ملتقيات العربي

ندوة حوار المشارقة والمغاربة

اليوم الثالث الجلسة المسائية الاولي

أبحاث الفترة المسائية الأولى ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ. د. يحيى أحمد عميد كلية الآداب - جامعة الكويت
إسبانيا بعيون عربية
دعوة إلى مراجعة إشكاليات النظرة المسبقة
.. ومناقشة دور الرحالة في ترسيخها
د. محسن الرملي

         تتميز نظرة الذهنية العربية وطبيعة فهمها وتعاملها مع إسبانيا بخصوصية مختلفة عن تلك التي ترى بها بلدان الغرب الأخرى، وإن كان أمر كهذا يمكن عده بديهياً، إلا أنه، في حقيقته، ينطوي على مفارقاته ومخاطره وإشكالياته الخاصة التي تنحو في جوانب منها لتشكل عائقاً أمام الرؤية الصحيحة وبالتالي خسران ما تدره من إيجابيات صيغ التعامل الواقعي والموضوعي المعاصر.

         يأتي العربي إلى إسبانيا، رحالة أو زائرا أو سائحا أو موفدا رسميا أو حتى مجرد عابر إلى أرض أخرى، وهو يحمل معه نظرته المسبقة والجاهزة عنها والتي يمكن إيجازها بـ (الأندلس) بكل ما تعنيه هذه التسمية من دلالات (مثالية) في الذهنية العربية سواء أكانت تاريخية، أم سياسية، أم ثقافية، أم فنية أم دينية.. تجتمع كلها في بوتقة اصطلاح (الفردوس المفقود).. لذا فإنه لن يتعامل مع إسبانيا كما سيتعامل مع فرنسا أو بريطانيا أو هولندا أو السويد أو ألمانيا وغيرها. فعندما يطوف في سائر هذه البلدان مشرعاً أبواب ذهنه للاكتشاف والتعلم والملاحظة والتساؤل، نجده في إسبانيا يكتفي بممارسة التذكر والبكاء على الأطلال وإصراره المتواصل على محاولته في فرض رؤيته التي حملها معه على كل ما يراه. أي أنه (يرى ما يريد) ولا يرى الواقع على حقيقته. ويعمد إلى تفسير كل ما يراه بأنه من أصل عربي أو أنه من تأثيرات العرب بما في ذلك لون العيون وطريقة المشي وأطباق الطعام وطبيعة الملبس ونوع الموسيقى وطرق الحديث.. وكل شيء.

         يأتي وهو يتوقع أن يستقبله الإسبان بالأحضان والبكاء كأنه أحد أفراد العائلة عائداً بعد غيبة، لذا رأيت مواقف محرجة لأصدقاء كانوا يصرون على تقديمهم لأنفسهم على أنهم عرب مسلمون، حتى إلى عمال المقاهي، متوقعين أن يتم التعامل معهم بخصوصية واحتفاء، وهم يجهلون طبيعة التصور الشعبي التاريخي والحاضر عن العربي والذي تبلورت مراحل تشكله المعقدة إلى الوصول بتسمية العربي أو الاسلامي بـ (مورو moro) التي تحمل في دلالاتها الاستخفاف والرفض والاستهجان والوضاعة.

         يأتي العربي وهو يتوقع أنه سيتحدث اللغة الإسبانية في يومين على اعتبار أن آلاف الكلمات الإسبانية هي من أصل عربي دون أن يدرك بأن الفرق بين العجلة الأولى التي اخترعها الإنسان وبين السيارات الحديثة التي تطورت عنها، أمر لم يعد يصلح للمقارنة والاستخدام.

         يأتي العربي وهو يحمل معه إشكاليات هويته المعاصرة التي نعرفها، والتي يصف الناقد الأردني فخري صالح أحد وجوهها الأساسية بالقول: نحن أمة تعيش في الماضي، بمعنى أننا نظن أن ما صنعه أجدادنا يكفينا شر القتال ويعفينا من المشاركة في صناعة التاريخ المعاصر، ويمكننا النوم على وسائد من ريش النعام مطمئنين هانئي البال. والدلالة على ذلك أنك حيثما ذهبت تجد أن المتعلم ومتوسط التعليم، والجاهل كذلك، يعتقدون أن العرب سباقون إلى كل شيء في العلم والمعرفة.. هذه القناعة الغريبة، التي تجدها في كل ركن من أركان العالم العربي وفي كل بيت من بيوته، متمكنة من أذهان العامة والخاصة. والنتيجة أن الإنسان العربي، بناء على ذلك، يعفي نفسه من محاولة الوصول إلى مصادر المعرفة الإنسانية المعاصرة.. المشكلة أن هذا الوهم، وإقناع الذات بأننا أصل الحضارات، يترسخ في العقل الشعبي الجمعي، ويشيع معرفة سطحية شديدة الضحالة، ويخلق رضى زائفاً عن الذات فإذا لم نكن قادرين على إضافة شيء إلى الحضارة المعاصرة، فقد فعل أجدادنا ذلك، وما لدى الغرب من تقدم وتطور في المعارف والعلوم كان هناك ما هو أكثر منه لدى أجدادنا!.. وإذا كان الغرب ينكر ذلك ويتجاهله فذلك يعود إلى نكرانه للجميل واستكباره في الأرض.. إنه خطاب جاهل نسمعه كل يوم على الموائد وفي المناسبات الاجتماعية، وإذا كشفت للمتناقشين زيفه حملوا عليك حملة شعواء واتهموك بالسير في ركب الغرب، هذا إذا لم يتهموك بالخيانة! (1).

         وفق هذه الذهنية ينظر الزائر العربي إلى إسبانيا ويتعامل معها من دون سائر بلدان الدنيا، بل إنني لأشك في أنه يمارسها حتى في زيارته إلى بلد عربي آخر، إنه يأتي ليؤكد تصوره المسبق عنها ولهذا فهو يؤول كل ما يراه عنوة لينسجم مع هذه الرؤية، كل شيء يراه يصر على تفسيره بكونه من أصل عربي أو من تأثيرات الثقافة العربية الإسلامية، أي كمن يضع أهداف البحث قبل الشروع به فيكون عمله هو مجرد مراكمة وانتقاء لشواهد تصب في تأكيد نتائجه التي وضعها، لذا حين يعود العربي من رحلته إلى إسبانيا يضيف نفسه إلى القائمة كشاهد آخر على صحة التصور المسبق مكرراً التغني المعروف عن (الأندلس) ومواصلاً البكاء على (الفردوس المفقود).. إنه يصر على عكس وممارسة إشكاليات هويته الخاصة على الهوية الإسبانية، بحيث يبدو منكراً أنها (إسبانيا) في الحقيقة قد حسمت (حالياً) أمر هويتها عبر تبني الصبغة الأوربية، وذلك بعد مراجعات ونقاشات فكرية وثقافية جادة وطويلة ابتدأت في نهايات القرن التاسع عشر على أيدي جيل الـ 98، وبمقالات آنخيل غانيبيت (1865 ـ 1898) وتحليلاته الأولية للشخصية الإسبانية وتأشيره لما هو فيها من أثر عربي وما هو غيره، ثم تواصل النقاش لسنوات طويلة كما هو معروف، كنموذج الجدل الذي دار بين المفكرين أمريكو كاسترو وكلاوديو سانتشث آالباورنوث، والممتدة آثاره حتى اليوم عبر طروحات خوان غويتيسولو المقيم في مراكش.

         هنا تجدر الإشارة إلى المفارقة الغريبة حقاً والتي تستحق إنعام النظر، وهي أننا إذا كنا نرى بأن الثقافة الإسبانية أقرب الثقافات الغربية إلى ثقافتنا وأن هناك تاريخا وعوامل أخرى مشتركة جغرافية وسياسية وثقافية واجتماعية، فلماذا لم نأخذ طوال القرن الفائت شيئاً من هذه الثقافة؟ بينما نكتفي بالنهل من ثقافات أخرى كالفرنسية والإنجليزية بشكل خاص؟.. لماذا لم نقم بأي مشروع ثقافي جاد يشكل جسراً حقيقياً بين الثقافتين ويديم تلاقحهما.. أضرب مثلاً بسيطاً على ذلك بوجود معهد العالم العربي في باريس وخلو إسبانيا من مشروع مماثل.. وقد انتبه طه حسين إلى هذا الأمر أيام توليه وزارة المعارف فأسس المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد والذي تحول بمرور الوقت إلى مجرد دائرة رسمية أخرى تقليدية تابعة للسفارة.

         لماذا لم يتم التعامل السياسي الجاد مع إسبانيا كونها أكثر من يصلح جسراً حقيقياً للربط بين الغرب والشرق أو بين الشمال والجنوب أو بين بلدان أمريكا اللاتينية والبلدان العربية بحكم المشترك معها تاريخياً وثقافياً وجغرافياً.. علماً بأنها قد كانت آخر الدول الأوربية اعترافاً بإسرائيل ومطاولة وقوفها إلى جانب القضايا العربية.. إلا أن العرب لم يعملوا على ما يعزز ويقوي مواقفها فوجدت مصلحتها في أن تدير وجهها عنهم وتصوبه إلى الشمال.

         هذا السؤال وغيره من الأسئلة تستحق منا المراجعة على أكثر من وجه، ولكننا، هنا، بصدد الحديث عن إشكاليات النظرة المسبقة للعربي الزائر لإسبانيا، وتقصيها ـ تحديداً ـ فيما دونه الرحالة العرب عنها في مدوناتهم.

         فعدا ما ترسخه في أذهاننا المناهج الدراسية والخطاب الديني الحالم عن الأندلس وآدابها وفنونها وحضارتها بتقديسية مطلقة، هناك دور آخر ظل يعزز هذا الأمر.. ألا وهو ما كتبه الرحالة العرب عن إسبانيا على مدى القرن الماضي ومواصلة تكراره على نسق واحد ووفق رؤية ثابتة من قبل الدارسين لهذه الرحلات وكذلك من قبل المثقفين المعاصرين الذين زاروا إسبانيا، وهنا سأحاول إعطاء صورة عن هذا الأمر.

دور الرحالة العرب في تعزيز النظرة المسبقة

         مما يلفت النظر ـ كما سنرى ـ أن جل الرحلات العربية المكتوبة عن إسبانيا تصر على عنونة نفسها بوضع اسم (الأندلس)، وهذا أمر بحد ذاته يؤكد الإصرار على منهج ترسيخ النظرة المسبقة وتمثلها، كما أنه يحول، حقيقة، بين الشهادة الموضوعية والواقعية عن إسبانيا بكليتها، فالأندلس في نهاية الأمر لا تمثل ـ واقعاً ـ إلا إقليماً واحداً من بين أقاليم عديدة متنوعة تشكل بمجموعها إسبانيا. فلو كان الأمر يتعلق فعلاً وتحديداً بزيارة الجنوب الإسباني (الأندلس) لكان مبرراً، لكن كونه غير ذلك في واقعه، يشكل إرباكاً على صعيد الثقة بموضوعيته، لأنه سيوحي مباشرة بتبنيه للنظرة المسبقة التي وصفناها، حيث يصر الرحالة العربي على تبني التسمية العربية التاريخية، الشمولية القديمة (الأندلس) على شبه الجزيرة الإيبيرية ليطلقها على كل إسبانيا (ومعها البرتغال أحياناً) حتى لو كان الواقع الذي يعاصره مختلفاً عن ذلك.. بل وبتأكيد القصدية في نوع الرحلة. ونضرب مثالاً على ذلك رحلة شكيب أرسلان المعنونة (الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية) والتي هي في حقيقتها محاولة لإعادة كتابة تاريخ الأندلس وجمعه أكثر من كونها توثيقاً لرحلة شخصية ولهذا فقد جاءت محتشدة بالاقتباسات التاريخية والتراجم أكثر من تضمينها لمشاهداته الخاصة، فهو يعرب عن نيته المسبقة في كتابه (غزوات العرب) بالقول: >ولكن الأندلس التي نحن إليها منذ نعومة الأظفار، ونقرأ عنها بل نؤلف الأسفار فإنه لا يجوز لمثلنا أن يتأخر عن السفر إليها، ونحن لا نزال أنضاء أسفار بين الأقطار. وعليه انتهزنا هذه الفرصة واغتنمنا من وقتنا هذه الخلسة قاصدين إلى الأندلس عن طريق فرنسا التي حصلنا على رخصة المرور بها أياماً معدودات. وذلك أنه لما كان الغرض الأصلي من الرحلة اقتفاء آثار العرب كيف حلوا وأنى ارتحلوا من هذه الديار الغربية (2). يبدأ رحلته من الشمال مروراً بالباييس باسكو الذي يسميه (الباشكنس) وهو الإقليم الذي لم يترك فيه العرب أثراً مهماً يذكر، ومع ذلك يسمي رحلته كلها بـ (الأندلسية) ولأن القصدية المسبقة واضحة، فهو يأسف على هذا الأمر ويتمنى لو أنه يبدأ الرحلة من دمشق ثم المغرب ودخولاً إلى إسبانيا من جنوبها، أي القيام بتمثل الزحف العربي إلى الأندلس كما قد حدث تاريخياً فيقول: ( هكذا كان ينبغي أن أفعل لو كنت حراً أن أسكن في هذه الأيام وطني سورية، فكان السفر منها إلى الأندلس على الطريق الذي سلكه أجدادنا عند فتحهم هذه الديار وهي طريق المغرب. ولكن الغربة التي تطوحنا بها بسبب نضالنا عن استقلال وطننا قضت علينا بأن نسكن أوربة وأن نقصد الأندلس من شمالها لا من جنوبها) (3).

         وقبل الدخول بقراءة هذه التفاصيل نرى بأنه من المهم إعطاء صورة مجملة عن أهم الرحلات العربية ـ المدونة ـ إلى إسبانيا منذ القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن العشرين... وعليه تجدر الإشادة بدور المستعربة الإسبانية د.نييبس براديلا التي كانت أطروحتها للدكتوراه عن هذا الموضوع(4) والتي سنستعين بها، هنا، ونؤشر بعض النتائج التي توصلت إليها وتتفق مع ما نعتقده منها، تاركين نقد ما نختلف به معها إلى مناسبة أخرى. كذلك سنستعين بمقال للدكتور وليد صالح الخليفة رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة مدريد / أوتونوما(5). وسوف نتبع التقسيم الزمني الذي لجآ إليه:

         الأولى: رحلات القرنين السابع والثامن عشر المتمثلة بالرحالة المغاربة الذين قدموا كسفراء كالموصلي وأفندي، وأبرزهم احمد الغزال (ت1777) الذي أرسله السلطان المغربي سيدي محمد بن عبدالله سنة1766 سفيراً له في البلاط الإسباني لمناقشة شؤون سياسية وخاصة ما يتعلق بمسالة تنظيم تبادل الأسرى، وهؤلاء طالت رحلتهم أكثر من سواهم، ممن جاء بعدهم، ويلاحظ بأنهم قد كانوا كبارا بالسن إذ ربوا على الستين.

         ومما كتبه الغزال واصفاً زيارته لمسجد قرطبة: (.. وقد تخيل الفكر أن حيطان المسجد وسواريه تسلم علينا، وتهش إلينا، من شدة ما وجدنا من الأسف، حتى صرنا نخاطب الجمادات، ونعانق كل سارية، ونقبل سواري المسجد وجدرانه)(6).

         الثانية: بدأت في أواخر القرن التاسع عشر (وهنا تلاحظ د.نييبس غياباً ملحوظاً للرحلات العربية إلى إسبانيا على مدى قرن كامل تقريباً) في هذه المرحلة أو الوجبة الثانية من الرحالة راحت تتنوع الجنسيات العربية ولم تعد قادمة من المغرب فقط، كما هو الحال في الأولى، كما أنها لم تعد مقتصرة على المبعوثين بمهام دبلوماسية. وجلهم من المواليد الواقعة بين العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر أمثال: محمد روحي الخالدي (1864 ـ 1913) الذي دون رحلته بكتابه (رحلة إلى الأندلس). وأحمد الكردودي الذي زار إسبانيا سنة 1885، والتونسي علي بن السالم الورداني الذي جاء إلى إسبانيا بصفته باحثاً ودارساً سنة 1887 ودون رحلته في كتابه (الرحلة الأندلسية) مؤكداً فيها على تشابه أزياء الإسبان بالزي العربي وكثرة الكلمات ذات الأصل العربي. وأن عاداتهم تشبه عادات العرب. ثم الأديب والمترجم المصري أحمد زكي (1866 ـ 1934) الذي جاء أصلاً لحضور مؤتمر الاستشراق في لندن، واستغل سفرته بزيارة إسبانيا والبرتغال أواخر سنة 1892 وبدايات سنة 1893 ودامت رحلته ثلاثة أشهر. ضمن شواهد رحلته في كتابه (السفر إلى المؤتمر) حيث خصص الجزء الأخير منه لإسبانيا والبرتغال تحت عنوان (رحلة إلى الأندلس) وهو الآخر قد رأى في الإسبان ورثة للأندلسيين العرب وشبه طباعهم وعادتهم بالطباع والعادات العربية.

         الثالثة: رحلات النصف الأول من القرن العشرين، والتي يمكن إجمال مواصفات عامة مشتركة للقائمين بها: رجل، شاب، متوسط العمر 32 سنة، شرقي، مسلم سني، لهم ممارسة متميزة سياسياً أو ثقافياً أو في كليهما، وطنيون أو قوميون عرب من حيث أيديولوجيتهم، عروبيون بصفة عامة، وغالباً ما تكون أيديولوجيتهم ذات صبغة دينية واضحة، إقامتهم، بشكل عام، كانت قصيرة، أطولها إقامة نجاتي صدقي ـ وهو استثناء في مواصفات كثيرة كما سنرى ـ التي بلغت خمسة أشهر. أما أقصرها فكانت رحلات محمد فريد وموسى كريم التي لم تصل إلى خمسة عشر يوماً.

         في سنة 1901 قام المصري محمد فريد بسفرة إلى إسبانيا ولم يتجاوز فيما ذكره النظرة التقليدية القائمة على تمجيد الماضي العربي للأندلس وعظمة الآثار التي تركها فيها المسلمون. وعن مظاهر الحياة المعاصرة كان تقليدياً أيضاً وكعادة غيره يتم ذكر مصارعة الثيران دون إلمام بما يتعلق بها.

         تلاه في زيارة إسبانيا السوري محمد كرد علي (1876 ـ 1953) وذلك سنة 1922، ومن بين إشاراته التي أبرزها في كتابه (التدهور الثقافي والمعرفي) ثم ما جاء في كتابه (غابر الأندلس وحاضرها) الصادر سنة 1923، وكذلك في (المذكرات) قارن ما بين عرب الأندلس خلال حكمهم لها والإسبان المتخلفين حضارياً، وبين كيف أنهم كانوا يكرهون الاستحمام والاغتسال. أما الإسبان المعاصرون فهم، في رأيه، متهورون وقساة مع الآخرين وحتى مع أنفسهم، وأنهم يكرهون الأجانب. وإذا كان بعضهم يتميز باللطف والكرم، فذلك، في رأيه، إنما هو بفضل التأثير العربي فيهم.

