استرعت الأنظار. وأمكنه أن يحقق كثيرًا من النجاح بقوة عزيمته ورغبته في العمل، وهو يحب الرسم والتدريس. ونشهد له كما سبق أن اقترحنا أنه قادر على أن يقوم بأعباء وظيفة مفتش الرسم.

         وحين كان صبري يسر إلى محمد صدقي الجباخنجي بذكريات باريس كان يسترد روحه رغم الألم العاصف الذي أورثته إياه، يقول الجباخنجي: عندما انتهى صبري من حديثه الحماسي شعرت بأن روحه قد ردت إليه بعد أن حلق في عالم الذكريات البعيدة.. هناك في باريس حيث أمضى سنوات طويلة يكافح لإنماء مواهبه الفنية وتأكيد معالم شخصيته الفذة. ولكن تبقى كلمة أخيرة أختتم بها عن الفنان أحمد صبري، فإذا كانت باريس قد أعطته الفن، فإنها حرمته الابتسامة، وجعلته يحرم شخوص لوحاته هذه الابتسامة أيضا.

خلاصات

* أبرز القيم الباريسية هي الحرية وهي القيمة التي يحتاج إليها الفنان أكثر من أية قيمة أخرى مماثلة.
* مثلت باريس رحلة التحول الكبرى في حياة الفنانين لما امتلكته من مقومات مدينة الفن.
* أثرت باريس بكل هذه المقومات حياة الفنانين وملأتها صخبا وعملا وظلت ترقد في معاجمهم اللغوية والفكرية ومخيلتهم الإبداعية حتى بعد العودة.
* قد تقسو باريس حينا أو تلين، لكن الفنان يستطيع أن يعيش بها، يستمد القوة من الطاقة التي تمنحه إياها، فينتصر على مشكلات الحياة المادية المحطمة للبشر، كما أنه يغفر لها تلك القسوة مقابل الحرية التي تمنحها له.
* المناخ الذي تتيحه باريس يظل ملهما لأصحاب المشاريع الفنية، لأن المدينة تقدم النماذج الناجحة في دعم الفن والفنانين. وكم من دعوة لفنان أراد أن ينقل هذا النجاح إلى وطنه.
* كما أن الطقس المعرفي الباريسي الثري يعد مثاليا للفنانين بما يضم من متاحف وما يدعو إليه من فنانين، وما تكتمل به الصورة من اهتمام إعلامي وشعبي بالفنون الجميلة في كل مناحي الحياة.
* أن باريس هي مدينة الصرعات، وقد حافظت على هذا اللقب، على الأقل خلال الرحلات التي صاحبنا فيها فنانينا مختار وصبري وبهجوري ورزق الله.
* وأخيرا الإحساس المشترك بفوقية المجتمع الفني الباريسي، وإن اختلفت درجات هذه الفوقية التي لا تلغي الفكرة كما جاءت على لسان فنانينا. وهكذا كنا مع باريس، عاصمة فرنسا، وعاصمة العالم، ومسرح الفن ومسرح الحياة، وهي غابات بولونيا وهي نهر السين، مثلما هي ساحة الكونكورد وقوس النصر، واللوفر والحي اللاتيني، وصاحبة آثار لويس التاسع عشر، وذكريات نابليون، والمقاهي والطرق التي تفضي إليها، وهي المرأة الفرنسية التي تكتب تاريخ المدينة على قدم المساواة مع الرجل.

         وإذ أترك أصحاب الرحلة الباريسية، أشعر بحنين إلى إعادة الكتابة من جديد عن هؤلاء الذين رحلوا إلى عاصمة النار والنور، فتحرقوا حينا وحينا أضاءوا. أتذكر قول عميد الأدب العربي طه حسين: فليس غريبًا ألا أترك باريس إلا كارها. وكيف أتركها راضيا وأنا أعلم أني ما دمت في باريس فأنا أستطيع أن أرضي من عقلي وقلبي وشعوري أي ناحية شئت.

حاشية في تاريخ باريس:

         أسسها الغاليون كمستعمرة صغيرة على الضفة الغربية لنهر السين، ووصلها الرومان في مرحلة مبكرة، بقيادة يوليوس قيصر الذي أشار في كتابه (الحروب الغالية) إلى المدينة مرارا باسم (لوتيسيا). ونتيجة لتهديد النزوات البربرية المستمرة، نقلت المستعمرة الأصلية إلى جزيرة، بالسين هي (جزيرة المدينة) ثم بدأت اتساعها البطيء لتشمل المدينة ضفتي النهر، وتحولت باريس، من مجرد مقر بسيط لملوك الفرنجة (الميروفنجيين ثم الشارليين)، إلى عاصمة حقيقية في عام 987 عندما أسس هيو كابيه سلالة حاكمه جديدة وارتفع بالمدينة لتحافظ على مكانتها على مر تاريخ فرنسا ولتبدأ باريس في التطور لتصبح مركزا حضاريا وثقافيا. وكان تولى الملك فيليب أغسطس الثاني للحكم، وقد حكم البلاد من عام 1180 إلى عام 1223، بداية لعهد من أعظم عهود باريس : فقد بدأ بناء اللوفر وأسست الجامعة في عام 1215. ثم ازدادت الفخامة في عهد لويس الرابع عشر، الذي استمر من عام 1226 حتى 1270 وتم خلاله بناء الكنيسة المقدسة وتقدم العمل كثيرا في كنيسة نوتردام. ثم عاصرت باريس واحدة من أحلك فتراتها أثناء حكم السلالة التالية (الفالوا). وكان عام 1358 هو عام التمرد الذي قاده زعيم التجار الباريسيين إيتيان مارسيل. ثم أعاد شارل الخامس النظام إلى المدينة وبنى سجن الباستيل ولكن السلام لم يستمر فقد سمحت الحرب الأهلية التي نشبت بين طوائف الأرمانيك والبورجوندى لإنجلترا باحتلال فرنسا وتم تتويج الملك هنري الرابع ملكا على فرنسا في كنيسة نوتردام في عام 1430 وفى النهاية، استرد شارل السابع باريس ولكن الصراعات الداخلية والثورات الدموية استمرت فيها كما اجتاحت الأوبئة الرهيبة المنطقة وازدادت معاناة الشعب المتألم.

         تضاءلت أهمية باريس خلال القرن السادس عشر، واحتلت قصور اللوار المكان الأول حيث اختارها الملوك الذين تتابعوا على عرش فرنسا لتكون مقرا لهم. لكن النزاعات الداخلية في العاصمة نفسها لم تتوقف. وكان انتشار البروتستانتية وراء الصراعات الدينية الدامية التي اجتاحت باريس وفرنسا لزمن طويل، ووصلت إلى ذروتها عند مذبحة الهوجونو في 24 أغسطس عام 1572 وفى ليلة القديس بارثولوميو الشهيرة، وبعد اغتيال هنري الثالث في سانت كلود بيد الشاب جاك كليمان في عام 1589، حوصرت المدينة أربع سنوات طوال حتى فتحت أبوابها لهنري الرابع، الذي تخلى عن عقيدته الأصلية وتحول إلى الكاثوليكية. ومع ذلك وصل تعداد المدينة في أوائل القرن السابع عشر إلى 300000 نسمة.

         هكذا تتزايد أهمية المدينة كمركز ثقافي سياسي، وخاصة في ظل الكردينال ريشليو القوى، الذي أسس الأكاديمية الفرنسية في عام 1635. ثم ازداد اتساع المدينة أثناء حكم سلالة البوربون الجديدة. وفي عام 1715، أثناء حكم لويس الرابع عشر، وصل عدد سكان باريس إلى مليون نسمة. ولكن لا شك أن باريس اكتسبت مكانتها في التاريخ في عام 1789 مع بداية الثورة الفرنسية، التي كثيرا ما تعتبر بداية العالم الحديث. وفى العادة يعتبر بدء الثورة في 14 يوليو من هذا العام حين استولى الشعب على رمز الإرهاب والسلطة المطلقة وهو سجن الباستيل.

         وفى السنوات التالية، تتابعت التطورات بسرعة. فسقطت الملكية ثم بدأ حكم الإرهاب، وفى خلال مدة قصيرة للغاية اختفت الشخصيات التي سيطرت على المسرح السياسي الباريسي إلى الأبد. ثم نست المدينة ما عانته خلال هذه السنوات (فقدان الحياة الإنسانية وتحطيم الأعمال الفنية التي لا يمكن إصلاحها) مع حلول الإمبراطورية والبلاط العظيم الذي أنشأه نابليون في عام 1804 عندما قام البابا بيوس السابع بتتويجه في نوتردام. ومن عام 1804 حتى عام 1814 تم تجميل المدينة بقطعة فنية تلو الأخرى. فشيد العمود في ميدان فاندوم، وبنى قوس النصر واستمر العمل في اللوفر حيث احتفل في صالونه المربع في عام 1810 بزواج نابليون ومارى لويز أميرة النمسا.

