ملتقيات العربي

ندوة الغرب في عيون عربية

اليوم الثاني الجلسة المسائية الثانية

في انتظار الكتاب الالكتروني:
قراءة ثقافية نفسية
الباحث الدكتور: محمد المخزنجي *

          على امتداد أكثر من ثلاث سنوات أقمت بشقة صغيرة في بيت الدارسين بمعهد الأطباء المتخصصين بمدينة كييف، عاصمة جمهورية أوكرانيا التي كانت سوفيتية. كان البيت في ضاحية غارقة في البساتين ومتماوجة بالتلال. بناء أبيض ضخم من اثني عشر طابقاً، وبكل طابق عشرين شقة مثل شقتي، تتكون كل منها من حمام ملحق بردهة صغيرة تفضي إلى غرفة وحيدة تطل على الشارع بنافذة فسيحة من الزجاج المزدوج مقسمة الى ثلاثة مصاريع وتشغل واجهة الحجرة من الجدار إلى الجدار.

          في فصل الشتاء الطويل المكسو بالبياض الناصع للثلوج الكثيفة، وحيث كانت البرودة تقف كثيراً عند درجة 20 تحت الصفر، كانت العودة الى البيت تشبه الارتماء في حضن دافئ حنون بعد معاناة الصقيع في الشوارع. وخلال أكثر من ألف عودة إلى البيت، لم أفلح في تحديد نافذة شقتي من الخارج إلا مرات قليلة، فهي واحدة وسط مائتين وأربعين تشبهها. وفي الداخل المتعطِّف بحرارة التدفئة المركزية كنا نسرع، خالعين أغطية الرؤوس من الفراء الثقيل (الشوبكا) ونحن في البهو، وننضو عنّا معاطفنا الصوفية الثقيلة ونحن على أبواب المصاعد أو في الردهات. نسرع باتجاه شققنا الصغيرة لنتناول بعضاً من حساء (البورش) الساخن سريع التجهيز، او نحتسي قدحاً من الشاي الذي يمنحه (الساموفار) الكهربائي بسرعة. ولقد أخطأت سكني عشرات المرات، فردهات الطوابق كلها متشابهة، ومداخل الشقق متشابهة، وأثاث الغرف متشابه، وكثيراً ما كنا نترك أبوابنا (مردودة) حتى تنصاع منفتحة بدفعة عند عودتنا المسرعة. ولعشرات المرات دفعت أبواباً وفوجئت بأنني أخطأت مكاني، كل الأشياء متشابهة، ولم يكن يخرجني من تيه هذا التشابه إلا كتبي في الغرفة. نظرة واحدة تقول لي إن كان هذا سكني أم لا.

          ومع مرور الوقت رحت أكتشف أن لا سكن لي ولا سكينة في أي مكان لا تنتظرني فيه كتبي. حتى بيت أهلي في المنصورة، والذي نشأت وعشت فيه حتى السابعة والثلاثين، كان بيتي عندما كان فيه أبي وأمي رحمهما الله، وظل كذلك بعد رحيلهما إذ كانت داخلة هذه الغرفة التي تخصني والتي أخفت جدرانها من الأرض إلى السقف آلاف الكتب. وعندما غادرت البيت إلى القاهرة، فالكويت، وطالت غيبتي، كان طبيعياً أن أخلي المكان لساكنيه. لم يسع بيتي الصغير في القاهرة إلا بضع مئات من الكتب التي انتقيتها، وتطوعت شقيقتي وزوجها بتغليف بقية الكتب ونقلها إلى قبو بيتهما في المنصورة حتى أجد لها مكاناً.

          الآن أعود الى بيت الأهل فتتناز عني كل ألوان الحنين، لكنني ـ أمانة ـ لا أشعر لحظة أنه سكني، وعندما أقيم زائراً في بيت أختي بالمنصورة يشدني القبو المظلم حيث خُزِّنت الكتب، ولولا الخجل لطلبت منهم أن يمدوا لي فراشاً فيه، ويزودني بمصباح، وأدوات إعداد الشاي، ويتركوني هناك لأنعم بالسكون، وبالسكينة.

          أقسم أنّي لا أبالغ.

          ولا أبالغ إن قلت: إن هناك ملايين من البشر مثلي، أسميهم بشر الكتب، والكتب التي أعنيها تحديداً هي الكتب المطبوعة.