         وننبه هنا إلى أنه؛ إذا كان إسباني اليوم لا يحب العربي فهذا لا يعني أنه لا يحب بقية الأجانب، بل على العكس من ذلك، يصل به الإعجاب مثلاً بالأمريكي أو البريطاني أو الألماني، إلى حد يوحي بشعوره بالدونية تجاههم.

         ثم جاء بعده السوري موسى كريم سنة 1927 وهو لم يختلف عن سابقيه بالنواح على الماضي العربي لكنه أشار إلى ضرورة التواصل الحاضر مع الإسبان.

         أما رحلة الشاعر التونسي سعيد أبو بكر سنة 1929 فقد كتب تفاصيلها في (دليل الأندلس كأنك تراه) الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1933 في تونس. وتحدث فيه عن مشاهداته ومفارقات حدثت معه، كمثل أنه كان يلبس الطربوش، فصار هذا سبباً لأكثر من حادث. ومنها قيام أحد المطربين الشعبيين بأداء أغنية عنصرية ضد العرب في مقهى جلس فيه أبو بكر لتناول قهوته.

         جاء بعده بعام واحد (سنة 1930) الرسام اللبناني مصطفى فروخ (ت 1957). وبالطبع كانت الحصة الأكبر من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على لوحات الفنانين الكبار لكنه هو الآخر لم يتردد في تذكر الماضي العربي والتغني بأيام ازدهار العلوم والفنون في قرطبة خلال حكم العرب ـ المسلمين لها، وتدهور حالتها في يومنا هذا.

         أما أبرز هؤلاء فهو اللبناني ـ السوري الأمير شكيب أرسلان (1871 ـ 1946) الذي قام برحلته المعروفة إلى إسبانيا سنة 1930 الممتدة بين شهري حزيران وآب قام خلالها بزيارة المغرب. نجده في أشهر كتبه (الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية) يقوم باستعادة التاريخ العربي الإسلامي كاملاً، يؤرخ له ويعيش فيه حد التقمص، حيث نراه في إحدى صوره الفوتوغرافية ـ وربما الوحيدة ـ في إسبانيا، جالساً على مقعد وثير وسط مسجد قرطبة وبملابس عربية قديمة فارداً ذراعية على هيئة الخلفاء والسلاطين. وأشار إلى أن كتابه هذا سيكون عشرة أجزاء. لم يصدر منه إلا ثلاثة أجزاء عن المطبعة الرحمانية في مصر 1936 ـ 1939 تضم 1379 صفحة. وكان أرسلان أكثر المتباكين على الماضي الأندلسي، وعبر لغة مفخمة ومسجوعة أحياناً، وبالتالي أكثر الرحالة ممن ساهموا في ترسيخ النظرة المسبقة التي ذكرناها.. بل إنه يصر على ربط الأندلس بدمشق في كل شيء وهذا ما سنلاحظ عواقبه على دارسيه وعلى لاحقيه كما سنرى عند نزار قباني مثلاً. فمن نماذج ما يقول :(ولا شك في أن هذا التشابه بين البلدين هو الذي حدا بعرب سورية على انتجاع الأندلس أكثر من أي بلاد سواها. لأن الإنسان يحب إذا تغرب أن يقع في أرض تشبه مسقط رأسه)(7). ومن نهجه في ترسيخ البكائية يقول: (وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في إسبانية متأملاً غائصاً في بحار العبر، هائماً في أودية الفكر. كلما عثر على أثر عربي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه الخالين، وما كانوا عليه من بعد نظر. وعلو همم، وسلامة ذوق، ورفق يد، ودقة صنعة. وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات في ما وراء البحر في بحبوحة النصرانية، وملتطم أمواج الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين، ويشيدوا فيها ألوفاً من الحصون، وأن يملأوها أساساً وغراساً، كأنهم فيها أبد الآبدين. فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسماً بين الإعجاب بما صنعه أباؤه فيها، والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي كانوا ملكوه، والوجد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم...)(8).

         ومما جاء في حديثه عن مدينة بلنسية: <وفيها من كل نزعة عربية صحيحة، وكل عرق في العرب عريق. ومن مزاياها أنها متصلة بالبحر والجبل، فلا يزال عيشها هنيئاً، ولا يبرح سمكها طريئاً، وجبنها طريئاً، وإن لم يكن فيها سوى بساتينها التي لا يشبهها في الدنيا شيء سوى غوطة دمشق..)(9).. ألا يحق لنا التساؤل هنا عن فرق الجبن والسمك وهذه البساتين عن بساتين الدنيا الأخرى كالإيطالية المتوسطية المجاورة لإسبانيا.. مثلاً؟!!

         وفي حديثه عن مرسية قال: (ومن الغريب اجتماع الضدين في تلك البقعة كما في دمشق، فإن الجبال فوقها كجبل قاسيون وغيره، جبال جرد وهضاب صلع، لا يكاد يرى فيها الناظر أدنى نبات، وحذاءها غوطة دمشق التي تضرب بها الأمثال. وهنا الحالة بعينها..)(10). بل ويصل الأمر بالتلبس حد طعم الفاكهة: (وأما لذة فواكه مرسية وكثرتها، فهما مما يكل عن وصفه القلم، فهي في ذلك كدمشق، وفيها كدمشق المشمش الذي لا نظير له..)(11).!!!!.

         هذا وقد زار أرسلان مدينة الأسكوريال بمكتبتها الشهيرة بالمخطوطات العربية: (ولما زرت أسبانيا سنة 1930، أي من ست سنوات، ذهبت إلى الأسكوريال أنا واثنان من شبان المغرب النجباء، وسرواته الأدباء، وهما السيدان العالمان الفاضلان أحمد بلا فريج، ومحمد الفاسي الفهري.. فطوفنا في الأسكوريال مدة ساعات)(12). كما اتصل أرسلان بالمستعرب الأسباني الكبير آسين بلاثيوس.

         وبالإضافة إلى تمجيده الغنائي/ البكائي للماضي العربي الإسلامي في الأندلس فقد أثنى على طابع الاعتزاز بالنفس والفخر وثبات الرأي وقوة العزيمة في شخصية الإسباني وبالطبع فإنه يعزو كل ذلك إلى أنه من موروثات العرب فيهم!!.

         المؤسف في الأمر أن صدى هذا النوع من الرحلات وتأثيره ينعكس لاحقاً على قارئيها ودارسيها ليتبنوا النظرة المسبقة ذاتها بل وأحياناً تلبس اللغة ذاتها، وكمثال على ذلك ما نجده في كتاب الدكتور سامي الدهان عن (الأمير شكيب أرسلان.. حياته وآثاره) (13). نقتطف من أقواله التالي، على سبيل المثال، كعينة لأسلوبه: (ولن يمل القارئ من هذه الصحبة الجميلة، لأنه يتعرف فيها إلى بيته وأراضيه ويتخيل من خلالها أسرته وأهله، فيتصور كيف عمروها وأسالوا فيها الحياة على أجمل ما تكون الحياة، وإن الإنسان لا يمل أن يطوف في أملاكه، وأن يطلع على خيراتها، وهذه الربوع قطعة منا لا تنفصل، وعضو من أعضائنا لا يُبتر، وفلذة من أكبادنا، نحن إليها حنين الابن البار لأبيه الفقيد حين يتذكر محاسنه ويتلو مفاخره، فيرفع الرأس تيهاً وفخاراً، ويعد أنه يحافظ عليها بالحب والتذكار، كما يحافظ على ما ورث من سكن يعيش فيه وبيت يأوي إليه سواء بسواء. ومن لنا بدليل أروع من هذا الدليل (يعني أرسلان) يقودنا ببيانه إلى هذا الفردوس الأرضي..)ص285.

         ثم جاء أمين الريحاني (1876 ـ 1940) ليدون مشاهدات رحلته في كتابه (نور الأندلس) (14) والتي يصل فيه الأمر إلى حد يعتبر فيه إسبانيا بلداً عربياً آخر.. ومثل غيره يملأ رحلته بهوامش التاريخ ومعلوماته وتطغى العاطفة وخاصة عند زيارته لإشبيلية وتذكره للملك الشاعر المعتمد بن عباد، وكذلك عند زيارته لقصر الحمراء في غرناطة :(زرت الأندلس فوقفت في (الحمراء) في الغرفة التي كتب فيها واشنطن آرفين كتابه النفيس، فسمعت أصواتاً تناديني باسم القومية ومن أجل الوطن وتدعوني إلى مهبط الوحي والنبوة)!!(15). وهنا نجد، إضافة إلى تأثير الموروث الكلاسيكي العربي والأدبي عن الأندلس، تأثيرات الكتاب الرومانسيين الغرب عنه. وهذا أمر أشارت إليه بدورها المستعربة نييبس بقولها : هذا الأندلس الذي تمت إعادة بنائه نصياً من خلال قائمة طويلة من الكلاسيكيين العرب ومن الأعمال الاستشراقية الأوربية وأيضاً من قبل الكتاب الرومانسيين الغربيين (....) مما صار يعني مرحلة من المجد التي يفخرون بها بمنزلة عزاء لسوء حاضرهم، فراحوا يظهرون من خلالها متفاخرين أمام أوربا التي تهيمن عليهم، ولسان حالهم يقول: أنتم سادة هذا العصر ونحن كنا سادة عصر آخر(16).

         ربما يكون الفلسطيني نجاتي صدقي (1905 ـ 1979) هو الاستثناء عن القاعدة السابقة ـ أي عدم تبنيه للنظرة المسبقة ـ وقد يكون ذلك بحكم تكوينه الثقافي والسياسي وكذلك الظرف الذي زار فيه إسبانيا أيام الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينات، فهو شيوعي أوفدته منظمة <الكومنترن> إبان الحرب الأهلية كي يتوجه إلى الجنود المغاربة للتخلي عن القتال إلى جانب فرانكو ضد الجمهوريين، بل وأسهم في تأسيس الجمعية الإسبانية ـ المغربية في مدريد. وإلى جانب هذا الدافع الحزبي هناك دوافعه الصحفية أيضاً، لذا لا نجد في مذكراته صبغة البكائيات تلك وإنما يتسم أسلوبه بين عرض الأبعاد الفكرية والسياسية والسرد الواقعي الواصف، بحيث نجده يتحدث عن شخصيات بعينها وبأسمائها وحالاتها الاجتماعية الخاصة وظروفها العائلية والحزبية، كما هو واضح في مذكراته، وتحديداً في الفصل الثامن المعنون: (الحرب الأهلية الإسبانية)(17).

         الرابعة: النصف الثاني من القرن العشرين، حيث إننا نلاحظ بعض بوادر التغير في التسمية من (الأندلس) إلى (إسبانيا)، وهذه الوجبة من الرحلات، بدورها، يمكننا تقسيمها إلى اثنين: المدونة وغير المدونة. الأولى، المدونة، هي في أغلبها، لباحثين ودارسين. أما الثانية، غير المدونة، فهي لمثقفين ومبدعين معاصرين.

         زار السوري عماد الدين التكريتي إسبانيا في أوائل الخمسينيات، وأصدر في ضوء هذه الرحلة كتابه (إسبانيا .. موطن الأحلام) (18). حيث يصف الدكتور الخليفة(19) التكريتي بأنه: من أكثر الرحالة العرب مبالغة في آرائه وأحكامه، فقد صنف هذا الكاتب الإسبان في عداد الملائكة، واعتقدَ بأن هذا الشعب يعتز بشدة بماضيه العربي.. ولا يعلم التكريتي بأن هناك شريحة مهمة من المجتمع الإسباني لا يرغبون في سماع كل ما له صلة بالتأثير العربي في الحياة الإسبانية، وهناك من يود شطب تلك الحقبة التي وجد العرب فيها على هذه الأرض من تاريخ إسبانيا (..) ويستمر التكريتي في نظرته المتفائلة فيرى بأن كل ما يوجد في إسبانيا هو عربي، وهو يعتقد بأن الدم العربي لم يختلط بالدم الإسباني فحسب، بل إنه انتشر في الأمريكتين عن طريق هؤلاء الرجال الذين رافقوا كريستوفر كولون، والذين كانوا، حسب رأي التكريتي، من أصول عربية. ويسمي غرناطة بشام الأندلس، ويرى بأن الموسيقى الشعبية الإسبانية المعاصرة وريثة للموسيقى العربية. وهو يخترع لكلمة (فلامنكو) أصلاً عربية فيقول: ومن الجدير بالذكر أن بعض علماء اللغة (!!!) يجدون أن كلمة فلامنكو هي ذات أصل عربي تعني: فلا: فلاّح.. ومانكو: أغنية، أي أغنية الفلاح. ولا شك بأن الإصغاء إلى هذا النوع من الأغاني ليذكرني ببعض الأغاني العربية الشعبية التي نسمعها في الريف والتي يحييها الأخوان رحباني الآن كـ(يا رايحين مشرق)(ص119).

         الباحث والكاتب المصري د. حسين مؤنس(20)، زار إسبانيا للمرة الأولى سنة 1940 ولكن ما كتبه يأتي بعد إقامته فيها كمدير للمعهد المصري للدراسات الإسلامية ما بين الأعوام 1905 و1969. فنشر كتابه (رحلة الأندلس .. حديث الفردوس الموعود) سنة 1963. وقد أنجز د. حسين مؤنس الكثير من الدراسات والأبحاث المتعلقة بشأن الثقافة الأندلسية كما قام بترجمة العديد من الكتب من الإسبانية إلى العربية، وهو الوحيد، تقريباً، من بين الذين ذكرناهم يجيد التحدث باللغة الإسبانية. ولكنه وعلى الرغم من طول المعايشة والنفس الأكاديمي والبحثي عنده، إلا أنه، هو الآخر، قد غلبته العاطفة والنظرة المسبقة: هناك ضربت أشجار عربية جذورها في تربة أوربية، فأخرجت ثمراً غربيا طعمه شرقي. وهو بنفسه يشخص ذلك دون أن يسلم منه: حيثما حللت في أوطان العرب وجدت الأندلس على كل لسان: من رآه يحلم بما رآه، ومن لم يره يحلم بما يمني النفس برؤيته. والأندلس عندهم جميعاً بلد عربي قائم بأهله ومدائنه وعلمائه وشعرائه ومجده الذي كان(21).

         النوع الثاني، وهم الذين قدموا في الربع الأخير من القرن العشرين، وغالبيتهم من المثقفين المعاصرين والدارسين لاختصاصات غير الأندلسية التقليدية ثم المهاجرين والسياح الذين صار عددهم يعد بالآلاف. وهؤلاء بشكل عام لم يقوموا بتدوين رحلاتهم في كتب خاصة ضمن الجنس الأدبي المعروف للرحلات، ونعزو ذلك ربما لمتغيرات العصر وتمكن وسائل الإعلام والصحافة من التغطية وبالتالي ضمور أدب الرحلات بشكل عام، لكننا سنتعرف على طبيعة إقامتهم ورؤيتهم من خلال المقاطع المتناثرة في مذكرات أو مقابلات صحفية أو في نصوصهم الإبداعية، ونعني تحديداً من هؤلاء، كنماذج، المثقفين المعاصرين أمثال: نزار قباني وعبدالوهاب البياتي (أقاما لسنوات طويلة دون أن يعرفا اللغة الإسبانية).. هؤلاء قد كانوا أكثر سعياً نحو التعرف على الثقافة الإسبانية المعاصرة إلا أنهم لم يتخلصوا تماماً من هيمنة النظرة العاطفية المسبقة على ذهنياتهم، فالبياتي قد عرف ببكائياته (في القصائد) عند أسوار غرناطة وتحت خيرالدا إشبيلية وتقمصاته لشخصيات أندلسية.. وغيرها. أذكر أنه عندما قابلته في مدريد سنة 1988 شدد بنصحه لي في أن أقوم بزيارة الآثار الأندلسية، معتبراً أنها ضرورة، ومستخدماً الرؤية العاطفية ذاتها، لكنه حين وجد انعدام الرغبة عندي. قال: على الأقل طليطلة فهي قريبة. قلت له: أعرف كل ذلك من الكتب ولا حاجة بي لملامسة الحجر كي أتأكد من حقيقته.. فضحك عندها ودعاني لمشاهدة فيلم أمريكي يعتمد التقنيات الحديثة في السينما. أمر كهذا يؤشر، بالنسبة لي، نوع من بداية تحول مازال يحمل في طياته: الثنائية.. أي بين هيمنة النظرة المسبقة والنظرة الواقعية المعاصرة، ويدلل على ذلك ما نجده من تنوع في قصائد البياتي ذاتها، حيث أن بعضها يتعلق بالأندلس والآخر بمعاصرين إسبان كلوركا وألبرتي وسلفادور دالي وبيكاسو.

         أما نزار قباني فهو وريث وفيّ للنظرة المسبقة حيث نجد فيما كتبه عن إسبانيا؛ إعادةً وتمثلاً كاملين لها، وترديداً يكاد يكون نصياً لما كتبه رحالة الشام ـ خصوصاً أرسلان ـ الذين كانوا يربطون كل أندلسي بسوريا ودمشق، وقصيدته (غرناطة) معروفة بهذا الشأن، ثم نجد موجز نظرته بالمقطع التالي المفعم بالنظرة المسبقة والمستعارة سلفاً والمحتشدة بالمبالغة واللاواقعية والتهويم العاطفي الذي يمكن توصيفه حتى بالمرضي وبخاصة عندما يتحدث عن قطة (حتى وإن أردنا تأويلها كرمز لامرأة) تختاره وحده من بين مئات السائحين لتبثه أشجانها وتتغزل به (عربياً)!!!، فهو يقول:> أما التجربة الإسبانية في حياتي (1962 ـ 1966) فقد كانت مرحلة الانفعال القومي والعاطفي. إن إسبانيا ـ بالنسبة للعربي ـ هي وجع تاريخي لا يُحتمل، فتحت كل حجر من حجارتها ينام خليفة، ووراء كل باب خشبي من أبوابها.. عينان سوداوان، وفي غرغرة كل نافورة في منازل قرطبة، صوت امرأة تبكي.. على فارسها الذي لم يعد.. السفر إلى الأندلس، سفر في غابة الدمع. وما من مرة ذهبت فيها إلى غرناطة، ونزلت في فندق (الحمراء) إلا ونامت معي دمشق على وسادتي الأندلسية. روائح الياسمين الدمشقي، وعبير الأضاليا، والنارنج، والورد البلدي، كانت تشاركني غرفتي في الفندق.. حتى مواء القطط في حدائق (جنات العريف) في غرناطة.. كان مواءً دمشقياً.. وأنا لا أزال أذكر حتى الآن قصتي الدراماتيكية مع قطة من قطط غرناطة، تركت مئات السائحين الأجانب يتجولون في حدائق (جنات العريف).. واختارتني وحدي.. لتبثني أشجانها، وتغازلني غزلاً عربياً لا يعرفه تاريخ القطط.. كانت تلتصق بي التصاق امرأة عاشقة، وتمر بلسانها على وجهي ورقبتي.. وتفتح أزرار قميصي الصيفي لتنصت إلى ضربات قلبي. هذه القطة من تكون؟. لقد مرت خمس سنين على التقائي بها، ولا أزال مقتنعاً أنها تنحدر من سلالة قطة عربية جميلة، جاءت على نفس المركب الذي حمل طارق بن زياد إلى الساحل الإسباني في القرن السابع (..) تغلغلت إسبانيا في مساماتي، وحروفي، وفواصلي.. وهذه التأثيرات الإسبانية ارتسمت بوضوح في مجموعتي الشعرية (الرسم بالكلمات) 1966 وفي قصيدتي النثرية (مذكرات أندلسية)(22).