         وفيما بعد، شهدت باريس من جديد سقوط ملكيات أخرى، ملكية شارل العاشر ولويس فيليب بوربون - أورليان، وميلاد الجمهورية الثانية باعتلاء نابليون الثالث العرش. وخلال فترة حكمه تم تكليف البارون هاوسمان بإعادة تخطيط المدينة، وبذلك أمكن حل مشكلة المرور الصعبة التي كانت تخنق المدينة الفرنسية آنذاك. ثم بنيت أسواق لى هال، وخططت غابة بولونيا، وغابة فانسان، وبنيت دار الأوبرا وأعيد تنظيم الشوارع الرئيسية. وفى عام 1870 أدت هزيمة نابليون الثالث في صيدا على أيدي البروسيين إلى ثورة الباريسيين الذين أقاموا بدورهم فترة تعيسة أخرى في تاريخ المدينة وهى فترة الكوميون (من 18 مارس إلى 22 مايو عام 1871). ومع الآسف تم تدمر الكثير من المباني الجميلة والتاريخية في فترة التمرد هذه ومنها الأوتيل دى فيل والتويلرى.

         ولكن في بداية القرن العشرين شهدت باريس نهضة جديدة لعظمتها حيث كانت المعارض الدولية تقام هناك، كما تم بناء القصر الكبير (جران باليه) والقصر الصغير (بيتي باليه) ونشأت حركات فنية جديدة في فن الرسم والأدب. ومن المؤسف أن المدينة عانت من جديد ويلات حربين طويلتين داميتين وما تبعهما من دمار وأطلال. وفى الحرب العالمية الثانية استولى الجيش الألماني على المدينة في عام 1940 ولم يتم تحريرها على يد الحلفاء إلا في عام 1944 ومع ذلك ومنذ ذلك الحين، رجعت باريس لطبيعتها كمدينة حرة تنبض بالحياة واحتفظت بمكانها المرموق في تاريخ وحضارة الإنسانية.

لقراءات مستفيضة:

* أشرف أبو اليزيد: سيرة اللون، تجارب تشكيلية معاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003م.
* جبرا إبراهيم جبرا: الفن والفنان، كتابات في النقد التشكيلي، اختارها وقدم لها إبراهيم نصرالله، دارة الفنون، مؤسسة عبد الحميد شومان، عمّان، 2000م.
* جورج البهجوري: أيقونة الفن، سيرة روائية، شرقيات، القاهرة، 2000م.
* حسين بيكار: لكل فنان قصة، مطبوعات كتابي، الطبعة الثانية، القاهرة، 1984م.
* حسين بيكار: أحمد صبري، الهيئة العامة للاستعلامات، القاهرة.
* رافع الناصري: فن الجرافيك المعاصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997م.
* عبد الرازق عكاشة، من كل قطر عربي فنان تشكيلي، بينالي في كتاب، الجزء الأول، المنتدى الثقافي العربي، باريس، 2000م.
* عدلي رزق الله: الوصول إلى البداية في الفن وفي الحياة، سيرة ذاتية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999م.
* عز الدين نجيب: فنانون وشهداء، الفن التشكيلي وحقوق الإنسان، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2000م.
* عفيف بهنسي: الفن الحديث في البلاد العربية، دارالجنوب للنشر،اليونسكو، 1980م.
* لويس عوض: تحية حليم، الهيئة العامة للاستعلامات، القاهرة، 1985م.
* محمود البسيوني: الفن في القرن العشرين، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2001م.
* محيي الدين اللباد: نظر (2)، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 1991م.
* محمد صدقي الجباخنجي: أحمد صبري، القاهرة.


 


أبحاث الفترة الصباحية الثانية ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. منصور بو خمسين أستاذ التاريخ الأوربي الحديث ـ جامعة الكويت
ذكريات لم تنتهِ
للفنان: أمين الباشا

         ابتدأت بالرسم منذ العاشرة من عمري، كانت الألوان والموسيقى من مكوّنات عائلتي. أبي هاو كبير للموسيقى والطرب الصحيح. خالي رسام وموسيقي. شقيقي يحب الرسم لكنّه اتجه إلى الموسيقى. أنا كنت أحب الموسيقى ومازلت، لكنّي اتجهت إلى الرسم. أول نشاط لي في الرسم هو مرافقة خالي إلى الجبال وشواطئ بيروت، أحمل له علبة الرسم الخشبية التي كان يصنعها هو بيديه. أذكر يومًا كنّا في منطقة جبلية، أعتقد أن المكان قريب من فالوجا. ولم أكن أتجاوز العاشرة من عمري، وبعدها عشرات من السنين مرّت ومازالت تمرّ، وأنا مازلت أندهش كلّما أرى نور الصباح وكأني أراه للمرة الأولى.

         ابتدأت مع خالي بالموسيقى، بالتعلم على عزف الكمان، وكان عازفًا مشهورًا ومؤلفًا. لكني لم أدم طويلاً، إذ كنت أرسم في حلمي وألوّن وأنا سائر، إلى أن أتى يوم، تجرأت بالطلب إلى خالي أن يعطيني بعض الألوان والفراشي، هذا بعد أن هربت من دروسه الموسيقية، نصحني بالذهاب إلى سوق (أبي نصر) وهو سوق العطّارين في بيروت في ذلك الوقت، لشراء بعض الألوان المطحونة (البودرة)، وعلّمني كيف أمزجها بالماء أو بالزيت، وكان أول ما لوّنت هو قباقيب حديقة البيت.

         في هذه المرحلة كنت أحوم حول مكتبة البيت المتواضعة وكأني سُحرت بالكتاب وصفحاته وبما يحتوي، فانكببت على قراءة ألف ليلة وليلة، ودواوين من الشعر والتاريخ، وكنت في الوقت ذاته أنقل جملاً تروق لي من هذه الكتب، ثم ابتدأت بالذهاب صباحًا إلى قرب البحر وأجلس متطلعًا سابحًا بخيالي، متصوّرًا نفسي شاعرًا وموسيقيًا ورسامًا وكل شيء، إلى أن أعود إلى البيت وتعود لي صورتي الحقيقية، الصبي الذي لا يعلم ما يحب وما يهوى.

         في ذلك الوقت أرسلت أول قصة كتبتها ولم أكن أتجاوز الخامسة عشرة إلى مجلة (الأحد) التي كان صاحبها المرحوم رياض طه، وكم سعدت عندما رأيت اسمي يلمع على صفحة المجلة والقصة بعدة صفحات، تروي حياة موسيقي.

         لكن الألوان كانت - ومازالت تحرّكني -، وكنت أستريح من الكتابة في الرسم، وأستريح من الرسم في الكتابة، إلى أن تغلّب الرسم على الكتابة، لكنها لم تزل حيّة فيّ.

         في بيروت كان يعيش في الخمسينيات رسّامون أجانب كُثر، وكنت أفضّل منهم أعمال )ستيفان لوكوس( الرسام الهنجاري الذي تعرّفت عليه وطلبت منه أن أكون أحد تلاميذه، وهكذا كان، وكنا عشرة تلاميذ أو أقل وكلّهن من النساء ما عداي طبعًا. زوجة رئيس الجامعة الأمريكية، زوجة سفير إنجلترا وسيدة من السفارة الفرنسية وغيرهن، وكنت أنا الممثل الوحيد للبنان. كنا نخرج مع الرسام لوكوس إلى الطبيعة مرة في الأسبوع الساعة العاشرة من كل يوم أحد، وبقيت معه ستة أشهر، أي حتى تركه وعائلته بيروت مهاجرًا إلى أمريكا. بعدها دخلت إلى الأكاديمية اللبنانية، قبلها كنت أرتاد المقاهي الشعبية في ساحة البرج، وكنت أرسم فيها بالحبر وبالأقلام الملوّنة أو بالأكواريل، وأعتبر أن المقهى الشعبي البيروتي هو مدرستي الأولى، ومازالت مهمّة وضرورية لمداومة عملي الفني اليومي، فعندما سافرت إلى باريس تابعت الرسم في المقاهي وكان خروجي من مرسمي هو للدخول إلى مرسم أوسع أي المقهى...الشارع...الناس. وإن لم أكن أرسم في بعض الأوقات لكن نظري كان يرسم وحركات سرية لأصابع يديّ ترسم دون أن يشعر بها أحد سواي.

         أول معرض اشتركت فيه في (صالون الربيع) السنوي في بيروت، نلت جائزة وللعرض السنوي التالي نلت جائزة السفارة الفرنسية للدراسة لمدة أربعة أشهر في باريس، وكدت أطير من الفرح ومن الخوف معًا، كنت أتخيّل نفسي في باريس ذلك الوقت، لكن تحقيق هذا لم يكن في الحسبان، وعندما تحقق اعتبرته حدثًا فيه تبدأ مغامرتي مع الفن...مع الحياة.