          نحن بشر الكتب، لماذا ارتبطنا نفسياً وذهنياً بالكتب على هذا النحو؟ وماذا لو اختفت الكتب من عالمنا لتحل بمكانها أخرى رقمية أو إلكترونية؟

          ما الذي سنخسره؟ أو نكسبه؟ وما الذي سيخسره أو يكسبه غيرنا من أجيال تالية، موعودة أو مهددة بزوال أو أفول الكتاب المطبوع.

          جاك رومانوس أحد ناشري الكتب الغربيين الكبار، وفي تقرير صحفي يبشر بقرب اقتحام الكتاب الإلكتروني لعالمنا، نُشر في الشتاء الماضي، يقول:

          إن الجيل الراهن من القْراء سيترك المكان خلال 20 عاماً لجيل الكتاب الإلكتروني.

          وعلى شبكة الإنترنت يقول مسئول مكتبة بارنيس أند نوبل. كوم الأمريكية:

          خلال عشرين عاماً، ستدخل مكتبة ما على الشبكة، وتلقم المؤلفات التي تريدها لكتابك الإلكتروني. إذن الحكاية جد!

          فأين يكون السكن، ومن أين تأتي السكينة؟

إعمار الفراغ

          أقف أمام حزانة للكتب في نهاية ردهة بيتي الصغير بالقاهرة. على أرفف هذه الخزانة مجموعة من الكتب التي أعشقها، ولا تزيد على مائة وخمسين كتاباً موزعة على فروع شتى، أقف وأطيل الوقوف، مغموراً بشعور من يرى أحباباً قدامى بعد غيبة. تثور ذكريات طيبة وأشواق، ليست ثقافية فقط، وإن كانت ثقافية أساساً. أعرف هذه الكتب من ألوان وهيئات كعوبها بلا أدنى خطأ، وتجذبني جذباً لإخراجها وتقليب صفحاتها، وربما قراءة سطور أو فصول منها، أتأمل بعض الملاحظات التي دونتها في الهوامش بكلمات قليلة. وأكتفي بلمس بعض هذه الكتب وهي في أماكنها. وفي كل الحالات، تطفو على سطح الذاكرة أفكار وأحلام أوحت بها هذه الكتب أو عاصرت مولدها، وتتجدد الأشواق، تماماً كما تفعل زيارة لمكان حميم قديم. لكن المكان في هذه الحالة لا يشغل حيزاً أو فضاءً يتجاوز سنتيمترات قليلة هي حجم كل كتاب.

          فهل هو المثول، أو الحضور في المكان والزمان، ما يجعل للكتاب (المطبوع) كل هذا التأثير النفسي والعقلي فينا؟ وماذا عن الكتاب الإلكتروني في هذا الشأن؟

          دعونا لا نتوقف كثيراً عند تحديد البداية زمنياً بمنتصف القرن 15 الميلادي عندما قام النجار الألماني جوتنبرج بتقديم مطبعته للعالم الغربي، فالتقصيات تومئ إلى إرهاصات في دنيا الشرق تتراوح بين كوريا والصين، وثمة إسهام عربي ناقل، لكنه مرموق، وافر في القرن 14 صناعة الورق التي شيدت عليها مملكة الكتاب المطبوع فيما بعد.

          ودعونا لا نتوقف ايضاً عند تاريخ بدء الكتابة، التي لا تبتعد لدى كل الفرقاء عن هذا الركن أو ذاك من بلادنا العربية، فما يعنينا هنا هو تنضيد الكتابة طباعياً، والتي بإنجازها للكتاب المطبوع دشنت الانتقال الحقيقي من دنيا الثقافة الشفاهية إلى عالم الثقافة الكتابية، وأنجزت في مجال الوجود البشري ثورة ثقافية حقيقية كانت لها انعكاساتها النفسية والعقلية على البشرية أفراداً وجماعات.