         أما خطورة هذه القضية فيكمن في هذه النظرة الجاهزة التي يتواصل اجترارها من قبل مجمل الزائرين العرب العابرين حتى اليوم، بحيث إنه قد صار بإمكان أي عربي أن يكتب رحلته إلى الأندلس، بهذا اللغة والنظرة ذاتها، حتى دون أن يغادر بيته.. حيث يتواصل العزف على النغمة ذاتها في كل ما تتم كتابته من قبل هؤلاء.. سواء أكانوا مثقفين أو غيرهم.. بل إن الأمر يتردد صداه حتى في الأدلة والمجلات السياحية العربية بشكل يدعو للسخرية أحياناً، وسننهي ذلك بمقاطع من مقال كتبه السعودي سعيد عبدالله الغامدي(23): حكاية إسبانيا مع زائرها لا تنتهي فكلاهما يبادل الآخر سيلاً من العشق لا تصده حدود ولا تحول دونه حواجز، هكذا وثق العرب الأولون لنا الخيوط بهذه الأرض وها نحن بمشاعرنا نزيد الروابط قوة وإحكاماً (..) بيننا وبينهم شبه كبير. عادات الشعب الإسباني وكيفية ممارسته لطقوس يومه تبدو متشابهة إلى حد كبير مع عاداتنا كعرب ونحسب أن ظلال التأثير العربي قد طالت طبائع هذا الشعب. فالملابس الإسبانية عربية التصاميم وكذا الألوان أيضاً حتى أنك يصعب عليك التعرف على الشخص الإسباني إلا بعد ما يبدأ الحديث معك...

         وهكذا تتوالى المبالغات المجانية وغير الصحيحة، فلا يجمع اللبس الإسباني اليوم بالعربي أي شيء على الإطلاق إلا إذا كانا يتشابهان كلاهما بلبس بنطلون الجينز الأمريكي، أما الألوان فهي الألوان ذاتها وبتنوعها في كل ملابس البشر.

         ويتابع:.. تبدو وجوه الاتفاق أكثر وأكثر حال زيارتك للريف الإسباني لترى بعين المحب الحياة البسيطة كحياتنا تماماً وترى أيضاً كيف يقطع المزارعون، المسافات للوصول إلى مزارعهم إما سيراً على الأقدام أو على ظهر الحمير..!!..

         وهلم جرا من سيل الكلام المجاني الباحث عن أي تهويمات لفرض التشابه والتأثير.. وكأن بقية فلاحي الدنيا وفي دول كالهند وأمريكا اللاتينية وكل العالم لا يذهبون من قراهم إلى حقولهم المجاورة مشياً على الأقدام أو على ظهور الحمير.. وإنما بالطائرات!!!.

         هناك من يحاول حتى أن يختلق لأكثر المسائل الإسبانية خصوصية جذراً أو تأثيراً عربياً كمصارعة الثيران مثلاً. وبعضهم يصف وجود الأبناء في بيت الآباء هو من تقاليد الروابط العائلية بينما المشكلة الحقيقية، على الواقع، هي مشكلة اقتصادية تتعلق بالغلاء الفاحش لأثمان الشقق.. وغير ذلك الكثير.. في ضوء هذا، وبحكم معايشتي الطويلة، يمكن الجزم بأن العربي الأمي والمغامر المغربي الذي يعبر المضيق في قوارب الموت ويعيش في الشوارع بشكل غير قانوني، نجده بعد فترة من الزمن يتحدث إسبانية الشارع وأفضل معرفة بعادات الحياة اليومية الإسبانية وقوانينها وتفاصيلها ، بشكل أدق وأكثر بكثير من ذلك الذي يأتي إليها زائراً ومثقفاً مشبعاً بالنظرة المسبقة التقليدية المستقاة من الكتب والتصور الشعبي العربي العام. يقول الدكتور الخليفة في معرض حديثه عن كتاب الرحلات الذين ذكرناهم إن:> معظم الرحالة العرب الذين زاروا إسبانيا لم يكونوا يعرفون اللغة الإسبانية، الأمر الذي حال بينهم وبين الفهم السليم والإدراك العميق للشعب الإسباني ولعاداته وتقاليده وسلوكه (24).

         وتخلص المستعربة د.نييبس بعد دراستها لمدونات الرحالة العرب إلى إسبانيا بالقول: وجدنا لديهم إعادة الاكتشاف العاطفي المنفعل في مظاهره الأساسية، أرادوا أن يكون (الأندلس) ماضيهم هم وحدهم وحسب. كلهم ـ باستثناء صدقي ـ قد جاءوا إلى إسبانيا يشدهم شيء واحد.. ألا وهو :الماضي الأندلسي. يتحدثون عن تأثيرات ثقافية أو امتزاج، طبعاً، فقط يوافقون عليه إذا ما كان يصب في اتجاه واحد: التأثير العربي في الإسبانيين وليس العكس أبداً.

         كما أنهم يأخذون الأندلس ككل واحد بحيث يصبح هو نفسه سواء أكان أندلس القرن الثالث عشر أو الخامس عشر. إن هؤلاء الرحالة يجعلون من الأندلس حالة أسطورية ومثالية خالية من العيوب لتكون نموذجاً تحتذي به أمتهم.. فكانوا يقدمون ـ في كتاباتهم ـ أندلساً متخيلاً أكثر مما هو واقعي، سهل وأحياناً إلى حد السذاجة.. يقودهم فقط إعجاب لا حدود له بذلك الزمن المثالي. وعليه فإن كتاباتهم المكرسة بكليتها للأندلس، على هذا النحو، تنتهي لتركن في الظل أي اهتمام بما هو إسباني عام أو واقعي، وبما أنهم ليس لديهم معرفة باللغة الإسبانية وآدابها، فإن جل علاقاتهم الثقافية كانت تقتصر على المستعربين. وكان الحل الذي يلجأون إليه في تدوين ما يتعلق بالمعلومات عن الواقع الإسباني الجديد هو المصادر الأجنبية، وغالباً ما تكون فرنسية، والتي عرف عنها نظرتها السلبية(25)، يوافقون عليها ويترجمونها ثم يدونونها، وهكذا تمضي لتشكل بدورها مصدراً للصورة العامة للإنسان الإسباني.

         الأخيرة: وهي المتمثلة بالذين جاءوا في الأعوام الخمسة الأخيرة من القرن العشرين ومازالت إقامتهم ممتدة في بدايات القرن الحالي من طلاب ومهاجرين ولاجئين ومثقفين يعرفون اللغة الإسبانية ويعيشون حالها اليومي بكل نواحيه الثقافية والاجتماعية والسياسية وبعضهم تزاوج هناك وقرر البقاء نهائياً.. هؤلاء جاءوا محملين بالنظرة المسبقة ذاتها لكنهم، ومع مرور الوقت، راحوا يتخلصون منها ويتعاملون مع الأمر بواقعية حقيقية وتفاعل حي.. ومن بين ممن يكتبون منهم، مثلاً، العراقيون: عبدالهادي سعدون، محسن الرملي، باهرة محمد، خالد كاكي، نرمين إبراهيم وغيرهم.. حيث نجد صدى النظرة الأولى في كتاباتهم الأولى في إسبانيا ومقارنات مدنها بمدن العراق فيما تنتبه الكتابات اللاحقة إلى الأمر.. إلى حد نجد فيه ردة فعل تكاد صريحة ومعاكسة: >هذه ورقة كتبها مهاجر عربي في إسبانيا (moro) كان يشعر دائماً أنه أحد الجنود الذين عبروا مع موسى بن نصير، ونُسي هنا حتى بعد الانسحاب وسقوط غرناطة، لكن الواقع يوقعه بالتناقض: حين يتذكر أنه جاء ليصبح سيداً فأصبح خادماً أو لصاً ينام في عُلب الكارتون(26). قرفتُ غرناطة وسيل طنين الحنين العربي الزائف إليها (ندعو لأندلس إن حُوصِرَت حلب) وكدتُ تنفيذ قراري بهجرها ودراستي إلى الأبد (27).

         س: إسبانيا (لفردوس المفقود) الأندلس، ما مدى ضغط التاريخ على ذاتك وأنت تجوب شوارعها وتحتك بالمواطنين الإسبان في مغتربك هناك؟.

         ج: بالنسبة لي، لا أزعم ما يزعمه البعض من العرب تجاه ضياع الأندلس ( كفردوس مفقود )، صحيح أن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس كانت حضارة راقية ومازالت معالمها شاخصة حتى الآن ولكنني أرى أن نلتفت إلى إشكاليات قضايانا وواقعنا الحالي ونعمل على معالجته وإنمائه أكثر من الحلم بـ (فردوس مفقود).. إنني أتعامل مع الأماكن بموضوعية وواقعية وحنيني جارف تجاه الأماكن العراقية وليس سواها، لأن العراق هو الذي يهمني وليس الأندلس، فالأندلس الآن إسبانيا، وهي تعيش بخير وبحال أفضل من بلداننا العربية.. لذا لا أفهم كيف ينادي البعض باستعادة الأندلس وإنقاذ (الفردوس المفقود)!!.. فلننقذ فلسطين أولاً أو العراق أو الجزائر.. وغيرها (28).




أبحاث الفترة المسائية الأولى ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ. د. يحيى أحمد عميد كلية الآداب - جامعة الكويت
مَن يفك ربقة الأسرى؟
رحلة الوزير الغساني إلى بلاد الإسبان
بحث مقدم من
د. محمد المنسي قنديل

البلاد التي رحل منها:

         عندما شرع الغساني في رحلته إلى أسبانيا كان يعتقد أنه ينتقل من مخزن إلى مخزن آخر. والمخزن هنا ليس تعبيرًا رمزيًا أو تشبيهًا بلاغيًا، ولكنه كان واقعًا فعليًا يطلق على المدن والأقاليم التي تخضع لسلطان الغرب. تلك المدن التي يستطيع أن يحيطها بسوره ويحشد فيها جنوده ويجبوا منها ضرائبه. أما بقية المدن والقرى فكانت سهولا سائبة تخضع لسطوة قبائل الرعاة من بقايا بني هلال.

         كانت دولة المغرب الكبير قد انهارت مع زوال سطوة الموحدين. وأصبحت هناك ثلاثة كيانات كبرى تشبه الموجودة حاليا، ولكن كل كيان منها كان منقسما إلى مدن وإقليم أصغر. وفي الوقت الذي كانت فيه أوربا تضم أشلاءها وتواجه القرن السابع عشر كدول كبرى متوحدة تسعى لا كتشاف العالم واحتلاله كان العالم العربي يواصل التفتت ليتحول إلى دول بهية وسنية ومنصورة وكل ما شاءت من صفات لا تملك منها شيئا، أقاليم بلا شخصية تنزلق تدريجيا تحت نير الحكم العثماني.

         كان المخزن المغربي سيفا وقلما - على حد تعبير عبدالله العروي - في كتابه الموجز والغريب (مجمل تاريخ المغرب). السيف هو الذي يبقيه حيّا، والقلم هو الذي يعطيه شرعيته المفتقدة. وكان الغساني ينتمي إلى واحدة من جماعات ثلاث كانت تؤلف شكل الغدارة داخل المخزن، الأولى كانت جماعة الوزراء أو الحجاب الذين يحتلون أرفع المناصب وأعدادهم قليلة - اثنان وربما ثلاثة - ومهامهم هي خليط من الوزارة والحجابة يشيرون على السلطان بما يروقه ويقومون بتنفيذ نزواته كأنها أمر إلهي، أما المجموعة الثانية فهم(الكتّاب) الذين يسجلون أوامر السلطان في رسائل ويذيعونها بين الناس بحيث تكتسب صفتها الرسمية، وكان الغساني في أول الأمر واحدًا من هؤلاء الكتبة وقد أهّله إلى ذلك مهارته وسرعته وحسن حظه. ثم استطاع بعد ذلك أن ينتقل بجهده العقلي إلى رتبة الجماعة الأولى أي ليصبح واحدًا من الوزراء.

         والثالثة كانت جماعة الجند، تلك التي تنفذ أوامر السلطان بالقوة وهي التي تحمي مخزنه وتقوم بجباية ضرائبه وضمان الولاء له. وهم غالبا ما يكونون من بقايا أعراب قبيلة بني هلال الذين هاجروا من الصحراء العربية في زمن القحط، ووفقا للنمط القديم كانت الدولة تبعد فلاحيها وصانعيها عن مواطن القوة، وتعتمد على المحاربين المحترفين الذين لا يدينون بالولاء إلا لمن يدفع لهم رواتبهم.

         وقد شهد عصر الغساني تبلور الصراع بين أوربا المسيحية في الشمال، وبين العرب المسلمين في الجنوب، ورغم مرور سنوات طويلة على سقوط الأندلس فلم يكن أحدهما قد نسي ثأره بعد، وزاد من حدة هذا الصراع أن الدولة العثمانية لم تكن قد انهت حروبها في أوربا بعد، ففي الوقت الذي بدأ فيه الغساني رحلته، كانت القوات التركية تحاصر بلجراد من أجل استعادتها من جديد، وكان الأندلسيون الذين تم طردهم من أسبانيا قد استوطنوا في مدن المغرب مثل تونس وبجباية وتلمسان وفاس يثيرون المشاعر القوية بالارض الضائعة، وقد حولوا (فاس) إلى مدينة للعلم والحلم. فقد كان بينهم العلماء والكتبة والمفكرون الذين جددوا الثقافة المغربية التقليدية وأضافوا تقاليد جديدة لنظم الحكم فيها، ولكنهم ظلوا متمسكين بحلمهم في العودة إلى الأندلس، وظلت الاسر الكبيرة تحتفظ بمفاتيح بيوتها في المدن الضائعة ويورثونها لأبنائهم على أمل أن يجدوا هذه البيوت في انتظارهم يوما ما، ومن المثير للأسى أن هذا هذا الأمر يتكرر مع بعض اللاجئين الفلسطينيين الذين مازالوا يحملون مفاتيح بيوت فلسطين ويوقنون أن معجزة ما سوف تحدث وتنقذهم من مخيماتهم البائسة، ولا ندري من سيحمل المفاتيح بعد ذلك؟

         وإزاء هذا التفتت والضعف الذي كانت تشهده المغرب، فقد كان الصراع بين الجنوب المسلم والشمال المسيحي يميل دائما لكفة الأخير خاصة بعد أن انتشرت السفن الغربية في البحار - وخاصة الأسبانية والبرتغالية ثم البريطانية - وتسيّدتها وأصبحت تهدد الشواطئ المعمورة وتحتل الثغور كلما عن لها ذلك.

         وتعد مدينة العرائش ـ التي كانت سببا من أسباب رحلة الغساني إلى أسبانيا ـ خير شاهد على ذلك. فقد كانت السفن البرتغالية هي أول من فطنت إلى أهمية هذه المدينة المغربية الساحلية وقامت باحتلالها وتحصينها، وخاض السلطان المغربي (أحمد المنصور الذهبي) كفاحاً مريرًا حتى استطاع أن يستردها من أيديهم خلال القرن الخامس عشر، وخوفا من أن تقع المدينة مرة أخرى قام السلطان بتحصينها بالأسوار السميكة والعالية، ولكن الغريب في الأمر أن سلطانًا مغربيًا آخر هو (محمد الشيخ) قام بتسليمها إلى الأسبان دون أي معركة ولكن وفق معاهدة ثنائية - تماما كما فعل أهل غرناطة - بدعوى إعادة إعمارها والمحافظة عليها، واستلزم الأمر قتالا طويلاً آخر حتى يستطيع سلطان مغربي ثالث هو المولاي اسماعيل العلوي أن يمحو خطأ السلطان السابق ويسترد المدينة عام 1689م.

         ويبدو أن المعركة كانت بالغة العنف، فقد بلغ عدد الأسرى من الحامية الأسبانية حوالي 500 جندي، ومن هنا جاءت فكرة السلطان في مبادلة الأسرى الذين وقعوا تحت يده بأسرى المسلمين الذين كانوا موجودين في الأراضي الأسبانية.

         وكما يلاحظ نوري الجراح في مقدمته لرحلة الغساني أن قضية الأسرى المغاربة وبقية الأندلسيين الذين بقوا في الأندلس على مدار أكثر من قرن ونصف من الزمن قد شغلت الرأي العام الغربي، وكانت المعارك التي لم تهدأ سواء في البحر أو البر قد خلفت نوعًا من الجراح من الصعب اندمالها، وقد تعدت هذه المسألة كلا من المغرب وأسبانيا وانتقلت إلى اهتمامات البابوية في روما والباب العالي في الأستانة. ومن المؤكد أن المولى اسماعيل كان من السلاطين المغاربة القلائل الذين استطاعوا الوقوف في وجه النزاعات الاستعمارية الأسبانية. وتمكن من التعامل بندية مع قوتهم البحرية التي كانت تتحكم في حركة الملاحة في البحر المتوسط. وأقام نوعًا من التوازن الحرج من خلال سفاراته المستمرة مع لويس الخامس عشر ملك فرنسا، بل يقال إنه قد عرض عليه أن يتزوج ابنته من أجل تقوية العلاقات بينهما. ويعد إرساله لسفارة الغساني دليلا على هذا الشعور بالقوة والندية

الرجل الذي رحل

         هو الوزير محمد بن عبدالوهاب الأندلسي الفاسي المتوفى عام 1757ميلادية واسمه كما نرى يلخص تاريخ عائلته. فهو ينحدر من سلالة الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس بعد أن تساقطت ثغورها واستقروا في فاس. وحملوا معهم قدرًا كبيرًا من العلم بالتراث العربي. وكان ماهراً في نسخ المخطوطات في سرعة لا يضاهيها فيه أحد. وأهّله ذلك إلى أن ينضم إلى كتاب المخزن. فقد رحل من فاس إلى مكناس ليكون بالقرب من المولى إسماعيل العلوي الذي كان نجمه صاعدًا. وقد لفتت مهارته نظر السلطان على الفور لأنه كان نجيبا في ذلك. وذكر أنه كان كل ما يلقى من أوامر يكتبها ويستوفيها ولا يعزب عنه شيء منها مع كثرتها.