         الأسابيع والأشهر الأولى في باريس كانت صعبة للغاية، المنحة لم تصل وحرب أهلية وقعت في لبنان عام 1958 وصار كل ما كنت أحلم به حلمًا مخيفًا جعلني أصادق وحدتي وأتدبّر في عيشٍ صعب، فكنت ألجأ إلى الرسم في الشوارع وفي بعض المقاهي والحدائق، وفكرة كانت تراودني وهي العودة إلى بيروت حالما أستطيع. بعد مضي أشهر صرت أدخل أكثر في عمق باريس إلى أن أصبحت فجأة متعلقًا بها، بعد أن اكتشفت كنوزها الفنية في المتاحف وصالات العرض ومسارحها وحفلاتها الموسيقية الكلاسيكية.

         وبعد مضي الشهور الأربعة بقيت في باريس إذ شعرت أني رسام باريسي، عندما رأيت أن باريس الفنية خلقها فنانون أجانب، وأنها تفتح ذراعيها لهم وتستقبل من يعطيها نفحة جديدة منه ويزيد من غناها.

         زرت مرارًا المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، وكان من شرط منحة الشهور الأربعة أن أُسجل فيها، لكن أجواءها وتعليمها لم يروقا لي، ورأيت أن ما تعلّمته في بيروت وما رسمته في المقاهي أكثر أهمية ويتخطّى ما هو حاصل في تلك المدرسة العريقة، لكني تسجّلت فيها، وتسجّلت في (الجراند – شوميار) في مونبارناس، الذي كان يرتادها موديجلياني وكثيرون فيما مضى، وبقيت فيها وقتًا غنيًا وجميلاً، إذ صادف أن سكنت في غرفة تطلّ على هذه المدرسة، وأرى من نافذتي مقهى (الدوم) المشهور، ملتقى الكتّاب والشعراء والموسيقيين ذلك الوقت والرسامين، وعلى رأسهم بيكاسو ومَن عاصره، ومن الموسيقيين أذكر المؤلف أريك ساتي، الذي كان يأتي سيرًا على قدميه من ضواحي باريس البعيدة. ومن الكتّاب أذكر همنجواي.

         لقرب مرسمي من مقهى (الدوم) كنت آتي إليه مرارًا كثيرة نصف الليل وأمضي الساعات في رسم أجواء المقهى وناسه، وهكذا تلوين في الرسم ورسم في المقاهي وضياع في أحياء الحي اللاتيني و(مونبارناس) والبحث سيرًا على صالات العرض المهمة، وأكثرها كان مهمًا عكس اليوم، ثم زيارة المتاحف والتعرّف على ثقافات وفنون العالم، إلاّ أني كنت أرتاد متحف (اللوفر) يوميًا تقريبا وأكثر ما أحببت من المدرسة الفرنسية لوحات Courbet كوربيه، وشاردان Chardin وcorot وغيرهم، ثم اكتشفت أعمال ليوناردو دافنشي ورامبرانت الهولندي والمدرسة الطليانية والألمانية. ومن الصعب تعداد ما أحببت من أعمال فنية التي كنت أبقى أتفحّص اللوحة وأقترب منها لأرى لطشات الرسم وألوانه ومزيجها إلى أن يتعب نظري وأفرّ من المتحف وكأن أحدًا يلاحقني. المتاحف وصالات العرض كانت لها أهمية أولى إذ اكتشفت أن باريس الفن هي المتحف والمعارض الحديثة في الصالات. وكان اهتمامي مشتتا ما بين ما أراه في اللوفر وما أراه في متحف الفن الحديث وصالات العرض galeries، وهذه التأثيرات كانت تشدّني وتكاد تمزّقني وتمزّق أوراقي ولوحاتي المتواضعة، لكني في الوقت نفسه أحاور كل ما أراه من الأعمال الفنية المتناقضة والمختلفة في عصورها ومدارسها، والأمم التي خرج الفنانون منها، لكنها كلها كانت تنسجم في تعبيرها الجمالي وغناها الروحي.

         ذات يوم قال لي معلمي الطلياني Manetti في الأكاديمية اللبنانية في بيروت وهو ينظر إلى بعض أعمالي: إنها تذكّره بأعمال راؤول Dufy لهذا عندما دخلت أول مرّة إلى متحف الفن الحديث في باريس بحثت عن Dufy الذي لم أكن أسمع به من قبل، فرأيت ما كان يقصد مانيتي، إذ هناك شبه بين أعماله وأعمالي، خاصة الأكواريل - المائيات. ثم اكتشفت أعمال بيكاكسو وماتيس وروو Rouault وأعمال الذين عاصروهم وهم كثّر، ثم دُهشت بالانطباعيين، بمونيه Monet وManet وسيسليه وغيرهما، لكن الذي استولى على كل اهتمامي هي لوحات بول سيزان Paul cezanne المعلّم الكبير الذي فتح أبواب ونوافذ واسعة للدخول في نظرة جديدة وصنع لوحة متحفية، وهو الذي أثّر بكل القرن العشرين ومازال الكثيرون يسيرون على درب عبّده هو بدراسته للنور في الطبيعة ولبنائه لوحة متينة يفوح منها عطر أنوارها وظلالها.

         في الوقت نفسه، وعند زياراتي المجنونة، أو جنوني في الركض من متحف إلى متحف اكتشفت فنون الشرق الأقصى، وبقيت آتي إلى المتاحف المختصة بهذه الفنون وأمضي الساعات أتطلّع وأضيع في الضباب الملوّنة والأغصان والطيور المرسومة بواسطة الحبر الصيني أو التلوين المائي. التأثير إذن كان كليًا لكل ما أراه وأرتاح إليه وأحسّه، من الفن الكلاسيكي إلى الرومانطيقي، إلى الحديث، فلم أرَ فرقًا في هذه الفنون وهذه العهود سوى فارق العمر، وهذا ما يذكّرني بما قاله الموسيقي الطلياني Joseppe Verdi عندما سئل: ماذا تفضل من الموسيقى الكلاسيكية أم الرومنطيقية أم الحديثة؟ فأجاب: إن هناك نوعين من الموسيقى، الموسيقى الجيدة والموسيقى غير الجيدة، أنا مع الأولى، قال Verdi.

         في هذا الخضم من التأثيرات في باريس أواخر الخمسينيات، ووجودي في هذه الأجواء الفنية والثورية في الفن، والتي وبعد مرور السنوات، أشعر أني من ضمن هذه المرحلة الباريسية الثرية بأفكارها ونشاطاتها الفنية التي جعلت منها عاصمة الفن العالمي، حيث نرى فنانين متعلقين بالفنون الكلاسيكية، وآخرين متعصّبين للفن الجديد، أعني به التجريدية، وفنانين بين هذين الشكلين من الفن، أي بين التعبيرية والانطباعية، وفنانين فولكلوريين، أكثرهم من العرب الذين وقعوا في الفولكلورية عندما أرادوا العودة إلى التراث، وكأن الإنسان يستطيع أن يعود إلى الوراء، وكأن التراث ينتظر من تأخر عن قطار عصره، فركب قطار الماضي، قطار التراث وأنا حبًا للتراث واحترامًا له، أنظر إليه لأكسب من ماضٍ معبّر عن عبقرية التاريخ وغناه، وفي الوقت نفسه أسير في طريقي لعلّي أسير سويًا وأصل إلى تعبير شخصي نابع من ماضيّ تلقائيًا، ومكمّل لسلسلة تراثي الغني، وغير ناقل عاطل له، وهذا ما يذكّرني برسامين عرب، أخذوا من الحرف العربي مخرجًا سهلاً لخلق لوحة تراثية عربية، والنتيجة أنها لم تكن عربية ولا تراثية، هنا لابدّ من ذكر بول كليه Paul Klee الرسام السويسري الألماني الذي أحسّ الحرف العربي والهندسة الإسلامية، فكان الحرف في لوحته شكلاً جماليًا غربيًا بحتًا، عندما تعرّفت على رسومه ومائياته وزيتياته، أصبحت لا تفارقني ليل نهار، وقد أثّرت بي وبرسمي خاصة عندما قرأ يوميّاته التي تعدّ أجمل ما كتب في هذا المضمار، التي جمع فيها أيام طفولته، وحبه للموسيقى والرسم، ثم سفره إلى تونس، حيث تسأل عند وصوله إذا كان من أصول عربية، قائلاً: الآن أشعر أني رسام، لقد وجدت اللون، وكان كمن يودّع مرحلة من حياته ليدخل في مرحلة جديدة كان يبحث عنها، وأصبح بول كليه كأحد معارفي، فأدخلته ضمن أقربائي، إذ كان شبيهًا باثنين كانا لهما بعض الفضل عليّ، الأول خالي خليل مكنيه الذي كما قلت سابقًا، كان عازفًا للكمان ورسامًا، وستيفان لوكوس الذي كان أيضًا عازفًا للكمان ورسامًا، وبول كليه العازف الأول في أوركسترا سمفونية ورسام. تُرى هل هي الصدف، أم أن شيئًا سحريّاً أو لغزًا يقرّب ما بين أناس جمعوا النغم واللون ليكونا المعبريّن عما يجيش في نفوسهم من توق إلى الجمال السامي الحامل الحق والخير... ألا وهو الفن؟