          يقول والترج. أونج في كتابه الأهم الشفاهية والكتابية : إن الطباعة أحلت الكلمات في الفراغ بصورة أكثر صرامة مما فعلته الكتابة في تاريخها كله. فعلى حين تحرك الكتابة الكلمات من عالم الصوت إلى عالم الفراغ المرئي، تحبس الطباعة الكلمات في موضعها داخل هذا الفراغ. ومن مظهر النص المطبوع يلتقط القراء إحساساً بالكلمة في الفراغ يختلف تمام الاختلاف عن الإحساس الذي توصله الكتابة بخط اليد كما في المخطوطات. فالتحكم بخط اليد في الفراغ الكتابي يميل إلى أن يكون زخرفياً، أما التحكم الطباعي فإنه مرتب وحتمي، سطوره تامة الانتظام، وكل شيء يبدو متساوياً من الناحية المرئية.

          هذه الآلية التقنية في النصوص المطبوعة جعلت القراءة أسهل ومن ثم أسرع وتميل إلى الصمت، وأنشأ هذا علاقة مختلفة بين القارئ وصوت المؤلف في النص، مما دعا إلى ابتكار أساليب جديدة في الكتابة تبتعد عن الإطناب والخطابية، وفيما كانت الكتابة بخط اليد في المخطوطات توحي بأن مواضع الكتابة على الصفحة هي إشارات إلى مواضع في عقل الكاتب حيث تختزن الأفكار، فإن الكتاب المطبوع جعل هذه المواضع أو الأماكن النفسية المبهمة تحتل مكاناً مادياً ومرئياً.

          على هذا النحو بزغ عالم عقلي جديد يتشكل وينتظم في الفراغ، مؤثراً على طرفي معادلة الكاتب والقارئ، فالكاتب صار مطالباً بالدقة اللفظية والعبارة المتراسلة مع إيقاع الحياة مادياً ونفسياً. أما القارئ فقد أحدثت فيه الكتب المطبوعة جملة من التطورات العقلية والنفسية تعد انقلاباً حقيقياً في التاريخ الثقافي للإنسان، رصدها أونج، ولا نجد أمامنا إلا أن نعيد تذكرها، ممزوجة بتنبهنا للبعد النفسي وراء أو داخل كل منها، بينما تظل في خلفية أذهاننا ماثلة، تلك المقارنة المتوخاة بين الكتاب المطبوع والكتاب الإلكتروني، ما الذي سيورثه القديم للجديد، وما الذي سيضيع من هذا الإرث.

          1- التقانة الكتابية-عبر الطباعة- كانت عاملاً رئيسياً في تطور الإحساس بالخصوصية الشخصية التي تعد من علامات المجتمع الحديث، فقد أنتجت الطباعة كتباً أصغر وأخف حملاً مقارنة بسابقتها في ثقافة المخطوطات، فأحدثت تهيئة نفسية للقراءة المنفردة والصامتة، مما عزز من إحساس الإنسان بالحيّز الشخصي للآخر في المقابل.

          2- الكلمات المطبوعة لكونها معيارية ومحايدة الخط، خلقت إحساساً بالملكية الخاصة للكلمات، إذ تحولت الكلمات المطبوعة إلى سلعة، وخدم هذا حركة الوعي الإنساني تجاه الفردية المتعاظمة في المجتمعات المدنية الحديثة، بكل إيجابيات ذلك وسلبياته.

          3- الكلمات المطبوعة بثباتها التشكيلي في مئات أو آلاف أو ملايين النسخ، وكونها بذلك أشبه بالأشياء غير الشخصية والمحايدة، شجعت البشر على التفكير في قدراتهم الداخلية الخاصة الواعية وغير الواعية، فقد تحول القول والفكر ليستقر على سطح محايد يوحي بالاستقلال الذاتي للكاتب، ويقترح تعزيز الاستقلال الذاتي لدى القارئ، ومن ثم الالتفاف إلى دواخل هذه الذوات القارئة.

          4- النصوص المطبوعة بتطابقها اللفظي في النسخ العديدة من كل طبعة، صارت تمثيلاً للشكل الأخير أو النهائي لكلمات المؤلف، حيث لا يقبل النص -حال طباعته- تغييراً بالكشط أو الإضافة كما كانت المخطوطات تحتمل خاصة في الحواشي والهوامش حول المتن، مما كان يحمل سمة الحوار المستمر مع العالم خارج حدود النص تحقيقاًَ لتقليد خذ وهات في التعبير الشفهي. أنهت الطباعة على الورق هذا التقليد، وصار لها توجه عقلي مختلف يميل إلى الإحساس بأن النص مغلق ويشكل وحدة بذاته. وهنا نشأ جدل ثقافي يوشك أن يكون عصاباً أسماه هارولد بلوم : قلق التأثير. وهو قلق ينتاب القارئ الناقد، ويؤرق الكاتب، حتى وإن كان متعمداً ويرتدي لباساً عصرياً مهذباً عنوانه التناص. ففيما اعتبرت ثقافة المخطوطات هذا التناص أمراً مسلماً به نظراً لتواصل تقاليد العالم الشفاهي خلالها، وعمدت إلى إيداع نصوص من خلال نصوص أخرى بعد التحوير والتعديل، فإن هذا (التسلل) النصي بات نوعاً من الكرب لدى مؤلفي الكتب المطبوعة وحقلاً مثيراً لعمل النقاد.