         من أجل هذا قربه السلطان فصار وزيرًا، ثم اختاره من أجل بعثة إلى بلاد الفرنجة، وكان للرحلة هدفان أولهما إنساني ويتعلق بمبادلة الأسرى. فقد كان السلطان يريد أن يبادل500 أسير الذين أسرهم بعد موقعة العرائش مع العديد من الأسرى المسلمين وبقايا أسر الموريسكيين أي العرب الذين بقوا في الأندلس بعد سقوطها وأرغموا على اعتناق المسيحية، وثاني أهداف البعثة كان ثقافيًا وهو استعادة مخطوطات السلطان المولى زيدان سلطان مراكش، الذي كان عاشقًا للكتب والمخطوطات، ومن شدة خوف هذا السلطان على مكتبته الثمينة من أن تقع في أيدي القبائل التي كانت تهاجم مدينته، وضعها على إحدى السفن حتى ينقلها إلى مدينة أغادير، وبينما كانت السفينة في وسط المسافة بين آسفي وأغادير أغارت عليها سفن القراصنة الأسبانية، واستولت على حمولتها بما فيها من كتب ونفائس، لقد تبددت النفائس بطبيعة الحال، ولكن المخطوطات التي بلغ عددها خمسة آلاف ذهبت جميعًا إلى مكتبة الاسكوريال الشهيرة. وكان انقاذ هذه المخطوطات من الأسر هو هدف الرحلة الثاني.

         ولا يصدق المستشرق الروسي المعروف كراتشكوفسكي هذه الأهداف المعلنة، ويشكك في أن رحلة الوزير قد نجحت في تحقيقها. ويرى أن الهدف الرئيسي كان هو محاولة من الوزير لعقد صلح بين السلطان المغربي والوزير الأسباني. وحتى إن كان الأمر كذلك فهذا لاينفي شرعية الأهداف المعلنة لأن أي معاهدة للصلح لابد أن يستتبعها استعادة الممتلكات واستعادة الأسرى ورغم هذا الهدف السامي لرحلة الغساني إلا أن الكثير من مقاطع كتابه توحي أنه هو أيضا كان أسيرا بشكل أو بآخر، اسيرا لسطوة السلطان المطلقة التي كانت تحتم عليه فعل المستحيل من اجل نيل رضاه حتى وهو بعيد في بلاد الاسبان، أسير لأسوار المخزن وشراسة الجند وخائف لحد الرعب من سجون المولاى إسماعيل التي كانت تمتد مثل قبو بالغ الاتساع تحت ارض مدينة مكناس، وهو مازال باقيا حتى الآن ورغم أنه تحول إلى مزار سياحي فهو لم يفقد شيئا من رهبته.

         ولكن مما لاشك فيه أنها رحلة أخرى تضاف إلى رصيد المغرب الذي خرج منه أشهر الرحّالة العرب أمثال ابن بطوطة وابن جبير والتيجاني وغيرهم. ولعل ازدهار هذا النوع الأدبي في المغرب بالذات فرضه موقع هذا البلد في أقصى العالم العربي، الأمر الذي جعل من الوصول إلى المركز حيث يوجد بيت الله الحرام وقبر رسوله الشريف واحدا من الأهداف والأحلام التي تدفعهم للرحيل الدائم. ولكن رحلة الغساني كانت مختلفة في الغرض والاتجاه عن رحلات الحج السابقة، إنها رحلة سفارية كما يطلق عليها د.محمد الفاسي الباحث المغربي، فالغرض منها كان القيام بسفارة لدى دولة أجنبية. وكان يقوم بتدوينها السفير نفسه إذا كان من أهل العلم والأدب - مثل حالة سفيرنا الغساني - أو يترك هذا الأمر لواحد من أتباعه. ولعل أشهر رحلة في هذا الغرض نفسه هي رحلة ابن فضلان إلى بلاد الشمال والتي قام بها بناء على أمر من الخليفة العباسي المقتدر بالله وقد تحوّلت إلى فيلم سينمائي عالمي تحت عنوان (المحارب الثالث عشر)

         وقد سجل الغساني تفاصيل هذه الرحلة في كتاب (رحلة الوزير في افتكاك الأسير) وغطت فترة عام كامل من عام 1690 إلى 1691 ويشوب الغموض الكثير من رحلة الغساني، فهي تنتهي فجأة وهو في طريق عودته، فبعد أن يتم سفارته ويقابل الملك الأسباني نراه وقد أنهاها عند إحدى القرى المجاورة لمدينة طليطلة أو توليدو كما يطلق عليها الآن. لا يذكر الغساني شيئًا بعد هذه النقطة من رحلته رغم أنه يواصل الكتابة ولكن في موضوع آخر. ولعل طليطلة التي كانت منطلقًا لملوك العجم من أجل استرداد الأندلس وقد سقطت قبل نصف قرن من سقوط بقية المدن قد أثارت في نفس الغساني ذكريات الفتح الأول، لذلك ترك تدوين وقائع عودته وأخذ يتحدث عن وقائع الفتح بالتفصيل واللقاء الذي جمع بين طارق بن زياد وموسى بن نصير ثم الخلاف الخلاف الذي دب بينهما وكيف حاول كل واحد منهما أن ينسب الفتح لنفسه.

         ويشوب الغموض أيضا النتيجة التي توصلت إليها رحلة الغساني، فنحن نعرف منه بطريقة غير واضحة أن ملك أسبانيا قد قبل صفقة تبادل الأسرى - خوفا ورهبة من رسالة السلطان المغربي على حد تعبيره - ولكنه لا يتابع تفاصيل إتمام هذا الأمر، ولا نعرف شيئا عن جمع هؤلاء الاسرى أو ترحيلهم، أما بالنسبة للهدف الثاني فقد قام المسئولون الأسبان بأخذه إلى مكتبة الاسكوريال وجعلوه يرى بعينيه آثار الحريق الذي التهم كل ما في المكتبة من كتب ومخطوطات وكيف طالت النيران حتى أخشاب السقف. وقد اقتنع الغساني كما يبدو بهذه الحجة ولم يثر الموضوع مرة أخرى.

         وقد تبين فيما بعد أن حوالي ثلاثة آلاف مخطوط منها كانت موجودة في أقبية الدير لم تمسسها النار. وقد أصبحت هذه المخطوطات فيما بعد هي نواة مكتبة الاسكوريال التي تعتبر الآن أكبر مكتبة تحتوي على المخطوطات الإسلامية في العالم.

         ولكن التحوّل الفكري الذي أحسّ به الغساني بعد انتهاء الرحلة كان واضحًا وجليًا، فقد بدأ الرحلة وهو يعتقد أنه ذاهب إلى مخزن آخر مثل الذي خرج منه ولكنه اكتشف أنه أمام دولة جديدة الطراز لم يعاين مثلها. أسوارها حول حدودها الخارجية وليس داخلها. وتعيش مرحلة مهمة من تحولها تنمو فيها بذور مؤسسات المجتمع المدني الحديث مثل البريد والصحافة والمستشفيات المتخصصة.كما أن إحساسه كواحد من أحفاد أهل الأندلس الضائع قد تغير أيضا. فقد بدأرحلته إلى أسبانيا وهو يعتقد أنها إحدى ديار الإسلام الضائعة وسوف يعيدها الله - طال الزمن أو قصر - إلى الإسلام مرة أخرى. ولكنه فوجئ أنه أمام دولة مختلفة تماما. لم تعد تتطلع إلى الوراء تتدفق عليها أكداس من ذهب العالم الجديد. ويحكم ملوكها أجزاء كبيرة من المعمورة وتجوب سفنها بحار الدنيا السبع.

         ولم ينس الغساني أن يستخدم ذكاءه وأن يقدم بطريقة غير مباشرة صورة للملوك الأسبان في حياتهم اليومية لعله بذلك يبعث برسالة إلى سلطانه المغربي الذي كان حاكمًا مطلقًا يصف فيها تفاصيل طقوس يوم القيامة وكيف يقوم الملك بدعوة ثلاثة عشر رجلا من الفقراء إلى قصره - وهو نفس عدد الحواريين الذين حضروا العشاء الأخير مع المسيح ـ ويقوم الملك بخدمتهم بنفسه ويقدم لهم الطعام ثم يقوم بغسل أقدامهم جميعًا وتنشيفها ثم يقبلها قدما...قدما. لقد صور الغساني صورة مدهشة لتواضع الملوك حتى ولو تم ذلك مرة واحدة في العام، هل كان من الممكن للسلطان المغربي أن يقوم بطقس قريب من هذا؟

         لقد أحسن السلطان المغربي اختيار السفير الذي أرسله. فهو ليس مثقفا وأديبا وعالما بالتاريخ، وليس وزيرًا عارفًا بتفاصيل الصراعات الدولة والتناقضات بين الدول الأوربية فقط، ولكنه - على حد تعبير نوري الجراح - يبتعد عن كل تلفيق أو تحامل أو تزوير، ويتميز بأمانة كبيرة وروح متسامحة في فترة عصيبة من الصراع الإسلامي مع الغرب سادت خلالها أوربا روح التعصب الأعمى الذي لم يسلم من شروره حتى المسيحيون أنفسهم في محاكم التفتيش.

مخطوط الرحلة

         يبدو كتاب رحلة الوزير في افتكاك الأسير أحيانا مثل تقرير مطول كتبه الوزير الغساني ليرفعه إلى أعتاب مولاي اسماعيل سلطان المغرب عن نتائج رحله لم تكن كبيرة النتائج. وقد اعتمدت هذه الدراسة على الطبعة التي أصدرتها دار السويدي في إطار مشروع ارتياد الآفاق وقام بتحريرها وكتابة مقدمة جيدة لها الشاعر نوري الجراح. وقد اعتمد هو بدوره على نسخة أقدم عمرًا حققها الفرد بن جرجس بن شبلي البستاني ونشرها في تطوان بالمغرب عام 1939مستندًا إلى ثلاث مخطوطات ناقصة، والبستاني مستغرب لبناني كان يجيد الأسبانية وقد عمل متعاونا مع قوات الجنرال فرانكو التي كانت تحتل المغرب.

         لم ينشر البستاني نص الرحلة كاملا ولكنه حذف منه فصلا كاملا أعتقد فيه أن الغساني قد انتقد فيه العقائد المسيحية.

         ولكن هذه الرحلة لم تكن مجهولة قبل ذلك التاريخ.فقد خلط الكثير من المؤرخين بينها وبين رحلة قام بها مؤرخ آخر هو أحمد بن المهد الغزال ومن الواضح أنها كانت رحلة سفارية أخرى، ولكن الذي أعطى هذا المخطوط حقه بقدر هو المستشرق المعروف أغناطيوس كراتشكوفسكي الذي تحدث عنها بالتفصيل في كتابه تاريخ الأدب الجغرافي العربي، وهو يصف الغساني قائلا ((من اتجاهه العام يبدو كعالم أثنوجرافي واجتماعي أكثر منه مؤرخا. فهو يهتم قبل كل شيء بوصف الأخلاق والعادات والنظم وفي هذا المجال قد تفوق معطياته أحيانا الأوصاف الأوربية المعاصرة له)).

البلاد التي رحل إليها

         بدأت رحلة الغساني إلى إسبانيا يوم 19 أكتوبر 1609من مرسى جبل طارق. وتعرضت مثل العديد من الرحلات إلى مصاعب في الطقس أجلت ابحارها لعدة أيام. وكانت الخطوة الأولى هي من جبل الفتح أول مكان وطأته أقدام طارق بن زياد وهو يستعد لغزو بلاد العدوة، ولكن الغساني رآها وقد أصبحت حصنا منيعا تسكن فيها حامية عسكرية أنظارها موجهة باستمرار ناحية الشاطئ المغربي حيث من المتوقع أن تأتي الهجمات، ولكن المفاجأة أن الهجمة جاءت عبر القنال الإنجليزي عندما احتلت بريطانيا هذا الجبل بعد رحلة الغساني بأربعة عشر عاما فقط أي في عام 1704م.

         سار الغساني بطول الساحل الإسباني بسفينته ولم يهبط إلى البر إلا في ميناء قادش وهناك كان في انتظاره استقبالان. أحدهما رسمي يتمثل في حاكم المدينة. والآخر شعبي يتمثل في عشرات الأسرى الذين كانوا ينتظرون من يفك أسرهم. كانوا مطلقي السراح ولكن حالتهم كانت بائسة ويقومون بأحط الأعمال، كما كانو عرضة للسخرية خاصة من جانب الاطفال الاسبان كما لاحظ الغساني ذلك بنفسه. ولا بد أن الحاجة إلى طاقتهم في الأعمال الوضيعة هي التي جعلتهم مطلقي السراح هكذا. فقد كانت قادش في هذا الوقت هي الميناء الرئيسي الذي يتدفق منه الذهب القادم إلى العالم الجديد ويخلق فيها حالة من الدعة والرفاهية جعلت الأسبان يأنفون من القيام بهذه الأعمال.

         اكمل الغساني رحلته برا متوجها إلى الشمال، إلى مدريد. واتاح له هذا أن يشاهد عشرات البلاد والقرى وأن يراقب طقوس الزرع والاستسقاء وأن يستمع إلى الأغاني ويشاهد الرقصات وأن يقابل بقايا الأندلسيين واليهود وهم يحاولون عبثا إخفاء جذورهم القديمة وإظهار الاخلاص لحياتهم ودينهم الجديدين. كما اجتاز العديد من غابات من الزيتون، وهي في اعتقادي واحدة من أعظم الآثار التي تركها المسلمون في الأندلس، لقد أحضروا غرس هذه الشجرة المباركة من وديان الشام، كما احضروا فسائل النخل من صحراء العرب، وابتكروا السواقي التي ترفع المياه من قيعان الوديان إلى أعلى التلال وحولوا الهضاب القاحلة إلى غابات من الزيتون مازالت مزدهرة حتى الآن.

         وفي قرطبة يقابل الغساني أسيرًا من نوع آخر، إنه يقف مشدوها أمام مسجدها الكبير الذي تشوهت عمارته وتحول قسرا إلى كنيسة. وهي رؤية تثير الأسى في نفسه وتجعله يستحضر تاريخ هذا المسجد الكبير الذي كان مجرد حلم في صدر عبدالرحمن الداخل وهو يسعى هاربا من مطاردة بني العباس ناذرا لله إن مكنه في الأرض أن يبني له أكبر مسجد يمكن ان تشهده عين بشر، يستمع الغساني إلى كل الأصداء القديمة وهي تتردد في جنبات المسجد، مزيج الأدعية والابتهالات واستغاثات ما قبل السقوط.، يراقب الصلبان التي تعلو، والأبهاء وهي تأفل والأجراس وهي تدوي من أعلى المنارة بدلا من صوت الأذان.

         وفي بلدة (الكاربي) يقابل الغساني وجها آخر حزينا من بقايا الأندلسيين. إنهم أحفاد بنو سراج الذين اختلفوا مع آخر ملوك غرناطة ابو محمد الصغير فخرجوا عليه وأعلنوا تنصرهم وانضموا للفرنجة وساهموا في حصار المدينة حتى سقطت، والمدهش أن أحفادهم ظلوا يلعبون على هذا الحبل الرفيع.

         فلم يصبحوا مسيحيين مخلصين وظلت مواطنتهم الأسبانية ناقصة، لقد توارثوا إرث الخيانة وذنبها جيلا بعد آخر. وهو يتأكد من ذلك عندما يزور مدينة مسلمة أخرى، أو بالأحرى تأخر تنصرها واسمها (مورا) وقد وجد أهلها يزرعون العنب بكثرة ولا يكفون عن عصره وتخميره وشربه كأنهم يدفنون في الخمر كل الذكريات التي لا يستطيعون مواجهتها.

         بهذه الوتيرة تسير رحلة الغساني، متأملا في أحوال الناس والمكان الطبيعة، باكيا على آثار الأندلسيين مندهشا من العادات والسلوكيات التي لم يعاينها من قبل، حتى يصل أخيرا إلى مدريد.

         كانت مقابلة الغساني مع الملك الإسباني ـ والذي أصر على أن يطلق عليه لقب الطاغية وأن يدعو بهلاكه هو وأمثاله من على وجه الأرض قصيرة وموجزة، اقتصرت على تسلم خطاب السلطان المغربي وتبادل معه بعض كلمات المودة. ثم تركه لينعم بالضيافة والتأمل ريثما يأتيه الرد على الخطاب الذي حمله..

         وكانت هذه فرصةالغساني الكبرى ليتابع مظاهر الحياة في إسبانيا الجديدة. ولعل اولها هي مظاهر الثراء التي ظهرت من جراء اكتشاف أمريكا أو الأرض الجديدة، وظهور الأشكال الأولى من تنظيمات الدولة الأوربية الحديثة مثل البريد والصحافة والخدمات الصحية المختلفة. كما راقب الرياضات التي يقوم بها الإسبان مثل التزلج على الجليد في الشتاء ومصارعة الثيران في الأعياد. وكانت المصارعة في ذلك الوقت لا يقوم بها مصارعون محترفون وإنما يقوم بالتصدي للثيران كل من يجد في نفسه الشجاعة.

         ويشرح الغساني بعضا من مكائد البلاط الإسباني ويقوم بزيارات عديدة لأسواق مدريد ويوشك الهدف الأساسي لرحلته أن يضيع حتى يتذكره أخيرًا. لقد استلم منه الملك الرسالة وأعطاها لمترجمه النصراني الحلبي حتى يترجمها له. وقد سببت له كلمات السلطان اضطرابا كبيرًا على حد تعبير الغساني فلم يجد بدًا من الامتثال لأمره المطاع وأخذوا في جمع الأسرى أما الكتب فقد أخذوه في رحلة الأسكوريال الشهيرة يحث شاهد آثار الحريق واقتنع بضياع الكتب.

         وفي يوم 20 من أكتوبر عام 1691 يغادر الغساني مدريد بعد أن انتهت مهمته ويطوف بالعديد من القرى حتى يدخل مدينة طليطلة الباهرة. وهنا كانت نهاية المطاف رحلته مثلما كان هنا بداية الاسترداد. فقد سقطت هذه المدينة في أيدي الإسبان عام1086 م أي قبل سقوط غرناطة آخر المدن بحوالي 400 عام ومع ذلك لم ينتبه أحد إلى نذر الكارثة القادمة فلله الأمر من قبل ومن بعد.

ملاحظات حول الرحلة

         1 - كان الغساني رجلا دائم الاندهاش. وهذه إحدى خصال حب المعرفة. من الواضح من كتابه أنه لم يكن يكن يكتفي بالملاحظة بل أيضا لم يتعال عن السؤال. لذا فقد جاءت رحلته مزيجا من الملاحظات الذكية وتجميعا للمعلومات التي استقاها من مصادرها. ومن المؤكد أنه كان يعرف الإسبانية بشكل جيد لأن أحاديثه مع المسئولين الإسبان لم تجد عائقا لغويا يقف في سبيلها. ورغم أن جولته كانت وسط الدوائر الدبلوماسية إلا أن هذا لم يمنع نظرته الثاقبة من النفاذ إلى أرض الواقع الإسباني.