         في هذه المرحلة، كنت تحوّلت إلى التجريدية، أي الصورة التي لا تمثّل أشياء الطبيعة، وصارت لوحتي تمتزج فيها الأشكال الهندسية باللطخات الحرّة القريبة من لطخات الانطباعية، وكنت أرسم وألوّن على أحجام صغيرة خشبية أو على قماش، كذلك في الرسوم التخطيطية بالحبر أو الأقلام الملوّنة أو الأكواريل، فكانت هذه المواد تجبرني على مزج أشكال الطبيعة بالأشكال التجريدية، وهذا على ما أعتقد لمداومتي لرسم الإنسان في المقاهي وفي الشارع وعدم استغنائي عن ذلك، ولم أرَ تناقضًا في هذا، لكني كنت دائمًا في عراك مع نفسي بين ما يجب اختياره من هذين النوعين من التعبير الفني، التجريد أو عدم التجريد، على كلٍ فأنا لا أفرق بينهما، لأن النظرة الصحيحة إلى اللوحة، ليست لموضوعها وعنوانها بل لتأليفها وألوانها وما تتركه من أثر في نفس المتلقي. لهذا لم أرَ هنا سوى ترك مزاجي في حرية التعبير. لم أتّبع ما هو سائد ذلك الوقت في باريس، فكان في عملي تناقض بين طريقتين كانتا الحوارات السائدة في المقاهي والصالات والصحف: التجريد وعدم التجريد abstrait ou figuratif. وفي لوحتي كان يسود نظام يجمع كل هذه التناقضات ومنها تولد لوحة لها نوعًا ما شخصية معينة.

         لم يكن التجريد في مفهومي مفهومًا غربيًا خالصًا، بل إن الأشكال الهندسية والزخرفية الإسلامية كان لها مكان في مخيلتي وإحساسي، فكنت عند رؤية هذه الأشكال التي سماها الغرب Arabesque أرابسك، أنسحر في أشكالها وتنظيمها وألوانها، وكانت ومازالت تروي لي أجمل القصص وأجمل الأنغام ولكن بواسطة العين وليس بواسطة الإذن، وهذا الفن هو الذي أثّر على فن (ماتيس) كما يقول هو، وماتيس من كبار رسامي القرن العشرين أو أكبرهم، كنت في هذه المرحلة أتنقل من التجريد الغربي إلى التجريد الهندسي الإسلامي وكأن لوحتي بنيت بفكر غربي وبروح شرقية.

         بعد هذه المرحلة، أتت مرحلة لم تدم طويلاً، إلا أنها أدخلت بعض الرضا مني وبعض الفرح في نتائجها، وهي التعبير السريع بواسطة الألوان الزيتية، وعلى مساحات صغيرة ومتوسطة على أقمشة مهيأة لذلك، وهي الرسم التلقائي والسريع الذي أعبّر فيه عن فكرة أو نغمة أو صوت أو منظر أو ذكرى، ولا يدوم رسم اللوحة أكثر من دقائق، أتت هذه المرحلة ذات صباح من ربيع 1965، عندما تحوّلت ألوان باريس من الرماديات إلى ألوان زاهية، ارتسمت على وجوه الناس فأصبح الشارع وكأنه مسرح للهو والفرح، فرأيت أن لا أضيع فرصة التعبير عن هذه البهجة، ثم بعدها تتالت اللوحات، وتتالت المواضيع في رأسي التي كانت هي المحفّز لأن أعبّر بالألوان عما كان يجيش في نظري وفي إحساسي، قلت إن هذه المرحلة دامت بعض الأشهر، أشهر الربيع الذي مضى تاركًا بي أثرًا منها. ثم تمضي الأيام والسنون، وأعود إلى بيروت حاملاً معي ابنتي وبرفقة زوجتي. دخلت أستاذًا للرسم في مدرسة ثانوية في بيروت، وكنت أكاد أن أجن في الأسابيع والأشهر الأولى، لكن وجدت بعدها في تعليم الفن فائدة كبرى، إذ استفدت من ناحيتين، الناحية الأولى اكتشفت نفسي في استنباط طرق لتعليم الثانويين الذين لا صلة لهم وبتربيتهم بشيء اسمه الفن، والناحية الثانية هي تعليم الطالب أن يحترم النظام أو يتعرف عليه، وتحملت كثيرًا لهذا. عندما رأيت صعوبة قبول الطلبة بتعلّم الرسم وعدم رغبتهم بذلك، ضممت إلى ساعة الرسم الموسيقى الكلاسيكية، والسينما، فكنت أطلب من الطلاب أن يروا فيلمًا معينًا لنتكلم عنه في المرة القادمة. وكنت أحكي لهم عن حياة الموسيقيين واسمعهم بعض أعمالهم، ثم أعود إلى الرسم وأخبرهم أني لست مؤهلاً لأن أجعل منهم فنانين، وأن الفنان تولد معه موهبة الفن، ثم تصقل فيما بعد، وأخبرهم أن كل تخصص علمي يكون ضمن برامجه الرسم، ابتداءً من الطب والهندسة والتزيين، مبينًا لهم كل ما نستعمله في حياتنا اليومية من موجودات المطبخ إلى غرف النوم إلى الشارع هو من صنع رسام Designer، بعد أن أمضيت وقتًا عصيبًا مع الطلبة في الأشهر الأولى، أصبحت بعدها صديقًا لهم، ولمست فيهم تغيرًا كبيرًا، كان أثمن مما كنت أقبضه آخر الشهر من هذه المؤسسة التي تركتها بعد أن طُلبت إلى معهد الفنون وإلى الأكاديمية اللبنانية، وكانت تجربة لي جديدة فنيًا وإنسانيًا، حيث أني لم أكن أتصوّر أن أكون أستاذًا في معهد الفنون، وأن شبانًا وشابات يصغون إلى شرحي ونقدي وتفسيري لأعمالهم، ولما مضت بعض السنوات وأنا في معهد الفنون للجامعة اللبنانية، وعندما رأت الإدارة وبقية الأساتذة نجاحي في التعليم ورغبة الطلبة لأن يكونوا في مرسمي، أخذت الحزازات تحوم حولي من الإدارة ومن الأساتذة وكل فريق له غاياته من خلق هذه الحزازات، وقد أُبعدت عن التحكيم في سنوات الدبلوم لعدم انتمائي إلى الحزبية الطائفية التي أوقعت لبنان في حرب ليست كالحروب.

         عند ابتداء الحرب في لبنان، دُعيت إلى إيطاليا إلى مؤسسة فنية Educavi centro maesta كانت تضم فنانين مشهورين وكنت الفنان العربي الوحيد. من فنانيها كورناي Corneille وبور غونزوني Borgonzoni ومن زوار هذه المؤسسة Cesar سيزار النحات الفرنسي، Alechinsky اليشنسكي، والجدير بالذكر أن كورناي واليشنسكي هما من مؤسسي حركة Copra كوبرا المشهور، وقد أمضيت سنين في هذه المؤسسة وكنت أعمل تسع عشرة ساعة في اليوم حسب قول كورناي، وكان الرسم ملجأ لي لإبعاد الوساوس والأرق والقلق عما كان يجري في لبنان حيث عائلتي المؤلفة من زوجتي وبناتي الثلاث تحت القنابل المنوعة وذات الجنسيات المختلفة.

         أقامت لي المؤسسة الطليانية معرضًا لبعض أعمالي التي لم يكن فيها أثر للحرب، هذا ما جعل الكثيرين يستغربون لرؤية معرض يعبر عن الطمأنينة والهدوء والفرح لرسام من لبنان، ولبنان يحترق على شاشات التلفزيونات العالمية، هذا هو الموضوع الذي نوقش بعد انتهاء الافتتاح، حيث طلب الرسام الطلياني Borgonzoni من الموجودين حول طاولة عشاء ضمت أساتذة أكاديميين وفنانين ونقادا طليان وفرنسيين وهولنديين، طرح هذا السؤال عن الفن والتعبير عن الحرب. كان جوابي بعد حوار أن الحرب هي حدث مرحلي، يبدأ ثم ينتهي وأنها صورة عن الفوضى والموت، أما الحياة فتمضي وتسير سيرها، والطبيعة تكتمل فصولها بتناغم مع الإنسان وفصول عمره، والحرب تُحارب بالنظام الذي هو من أساس العمل الفني، فلا من حيث لا نظام، ثم إن بناء اللوحة هي عملية يمتزج فيها العقل بالقلب، أي الذكاء والاحساس، ولا يجتمعان إلا في نظام ووضوح، وقلت متابعًا: إذا لم أعبّر عن صور الحرب والدماء فلأني أرفض أن يكون الفن مرآة للمجتمع، بل صورة مثلى للمجتمع، والحرب بغضٌ والفن محبة. لكن هذا لم يمنعني من رسم يوميات الحرب، وكادت أن تنشر في إىطاليا، وقد دعت المؤسسة الكاتب في الفن المشهور أندريه Verdet، وقد بقينا معًا أسابيع، ورأى أن الحرب في رسومي فيها تعبير جمالي يطغى على تراجيديا الحرب، ورأى أيضًا أن يكتب عن الرسوم كما كُتب عن رسوم الأسباني (جويا)Goya وهذا ما وافقت عليه، إلا أن حادثًا فكريًا وسياسيًا حال دون طبع الكتاب.