          وعند هذه النقطة يبرز مشروع الكتاب الإلكتروني مع سؤال كبير عن مدى صمود الشكل النهائي أو الأخير لكلمات المؤلف أمام إمكانات التقانة الحاسوبية في (فتح) البرامج، وتغيير النصوص، وهو تغيير لن يكون في الهامش أو الحاشية كما في المخطوطات، بل يمكن أن يجري في متن النص نفسه. هل يمثل ذلك عودة إلى تقليد الثقافة الشفاهية خذ وهات، بين المؤلف والقارئ، وهل يخلو من عبث (القرصنة) ذات الأبعاد المرضية السيكوباتية آنذاك؟

          لقد ظلت سمة الثبات أو الاكتمال ملتصقة بعمارة الطباعة في فضاء الصفحات الورقية، عبر أكثر من خمسة قرون، حتى أن التقنية الحديثة أنجزت لها جهازاً يسمى جهاز هِنمن لمقارنة النصوص، وقد ابتكره تشارلن هنمن لتحقيق الطبعات المبكرة من أعمال شكسبير، وبإمكانه أن يطابق أي صفحتين متماثلتين من النص نفسه وعند عثوره على اختلافات ينبّه الفاحص بواسطة ضوء غماز. إلى أي مدى سيغمز جهاز هنمن مع نصوص الكتاب الإلكتروني؟

          سؤال يعيدني من الغائم إلى الواضح، فأهفو إلى الانتقال إلى بعض المعلوم في الشأن النفسي للمتحقق، أي الكتاب المطبوع، ووسيلتي إلى ذلك هي المقاربة العضوية عبر علم النفس الفسيولوجي- الأقرب إلى نفسي.

حشد الحواس

          مع الكتاب المطبوع أكرر ما فعله ويفعله بلايين البشر منذ خمسة أو ستة قرون : أتناول الكتاب بيدي، وقد أتحسس غلافه وأنا أقرأ ما طبع عليه في صمت، أو بهمس لا يتجاوز سمعي. أفتح دفتيه بين راحتي، ويتمهل بصري أو يسرع فوق السطور. يحدث أن أضع خطاً بالقلم تحت سطر أو كلمة، وقد أرسم إشارة في مكان ما من الصفحة، أو أدون ملاحظة في الهامش. وعندما انتهي من قراءة صفحة يسرى في كتاب عربي، أو يمنى في كتاب باللغة أو اللغتين الأوربيتين اللتين أقرأ بهما، أمد يمناي وأقلب الصفحة بحركة صغيرة من طرفي السبابة والإبهام. وأواصل فعل القراءة...

          ما الذي يحدث فسيولوجياً أثناء ذلك، وما انعكاسات ذلك نفسياً؟ وما موقع الكتاب الإلكتروني في هذا التساؤل، وفي مسعى الإجابة؟

          أمامي استخدام واضح لحاستين كبيرتين يوظفهما البشر في التعامل مع الكتاب المطبوع، هما حاستا الإبصار واللمس.