         2 - كانت الأسوار هي أولى مثار دهشة الغساني، ففي قادش اكتشف أن المدينة لا يحدها إلا سور واحد هو الذي يواجه البحر أما في الداخل فلا توجد أسوار، وفي تطوافه في العديد من القرى والمدن وجد أنه لا توجد أي أسوار. بل إن الأسوار القديمة التي تهدم لا يقام بدلا منها. على العكس من الأندلس القديم ومن دول المخزن الذي جاء منه حيث تحاط كل مدينة بسور ضخم مازالت آثاره باقية حتى الآن. لقد كان الغساني يرى دولة مفتوحة على بعضها. أعداؤها لا يأتون إلا من الخارج وليس من الداخل. لم تكن مجرد مخزن محاصر ولكنها كانت عالما يموج بالحركة. ولم يكن يحكمها ملوك الطوائف ولكن كانت لها حكومة مركزية واحدة وملك واحد.

         3 - لاحظ الغساني بعمق أثر اكتشاف أمريكا على الحياة في إسبانيا. وحتى لحظة رحلته ورغم مرور حوالي مائتي عام على اكتشاف أمريكا فقد كان الغساني يعتقد أنها جزء من بلاد الهند مليء بالغنائم والكنوز. ويرصد الغساني كيف أن هذا الذهب المتدفق من الأرض الجديد قد جعل أهل إسبانيا يركنون إلى حياة الترف والخمول. فلم يعودوا يعملون أو يسافرون للتجارة كما تفعل بقية الأجناس الأوربية. بل إنهم تركوا الحرف والأعمال الوضيعة إلى غيرهم كالفرنسيين الذين كانو يعانون من ضيق الرزق في بلادهم ولم يجدوا بدًا من الهجرة إلى إسبانيا للقيام بهذه الأعمال.

         4 - يرصد الغساني أيضا أحد مظاهر التعصب الديني التي نشأت في أعقاب سقوط الأندلس هي محاكم التفتيش الذي اصطلى بناره بقايا المسلمين واليهود وكان يتم إخضاعهم للتعذيب البدني والجسدي حتى يتم تنصيرهم أو إحراقهم. وعندما كان الغساني في مدريد كان أتباع هذه المحاكم وهم رجال الدين من الأنكسيشين يثيرون جوًا من الإرهاب في كل المدن. ويكفي أن يشي جار بجاره على أنه مسلم أو يهودي حتى يتم القبض عليه وتعريضه للتعذيب وقد شاهد الغساني بنفسه سقوط أحد كبار المستشارين لدى ملك إسبانيا حين اتهمه البعض باعناق اليهودية وتم القبض عليه وتعذيبه ولم يستطع أن ينقذه أحد حتى الملك نفسه.

         5 - وأكثر ما أثار دهشة الغساني خلال الأيام التي قضاها في مدريد هو العديد من مظاهر الدولة الحديثة مثل المستشفيات الحديثة التي توفر للمريض العلاج في جو غاية من النظافة الصحية وهو يشهد لممارسي هذه المهنة بأنهم أحسن جنسهم أخلاقا وتواضعا. وكذلك بريد الجمعة الذي ينظم حركة الرسائل من كل البلدان المختلفة والمتباعدة لقاء أجر معروف بل وأصبحت هناك محلات متخصصة للقيام بهذا الأمر. وعن طريق هذه الرسائل عرف الغساني كل أخبار أوربا بعد فترة طويلة من وقوعها.

         الصحافة أيضا كانت تشهد أيام ولادتها ولم تكن في ذلك الوقت تتجاوز قرطاسا من الورق تدون فيها الأخبار وتباع في الأسواق، ولم ينس الغساني أن يوجه لها اتهاما بالزيادة والكذب وهو اتهام مازال قائما ضد الصحافة حتى الآن.

         6 - أظهرت الرحلة معرفة الغساني العميقة بالصراعات الأوربية - الأوربية. فهو لا ينظر إلى هذه الأجناس ككم واحد. ولكنه كان عارفا بالتوترات التي نشأت بين البابا من ناحية وفرنسا بسبب اتصالاتها بالترك. وبينه وبين إنجلترا التي خرجت طاعة البابا وأقامت كنيستها الخاصة. وكان يدرك كيف استطاع البابا أن يؤلب الدول الأوربية علي فرنسا وأن يقف بالقارة العجوز على حافة الحرب بل إن وعيه تجاوز ذلك أيضا ليعرف أبعاد الصراع الأوربي حول استعمار الأرض الجديدة وكيف أن هذا الأمر ينذر بحرب أخرى.

         وبعد كانت هذه خلاصة رحلة ذلك الوزير المغربي العريق محمد بن عبدالوهاب الأندلسي الفاسي كما أوردها في كتابه (رحلة الوزير في اختطاف الأسير) رحمه الله ورحم كل الأسرى الذين لم تفك ربقة الأسر من حول أعناقهم حتى الآن.




أبحاث الفترة المسائية الأولى ليوم الإثنين
رئيس الجلسة: أ. د. يحيى أحمد عميد كلية الآداب - جامعة الكويت
المشروع الجغرافي العربي ارتياد الآفاق
جسر بين المشرق والمغرب وبين العرب والعالم
(لمحة عن المشروع من خلال أدبياته ووثائقه)
نوري الجرّاح

         هذه هي السنة الثالثة في حياة المشروع الجغرافي العربي (ارتياد الآفاق) الذي انطلق من أبو ظبي مع مطلع سنة 2001، وما كان لمثل هذا المشروع الطموح باستهدافاته الصائبة، وخطته الاستراتيجية، أن يتحول إلى عمل يومي منتج ومنجزات ملموسة، لولا الوعي الاستثنائي والإيمان العميق بغنى الثقافة العربية وجدارتها في مخاطبة الذات ومخاطبة الآخر، الذي تحلى بهما راعي هذا المشروع الأستاذ الشاعر محمد أحمد السويدي، والذي أشرف على يوميات هذا المشروع، ومتطلباته المادية والمعنوية وكانت له رؤيته لشكل التراكم كما ونوعا الذي أسس للمادة الجغرافية التي نتعامل معها استكشافا وبحثا ودراسة وتظهيرا إلى النور، وذلك بأقصى ما يملك المرء من شغف معرفي في استكشاف رؤية الثقافة العربية للذات والآخر عبر العصور، مسلحا برغبة نبيلة في إنصاف الوجه الحضاري للعرب والمسلمين وقد دارت عليهم الدوائر، ونسجت لهم صورة ما أشد بعدها عن صورتهم الحقيقية كبناة للحضارة.

         منذ البداية كان همنا في هذا المشروع مواصلة ما انقطع من بحث وعمل بدأهما نهضويون عرب أجلاء خاضوا في المضمار نفسه بدءا من نهايات القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، تحدونا الرغبة في وصل ما انقطع ويتحرك فينا دم المبادرة إلى استكشاف أعمال علمائنا ومبدعينا في حقل الادب الجغرافي، وإعادة درسها وتحقيقها وتقديمها بأنفسنا إلى القراء قبل أن يسبقنا إلى ذلك المستعربون الجدد، وتَسْبِقَنا المؤسسات الدولية المعنية بالثقافات، وهذا في نظرنا واجب حضاري وأخلاقي، وضرورة معرفية.

         ولقد أردنا لهذا المشروع، ونحن اليوم في المطلع منه، أن يبني، بإنجازاته التي نتطلع إلى تحقيقها، جسورا بين جغرافيات وعوالم مختلفة، وفي تحديد أكبر: جسرا يصل المشرق بالمغرب، وجسرا يصل العرب بالعالم. وفي الجوهر من عمله جسر يربط بين أجزاء الأدب الجغرافي ويفتح الأقنية المسدودة بينه وبين المستويات الأخرى من البنية الشاملة للثقافتين العربية والإسلامية.

         نتحدث عن الثقافة العربية وفي بالنا باستمرار ما للأدب الجغرافي من أهمية استثنائية ضمن منجزات هذه الثقافة عبر عصور ازدهارها.

مشرق - مغرب

         من خلال عملنا اليومي مع الأدب الجغرافي، أدركنا ما للمغرب من أهمية خاصة تنهض على المكانة المميزة التي يمثلها الموقع الجغرافي المغربي، سواء من حيث قربه من أوربا، أو ريادة أبنائه في إنتاج نصوص الرحلة، فضلا عما استجد من مغامرة الباحثين والأكاديميين المغاربة في إنتاج الخطابات المتعلقة بهذا اللون الأدبي.

         ويمكن للباحث أن يدرك بيسر ما لجغرافية المغرب من مزايا فريدة، عندما نرنو إلى الأمر من زاوية العلاقة مع الآخر - والأوربي بصورة خاصة، ولنتذكر هنا النشاط المميز للرحالة والسفراء والمندوبين المغاربة وحركتهم عبر الأجيال في اتجاه أوربا، لاسيما منذ القرن السابع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين.

         وتفيدنا حركة الدرس الأكاديمي الحديثة في المغرب بمعطيات عن الرحلة إلى أوربا تكشف عن خصائص وميزات مغايرة، في الدراسات كما في النصوص، لما نجده في المشرق العربي، وذلك بفضل الخبرات الوثيقة الناجمة عن الاحتكاك المباشر بالآخر، وإدارة العلاقة معه، وكذلك بفضل المناهج الحديثة المعتمدة في قراءة الأدب الجغرافي، ومن ثم في استكشاف وتفكيك طبيعة العلاقة بالآخر، وبالذات من خلاله.

         أشير هنا إلى رحلات في اتجاه أوربا تمت في القرون الثلاثة الأخيرة، تركت نصوصا متتابعة لعبت أدوارا متفاوتة التأثير في تشكيل الوعي العربي بالآخر، ودرجات التفكر فيه، وبصورة خاصة طبيعة الاستجابة أو الرفض التي حصلت لدى الرحالة العرب في موقفهم من عناصر ومفردات الحداثة الأوربية. فأدب الرحلة العربي إلى الغرب، كما يتضح للدارس، (ركّز أساسا على تتبع ملامح النهضة العلميَّة والصناعيَّة، وحركة العمران، وشتى مظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والتنظيم والإدارة والقانون) كما هو معروف، وكما بيّنا، مرارا، في أدبيات المشروع.

         من هنا تحديدا، من الحاجة الملحة إلى الكشف عن كنوز أدب السفر لما تحتوي عليه من عناصر غائبة عن الأذهان، بصدد العلاقة مع الآخر، ولد المشروع الجغرافي العربي (ارتياد الآفاق) بجهود شخصية، وبمسعى يستبعد فكرة الربح والخسارة المادية، وبتطلع كبير توّاق إلى إنصاف العرب والمسلمين، ودفع التشويه عن صورتهم كما يراد لها أن تروج اليوم في الغرب والعالم: أعداء للحضارة ـ وهو ما يصدر عن تعصب مقيت مصدره دوائر التفكير العنصري، والجهل والتجاهل.

         ولكن ماذا عن جهل العرب بأنفسهم..؟ وليس عن درجات جهل المشرقي بالمغربي والمغربي بالمشرقي؟

          لقد تبين لنا أن الجهل المشرقي بأدب الرحلة المغربي مثلا، وبالقراءة المغربية للآخر كما تجلت في أعمال الرحالة المغاربة إلى أوربا، لم يكن عملا موجها ضد الثقافة العربية في المغرب وحدها، لأننا نجد في المشرق معادلا لهذا الإهمال موجها نحو أدب الرحلة المشرقي نفسه.. فهناك عشرات الأعمال الكبيرة المؤثرة في تاريخ الرحلة نحو الآخر أنتجت انطلاقا من المشرق العربي ما يعتبر اليوم أعمالا مجهولة حتى من جانب الباحثين.

         يمكنني أن أعدد هنا قائمة من الأسماء والعناوين ذات الشأن، لكنها لم تدخل أبدا في النقاش المتعلق بالآخر، ولم ترد في حسبان الباحثين.

         فمقابل الجهل بأفوقاي في رحلته إلى باريس ولاهاي، والغساني في رحلته إلى مدريد في القرن السابع عشر، والمكناسي في رحلاته الأوربية في القرن الثامن عشر، والصفار والفاسي والعمراوي والكردودي في رحلاتهم الأوربية في القرن التاسع عشر، والحجوي والغسال والسائح في رحلاتهم الأوربية في مطلع القرن العشرين... مقابل الجهل بهذه الأسماء والأعمال، نجد في المشرق العربي جهلا بأسماء وأعمال عديدة من أمثال إلياس حنا الموصلي في رحلته من بغداد إلى أمريكا، والبطريرك مكاريوس في رحلته من حلب إلى روسيا في القرن السابع عشر، وسليم بسترس وأحمد زكي باشا وتوفيق العدل ومحمد الطنطاوي في رحلاتهم الأوربية في القرن التاسع عشر، ومار أثناسيوس أغناطيوس نوري في رحلته الهندية في القرن نفسه، ومحمد علي (الحفيد) في رحلاته إلى اليابان وأمريكا والبلقان وجنوب أفريقيا في مطلع القرن العشرين، وغيرهم كثير.

         إن الإهمال الذي طال هذه الأعمال مشرقا ومغربا خلق دافعا ومسوغا قويين لقيام مشروع جامع يربط بين جغرافيات أدب الرحلة ومدوناتها، ويعيد الاعتبار لها من خلال تحقيقها ودراستها وتقديمها على أوسع نطاق ممكن.

         وهو ما يجعل من المشروع جسرا بين المشرق والمغرب تمرّ عليه وتتجاور نصوص الرحالة العرب مشارقة ومغاربة، وهذا من شأنه أن يتيح فرصة أكبر للنظر في المشترك الذي تطرحه هذه النصوص، بما تَذْخَر به من عناصر التشابه والاختلاف في سير الرحالة واهتماماتهم وأعمالهم.

          هذا هو طموحنا ومهمتنا في مشروع (ارتياد الآفاق) لئلا تبقى رحلة ابن بطوطة، أو ابن جبير من بعده، يتيمة في فضاء خال، ولئلا تبقى رحلتا الطهطاوي والشدياق هما رحلتي البحث عن ذات في فضاء الآخر، ومن دون نظير أو مثيل. من هنا تتجلى أهمية ندوة الرباط لتكون فضاء للبحث والتفكر والحوار والاكتشاف.

         آلاف الناس قرأوا ابن خلدون، لكن قلة قليلة منهم انتبهت إليه كرحالة.. والفضل في هذا يعود إلى عالم كبير من المغرب هو ابن تاويت الطنجي. لكن من يحيي تراث العلماء الذين رحلوا عن عالمنا؟ لابد من أطر جامعة وفضاءات للحوار.

         ما جرى حتى الآن أن النظر إلى أدب الرحلة في المشرق قدم منفصلا عنه في المغرب، كما لو كانت الحركة الناظمة للسفر باتجاه أوربا والعالم مقطوعة بين جناحي الوطن العربي. لا أجزم تماما في هذا ولكنه انطباع لم أستطع تجنبه، وإن كان يحتاج إلى فحص وتدقيق. هذه مسألة تشغلنا، وفي عملنا سعي إلى رفع الالتباس، وجسر الفجوات.

         هناك إيجابية كبيرة يمكن البناء عليها، وأعني بها وجود أسماء ساطعة كابن بطوطة وابن جبير وبدرجة أقل العبدري تعتبر أحجارا ركنية في أدب الرحلة العربي عموما، لكن الانقطاع في الصلة تم خصوصا بعد سقوط الأندلس ولهذا دلالات بطبعية الحال.

         نتطلع من خلال عملنا إلى تأسيس مكتبة جغرافية عربية شاملة

سلسلة مائة رحلة عربية إلى العالم

         تأسست هذه السلسلة سنة 2001 وصدرت الأعمال الأولى منها في منتصف العام نفسه، وقد بيّنا في بيانات تأسيسها في حينه أنها تَهْدفُ بَعْثَ واحدٍ من أعرقِ ألوانِ الكتابةِ في ثقافتنا العربية، من خلال تقديم كلاسيكيَّاتِ أدبِ الرِّحلةِ، إلى جانب الكشف عن نصوصٍ مجهولةٍ لكتاب ورحَّالة عربٍ ومسلمينَ جابوا العالم ودوّنوا يوميَّاتهم وانطباعاتهم، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخَبِروهُ في أقاليمه، قريبة وبعيدة، لاسيما في القَرنين الماضِيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النُّخب العربية المثقفة، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنَّاس في الغرب، والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرةِ الاستشراق والمستشرقين الذين ملأوا دروبَ الشَّرقِ، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تُحصى عددا، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم، ومن منطلق المستأثر بالأشياء، والمتهيء لترويج صور عن شرق ألف ليلة وليلة تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم، وتُمهِّدُ الرأي العام، تاليا، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية، هي النموذجُ الأتمُّ لذلك. فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي لتؤسس للظاهرة الاستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.

         على أن الظَّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيَّة لمجتمعاتها جديدة عليها، وهو ما استفز فيها العصب الحضاري، لتجد نفسها تملك، بدورها، الدوافعَ والأسبابَ لتشدّ الرحال نحو الآخر، بحثا واستكشافا، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في حضارته، ونمط عيشه وأوضاعه، ضاربة بذلك الأمثال للناسِ، ولينبعث في المجتمعات العربية، وللمرة الأولى، صراع فكري حاد تُسْتَقْطَبُ إليه القوى الحيَّةُ في المجتمع بين مؤيد للغرب موالٍ له ومتحمِّسٍ لأفكاره وصياغاته، وبين معادٍ للغرب، رافض له، ومستعدّ لمقاتلته.

         وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين، عَبْرَ رسمِ صورٍ دنيا لهم، بواسطة مخيِّلةٍ جائعةٍ إلى السِّحري والأيروسيِّ والعجائبيِّ، كما هو الحال بالنسبة إلى مدونات فلوبير في القاهرة، وماركو بولو قبلا في رؤيته للشرقيين، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم، كما سيتَّضِحُ من خلال نصوص هذه السلسلة، ركّز، أساسا، على تتبع ملامح النهضة العلميَّة والصناعيَّة، وتطوّر العمران، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرَّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات، مدفوعين، غالبا، بشغف البحث عن الجديد، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط، من باب الفضول المعرفي، وإنما، أساسا، من بابِ طَلَبِ العلم، واستلهام التجارب، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالةِ الشَّلل الحضاريِّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا، على هذا المنقلب، نجُد أحد المصادر الأساسية المؤسِّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته، وهي نظرة المتطلِّع إلى المدنيَّة وحداثتها من موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة، المتحسِّر على ماضيه التليد، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.

         إن أحد أهداف هذه السِّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكَّل عن طريق الرحلة، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرَّحالة، والانتباهات التي ميَّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة، على هذا الصعيد، يشكِّل ثروة معرفيَّة كبيرة، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار، فضلا عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمُدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفسٌ تنفعل بما ترى، ووعي يلمُّ بالأشياء ويحلِّلها ويراقب الظواهرَ ويتفكَّرُ بها.

         أخيرا، لابد من الإشارة إلى أن هذه السِّلسة التي خططنا لها أن تبلغُ المائة كتابٍ، صدر منها حتى الآن حوالي الـ 25 كتابا من شأنها أن تؤسس، وللمرة الأولى، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريَّة تكشف عن همّة العربيِّ في ارتيادِ الآفاقِ، واستعداده للمغامرة من بابِ نَيل المعرفةِ مقرونة بالمُتعةِ، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربعِ جهات الأرض وفي قارّاته الخمس، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء، وغيرهم من الرَّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.