         عند عودتي النهائية من إيطاليا إلى بيروت، وإنهائي العقد مع مؤسسة Maesta واعتذاري عن تجديده، وكانت الحرب مازالت مشتعلة، انكببت على الرسم، ورأيت كأني وراء متراس مدافعًا عن مدينتي وكانت القنابل تنهال من كل صوب ليل نهار، وكان سلاحي هو الرسم والتلوين، وكنت أحاور العديد وأنا أرسم وأقول له إن قنابله النظيفة التي يسقطها من طائرته بواسطة زر لميع براق لن ينال مني لأني أعبر عن الحياة في فني، والحياة أقوى من الموت، وكثيرون مثلي كلٌ باختصاصه يدافع بواسطة السلاح الذي يحمله، بالبندقية، بالريشة، بالقلم، بالنغم، بالكلمة، وكثيرًا ما كنت أرفض ترك طاولة الرسم لألجأ إلى مكان أمين، وكنت أعجب من نفسي تلك المرحلة، إذ كنت هادئًا في رسمي، ومواضيعي مازالت تعبّر عن الفرح، ولم أقصد هذا، لكني رأيت أني أرسم ما أتمنّاه وما أصبو إليه وما أريده لبلدي أن يكون، ولبنان غارق في فوضى حرب أصبحت مملة لتكرارها وبشاعتها، لهذا فرسمي كان نقيض الفوضى ونقيض البشاعة. هذا ما كنت أتمناه.

         من المحال أن يبتعد الفنان عن مجتمعه، ليس هناك فن حيث لا يوجد فنان، والفنان هو فرد من أفراد مجتمعه، وهو الأكثر إحساسًا بما يجرح الوطن وما يفرحه، العمل الفني يتأثر تلقائيًا بأجواء المجتمع، يقبل به أو يرفضه، وفي كلتا الحالتين فهو متأثر به، ولا يعني التأثر هنا أن يكون الفنان مرآة مجتمعه، الفن هو تعبير عمّا يصبو إليه الفنان من خير وحق وجمال لذلك الوقت، وأراني أكرر ذلك، لهذا فعلى العمل الفني أن يكون نقيض الواقع وأفضل حالاً منه.

         لابد من قول شيء في الكتابة عن الفن، كلما أردت أن أقول شيئًا أو أكتب في الفن، أتردّد، لأني أشعر أن الكتابة في الفن تنزلق نحو الكتابة الأدبية أو الفلسفية، لهذا أرجو أني لم أخرج كثيرًا عن التكلم في الفن.

         الخلاصة أني مازلت أعمل للوصول إلى مكانة فنية يثق بها إحساسي وأقبل بها علمًا أن الوصول إلى نتيجة ما في الفن كالسّراب، كلما اقتربت منه، بَعد عنك، ولعلّ هذا ما يجعل من الفن طريقة حياة، الحياة كلها دون أن يصل الفنان إلى مخرج يريحه من البحث أو يوصله إلى مكان ما.

         وأنا كلما بعدت في سيري بحثًا وعملاً، تضعف ثقتي وكثيرًا ما تضيع، فأقع في حزن ووحدة، وأراني بعدها أعود إلى ألواني مبتدءًا بالرسم كأول يوم في حياتي رسمت ولوّنت فيه.




أبحاث الفترة الصباحية الثانية ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ.د. منصور بو خمسين أستاذ التاريخ الأوربي الحديث ـ جامعة الكويت
مدينة في كتاب
بقلم أبو المعاطي أبو النجا

         الكتاب اسمه (باريس)، وباريس هي المدينة التي يقدمها هذا الكتاب لقارئه فيما يزيد على أربعمائة صفحة تتحدث كلها عنها، لكن من الذي يتحدث في كل هذه الصفحات؟

         هل هو أحمد الصاوي محمد الذي يوجد اسمه منفردا على غلاف الكتاب أم الكُتاّب الذين تتوزع أسماؤهم قرين كل مقال من مقالات الكتاب بداخله؟ وماذا عن المقالات التي وردت في الكتاب دون أن تقترن بأيّ اسم من الأسماء التي جاءت في الكتاب منفردة أو متكررة؟

         يقول أحمد الصاوي محمد: وهو واحد من ألمع نجوم الصحافة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، وصاحب أشهر عمود صحفي يومي بعنوان (ما قل ودل) ورئيس تحرير مجلة ((مجلتي)) : يقول في مقدمة هذا الكتاب: (ليس لي في هذا الكتاب فضل فلولا الذين ساهموا فيه بأقلامهم لما تم وضعه، ولولا الذين ساهموا فيه باشتراكاتهم قبل الطبع بمبلغ 15 قرشا لكل نسخة لما تم طبعه)، وقد تم طبع 3500 نسخة من هذا الكتاب في مطبعة دار الكتب المصرية عام 1352هـ - 1933م.

         إن فكرة الكتاب في حد ذاتها، والمنهج الذي وضعه أحمد الصاوي محمد لتحقيق هذه الفكرة يستحقان وقفة، قبل أن نمضي لنختار من بين مقالات هذا الكتاب ما ينسجم مع فكرة هذه الندوة حيث إنه يقدم لنا رؤية أصحاب هذه المقالات لمدينة باريس بخاصة وللحضارة الغربية بعامة. نعود مرة أخري إلى المقدمة القصيرة التي وضعها أحمد الصاوي محمد يقول: ولما أردت وضع كتاب عن باريس تأملت خريطتها (كان ذلك في العشرينيات من القرن الماضي) حائـرا بين 150 خط ترام وعشر محطـات سكة حديد، و 96 كنيسة، و 77 مسرحا إلخ كيف يمكن حصر هذه الدنيا المنيفة بين غلافي كتاب؟ ولذلك وجدت نفسي بحاجة إلى رفاق كرام يضيئون الطريق الذي لا آخر له ويروحون بأساليبهم المنوعة الجذابة عن القراء حتى لا يصيبهم الملل من مؤلف واحد، وحتى لا يقول ذوو الأهواء والأغراض: (إن هذا صوت متعصب لباريس، مفتون بها، لا تسمعوا كلامه)! ولكن دعونا نتأمل المنهج الذي وضعه أحمد الصاوي محمد لكتاب باريس لنرى هل كان فقط لدفع الملل عن القراء، ولتأكيد المصداقية أم أنه يخدم أهدافا أبعد وأعمق؟!

ملاحظـات على المنهـج

* تَنَوعُ كُتاب المقالات بين كتاب أوربيين وعرب ومصريين أتاح فرصة لتنوع مستويات الرؤية - بتنوع الخلفيـات الثقافيـة والبيئية - لمدينة واحدة يـرى فيها كل واحد بالضرورة أشياء قد لا يتوقف أمامها الآخرون.
* أظن أن بعض هذه المقالات لم يكتبها كتابها بخاصة من أجل هذا الكتاب، بل كتبوها في أوقات ومجالات تخصهم، ولكن أحمد الصاوي محمد اختار منها ما يناسب خطته في هذا الكتاب ووضعه في مكانه المناسب من الكتاب، وهذا مجرد تقدير من جانبي.
* يضم الكتاب ما يربو على العشرة فصول، وكل فصل من فصول الكتاب يضم مجموعة من المقالات التي تركز على جانب من جوانب المدينة المتعددة الجوانب، ويبدأ الكتاب بفصل خاص يضم مجموعة من المقالات التي كتبها أصحابها لتصف لحظات الوصول إلى باريس وصدمة اللقاء الأول بمدينة الأحلام وقرب نهاية الكتاب يوجد فصل عنوانه (ذكريات باريس) يضم مجموعة مقالات كتبها أناس عاشوا سنوات في باريس ثم عادوا إليها أو لم يعودا ولكنهم يتحدثون عما بقي لديهم من ذكريات لا تنسى عن هذه المدينة.
* الكتاب في إطار هذا المنهج لا يحرص فقط على تقديم رؤى متعددة ومختلفة باختلاف الشخصيات والخلفيات الثقافية بل يحرص على تقديم رؤى مختلفة باختلاف الزمن سواء زمن التـاريخ أو الزمن النفسي للكاتب، فالذي يرى باريس لأول مرة غير الذي يراها بعد عشرين سنة من سنوات دراسته بها.

         الفصل قبل الأخير في الكتاب، تتحدث مقالاته عن أعياد باريس سواء تلك الأعياد الدينية أو الوطنية أو أعياد الطبيعة المتعددة عبر فصول السنة، وإذا كانت فصول الكتاب السابقة على اختلاف موضوعاتها تحاول سبر الفرد الفرنسي والامساك بروحه المتوثبة فإن هذا الفصل عن الأعياد يبدو أنه كان يحاول سبر روح الجماعة، ففي مثل هذه الأعياد على اختلاف أنواعها تتجلي عبقرية الجماعة الفرنسية في تعبيرها عن الارتباط القوي بالعقيدة الدينية والشعور المشترك بجمال الطبيعة، والإحساس القوي بأحداث التاريخ وبالشخصيات التي قامت بها مهما تباعد الزمن!