          أعود إلى العام 1861 ميلادية حيث اكتشف الطبيب الفرنسي بول بروكا عدم تماثل نصفي المخ. كان يشرح مخ مريض متوف عانى فقدان القدرة على التحدث، ووجد بروكا أن العطب كان في نصف كرة المخ اليسرى في منطقة محددة حملت اسم بروكا ولا تزال حتى اليوم. وتأكد أن هذه المنطقة هي المسئولة عن إنتاج الكلام بدليل أن عطب المنطقة المناظرة لها في نصف كرة المخ اليمنى في حالات أخرى لم يؤثر على التكلم. وبعد بروكا تبين أن المناطق المسئولة عن فهم الكلام، والقدرة على الكتابة، وفهم الكلمات المكتوبة، تقع جميعها في نصف المخ الأيسر أيضاً (والحديث هنا ينصب على الغالبية ممن يستخدمون اليد اليمنى استخداماً سائداً، لأن الأمر لدى سائدي اليد اليسرى معكوس أيضاً في المخ). صحيح أن نصفي كرة المخ تتبادلان المعلومات عبر جسر من النسيج العصبي بينهما يسمى الجسم الجاسىء، لكن هذا لا يخل بتخصيص كل منهما، كما اكتشف بروكا في القرن التاسع عشر وفي اكتشافات الحائز جائزة نوبل في علم الأعصاب روجر سبري عند نهاية القرن العشرين.

          ومن الثابت الآن أن المخ الأيسر - في حدود بحثنا - معني بالمهارات اللغوية والحسابية، بينما المخ الأيمن معني بحس التركيب الفراغي أو الحيزي (SPATIAL) وحس النماذج أو الأنماط.

          ولو تذاكرنا الحديث السابق عن إعمار الفراغ الذي تشكله الصفحة المطبوعة، ويشكله الحيز المكون لحجم الكتاب إجمالاً وتفصيلاً، لتبين لنا أن الكتاب المطبوع يوظف في لحظة القراءة كلاً من نصفي كرة المخ في وقت واحد. وثمة قاعدة في متن علم النفس الفسيولوجي تقول بأن تفعيل المزيد من المنبهات الحسية يكثف ويغني التفاعلات النفسية.

          ولأن الإبصار حاسة مشتركة بداهة في قراءة النصوص سواء على سطح الورقة المطبوعة أو على شاشة كمبيوتر أو كتاب إلكتروني، وبرغم التباين النسبي في الجهد البصري في كل حالة وما له من انعكاسات نفسية على القارئ، فإن الحاسة الفارقة في استخدام الكتاب المطبوع هي حاسة اللمس وما يستتبعها.

          تقليدياً كانت حاسة اللمس لدى أهل الطب وعلم النفس الفسيولوجي الأقدم عهداً تعتبر حاسة واحدة، لكننا نراها اليوم مع المزيد من الاكتشافات الحديثة تنقسم إلى ثلاث شعب تنخرط فيما يسمى بحواس الجلد Skin Senses، أولاها حس الضغط، والثانية حس الحرارة، والثالثة حس الألم، تبعاً لأنواع المنبهات التي تتجاوب معها مستقبلات حسية متخصصة، مما يولد خبرات مختلفة ومن ثم نتائج مختلفة في الاستقبال والإدراك الحسي Perception ، وهذا بدوره يحدث تأثيرات مختلفة في عمليات الذاكرة الثلاث : التشفير Encoding ، والاختزان Storage ، والاستعادة Retrival .

          ولو أخذنا برأي هيرنج -أحد أكثر المعاصرين المهتمين بدراسة الذاكرة والتكوين النفسي للإنسان- الذي يقول بأن الذاكرة هي بوتقة الربط والتوليف بل التوحيد للوعي الإنساني Consciousness برمته، لرأينا أهمية إضافة حاسة كاللمس لخبرة القراءة. ولدواعي التقريب لن نجزئ هنا حاسة اللمس بل سنتعامل معها كوحدة تضم شعبتي الإحساس بالضغط والإحساس بالحرارة فيما يشكل تحديداً عملية اللمس Touch.

          في التعامل مع الكتاب المطبوع سنجد نوعاً من اللمس يسمّى اللمس النشط Active Touching لأن الكتاب لا يأتي ليلمسنا، بل نحن الذين نتناوله ونلمسه، وهذه الحالة الإيجابية للمس -كما بيّن كلاتيسكي، وليدر مان، وميتنجر، عام 1985- تنتج عنها خبرة مغايرة للمس السلبي، إذ توقظ -حالة اللمس الإيجابي- الحواس الحركية Motor Senses ، وبهذا اللمس الإيجابي وحده نستطيع التعرف على تركيب الكتاب في الفراغ، أي تكوينه الحيّزي Spatial Construction ، وهذا يوضح أكثر آلية تشغيل الكتاب المطبوع -عند القراءة- لنصفي كرة المخ معاً، والتي سبقت الإشارة إليها.