رحلات صدرت في سلسلة ارتياد الآفاق

* الذهب والعاصفة
1668-1683 م
رحلة إلياس الموصلي إلى أميركا
حررها وقدم لها: نوري الجراح
139 صفحة من القطع الكبير
* تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار
1183 - 1185
رحلة محمد بن جبير الأندلسي
حررها وقدم لها: علي أحمد كنعان
274 صفحة من القطع الكبير
* رحلة الحبشة 1896
صادق باشا المؤيد العظم
حررها وقدم لها: نوري الجراح
301 صفحة من القطع الكبير
* رحلتان إلى سورية 1908 - 1920
الشيخ محمد رشيد رضا، صاحب المنار
حررها وقدم لها: زهير ظاظا
215 صفحة من القطع الكبير
* رحلة الوزير في افتكاك الأسير 1690 - 1691
محمد الغساني الأندلسي
حررها وقدم لها: نوري الجراح
181 صفحة من القطع الكبير
* رحلة إلى أوربا 1912
جرجي زيدان
حرَّرها وقدَّم لها: قاسم وهب
121 صفحة من القطع الكبير
* رحلة ابن خلدون 1352 - 1401
عرضها بأصولها وعلق عليها: محمد بن تاويت الطنجي
حرَّرها وقدَّم لها: نوري الجراح
560 صفحة من القطع الكبير
* الرحلة الشامية 1910
الأمير محمد علي باشا
حرَّرها وقدَّم لها: علي أحمد كنعان
175 صفحة من القطع الكبير
* رحلة إلى أعالي النيل الأبيض
1839 - 1840
البكباشي سليم قبطان
حرَّرها وقدَّم لها: نوري الجراح
115 صفحة من القطع الكبير
* الديوان النفيس في إيوان باريس
رفاعة رافع الطهطاوي
حرَّرها وقدَّم لها: علي أحمد كنعان
320 صفحة من القطع الكبير
* خطرة الطيف 1347 - 1362
لسان الدين بن الخطيب
حقَّقها وقدَّم لها: د. أحمد مختار العبادي
173 صفحة من القطع الكبير
* رحلة الشتاء والصيف 1629
محمد بن عبد الله الحسيني
حرَّرها وقدَّم لها: سامر الشنواني
371 صفحة من القطع الكبير
* رحلة الغرناطي (تحفة الألباب ونخبة الاعجاب ورحلة إلى أوربة وآسية)
أبو حامد محمد الغرناطي
حرَّرها وقدَّم لها: قاسم وهب
190 صفحة من القطع الكبير
* النزهة الشهية في الرحلة السليمية 1855
سليم بسترس
حرَّرها وقدَّم لها: قاسم وهب
167 صفحة من القطع الكبير
* سياحتي في بلاد الهند الإنجليزية وكشمير 1913-1914
الأمير يوسف كمال
حرَّرها وقدَّم لها: جمال ملحم
251 صفحة من القطع الكبير
* رحلة المقدسي (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم)
985-990 م
محمد بن أحمد المقدسي
حرَّرها وقدَّم لها: شاكر لعيبي
515 صفحة من القطع الكبير
* رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة
921 م
أحمد بن فضلان
حرَّرها وقدَّم لها: شاكر لعيبي
151 صفحة من القطع الكبير
* رحلة إلى الهند 1899-1900
مارأثناسيوس أغناطيوس نوري
حرَّرها وقدَّم لها: نوري الجراح
160 صفحة من القطع الكبير
* رحلة المكناسي 1785
إحراز المعلى والرقيب
في حج بيت الله الحرام
وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب
محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي
حققها وقدّم لها د. محمد بوكبوط
421 صفحة من القطع الكبير
* الرحلة الأوربية 1919
محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي
حققها وقدّم لها د. سعيد الفاضلي
265 صفحة من القطع الكبير
* الرحلة التتويجية لعاصمة البلاد الإنجليزية 1902
الحسن بن محمد الغسال الطنجي
حققها وقدّم لها د. عبد الرحيم مودّن
110 صفحات من القطع الكبير
عناوين الدفعة الجديدة من السلسلة
إصدارات 2003
* رحلة مكاريوس إلى بلاد الروس >بطريرك حلب< 1765
بولس ابن مكاريوس الحلبي
تحقيق ودراسة: نوري الجراح
400 صفحة من القطع الكبير
* أسبوع في باريس 1922
محمد بن عبد السلام السائح
حققها وقدّم لها د. سليمان القرشي
حوالي 100 صفحة من القطع الكبير
* رحلة أفوقاي
ناصر الدين على القوم الكافرين 1613-1641
أحمد بن قاسم الحجري
حققها وقدّم لها د. محمد رزوق
150 صفحة من القطع الكبير
* رحلة محمد سعيد باشا إلى باريس 1720-1721
أخرجها الأب لويس شيخو
حرّرها وقدّم لها نوري الجرّاح
حوالي 120 صفحة من القطع الكبير
* الرحلة الأمريكية 1912
الأمير محمد علي باشا
حرَّرها وقدم لها علي كنعان
حوالي 150 صفحة من القطع الكبير
* الرحلة اليابانية 1909
الأمير محمد علي باشا
حرَّرها وقدَّم لها علي كنعان
حوالي 200 صفحة من القطع الكبير
* شرقية في إنجلترا 1922
عنبرة سلام الخالدي
حرَّرها وقدّم لها نوري الجرّاح
حوالي 80 صفحة من القطع الكبير
* رحلة الأمير بشير الأولى إلى مصر 1799
الشيخ سلّوم الدَّحداح
حرّرها وقدّم لها نوري الجرّاح
حوالي 100 صفحة من القطع الكبير
* البُرنس في باريس 1913
رحلة إلى فرنسا وسويسرا
محمد المقداد الورتتاني
حرّرها وقدم لها د. سعيد فاضلي
حوالي 250 حوالي 80 صفحة من القطع الكبير
* رحلة خضر الكلداني إلى أوربا 1724
من الموصل إلى رومية
حرّرها وقدّم لها نوري الجراح
حوالي 110 صفحات من القطع الكبير
* الارتسامات اللطاف
في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف 1929
شكيب أرسلان
حرّرها وقدّم لها أيمن حجازي
حوالي 400 صفحة من القطع الكبير
* السفر إلى المؤتمر 1892
أحمد زكي باشا
حرّرها وقدم لها نوري الجرّاح
حوالي 500 صفحة من القطع الكبير
* الرحلة السورية في الحرب العمومية 1916
القس بطرس خويري
حررها وقدّم لها قاسم وهب
حوالي 100 صفحة من القطع الكبير
* رحلتي حول العالم 1945
درّية شفيق
حرّرها وقّم لها نوري الجرَّاح
حوالي 120 صفحة من القطع الكبير
* أخبار الهند والصين
لمؤلف مجهول
حررها وقدّم لها د. شاكر لعيبي
حوالي 120 صفحة من القطع الكبير
* رحلة إلى بلاد المجد المفقود 1930
مصطفى فرّوخ
(مع مقدمة أصلية بقلم عمر فاخوري)
حرّرها وقدّها قاسم وهب
حوالي 120 صفحة من القطع الكبير

سلسلة (سندباد الجديد)

         تأسست هذه السلسلة مطلع سنة 2003، وصدر منها حتى الآن 10 عناوين وتهدف تقديم نماذج معاصرة من أدبِ الرِّحلةِ العربي، وهي سلسلة موازية للسلسلة التراثية(مائة رحلة عربية إلى العالم)التي شرعنا في إصدارها بدءا من العام 2001.

         تهدف هذه السلسلة إلى حض الكتاب والمبدعين العرب على تدوين يومياتهم في الأسفار، واحتضان النصوص الحديثة في أدب الرحلة العربي، وكذلك نصوص الكتاب العرب عن المكان، والنصوص الأدبية المستلهمة من الأسفار في مسعى قصده تشجيع المؤلفين على مقاربة هذا اللون من الأدب القائم على الخبرات الشخصية في العلاقة مع المكان، والحركة عبره، والإطلال على الطبيعة والناس والعمران وما تذخر به الحياة الحديثة في الجغرافيات المختلفة من اختلاف في أحوال الإنسان، معاشِه ونشاطِه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وميولِه وعاداتِه وتقاليدِه وحياتِه الروحية.

         معروف أن يوميات المسافرين ومدوناتهم الشخصية تشكل في الثقافات الأخرى مكتبة قائمة في ذاتها، وتعتبر كتب أدب الرحلة من أمتع المؤلفات وأكثرها رواجا على اختلاف قيمتها الأدبية، وتنوع الموضوعات التي طرقها كتابها. وهذه الحقيقة تجعلنا نتساءل: هل هناك أدب رحلة عربي جديد، له ملامح وسمات مميزة عن تلك التي ظهرت في كتابات الرحالة العرب حتى مطلع القرن العشرين؟

         مثل هذا السؤال ستجيب عنه هذه السلسلة الأولى من نوعها بالعربية. لن نستبق الإجابة، وسنترك للقراء والباحثين العرب أن يجيبوا بأنفسهم عن هذا السؤال.

         على أن هذه السلسلة من شأنها أن تفتح أبوابا عدة، منها ما يفضي إلى إمكان المقارنة بين نظرة المسافر العربي المعاصر بوسائل وإمكانات حديثة وبين الرحالة العرب القدامى والوسيطين الذين تجشموا عناء السفر وصولا إلى الآخر بإمكانات بسيطة، كانت أقصى ما أتاحته لهم ظروف زمانهم. ومن شأنها أيضا أن تجدد دم الرغبة في استكشاف الآخر، وتردم الفجوة الكبيرة بين أدب الرحلة العربي الموضوع حتى مطلع القرن العشرين، وبين كتابات الحاضر التي عادت إلى الظهور بعد غياب لهذا اللون الأدبي استمر أكثر من نصف قرن.

         من شأن هذه السلسلة أن تبني جسورا بين أطراف الجغرافيات العربية وثقافاتها، وبين العالم العربي وجغرافيات العالم، وتحكم ربط العالقات الجمالية والفكرية بين ادب الرحلة الحديث وكتابات رحالة النهضة ومسافريها التي أثرت المكتبة العربية بعدد من المؤلفات لأحمد فارس الشدياق، محمد عبد الله الصفار، محمد الحجوي أبو جمال الفاسي، فرانسيس المرَّاش، سليم بسترس أحمد زكي باشا، إدوارد بك الياس، محمد لبيب البتنوني، جرجي زيدان، محمد كرد علي، محمد عياد الطنطاوي، الأمير محمد علي، مصطفى فروخ، عنبرة سلام الخالدي، محمد رشيد رضا الأمير يوسف كمال، محمد ثابت، لويس شيخو، طه حسين، ومحمود تيمور... وغيرهم.

         ما نراه أن ضمور أدب الرحلة واختفائه تقريبا طوال النصف الثاني من القرن الماضي كان من بين أسبابه انقطاع الثقافة العربية إلى البحث الفكري والكتابات الأيديولوجية في حمأة صراع سياسي واجتماعي عربي محتدم، إضافة إلى ظهور الرواية وانتشارها الواسع في النصف الثاني من القرن نفسه. وهكذا غفا السندباد واختفى أدب الرحلة، ولم تعد الكتابة في هذا الميدان تشكل ظاهرة أدبية يمكن الإشارة إليها، والاعتداد بها.

نطمح أن تكون هذه السلسلة من الكتب مؤشرا على يقظة السندباد.
عناوين الدفعة الأولى من السلسلة:

* كمال الطيب يس (السودان)
جولات إفريقية
من مابوتو إلى بونجول
* شاكر لعيبي (العراق)
حسرة الياقوت في حصار بيروت
*حسين الصباغ
يوميات سفير عربي في الصين
* خليل النعيمي (سورية)
من نواكشوط إلى استانبول
مخيلة الأمكنة
* ابرهيم عبد المجيد (مصر)
أين تذهب طيور المحيط؟
من الإسكندرية إلى موسكو
* عبد الكريم الجويطي (المغرب)
زهرة الموريللا الصفراء
رحلة مغربية في قوارب الموت
* يوسف المحيميد(السعودية)
النخيل والقرميد
بين البصرة ونورج
* عبد العزيز المسلّم (الامارات)
مدائن الريح
رحلات حول العالم
* أحمد راشد ثاني (الامارات)
رحلات بين أبو ظبي وخورفكّان
* عيسى الناعوري (الأردن)
رحلة إلى إيطاليا
تحقيق تيسير نجار
* إحسان خلوصي (سورية)
من دمشق إلى سمرقند
رحلة إلى أوزبكستان
* محمد هريدي (مصر)
هِبَة الجبل
رحلة إلى لبنان
* محمد ولد عبدي (موريتانيا)
فتنة الأثر
على خطى ابن بطوطة في الأناضول
* خالد النجار (تونس)
رحلة إلى أرض الهنود الحمر
* محمد الحارثي (عمان)
عين وجناح

رحلات في إفريقيا وآسيا وأوربا وأمريكا
سلسلة (دراسات في الأدب الجغرافي)

         تأسست هذه السلسلة مطلع العام الجاري وتهدِفُ إلى تزويد المكتبة العربية بالدراسات الخاصة بالأدب الجغرافي، وإثارة اهتمام أكبر لدى أبناء ثقافتنا بهذا الفضاء المتروك مقصورا على قلة من الدارسين وراء أسوار الأكاديمية، وإلى تجديد الانشغال لدى المثقفين والمبدعين العرب بموضوعات الأدب الجغرافي التي كاد قرن عربي من حصر الفكر بالأيديولوجيا أن يجعله بعيدا تماما عن الأذهان.

         ولعل من المهم بالنسبة إلينا في مشروع (ارتياد الآفاق) أن نشير إلى أن أحد أبرز حوافزنا لإخراج هذه السلسلة إلى النور هو ما لمسناه من حاجة ملحة لرفد نصوص أدب الرحلة التي أخذت تظهر تباعا في سلسلة (مائة رحلة عربية إلى العالم) بأعمال بحثية ودراسات تشق لهذه السلسة الطريق إلى الذائقة بصورة أفضل، وتضيء في الوقت نفسه الآثار الجليلة التي أنجزها الرحالة والجغرافيون العرب والمسلمون على مدار أكثر من عشرة قرون هي عمر مجمل التيارات التي برزت في الأدب الجغرافي العربي، وجل هذه المؤلفات مجهول من السواد الأعظم من القراء العرب، بل ويكاد يكون غير حاضر بالصورة التي يستحقها في ثقافة بعض أفضل القراء العرب.

         سيكون من شأن هذه السلسلة أن تعنى، على مستويات عدة، ومن زوايا نظر مختلفة، بشتى ما تثيره موضوعات الأدب الجغرافي المدونة بالعربية من تفكر وانشغال وبحث ومغامرة في طرح السؤال. وينطبق هذا على الدراسات التي ينجزها الدارسون بدءا بأدب الرحلة، وحتى كتب الفضائل، مرورا بالمصنفات التي عنيت بالإثنوغرافيا والكوزموغرافيا والكارتوغرافيا والأقيانوغرافيا، وغيرها مما يدخل في باب الأدب الجغرافي في اتجاهاته المختلفة عبر العصور.

         عندما نثير السؤال عن مقومات أدب الرحلة، فإن من شأن الدراسات المنتظرة أن تساهم في تفكيك الأسس التي نهضت عليها نظرة العربي إلى الآخر بعيدا وقريبا، وتقف على المشكلات العميقة التي تثيرها موضوعة الآخر في الثقافة، وذلك من خلال التشاكل مع الأسئلة المختلفة التي تثيرها النصوص المتراكمة عبر القرون.

         وعندما نتحدث في الكوزموغرافيا، فإن عالما مجهولا من الانشغال بالكون والوجود سوف يتجلى لنا.

         وعندما نتحدث في الإثنوغرافيا والكارتوغرافيا، فإن أنماطا من الوعي بالعالم، بالشعوب والحضارات ينهض هناك. فنحن في صلب الحديث حول المسافات والأبعاد والحدود والمعالم لإنسان يتفحص موطيء قدميه على الكوكب، ويسعى جاهدا لإدراك معنى وجوده من خلال ما يدركه من اختلافِ الوجود المختلف لبقية أبناء السلالة البشرية، إن في مسائل الغيب أو في مواضعات الوجود.

         وعندما نتحدث عن كتب فضائل المدن، وهناك من يستبعدها من الأدب الجغرافي، فنحن نتحدث عن أعمال تمزج بين الأدب والتاريخ في تركيزها على المكان المديني. وهي مستوى من مستويات انشغال الثقافة العربية بالمكان لا يقل شأنا عن غيره.

         وعندما نتحدث عن الأقيانوغرافيا، فإن مسافات من الأمواه وعلاقات تفلسف الجدل بين الحضور والخفاء وبين المدرك في المنظر والمدرك بالفكر وقوة المخيلة مما يشكل تلك الزرقة اللانهائية التي شغلت الجغرافيين القدامي، والتهمت المغامرين من بحارة ومسافرين.

         على هذه الخلفية ندعو في مشروع (ارتياد الآفاق) الدارسين العرب المعنيين بهذا الحقل، على اختلاف مرجعياتهم ومناهجهم في البحث، إلى إثراء هذا المسعى بأعمال البحث والتحقيق، لنتمكن معا من استعادة الإرث الجغرافي العربي والإسلامي إلى خزانة الكتب العربية عبر وعي متجدد به، وبموضوعاته، وهو ما يساعد على ربط هذه المعرفة المنجزة بالمعرفة الجغرافية المعاصرة، وبالتالي تمكين القارئ من بناء تصورات حديثة حول أدب السفر وأدب العلاقة مع المكان، وهو ما من شأنه أن يبلور وعيا أفضل للإنسان بعالمه.

عناوين في السلسلة:

* تاريخ الأدب الجغرافي العربي (مجلدا)
أغناطيوس كراتشكوفسكي
نقله إلى العربية: صلاح الدين عثمان هاشم
راجع وقدّم له: محسن خالد
* الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر
مستويات السرد
د.عبد الرحيم مودن
* أوربا في مرآة الرحلة
صورة الآخر في في أدب الرحلة المغربية المعاصرة
د. سعيد بنسعيد العلوي
* الرحلة المغربية في القرنين 11 12 هـ
محمد ماكامان
* الرحالة اليمنيون ورحلاتهم شرقا وغربا
عبد الله الحبشي
* الرحالة العرب
نقولا زيادة

موسوعة الرحلة إلى بيت المقدس

         موسوعة شاملة بالعربية تستند إلى المخطوطات العربية والإسلامية المتوافرة في خزائن المخطوطات في العالم، والمتعلقة بالحج ورحلات العلماء والأدباء إلى بيت المقدس إلى جانب ترجمة أعمال الرحالة الأوربيين إلى القدس.