         وسنلاحظ كيف أن الكتاب بهذا المنهج يبدو وكأنه يصعد بالقارئ عبر سلم كهربائي متحرك - وقبل اختراع السلالم المتحركة - ليرى باريس من جميع جهاتها، متجولا في الزمان والمكان، يراها بعيون مختلفة، وخلفيات ثقافية متنوعة، ثم يهبط بك لتخرج منها، وقد ألممت بأهم جوانبها في ذلك الزمان في تقدير مصمم الكتاب ومؤلف المقالات الموجودة في الكتاب وليس قرينها أي اسم على الأقل.

عرض لبعض محتويات الفصل الأول للكتاب كنموذج

         الفصل الأول عنوانه (إلى باريس) ويشترك في كتابة مقالات هذا الفصل مجموعة من الكتاب العرب والأجانب من أهمهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بمقال عنوانه (بعثتنا الأولي إلى باريس التي أرسلها الحاج محمد على باشا)، والكاتب الأمريكي الساخر (مارك توين) بمقال عنوانه (الوصول إلى باريس) وضمن كتاب هذا الفصل أيضا الدكتور محمود عزمي والدكتور محجوب ثابت والأستاذ محمد تيمور، ويشترك هؤلاء جميعا في كتابة مقالات تسجل الانطباعات الأولى التي يشعر بها من يزور باريس لأول مرة! ومع أن القارئ هنا يتوقع أن يجد في كل هذه المقالات دهشة اللقاء الأول أو صدمته، والمقارنة التي لا مفر منها بين المدينة التي جاء منها والتي جاء إليها، وبين صورة باريس كما كانت في خياله وبين الواقع الذي يجده أمامه! بالرغم من كل هذه التوقعات فقد كانت الفروق بالغة بين كل هذه المقالات بسبب اختلاف الخلفية الثقافية والطبقية بين كل هؤلاء مما يجعلنا نتذكر في النهاية تلك العبارة المأثورة التي تقول: إن ما يقوله بولس عن بطرس ينبئنا عن بولس بأكثر مما ينبئنا عن بطرس، فالشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إمام البعثة الأولي التي أرسلها والي مصر محمد على إلى باريس من طلبة الأزهر وابن الطبقة الفقيرة كان مقاله يوضح كيف كانت صدمة لقائه بباريس تدور حول الفروق بيننا وبينهم فيما يتصل بتقاليد الطعام والشراب وغيرها يقول: (ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها وذلك أنهم أحضروا لنا مائة كرسي للجلوس علىها، لأن أهل هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسـان على نحو سجادة مفروشة على الأرض ثم مدوا السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصوها من الصحون البيضاء وجعلوا قدام كل صحن قدحا من القزاز وسكينة وشوكة، فلا يأكل الإنسان بيده أصلا ولا بشوكة غيره، ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عاقبة) نكتفي بهذا المقتطف من مقاله الأول الذي جاء في الفصل لأنه بعد ذلك وفي فصول قادمة سوف يواصل الكتابة والمقارنة والغوص في أمور أشد خطرا، ولأن ما يهمنا الآن ونحن بصدد الحديث عن منهج هذا الكتاب أن نقارن بين ما توقف أمامه رفاعة رافع الطهطاوي في صدمة لقائه بباريس وبين ما توقف أمامه محمد تيمور المصري ابن الطبقة الارستقراطية المصرية من ذوي الأصول التركية:

         يقول محمد تيمور في مقاله بعنوان (الوصول إلى باريس) جال بخاطري وأنا جالس في السيارة مع والدي خواطر ثلاثة الأول أني رأيت في البارسيين وجوها ليست بالغريبة عن وجوه الشعوب اللاتينية التي يعيش كثير من أفرادها تحت سماء بلادنا، والثاني أني شعرت بالفرق الهائل بين الشعب الألماني والفرنسي فالأول شعب أرستقراطي ففي ألمانيا تري الخدم يلبون إشارة السيد طائعين كالعبيد، وفي فرنسا تجد الحمالين يعاملونك معاملة النظير، وما أجمل أن يشعر جميع أفراد الشعب بكرامة أنفسهم، فهذا شعب ديمقراطي، والثالث أني لم أجد باريس تستهوي الأفئدة وتأسر القلوب فأين جمالها الذي كانت تتوق نفسي لرؤيته؟ إنها بلدة من البلاد بل هي كالقاهرة إذا نظرت إليها من فوق جبل المقطم بمنظار معظم. ثم يقول في جزء تال من المقال: ولكني لا أكتم القارئ بعد أن وقفت على جمال باريس الحقيقي، وعرفت كيف تقضي الحياة فيها، أحببت تلك البلدة كثيرا وعرفت ما بينها وبين بلادنا الشرقية من الفرق الكبير.

نظرة طائر على بقية فصول الكتاب

         أظن أنه قـد حـان الوقت لننتقل إلى الفصـل الثـاني من الكتـاب وعنــوانه (سر باريـس) ويشترك أيضا في كتابة مقالاتـه كتاب أوربيون وعرب، فيكتب (هلير بيلوك) تحت عنوان (سر باريس) ويكتب طه حسين تحت عنوان (يوم في باريس) يصف فيه كيف يتصرف أهل البيت الذي كان يسكن فيه أثناء النهار وأثناء الليل وبخاصة حين كانت تحدث غارة جوية على باريس أثناء الحرب العالمية الأولي، ويكتب الدكتور حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد تحت عنوان (روح باريس المضنون بها على غير أصلها) ويكتب محمد تيمور تحت عنوان (في منزل عائلي حول المرأة) ويكتب بتام إدواردز تحت عنوان (مدينة كل الناس)، ويكتب رفاعة رافع الطهطاوي مرة أخري، وبعيدا عن صدمة اللقاء الأول تحت عنوان (الحياة في باريس) فيكتب عن الصحف اليومية التي كانت إحدى العجائب في ذلك الحين ويسميها الجرنالات وعن القهاوي وعن دور الكتب، موضحا بشكل موضوعي الوظائف الاجتماعية لكل منها.

         الفصل الثالث يحمل عنوان (الحياة في باريس) ويشترك كتاب هذا الفصل على اختلاف جنسياتهم في محاولة التعرف على مدينة باريس والاقتراب من جوهرها من خلال الاقتراب من أهم معالمها ومظاهر الحياة اليومية فيها فيكتب توفيق الحكيم عن حي (مونمارتر)وهو حي اللهو الذي يلجأ إليه الفقراء مع مقارنته بحي (مونبارناس) وهو حي اللهو أيضا الذي يلجـأ إليه الأغنياء من الفرنسيين ومن السائحين، وكيف يرى بعين الفنان المغترب وبقلبه وجوه الشبه ووجوه الاختلاف بين الوظيفة التي يقوم بها كلا الحيين وبين وظيفة شهرزاد في ألف ليلة وليلة، والتي كان يكتب في هذه الأثناء مسرحيتها الشهيرة يقدم كل ذلك من خلال حواره مع بارمان المقهي الذي يترددعليه، والذي تتجسد في شخصيته أحد وجوه باريس!

         ويكتب (أميل زولا)الروائي الفرنسي مشهدا بديعا يصور باريس في لحظة الصباح تحت عنوان (باريس تستيقظ من نومها) والغريب في هذا المقال أن الكاتب لا يعني بحركة خروج الناس إلى أعمالهم أو الأطفال إلى مدارسهم ولكنه يركز على مشاهد الطبيعة ذاتها ضوء الشمس وظلال الأشجار وبخار المياه المتدفقة في نهر السين والضباب الذي يغطي زجاج النوافذ ثم لا يلبث أن ينجسر عنه وكأن المدينة كلها كائن حي خرافي يصحو من نومه.

         وتكتب (أوجين سو) لقطة مركزة كأنما لتعوض خلو لوحة (أميل زولا) من البشر عن (الفتاة العاملة) في باريس، وتكاد تركز في شخصية هذه الفتاه العاملة روح المرأة الباريسية الحديثة التي خرجت من قلب الطبقة الشعبية إلى العمل في الحياة العامة.

         ويكتب طه حسين عن (باليه رويال) وهو واحد من أهم دور العرض المسرحي في باريس ويحلل بأسلوبه الساخر البديع بعض عروضه التي تكشف عما يتمتع به الشعب الفرنسي من روح النقد الساخر والمرح يقول طه حسين في مقاله (في هذا الملعب الصغير تعرض عليك الحياة الفرنسية كلها أدبها وسياستها وعلمها وتجارتها وطبقات الشعب المختلفة على ألا يظهر الممثلون من هذا كله إلا ما هو خليق بالنقد، حري أن يبعث الاستهزاء والسخرية) ويكتب (سيسلي هادلستون) عن الفنادق والمطاعم التي توشك في باريس أن تكون بديلا للبيت ليس فقط للعزاب بل ولكثير من العاملين من المتزوجين.