          الشعبة الثانية ضمن حاسة اللمس هي الإحساس بدرجات الحرارة، والتي تثبت أننا ندركها -تبعاً لمعطيات كتشالو، ونافي، وبروكس، 1991- مع حد أدنى من التغير باتجاه السخونة قدره 0.4 درجة مئوية، وباتجاه البرودة قدره 0.15 درجة مئوية. ولسنا في حاجة كبيرة لإثبات أن هذه الفروق الحرارية الطفيفة محتملة ضمن إحساسنا بالكتاب الذي لابد أن درجة حرارته المتغيرة صعوداً وهبوطاً مع حرارة الجو المحيط به تختلف مع درجات حرارة أجسامنا ذات الثبات النسبي.

          إذن، نحن لا نستقبل الكتاب المطبوع بالبصر وحده، بل بحس اللمس الذي ينبئنا بجرم الكتاب ككل، وملمس غلافه وصفحاته ودفء أو برودة هذا الغلاف وهذه الصفحات. وعلى هذا النحو يحشد التعامل مع الكتاب حزمة من التنبيهات الحسية تجعل تفاعلات الاستقبال أعمق، ومن ثم تغتنى العمليات العقلية والوجدانية المشكلة لوعينا الثقافي Cultural Conciousness (إن جاز تركيب التعبير)، ولم تعد مسائل الاغتناء النفسي بالإغناء الحسي استقبالاً وإدراكاً من الافتراضات النظرية في علم النفس، فقد أثبتت أبحاث هاكسبي -1990، التي استخدم فيها المسح الإلكتروني للمخ البشري الحي، أن البشر عندما يدفعون للتعرف على أشياء متعينة أو ملموسة يزيد تدفق الدماء في مناطق التعرّف Recognition بلحاء المخ لديهم.

          وكملاحظة جديرة بالانتباه، فإن عملية الإدراك الحسّي Perceptio التي تعالج وظيفتين أساسيتين هما :

          1) تحديد موقع الشيء

          2) إدراك ماهية الشيء، تصبح ناقصة إذا غاب عنصر الحس بالعمق Depth Perception والذي هو شرط لعملية تحديد الموقع. والحس بالعمق الفراغي سيكون علامة استفهام مهمة مع الكتاب الإلكتروني لو ظل على معطيات نماذجه التجريبية المعروضة حتى الآن، والتي سنعرض لها فيما بعد. ولنتذكر أن أي انتقاص من مكونات الإدراك الحسي، ينتقل ليشكل طرحاً من العمليات النفسية والعقلية الأعلى التي تدخل في تكوين الوعي، وتتوزع على عمليات التعلم، والتذكر، والتفكير، وتكوين المفاهيم، والأداء اللغوي، والتخيل، والدافعية، وحتى العاطفة.

          ولقد لاحظ إيريك فروم في معرض حديثه عن الفارق بين مفهومي الكينون والامتلاك أن الأشخاص الذين لا يميلون إلى مجرد اختزان المعلومات، لكي تنشط ذاكرتهم لا بد من وجود ما يثير اهتمامهم بقوة في اللحظة المطلوبة. ولو شئنا تفسيراً لذلك لقلنا إن عملية الاستعادة التي تشكل ثالث مفاصل الذاكرة -بعد التشفير والاختزان- تتعلق بمثير أو بمنبه ماثل، ولا شك أن مثول الكتاب المطبوع يرجع الى وجوده المتعين في الفراغ ووجوده المدرك بحاسة اللمس.

          ً هذا المثول والتنبيه الحسي للكتاب سنجده متجلياً في بعد نفسي رفيع الشأن تماماً هو الوجدان أو العاطفة Emotion ، ليس فقط لوجود بُعد إدراكي في العملية الوجدانية. ولكن أيضاً لأن التنبيه الحسي شديد الأهمية في التكوين العاطفي. فقوة العواطف غالباً ما تتضمن يقظة فسيولوجية تتأتّى عبر تنشيط القسم الودي Sympathetic N.S. من الجهاز العصبي اللاإرادي. ولقد لوحظ أن الأشخاص الذين يعانون من إصابات جسيمة بالحبل الشوكي تتقلص لديهم آلية التغذية المرتجعة لهذا الجهاز مما يترتب عليه هبوط ملحوظ في الانفعال العاطفي.