         تهدف هذه الموسوعة القائمة على أدب الرحلة والأدب الجغرافي جمع وتحقيق كل ما له علاقة ببيت المقدس والأراضي المقدسة في فلسطين منذ أقدم الرحلات إلى هذه الديار وحتى الرحلات التي قام بها الأدباء والحجاج والسفراء والسائحون في القرن العشرين، بما يشكل موسوعة معرفية متكاملة تكشف عن جغرافيا الديار المقدسة وموقعها الروحي والفكري والأدبي عبر العصور بالنسبة إلى مختلف الأمم والثقافات التي عنيت بها.

         تقوم الموسوعة على ثلاثة مكونات * مؤلفات الرحالة والحجاج والجغرافيين البلدانيين العرب.
* مؤلفات الرحالة والحجاج والمتصوفة والجغرافيين والبلدانيين المسلمين (في اللغات الفارسية والتركية والأوردو وغيرها).
* مؤلفات الرحالة والحجاج والسفراء والقناصل الأوربيين.

         ستزود الموسوعة بالخرائط الإسلامية والأوربية والرسوم والصور المتعلقة بالأمكنة (لفنانين عرب ومسلمين ومستشرقين أوربيين)، وبفهارس للأعلام والأماكن وكشاف حضاري شامل (Glossary) والهوامش الضرورية، وكل ما من شأنه أن يجعلها مرجعا علميا معتمدا من المراكز الأكاديمية.

         ستصدر الموسوعة تباعا في صيغتين ورقية وإلكترونية (أقراص مدمجة) بدءا من سنة 2004، وتحتوي على المادة المكتوبة والرسوم والخرائط والصور، فضلا عن مختارات صوتية من نصوصها في صيغة الـAudio Books.

         سينشأ موقع للموسوعة على الإنترنت تتوافر فيه مادة موسوعية باللغة العربية للنصوص العربية وبلغات متعددة بالنسبة إلى المادة الموضوعة في اللغات الأخرى (وفي مرحلة لاحقة ستنجز ترجمة إلى الإنجليزية للمادة العربية) وسيزود موقع الموسوعة على الإنترنت ببرنامج بحث متطور يلبي وظائف متعددة لمستخدمي الموسوعة.

         نتطلع إلى إنجاز الموسوعة في غضون خمس سنوات، وقد مضى على العمل في التأسيس لها عام واحد تم خلاله استجلاء المصادر المختلفة عربية وإسلامية وأوربية، والحصول على الجزء الأكبر من المادة المخطوطة والمطبوعة.

         يقوم العمل في الموسوعة على كاهل فريق من المحققين والعلماء العرب المختصين بالثقافة الجغرافية وبالأدب الجغرافي ورسامي الخرائط الذين درسوا جغرافيا ديار الإسلام من أساتذة جامعات وعلماء، إلى جانب فريق من المحررين واللغوين والمترجمين العرب الأكفاء ممن يتعاونون مع (دار السويدي) ومشروع (ارتياد الآفاق) في أبو ظبي وبيروت ودمشق والرباط والقاهرة وعمان وطهران وكامبردج وموسكو وباريس وبرلين وغيرها من المدن والعواصم حيث ينتشر المتعاونون مع المشروع، ويربو عدد هذا الفريق على 70 مشاركا، ينسق عملهم ويربط في ما بينه نواة محركة مقرها (دار السويدي) في أبو ظبي، وهي عبارة عن مركز جغرافي عربي ناشط في حقل الآداب والعلوم الجغرافية.

         ويكون صدور الموسوعة تباعا... بدءا من أواخر سنة 2004.. ويستمر حتى 2008 لتضم بذلك كامل المؤلفات الموضوعة في هذا الميدان عبر أكثر من 10 قرون.

         بإنجاز هذا المشروع تتوفر المكتبة العربية على كنز فكري وأدبي أنتجته الأمم عبر قرون ولايزال أغلبه في المخطوطات، أو هو خارج التداول، وبالتالي نتطلع إلى أن تكون هذه الموسوعة بمنزلة ذخيرة للمسلمين والمسيحيين وللثقافة العربية تمكن من وضع الأراضي المقدسة في متناول وعي الأجيال المقبلة، بصورة موسوعية بصفتها مكانا استثنائيا تتقاطع عنده ثقافات العالم، ناهيك عما يقدمه هذا العمل من خدمة جليلة لأهل بيت المقدس (حاضرة فلسطين) في معركة تأكيد عروبة المدينة والحق التاريخي والقانوني للعرب في السيادة عليها.

ملحوظة:

         تجدر الإشارة إلى أن الدار فتحت الباب لتلقي الأعمال التي يمكن أن تندرج في المشروع، وكذلك اقتراحات الآكاديميين والمثقفين المعنيين بفكرة الموسوعة.. وهي تتلقى مقترحاتهم وأفكارهم على العنوان الإلكتروني: [email protected]

         الموسوعة الإسلامية لرحلات الحج في حوالي 70 مجلدًا

         أنجز مشروع (ارتياد الآفاق) خطة متكاملة لتحقيق المخطوطات العربية والإسلامية المتوفرة في خزائن المخطوطات في العالم، والمتعلقة بالحج ورحلات العلماء والأدباء إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.

         وتهدف الموسوعة التي ينتظر أن يبلغ عدد مجلداتها أكثر من 70 مجلدًا حماية لهذا التراث العربي الإسلامي والكشف عن المجهول منه وتحقيقه ودراسته ونشره وفق أحدث طرق النشر الورقي والإلكتروني تمهيدا لوضعه في متناول الأجيال العربية.

         تغطي هذه الموسوعة الرحلات التي قام بها الرحالة العرب والمسلمون من علماء وأدباء، وشعراء ومتصوفة وسائر من أدى فريضة الحج وألف كتابا ينتمي إلى ما يعرف بأدب الرحلة إن باللغة العربية أو في اللغات الأخرى، وتشمل النصوص التي وضعها الرحالة والحجاج إلى مكة والمدينة المنورة أكانوا من الشام أو مصر أو المغرب العربي أو شرق إفريقيا، أو غيرها من دول العالم الإسلامي.

         وتشمل الموسوعة النصوص التي كتبت عبر أكثر من 10 قرون.. ومن ضمنها كتابات الرحالة المعروفين إلى جانب الأقل شهرة منهم.. وستزود الموسوعة بالرسوم والخرائط الضرورية والصور النادرة، وكذلك بالملاحق والفهارس التي ترصد (وتوثق) مجتمعة لطرق الحج، والمحامل الأساسية، كمحمل الحج الشامي، ومحمل الحج المصري، ومحمل الحج المغربي، إلخ... إضافة إلى وضع رسوم وخرائط لطرق الحج، وذلك وفق خطة أكاديمية شاملة يشارك فيها فريق عمل كبير من الأكاديميين والمحققين والمترجمين والدارسين المتضلعين بتحقيق المخطوطات من مختلف أنحاء العالم العربي. ستتألف الموسوعة من حوالي 70 مجلدًا تضم النصوص العربية والنصوص المترجمة من اللغات الأخرى، كالتركية والفارسية ولغة الأوردو، أساسا ثم اللغات الأخرى التي كتب بها الحجاج رحلاتهم، كاللغات الألبانية والروسية، والصينية وغيرها من اللغات التي تنطق بها جاليات إسلامية، فضلا عن اللغات الأوربية التي ألف بها الحجاج المسلمون من الأوربيين.

         من شأن هذه الموسوعة التي توضع للمرة الأولى بالعربية أن ترفع من شأن الإسلام المعرفة به، وأن تشكل كنزا جغرافيا، وأدبيا وعلميا ودينيا لكل باحث عن المعرفة، والهدف الرئيسي من هذه الموسوعة هو تركيز معرفة عميقة بثقافة العلماء والمفكرين والأدباء والدعاة العرب والمسلمين الذين ارتبطت أسماؤهم بالحج وثقافته. وأن تركز صورة أكثر وضوحا وحضارية للإسلام والمسلمين عبر العصور.

فريق العمل

         يقوم العمل في هذه الموسوعة الشاملة على جهود فريق من المحققين والعلماء العرب المختصين بالثقافة الجغرافية، وبالأدب الجغرافي ورسامي الخرائط الذين درسوا جغرافيا ديار الإسلام من أساتذة جامعات وعلماء إلى جانب فريق من المحررين واللغوين والمترجمين العرب الأكفاء ممن يتعاونون مع (دار السويدي) ومشروع (ارتياد الآفاق).

         وقد تشكل لهذا الغرض من بين العلماء والأكاديميين العرب هيئة استشارية إلى جانب هيئة تحرير (ارتياد الآفاق). وسوف تصدر مجلدات الموسوعة بدءا من نهاية سنة 2004.. ويستمر صدورها تباعا حتى 2010 لتضم بذلك كامل المؤلفات الموضوعة في هذا الميدان عبر أكثر من 10 قرون.

         وبذلك يقدم مشروع (ارتياد الآفاق) للمكتبة العربية ولثقافة الإسلام والمسلمين كنزا فكريا وأدبيا لا نظير له في الثقافات الأخرى. فظاهرة الحج والأدب الذي أنتجته عبر القرون وما يزال أغلبه في المخطوطات، وهو بمنزلة ذخيرة للإسلام والمسلمين، توضع في ضوء الحاضر، وفي متناول الأجيال.

(جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي)

         جائزة سنوية تمنحها (دار السويدي) لأفضل الأعمال المحققة في أدب الرحلة والمؤلفات الجغرافية العربية والإسلامية قديما، ووسيطا، وحديثا ولأفضل كتاب جديد في أدب الرحلة المعاصرة وأفضل كتاب في الدراسات الجغرافية

         تأسست هذه الجائزة في إطار مشروع (ارتياد الآفاق) مطلع العام 2003 وتمنح سنويا لأفضل الأعمال المحققة في أدب الرحلة, وللدراسات في الأدب الجغرافي، وتأتي انسجاما مع طموحات الدار في إحياء الاهتمام بالأدب الجغرافي.

         وقد فاز بالجائزة عن دورتها الأولى ثلاثة من المحققين المغاربة هم د. محمد بوكبوط، ود. سعيد فاضلي، ود. عبد الرحيم مودّن، والشاعر العماني محمد الحارثي.

المخطوطات الفائزة

         * مخطوطة لا تقل صفحاتها الأصلية عن 200 صفحة: فاز بها مخطوط رحلة (إحراز المعلى في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب) 1785 لمحمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي. قام بالتحقيق د. محمد بوكبوط (المغرب)

         * مخطوطة لا تقل صفحاتها الأصلية عن 150 صفحة: فاز بها مخطوط (الرحلة الأوربية) 1919 لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي. قام بتحقيق المخطوط د. سعيد فاضلي (المغرب).

         * مخطوطة لا تزيد صفحاتها الأصلية عن 100 صفحة: وفاز بها مخطوط (الرحلة التتويجية لعاصمة البلاد الإنجليزية) 1902 للحسن بن محمد الغسال. قام بالتحقيق د. عبد الرحيم مودن (المغرب).

جائزة الرحلة المعاصرة

         أما جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة، وهي جائزة تمنحها (دار السويدي) عن أفضل كتاب في أدب الرحلة يضعه كاتب معاصر فاز بها الشاعر العماني محمد الحارثي عن كتابه (عين وجناح- رحلات في الجزر العذراء، زنجبار، تايلاند، فيتنام، الأندلس، والربع الخالي).

لجنة التحكيم

         وحول حيثيات الجائزة وهوية لجنة التحكيم للدورة الأولى فقد تشكلت لجنة التحكيم من 5 أعضاء هم د. شعيب حليفي (المغرب)، د. محمد لطفي اليوسفي (تونس)، الشاعر علي كنعان (سورية) د. شاكر لعيبي (العراق)، د. عبد النبي ذاكر (المغرب). وبلغ عدد المخطوطات المشاركة 22 مخطوطا جاءت من 7 بلدان عربية، توزعت على الرحلة المعاصرة بصورة أكبر وعلى المخطوطات المحققة بصورة أقل. وقد جرت تصفية أولى تم بموجبها استبعاد الأعمال التي لم تستجب للشروط العلمية المنصوص عنها بالنسبة إلى التحقيق، واستبعاد ما غاب عنه المستوى بالنسبة إلى الجائزة التي تمنحها الدار للأعمال المعاصرة. وقد نزعت أسماء المشاركين من المخطوطات قبل تسليمها لأعضاء لجنة التحكيم لدواعي السريّة وسلامة الأداء.

توزيع الجوائز في المغرب

         المؤلفات الأربعة الفائزة صدرت في سلسلتي (ارتياد الآفاق) و(سندباد الجديد)، وتم اعتماد نشر عدد من المخطوطات التي جرى التنويه بها لقيمتها الأدبية في سلسلة ( سندباد الجديد)التي استحدثتها الدار أخيرًا لتضم أدب الرحلة المعاصر والجديد. وجرى توزيع الجوائز على الفائزين في احتفال أقيم في الرباط خلال ندوة (الرحالة العرب والمسلمون: اكتشاف الآخر-المغرب منطلقا وموئلا) التي عقدت في أيام 14-15-16 نوفمبر الماضي وأشرف على تنظيمها مشروع (ارتياد الآفاق) بالتعاون مع (وزارة الثقافة المغربية) وشارك في أعمالها عدد كبير من الأكاديميين والدارسين في حقل الأدب الجغرافي وحملت الدورة التأسيسية للندوة اسم (دورة ابن بطوطة). وقد انعقدت الندوة في إطار احتفالات الرباط عاصمة الثقافة العربية. وقد أعلن راعي مشروع ارتياد الآفاق( وجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي) عن أن الدورة الثانية للندوة ستعقد في أبو ظبي 2004. وستشهد الدورة احتفالية كبيرة في تكريم الرحالة العربي الكبير شمس الدين الطنجي ابن بطوطة في مناسبة مرور 700 سنة على ولادته.

عن الجائزة

         أثبتت الجائزة في دورتها الأولى التوقعات المتفائلة لمشروع تنويري عربي يستهدف إحياء الاهتمام بالأدب الجغرافي من خلال تحقيق المخطوطات العربية والإسلامية التي تنتمي إلى أدب الرحلة والأدب الجغرافي بصورة عامة، من جهة، وإلى تشجيع الأدباء والكتاب العرب على تدوين يومياتهم في السفر. فضلا عن ترجمة التراث الإنساني في أدب الرحلة الموضوع في اللغات الأخرى.

         فالهدف الأساس من الجائزة هو تشجيع أعمال التحقيق والتأليف والبحث في هذا الميدان المهمل، إلى جانب إيمان (دار السويدي) بضرورة الإسهام في إرساء تقاليد حرّة في منح الجوائز، وتكريسا لعرف رمزي في تقدير العطاء الفكري، بما يؤدي بالضرورة إلى حفز الهمم لنبش المخبوء والمجهول من المخطوطات العربية والإسلامية الموجود في كنف المكتبات العربية والعالمية، وإخراجه إلى النور، وبالتالي إضاءة الزوايا الظليلة في الثقافة العربية عبر علاقتها بالمكان، والسفر فيه، والكشف عن نظرة العربي إلى الذات والآخر، من خلال أدب الرحلة، بصفته من بين أبرز حقول الكتابة في التراث العربي، لم ينل اهتماما يتناسب والأهمية المعطاة له في مختلف الثقافات.

         وما نراه أن أهمية هذا المشروع تتزايد في ظل التطورات الدراماتيكية التي يشهدها العالم، وتنعكس سلبا على علاقة العرب والمسلمين بالجغرافيات والثقافات الأخرى، فالأدب الجغرافي العربي (وضمنا الإثنوغرافيا العربية) من شأنه أن يكشف عن طبيعة النظرة والأفكار التي كوّنها العرب والمسلمون عن (الآخر) في مختلف الجغرافيات التي ارتادها رحالتهم وجغرافيوهم ودوّنوا انطباعاتهم عنها، وعن التصورات الخاصة بالعرب عن الحضارة الإنسانية والاختلاف الحضاري.

         لم يكن مفاجئا لنا أن تكون المخطوطات الثلاث الفائزة بالجائزة من المغرب، فالمغرب الذي أخرج ابن بطوطة أخرج العديد من الرحالة والجغرافيين الكبار من أمثال ابن جبير والعبدري والعياشي والحسن الوزان والإدريسي صاحب خارطة الأرض، وصولا إلى رحالة القرون الثلاثة الماضية الذين جددوا بأعمالهم فكرة السفر إلى ديار الآخر غربا وشرقا، والرؤية إلى الذات من خلال مرايا الآخرين.

         وعلى صعيد البحث في الفنون والآداب الجغرافية لابد منتثمين نشاط الحركة الأكاديمية المغربية والنشاط الملحوظ للدارسين والأكاديميين المغاربة في أقسام التاريخ في الجامعات ومراكز البحث المختلفة في المغرب، ومن ثم الانتباه إلى ما يتمتع به هؤلاء من وعي استثنائي بالأهمية التي يشغلها حقل الأدب الجغرافي. فضلا عن تبنيهم مناهج حديثة في قراءة النصوص والظواهر التي تتكشف عنها.

فتح باب قبول الطلبات للدورة الثانية للجائزة

         وبالإعلان عن نتائج الجائزة تعتبر (دار السويدي) باب قبول الطلبات للدورة الثانية للجائزة مفتوحا منذ الآن، ومن شروط الاشتراك بها:

- أن يكون النص محققا وفق قواعد التحقيق العلمية المعتمدة في الأوساط الأكاديمية.
- تقبل المخطوطات التي هي رسائل أكاديمية لنيل درجات علمية.
- من حق الجهة المانحة للجائزة إجراء التعديلات الفنية التي تراها مناسبة على النص الفائز ليتوافق وصيغة النشر المعتمدة من الدار بالاتفاق مع المؤلف أو المحقق.
- أن يرسل النص في نسخة ورقية واحدة مرفقة بنسخة إلكترونية.

         تستقبل النصوص على عنوان (دار السويدي) في أبو ظبي ص.ب 44480 أو على البريد الإلكتروني: [email protected] وتقبل طلبات المشاركة حتى موعد أقصاه 1/3 من كل عام.

         جائزة للدراسات الجغرافية وبسبب من الأسئلة المتكررة التي وردت إلى الدار حول ما إذا كان يمكن للجائزة أن تنسحب على الدراسات الموضوعة في هذا الحقل، فقد قررت (دار السويدي) استحداث جائزة خامسة تمنح سنويا للدراسات الموضوعة في حقل الأدب الجغرافي. وسوف تعلن الدار لاحقا عن شروط الاشتراك فيها.

         فيما يلي مختصر عن آراء لجنة التحكيم في المخطوطات الثلاث الفائزة ويليها نبذة من الدار عن اختيار نص رحلة الشاعر محمد الحارثي للفوز بجائزة ابن بطوطة للرحلة الحديثة

أولا:

رحلة المكناسي 1785
تحقيق د. محمد بوكبوط
* د. شعيب حليفي

         عن الرحلة:

         العناصر التي تبرز أهمية وقيمة هذا النص متعددة لكون الفترة التاريخية وخط سير الرحلة عاملين أساسيين وحاسمين، إذا ما أضفنا عنصرا ثالثا يتمثل في مؤلف الرحلة ابن عثمان المكناسي, السفير الأديب الذي يملك رصيدا ثقافيا مهما وحنكة ديبلوماسية.