         كما يكتب (ماكس اورل) عن (الباريسيون على المائدة) ويكشف المقال عن معنى كل صغيرة وكبيرة مما يحدث على المائدة عندهم! كما يكتب (لورنس سترن) عن ماذا يعني (يوم الأحد) عند الفرنسيين وهو يوم العطلة الرسمية ماذا يعني عند الفقراء والأغنياء وكيف يحتفل كل واحد منهم؟ على طريقته وعلى قدر طاقته.

         كما يكتب من يسميه مؤلف الكتاب السائح العراقي (مقهى جامع باريس).

         كما يكتب (جون. ف. ماكدونالد) عن (باعة الكتب وهواتها على ضفاف نهر السين، على نحو يذكر بما كان يحدث في مدينة القاهرة من باعة الكتب على سور الأزبكية.

         ويغوص (جورج براندس) وراء المعاني الكامنة في بعض ما كتب (أنا تول فرانس) لأنه يعتقد أن روح باريـس الحقه تكمن في كتابات ذلك الروائي الساخر، ويختار لك من بعض كتاباته هذه العبارة التي تكشف لك عن روح السخرية المرة عنده وعند أهل باريس في الوقت ذاته: يقول أنا تول فرانس (إن القانون في روعته وعدالته، ينهي الغني كما ينهي الفقير عن أن ينام على قارعة الطريق أو يتسول في الشوارع أو يسرق الخبز).

         كما يكتب الدكتور أحمد ضيف عن باريس في الشتاء عندما ما ترتدي حلة بيضاء من الثلوج، كما يكتب أميل زولا عن الليل في باريس.

         وفي الفصل الرابع تدور المقالات حول (الحي اللاتيني)، وتلقي مقالاته كلها بضوء مكثف على أشهر أحياء باريس وهو حي الطلبة والجامعات والأساتذة والفنانين. يشترك في كتابة هذه المقالات كتاب شاركوا في الفصول السابقة وكتاب جدد.

         يكتب رفاعة الطهطاوي مجددا عن البعثة الأولى بباريس وقانونها.

         ويكتب الفنان المعروف (مختار) مبدع تمثال نهضة مصر الشهير، تحت عنوان (طالب الفنون الجميلة) ثم يواصل الكتابة تحت عنوان (نزل عائلي) ثلاث مقالات عن حياته وهو طالب في ذلك النزل، وعلاقاته بالطلبة المصريين والأساتذة وبعض أفراد من المجتمع الفرنسي، ويكتب الدكتور محمود عزمي عن بيئة التعليم الجامعي وطلبة باريس وأساتذتهم، خصائص الحي، مظاهرات الطلبة، بينما يركز د. مبارك عن أساتذة باريس ويكتب أحمد الصاوي عن الجو العلمي ويكتب رفاعة الطهطاوي مجددا عن البعثة الأولي لباريس ويشرح بنود القانون الذي كان ينظم عملها، وطرق تقويم أداء الطلاب سواء في مجال الدراسة أو الحياة الجامعية.

         في الفصل الخامس بعنوان (علوم وفنون) تركز المقالات على المؤسسات العلمية والفنية في باريس، فيكتب محمد حافظ رمضان المحامي عن (بلاغة الآثار)، ويكتب فيكتور هوجو عن كتدرائية نوتردام، ويكتب توماس كارليل صاحب كتاب الأبطال الشهير عن قصر التويليري 1789، ويكتب (حسن صبحي) عن (زيـارة) لملكة الجمال المصرية في جناحها الخاص بقصر (اللوفر)، ويكتب (إدوار جيبون)عن باريس في القدم، ويكتب الحاخام الأكبر للطائفة الإسرائيلية عن مركز الدراسات الإسلامية ليميط اللثام عن بدايات الجهود الاستشـراقية في باريس، ويكتب عن كنيسة (المادلين) ثاثنيل هاوثورن.

         للفصل السادس أهمية خاصة في إطار هذا المنهج الذي اختاره أحمد الصاوي محمد، فهو يأتي تحت عنوان (ذكريات) وهو يضم مجموعة من المقالات تنفرد بطابع خاص له صلة بعالم (الذكريات)، فالأديبة المعروفة الآنسة مي تقوم بزيارة لبعض المعالم الأثرية في باريس التي يحج إليها الشعب الفرنسي في أوقات معينة ليتذكر أحداثا لها في وجدانه وعقله أثارا لا تمحي، وتكشف عن اعتذاز الفرنسيين بالماضي وبالذكريات.

         والدكتور منصور فهمي يكتب عن زيارته الثانية لباريس بعد عشرين عاما من الفترة التي قضاها طالبا في باريس، جاء هذه المرة مع زوجته ليبحث عن مرغريت حبه الأول أيام أن كان طالبا.

         المقالات في هذا الفصل كله تدخل باريس في امتحان جديد وتحاول أن تراها من زاوية جديدة، هي ماذا يبقي من باريس بعد مرور الأعوام؟ قدرتها على البقاء في قلوب من عاشوا فيها!

         وبهذا الفصل تكتمل زوايا الرؤية للمدينة، فقد قدمها الكاتب مرة من خلال دهشة اللقاء الأول ثم من خلال المعايشة والتجربة والرغبة في الأمساك بروح المدينة، وتعددت محاولات الامساك بروح المدينة من خلال التجوال في شوارعها، وارتياد مسارحها وملاهيها، وتأمل متاحفها ومدارسها وجامعاتها، وكنائسها وقصورها القديمة وحدائقها الشهيرة، و قراءة أهم ما أصدرت من كتب، فمن خلال هذا كله تتجلي روح المدينة، ثم اختتم هذه الرحلة بفصل عما يبقى من هذه الروح في نفوس من عاشوا في هذه المدينة ثم رحلوا عنها. لتكتمل زوايا الرؤية من خلال حركة الرائي في الزمان والمكان.

         وإذا كانت فصول هذا الكتاب قد قدمت للقارئ روح الفرد الفرنسي فإن الفصل قبل الأخير في هذا الكتاب الذي تدور كل مقالاته عن أعياد باريس، سواء تلك الأعياد الدينية أو الوطنية أو أعياد الطبيعة المتجدده عبر فصول السنة، فإن مقالاته تحاول الامساك بروح الجماعة الفرنسية لأن الذي يتجلي في هذه الأعياد كلها هو جماعات الفرنسيين الذين تربطهم العقائد الدينية أو الشعور المشترك بجمال الطبيعة أو الانتماء القوي والارتباط الوثيق بأحداث التاريخ والشخصيات التي قامت بهذه الأحداث مثل الثورة الفرنسية في 14 يوليو

باريس بعيون عربية ( نصوص نموذجية )

         رؤى مختلفة لمدينة باريس بخاصة، وللحضارة الغربية بعامة، مختارة من بعض فصول كتاب باريس.

         من مقال بعنوان (جولات وتأملات) الفصل الثالث ص 169 بقلم شيخ الصحافة داود بركات.

         (دخلت باريس ومررت بساحة الباستيل فتساءلت أفي هذه الرقعة الصغيرة نبتت الحرية؟ ثم تساءلت عن معنى الحرية عند القوم لأني شرقي، ولم أفهمه في الشرق فقلت هل أستطيع أن أرى الحرية بين الناس وأن أفهم معناها الصحيح)؟

         وصلت إلى فندق (جراند بريتاني) بسان لازار فكان أول ما أثر بي وقوف الركاب واحدا وراء واحد، لا يتقدم واحد منهم على الآخر، فلم أتقدم عن مكاني ولم أتأخر ولم يسابقني أحد، وتعلمت ألا أزاحم أحدا، حينئذ عرفت معنى المساواة الذي لم أفهمه في الشرق حيث يقدم الكبير على الصغير.

         نزلت من غرفتي إلى قاعة الجلوس، فرأيت شابا يقبل فتاة في تلك القاعة الغاصة بالناس، فلم أر عين واحد منهم وقعت على ذلك الفتي أو تلك الفتاة، فتساءلت هل هذه هي الحرية؟ وأجبت نفسي بأنها قد تكون ذلك! انتقلت إلى الشارع فأثر بي منظر سيدة حبلى تجتاز الشارع إلى الكنيسة، وبوليس البلدية يوقف الناس، والناس يحيونها من الجانبين لأنها حبلى، ولأنهم يحيون فيها الوطني الذي سيولد غدا، هذا القول لم أستنبطه من المشاهدة بل قاله لي شيخ أعرج كان يسير وراءها، ويحييه الناس التحية نفسها، وأردفه بقوله: (وإنهم يحترمونني ويحيونني لأنني فقدت ساقي في حرب السبعين، وهذا أجل نيشان أحمله أمام أمتي).

         يقول داود بركات: فتمنيت عندئذ لو فقدت رجلي في أمة ألقى فيها مثل هذا الاحترام لمن يخدمها.