         عن التحقيق:

         المحقق كان صائبا في مرحلتين: تحقيق النص وضبطه ثم التقديم له وبناء جسور دقيقة ومتينة لفهمه والتواصل معه. والمقدمة التي مهدت للتحقيق كانت جيدة تتم عن دراية شاملة.

         * د. محمد علي اليوسفي

         عن الرحلة:

         يستمد هذا العمل قيمته الفكرية والأدبية والتاريخية من كون المؤلف لم يكتف بوصف الأماكن والأمصار التي زارها بل وسع دائرة الجنس الأدبي الذي يكتب فيه أي الرحلة. فهي سياحة في المكان والفكر معا. فقد ضم النص أراء وتأملات فكرية وأدبية.

         عن التحقيق:

         تمكن المحقق في المقدمة التي وضعها من الإحاطة بتغريبة الكتاب وتغريبة منتجه إذ كشف عن الغبن الذي تعرض له طيلة أحقاب ظل الكتاب خلالها يقتبس إلى النهب دون ذكر له أو لمؤلفه. في حين ينهض هذا التحقيق على دقة علمية واضحة، وحرص على التمسك بالضوابط الأكاديمية.

         إن إخراج كتاب (كتاب إحراز المعلى) من العتمة إلى ضوء النهار من شأنه أن يثري المكتبة العربية ويرد الاعتبار للنص ومنتجه. وهذا العمل يستحق فعلا أن ينال الجائزة التي رشح لها عن جدارة واقتدار.

         * أ. علي كنعان

         عن الرحلة:

         عمل جدير بنيل الجائزة لعدة أسباب، منها: أنها من كنوز الخزائن المغربية المكنونة في مخطوطات لم تنشر من قبل، وهي ترصد مرحلة مهمة من تاريخ الدولة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر خلال الصراع العثماني الروسي.

         عن التحقيق:

         يبدو جهد المحقق جليا وكبيرا في دراسة النص وفحصه، بنسختيه (أ) و(ب)، وتعليق حواشيه وإلقاء مزيد من الضوء على حياة المؤلف ومكانته العلمية والدبلوماسية (...) وتقصّي مختلف الإشارات والدراسات القديمة والحديثة التي تناولت هذا النص كليا أو جزئيا.

         * د. شاكر لعيبي

         عن الرحلة:

         عنصران قويان يمنحان هذه الرحلة قيمتها الأدبية والأرشيفية، الأول: يتعلق بالمساهمة السياسية الكبيرة لمؤلفها في صنع الأحداث في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. والثاني: الثقافة العالية للمصنّف ودقة ملاحظاته ورصوداته.

         عن التحقيق:

         سعى المحقق بقدر كبير من المهارة والدقة والمنهجية في إخراج العمل بأحسن الهيئات الممكنة. فقد نقّب وتابع أسماء الأعلام الواردة في نص المخطوطة ووثقها وعاود التحقّق منها، كما عاود التأكّد من الكلمات غير العربية التي يستخدمها المؤلف مما كان شائعا في عصره بتأثير الهيمنة التركية كالقشلة والأكراك وأركلة.

         * د. عبد النبي ذاكر

         عن الرحلة:

         قيمة هذه المخطوطة تكمن في كونها رحلة شاملة إلى حد ما، جمعت بين الرحلة الحجية والزيارية والسفارية (...) صاحب النص دبلوماسي مغربي محنك ينتمي لأواخر القرن الثامن عشر، راسخ القدم في أدب الرحلة يشهد لذلك تصنيفه لرحلتين أخريين.

         عن التحقيق:

         تحقيق علمي أكاديمي رصين، نهض على التعريف بأهمية الـمخطوط , وقيمة صـاحبه، وسـرد منـهج التـحقيق المتمثل في المقابلة بين نسختين مخطوطتين.

ثانيا:

         الرحلة الأوربية 1919
تحقيق د. سعيد الفاضلي
* د. شعيب حليفي

         عن الرحلة:

         هذا النص الرحلي شهادة متعددة الأوجه والقراءات عن طموح العالم إلى مستقبل من دون حروب, واستمرار ارتباط أوربا بمستعمراتها. من جانب آخر تبرز الرحلة بجلاء وجهـة نظر صريحة من طرف مؤلفها الحجوي، المثقف السياسي المتفتح، ووعيه الداعي إلى الاقتداء بحداثة الغرب.

         عن التحقيق:

         جيد على جميع المستويات ويحترم قواعد التحقيق خصوصا وأنه معزز بالهوامش الشارحة والتعليقات المفيدة والمفسرة فضلا عن التقديم والفهارس المدققة.

         * د. محمد لطفي اليوسفي

         عن الرحلة:

         ترجع أهمية هذا الكتاب إلى كون مؤلفه مغربيا من عملاء الاستعمار الفرنسي. حتى أن المغاربة امتنعوا عن الصلاة في المكان الذي دفن فيه. الكتاب يمثل من هذا المنظور وثيقة فكرية وتاريخية مهمة. إنه يتنزل في صميم ما يمكن أن ننعته بالخطاب الاستشراقي العربي الذي يرى في الغرب دار السعادة القصوى ويحرص على استنساخ القيم الغربية والحضارة الغربية وجعل الشعوب العربية تخجل بانتمائها الحضاري فتسعى إلى تبديله.

         عن التحقيق:

         مقدمة التحقيق علمية على نحو صارم، ثمة ضبط علمي للهوامش فهي حافلة بما يجعل منها دليلا مهما ييسر القراءة على القارئ.

         عمل جدير بالتقدير وبنيل جائزة عربية.

         * أ. علي كنعان

         عن الرحلة:

         أهمية هذه الرحلة نابعة من أهمية المرحلة التاريخية التي ترصدها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فضلا عن المكانة السياسية والأدبية لكاتبها وهاجسه التنويري.

         عن التحقيق:

         المحقق درس النص بأناة بالغة وعلق حواشيه وأوضح خفاياه بشروح مستفيضة وعرف بالأعلام الجغرافية والتاريخية، فأضفى عمله على الرحلة أهمية كبيرة.

         * د. شاكر لعيبي

         عن الرحلة:

         تقدّم هذه الرحلة مسحا لأجزاء كبيرة من فرنسا في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. تقدم الرحلة بحثا عن أسئلة تنويرية ونهضوية ملتبسة، ويتقدّم الحجوي لهذا السبب بوصفه حالة رمزية لحيرة العالم العربي الإسلامي الخاضع للاستعمار. هذه الرحلة تضئ تلك المنطقة الحرجة بين استشرافات المثقفين المغاربة لمعارف اللحظة وبين طموحاتهم، بل مصائرهم الفردية.

         عن التحقيق:

         التحقيق هو من الدقة بمكان، ويتبع المنهج العلمي في تحقيق المخطوطات، مصحّحا الكثير من هفوات وعثرات التحقيق الأول، مُضيفا إليها عناصر جديدة من أجل إضاءة النص بنور جديد والتعريف بمصادر مؤلفه الأدبية والثقافية والمعرفية.

         * د. عبد النبي ذاكر

         عن الرحلة:

         قيمة هذه الرحلة في كون صاحبها مثقفا من عيار كبير، له نصوص رحلية أخرى. فالرحلة في حد ذاتها رؤية فقيه متنور للآخـر في مطالع القرن العشرين، يتمتع بدقة الملاحظة وحصافة الرأي وحسن التفهم، دون أن يثنيه عـن انتقاد الذات والسخرية من تخلفها، في لغة هادئة مسترسلة , وأسلوب لا تصنع فيه.

         عن التحقيق:

         تتجسد قيمة هذا التحقيق في إلقاء الضوء على شخصية الحجوي الثعالبي المثقف والسياسي. ويتميز التحقيق، علاوة على التقديم الموسع والتعليق المستفيض ولائحة المصادر والمراجع، بسرد لائحة شاملة للفهارس.

ثالثا:

         الرحلة التتويجية إلى عاصمة البلاد الإنجليزية 1902
تحقيق د. عبد الرحيم مودّن
* د. شعيب حليفي

         عن الرحلة

         تجيء قيمة الرحلة لتكشف عن وجهة نظر مغربية/عربية تجاه المجتمع الأوربي المتمثل في إنجلترا، باعتباره الآخر المتقدم القوي المالك لأدوات التكنولوجيا والتنمية والباحث عن مستعمرات وأسواق.

         عن التحقيق:

         استطاع المحقق عبر مقدمة مفصلة تقديم أفكار خاصة بنص الحسن الغسال من خلال إضاءته من جوانب شتى تضع النص الرحلي]المحقق] ومؤلفه في السياق التاريخي والسياسي والفكري الذي وجد فيه. ويعتبر هذا التحقيق متقدما على نشر سابق للنص نفسه سنة 1979 بإشراف الأستاذ عبد الهادي التازي.

         * د. محمد لطفي اليوسفي

         عن الرحلة:

         مخطوط يجسد ما يمكن أن ننعته بـ) أدب الرحلة المضاد ( فالمخطوط ينبني على مقاومة التمثلات الاستشراقية التي تعج بها كتب الرحالة الغربيين الذين زاروا الشرق وكتبوا عنه نصوصا تتبنى صورة دونية للشرق وناسه وحضارته عبر تكريس متخيلات مخترعة.

         عن التحقيق:

         حرص المحقق في طبعته الكتاب على تبيان ظروف كتابة الغسال لمؤلفه. كما حرص أيضا على تنزيل الكتاب في إطار التاريخ الثقافي المغربي والعالمي. وتبين منطلقات الغسال في مؤلفه مبرزا مميزات الكتاب داخل أدب الرحلة في الثقافة العربية.

         الرحلة تجمع إلى السيرة الذاتية بعدا توثيقا واضحا.

         * أ. علي كنعان

         عن الرحلة:

         هذه الرحلة، على صغر حجمها، تكشف الهاجس الحضاري المستنير لمؤلفها وهو يشاهد مظاهر التقدم في مجتمع أجنبي منظم يحتفي بالعلم والعمل معا، بينما لا تزال البلاد العربية ترزح تحت ظلمات الجهل والأمية والتناحر.

         عن التحقيق:

         الجهد العلمي واضح في تحقيق النص وتعليق حواشيه، ويتجلى ذلك بدءا من المقدمة المستفيضة التي أشارت إلى إشكالية النهضة بين )الأنا( و )الآخر( حتى في مسألة اللغة وقدرتها على التعبير، كما أضاءت جوانب متعددة من حياة الكاتب وأعماله.

         * د. شاكر لعيبي

         عن الرحلة:

         على الرغم من قصر هذه الرحلة فإنها من المتعة بمكان، لأنها مهمومة بمشكلة التحديث الذي كان يجابهه العالم العربي الإسلامي، ولأنها مكتوبة بروح من التحرر الذي يهجر قليلا أو كثيرا فكرة (دار الكفر)، ولأنها كذلك تُظهر حيادية نسبية للغسّال مؤلفها.

         هذه الرحلة تقدّم فكرة قيمة عن الإشكالية الفعلية لبدايات الترجمة في المغرب العربي.

         عن التحقيق:

         جاء التحقيق موفيا بالغرض وفق قواعد علمية دقيقة، وتمكنت المقدمة من الإحاطة بالرحالة ورحلته على نحو كاشف.

         * د. عبد النبي ذاكر

         عن الرحلة:

         على الرغم من صغر حجم هذه الرحلة, فإنها تعطينا صورة متفتحة عن لقاء عقل عربي إسلامي متنور بمعالم حضارة غربية (إنجليزية أساسا) في البدايات الأولى من القرن العشرين.

         عن التحقيق:

         قيمة التحقيق تتجلى أساسا في التحقيق اللغوي العامي والفصيح والمعرب من الكلمات الأجنبية. وفي التأطير التاريخي للمتن الرحلي المحقق وتحليله والتعليق عليه ومقارنته بنصوص سابقة (...) ثم تنوير أعلام الأشخاص والأماكن.

جائزة ابن بطوطة للرحلة الحديثة

عين وجناح
محمد الحارثي

         الكتاب الفائز بجائزة الرحلة المعاصرة: (عين وجناح) اختارته الدار من بين 14 كتابا يمكن اعتبار القسم الأعظم منها مستحقا للجائزة. وهي مؤلفات لكتاب جلهم من المعروفين، وبعضهم مشهور في الثقافة العربية. لكن الاختيار وقع على كتاب الشاعر الحارثي، وهو الكتاب الأول له في هذا الميدان، لكونه يجمع أناقة اللغة وطرافتها وشاعريتها إلى دقة الملاحظة، والحضور الطاغي للخبرة الروحية والعملية بالمكان والشغف به، وبقصصه، وبين اتساع رقعة الترحال ليشمل أربع قارات، من دون أن يكون الهدف من السفر غالبا إلا مغامرة السفر والشغف الخالص به، وهو ما يبعد أدب الرحلة عن فكرة المصادفة والعرضية، ويقترب به من فكرته الأصلية: مغامرة الاكتشاف، وحب التدوين، والرغبة في الإمتاع. وأخيرا الفلسفة الخاصة للشاعر المتلامحة من سطور هذه اليوميات.

         يوميات محمد الحارثي مغامرة أدبية مع المكان مفعمة بعشق التفاصيل ورصد العلامات الفارقة، ستبوئه مكانة استثنائية في فن كتابة الرحلة الحديثة بالعربية.

         على خطى ابن بطوطة في مائة صورة
الجزائر- عمان - تركيا
(معرض صور)

         يضم هذا المعرض مائة صورة اختيرت من بين عدد أكبر من الصور التي التقطتها عدسة المصور العماني بدر النعماني في ثلاثة أقطار هي الجزائر، عمان، تركيا.

         بعد سبعة قرون من رحيل ابن بطوطة، تحاول عين الفنان المعاصر أن تقتفي أثره لتسجل الكاميرا ملامح ورؤى من المواقع والأمكنة التي مرَّ بها الرحالة، لعلها ما زالت تحتفظ بأطياف من أفكاره وخواطره ومشاهداته التي دونها في رحلته. والفنان، هنا، ينتقل بين عدد من البلدان التي زارها ابن بطوطة سعيا وراء لقطات معبرة عن جمال المكان وما يثيره في نفس المشاهد من مشاعر وذكريات وإيحاءات مفعمة بالمسرة والابتهاج.

         وكان الفنان النعماني قد انطلق قبل عامين في إطار البعثة التي وجهها مشروع (ارتياد الآفاق) بالتعاون مع (المجمع الثقافي) في أبو ظبي ومشروع The Golden Webفي كامبردج، لتسير على خطى ابن بطوطة في رحلته المسماة (تحفة النظار)، وقوام البعثة مصورون وكتاب وباحثون عرب من جنسيات مختلفة رصدوا المسار الخاص بالرحلة انطلاقا من تصور شامل للعمل يهدف في النهاية إلى إعادة تقديم نص ابن بطوطة، من خلال أعمال بصرية وإلكترونية ومكتوبة تقف على الأمكنة وتحولاتها، والناس وعاداتهم وتقاليدهم، والمجتمعات التي مرَّ بها الرحالة بعوالمها الخاصة وطقوسها المختلفة، وكذلك العمران الذي أبدعته ثقافاتها وما أبقى منه الزمن.

         هذا المعرض على ما يحفل به من مشاهد ومناظر مجرد نموذج من عمل أشمل متعدد الأوجه والمستويات في تقديم الرحلة باشرته البعثة في مدن وحواضر الجزائر وعمان وتركيا وستتمه في بقية المدن والأماكن التي زارها ابن بطوطة خلال رحلته التي انطلقت من طنجة وقادته إلى الصين.

         تأخذنا صور هذا المعرض في رحلة تقتفي أثر الرحالة ورحلته في بعض مراحلها، فتقف على المعالم والآثار، وتتخذ من ملاحظاته مادة للمشَاهد واللقطات، مما ظل قائما منها على حاله، ومما بدل فيه الزمن، أو مسحته العاديات من الوجود.

         سوف يلاحظ المشاهد من خلال عدسة الكاميرا ما سبق لعين الرحالة أن لاحظته، إلى جانب ما طرأ بعد ذلك على المرئيات وبات له وجود في الأمكنة على أنقاض ما اندثر.

         في تأمل هذه التشكيلة من الصور المتنوعة التي ترصد علاقة الناس بالأمكنة، وتبدُّل أحوالها عبر الزمن، يمكن أن نستعيد وقع تلك الساعات والأيام التي عاشها ابن بطوطة في ترحاله، دون أن ننسى أن القرون المتعاقبة تركت بصماتها المؤثرة في المكان وأحواله وما فيه من عمران وكائنات حية. ربما ظلت الجبال والشطآن وبعض المعالم على حالها، لكن معظمها طرأت عليه عوامل البلى والتغيير.

         من ربوع الجزائر إلى شواطئ عمان وجبالها ونخيلها إلى قونية في تركيا حيث يرقد جلال الدين الرومي، تطيب الرحلة ونعيش مع شيخ الرحالة العرب في عبق الذكريات وهي تتجدد بعد مئات السنين من رحيله.

         رحلة ابن بطوطة في صور هي المسعى الأخير لهذا المعرض، كجزء من مشروع أوسع يتتبع ابن بطوطة في رحلته عبر شتى الجغرافيات وفي ظهراني الأمم والثقافات التي ازدهرت في العالم القديم، عندما يُتِمُّ حلقاته سيكون عملا موسوعيا يلقي ضوء الحاضر بإمكاناته المتعددة على مغامرة الأمس، ويشكل بمادته جسر تأمّل وحوار واستشراف بين الماضي والحاضر، وبين العرب والعالم.

         وقد جرى التخطيط لأن يطوف هذا المعرض على عواصم عربية وأجنبية.

ختاما:

         لابد أن أشير إلى أن ما سلف من عرض للمشروع لم يشتمل على كل ما نخطط له ونعمل على تحقيقه، ولكنني أشير إلى مشروعات أخرى مكتفيا بالعناوين:

* نعمل على تحقيق ونشر سلسلة مؤلفات عن مدن حضارية عربية وإسلامية من خلال سلسلة (منارات)
* تحقيق ونشر كتب فضائل المدن في سلسلة (الفضائل).
*سنفرغ خلال العامين المقبلين من ثلاث أنطولوجيات جار العمل فيها:
- الرحالة العرب إلى الغرب وسؤال الحداثة
- أنطولوجيا الرحلة العربية في ألف عام
- مختارات من الرحلة العربية إلى الجغرافيا الألمانية. (أنجزت)
* انجاز مختارات من الرحلات الصادرة في سلسلة (مائة رحلة عربية إلى العالم) في صيغة الكتاب المسموع.
* السعي إلى توسيع دائرة التعاون مع المحققين والدارسين في الجامعات ومراكز البحث العلمي من خلال تنظيم الندوات والمؤتمرات المتعلقة بالأدب الجغرافي. على غرار الندوة التي نظمناها في الرباط أواسط الشهر الماضي بالتعاون مع الأكاديمية المغربية ووزارة الثقافة في المغرب.