         وصلت إلى ميدان (الكونكورد) ووقع نظري على تماثيل الأقاليم الفرنسية، فوجدت في كل تمثال صفحة كبيرة يكفي أن يقع نظر الفرنسي عليها ليقرأ تاريخ بلاده، فعرفت كيف يحبون بلادهم؟ ولماذا يحبونها؟

(باريس وما تتركه في نفس زائرها)(من مقال في الفصل السادس)
بقلم إدجار جلاد صاحب جريدة الزمان

         (في مدينة باريس وحدها يتحرر الفكر الإنساني، ويتجرد عن الأشكال والصبغات التي تفرغها عليه الخصومات القومية، والعداوات الدينية، ونزعات الأثرة الشديدة. هناك يشعر المرء أنه قد تسامي عن مستوي الخلافات، فلا شيء غير أفراد من البشر قد خلقوا من طينة واحدة، ولهم عقل واحد، تجمعهم غاية واحدة قد ملكت عليهم مشاعرهم، وقامت عندهم مقام العبادة، هي الولع بالعلم والفن والآداب وخير الإنسانية وهم في انصرافهم لهذه الغاية التي تؤلف بينهم يطرحون وراء ظهورهم جميع الأوهام والأساطير، ولا يبالون الاعتبارات الشخصية أو الفوارق الجنسية!

         لقد بلغ التسامح والحرية في باريس أقصي حدودهما فترى الصيني والمراكشي والأمريكي والزنجي، يتزيا كل منهم بأزيائه الخاصة ولكن أحدا لا يدور بخلده أن يسأل ما دين هذا الرجل أو ما اسم وطنه؟ أو من أي طبقة من الطبقات الاجتماعية يكون؟

         ذلك أنه ليس ثمة غير عالم واحد، هو عالم الفكر المجرد عن القيود، فيه يلتقي الناس جميعا أصدقاء متآخين.

         من هذا الأثر الذي يبقى في النفس من باريس أدركت أننا نستطيع أن نظل كما نحن وطنا ومولدا، وأن نمضي في الاتجاه الذي رسمته لنا تقاليدنا وعاداتنا دون أن ننقطع فترة عن الارتشاف من نهال الثقافة الأوربية غير المطبوعة بطابع وطني خاص، ودون أن يحول شيء بيننا وبين أن نستفيد من الثروات العلمية والفنية التي تعيننا على أن نبلغ حد الكمال بشرقنا.

         باريس اللهو وباريس الجد من مقـال في الفصل الثالث من الكتـاب بعنوان (الحياة في باريس) بقلم صاحب السعادة طلعت حرب باشا.

         (باريس عاصمة العواصم، فهي نقطة مركزية مهمة، متصلة بأهم الطرق الدولية التي تربط العواصم الأوربية، فيها المسارح يرجع عهدها إلى ما قبل موليير، أصبح المسرح الفرنسي أكثر المسارح قدرة على تصوير الإنسانية في أسمى عواطفها، وفي تحليل عيوبها دون إيذاء للنفوس الرقيقة، وإلى جوار المسارح نشأت فنون الصور المتحركة، ولباريس فضل في نشر صناعات السينما وتحسينها في العالم، وفي باريس ملاه غير المسارح، فيها القهوات والنوادي، وفيها كباريه يغني فيها المغنون.

         هذه باريس اللهو والسرور أما باريس الجد، فهي باريس العلم وباريس العمل، وباريس العلم هي باريس السربون، وباريس من حيث كونها وسطا علميا من أمتن الأوساط العلمية، وأقدرها على تكوين الملكات العلمية، وعلى تعود الإفصاح عن الفكر بترتيب هما خاصة من خواص الجنس اللاتيني، ومن خواص اللغة الفرنسية بالذات).

         وجدير بالذكر هنا أن أوضح أن تعدد الجهات والأمم التي يقصد إليها الطلبة المصريون مرغوب فيه أكثر من توجيه أبنائنا إلى جهة أمة أو دولة واحدة، لأن ذلك من شأنه أن يجعل العقلية المصرية المتعلمة في الخارج تتأثر بطابع الدولة التي تم التعليم فيها إلا لمن استطـاع أن يخرج بعقلية مستقلة وهو ما لا يكون إلا عند جبابـرة الذكـاء ولا يخفي ما يترتب على التأثر بطـابع التهذيب ( التعليم ) في دولة واحدة من الأثر الذي قد يكون غير محمود في حياتنا القومية بخلاف تنويع البلدان والدول التي يقصد إليها أبناؤنا فإنه من شأنه أن يجعل جماعات المصريين المتعلمين تعليما عاليا موسومين بسمة التهذيبات المختلفة، التي أثرت في تكوينهم العقلي، فيحدث من احتكاكهم في العمل بعد عودتهم إلى مصر اتصال فكري وعقلي يجعلهم يتقربون بعضهم إلى بعض تقربا يساعد على إيجاد عقلية مصرية ممتازة بذاتها، مستقلة في مجموعها عن أثر الدولة التي استكمل فيها المصري علومه العالمية.

         وهذه العقلية الممتزجة المستمدة من تهذيبات الشعوب المختلفة، هذه العقلية القائمة على الملكة العلمية المشتركة بين البلاد دون أن تكون متأثرة فقط بالبلدة التي تم تكوينهـا فيها، هذه العقلية التي يجب أن تكون مشتركة في طرق العلم الثابتة مع أسمي الأمم الغربية دون أن تصبغ بمميزات هذه الأمم وخواصها!

         هذه العقلية التي نريدها في شبابنا المتعلمين سامية عالية تناطح العقليات الغربية في سمو إدراكها، هذه العقلية ينبغي أن تتكون بجهود المتعلمين أنفسهم حتى تكون مصرية لا عقلية ألمانية ولا عقلية فرنسية، ولا عقلية أجنبية أخري.

         خذوا اليابانيين مثلا تروا أنهم اقتبسوا من أمم الغرب أشهر ثمرات العلوم والفنون غير أن عقليتهم بقيت دائما عقلية يابانية مشتركة مع الأمم الغربية في الأصول الثابتة من رأس المال العقلي العام، ولكنها عقلية مستقلة، وثقافة مستقلة!

تعقيب

         من كل هذه السطور الجميلة تصلنا رسالة طلعت حرب، واضحة قوية منذ ما يقرب من مائة عام فيما مازلنا نختلف بشأنه حول ماذا نأخذ وماذا نترك من الحضارة الغربية أو غيرها من الحضارات؟

         فطلعت حرب يفرق بوضوح بين ما يسميه مرة (الملكة العلمية المشتركة بين البلاد)، (والتي يجب أن تكون مشتركة في طرق العلم الثابتة مع أسمى الأمم الغربية) وبين الثقافة التي تنشأ في كل أمة وفق ظروف البيئة والتاريخ، وثمرة لتفاعل الجماعة البشرية مع المكان وعبر الزمان، فالملكة العلمية هي التي تنتج العلم الذي ينتج الحضارة التي تشترك الدنيا كلها في الإفادة منها وفي إنتاجها، أما الثقافة فتتجلى فيها الصفات الخاصة للأمم والشعوب، لأنها تعبير ومواءمة في وقت واحد عن الاحتياجات الروحية والنفسية والمادية للأمم والشعوب والتي تتنوع وتختلف وفق البيئة والتاريخ، ومن هنا فإذا كان من الطبيعي أن نشترك مع الحضارة الغربية في كل ما هو علم فإنه من الطبيعي أيضا أن نحافظ على خصوصيتنا فيما هو ثقافة.

         ولكن أروع ما في نصيحة طلعت حرب هو التفاتته الوثابة إلى أن هذه الثقافة التي يجب أن نحافظ على خصوصيتها ليست أبدا معطى ثابتا وجاهزا يأتي من الماضي، مما نرثه عن الأجداد، ولكنه كيان حي نام ومتجدد يتكون بجهود المتعلمين أنفسهم وبخاصة أولئك الذين تلقوا تعليمهم العالي في أمم أوربية مختلفة، والذين تأثروا - على حد تعبيره - بتهذيبات مختلفة وعادوا إلى العمل في بلدهم، ومن خلال احتكاكهم في العمل بعد عودتهم يحدث بينهم اتصال فكري وعقلي يساعد على إيجاد عقلية مصرية ممتازة بذاتها، مستقة في مجموعها عن أثر الدولة التي استكمل فيها المصري علومه العالية، لأن هؤلاء المصريين يكونون أقدر من غيرهم على إدراك معنى نسبية الثقافة!

         هذه معالم الطريق إلى مفهوم عالمية العلم وخصوصية الثقافة، وإلى تكوين خصوصية ثقافة مستقلة، ونامية في الوقت ذاته، فاستقلالية العقل لا تأتي من انعزاله عن الآخر بل من خلال حواره واحتكاكه بأكثر من آخر ثم العودة إلى الوطن للمشاركة في عمل مشترك يحتاجه هذا الوطن، ويعمل فيه أبناؤه الذين نهلوا من منابع علمية وثقافية مختلفة، فيستجيب كل واحد منهم لخدمة العمل في وطنه بلمحة من أفضل ما تعلمه في الخارج!

         أليس من المدهش أن يكون أول من قدم لنا هذه الرؤية البصيرة في معنى نسبية الثقافة هو رجل الاقتصاد طلعت حرب؟!