          والعاطفة عنصر نفسي شديد الأهمية وعامل مشترك أعظم في كل العمليات العقلية لدى الإنسان كالتعلم، والتفكير، والتخيل. وفي هبوط مؤشر الوجدان نتيجة لتناقص التنبهات الحسية مع الأشكال المقترحة من الكتاب الإلكتروني مقارنة مع الكتاب المطبوع، تثور أسئلة عن انعكاسات ذلك على قُراء المستقبل، وكُتابه أيضاً. لكن الإجابات تظل معلقة إلى حين.

الكتاب المنتظر

          عندما طالعت ما نشرته المجلة العلمية Popular Mechanics -عدد أغسطس 1999- عن الكتاب الإلكتروني، لم أكن أعرف أنه ستتاح لي الفرصة بعد عدة أشهر لمعاينة ما تحدثت عنه المجلة على الواقع، وفي مركز من مراكز الغرب الصناعية المهمة، والأكثر عناية -عالمياً- بشأن الكتاب.

          أفردت المجلة موضوعاً عن الكتاب الألكتروني تحت عنوان إقرأ شاشتي، وأعادت نشره اضافياً على موقعها في شبكة الإنترنت. وابتدأ الموضوع في الحالتين، بالحديث عن أزمة ناشري الكتب المطبوعة والخسائر المادية الهائلة التي يتكبدونها في حالات انكماش التوزيع. وبشّر بأن ذلك كله سيتلاشى مع بزوغ العصر الجديد للكتاب الإلكتروني الواقف فعلياً على الأبواب. فلن تنفد طبعة من كتاب، ولن يتراكم في المخازن، ولن يعسر على القارئ العثور على أي كتاب يريده خلال بضع دقائق ليحمّله على جهازه خلال دقائق أقل، ويقرؤه في النور أو في الظلمة، أو حتى وهو مغمض العينين باللجوء إلى برنامج صغير للقراءة الصوتية متضمن في بعض هذه الكتب -الأجهزة- الإلكترونية.

          قدمت المجلة -موقعها على الإنترنت- عدة نماذج من الكتاب الإلكتروني المنتظر، مع صور للمنتج فعلياً من هذه النماذج.

          النموذج الأول، واسمه الكتاب الإلكتروني الصاروخي (Rockete Book) من إنتاج نوفوميديا بكاليفورنيا. وهو جهاز بحجم قاموس متوسط يعرض مخزونة من الكتب على شاشة كمبيوتر من البلورات السائلة LCD بمساحة صفحة كتاب صغير، وجوانبه الملفوفة تتيح لليد أن تمسكه بـإرتياح، وهذه الجوانب ذاتها هي غرف للبطاريات القابلة لإعادة الشحن التي تشغل الجهاز، والتي تكفي لعمله 33 ساعة في كل مرة شحن. ثمن الجهاز 499 دولاراً، وذاكرته تتسع لتخزين أربعة آلاف صفحة، أي ما يعادل عشر روايات دفعة واحدة، ولملء ذاكرة الجهاز يكفي الاتصال عبر شبكة الإنترنت بمواقع Barnes and Nobler or Levenger أو خلال America on line، وبواسطة برنامج القارئ بالكمبيوتر الشخصي يتم نقل نصوص الكتب المطلوبة مع صورها المبسطة إلى ذاكرة الكتاب الإلكتروني الصاروخي. عندئذ يكون ممكناً عرض صفحات النصوص المخزونة، بالحجم المعتاد لأحرف الكتاب المطبوع أو مكبرة تبعاً لرغبة القارئ. وكما في الكتاب المطبوع تأتي النصوص بحروف سوداء على خلفية بيضاء. والجهاز مزود بأزرار يتيح الضغط عليها قلب الصفحات والبحث عن فقرات بعينها، مع إمكانية فتح قاموس خاص يشرح التعبيرات الصعبة في النص. وعلى هذا النموذج علقت المجلة باستدراك سلبي واحد هو أن عرض الصفحات على شاشته يفتقر إلى ذلك البياض الثابت الذي تمثله صفحات الكتاب المطبوع الورقية خلف كلمات النص السوداء أو الملونة، وأن أقصى ما تم تجريبه لم يزد على شاشة تقارب مواصفات شاشات لعب الأولاد.

          النموذج الثاني من الكتاب الإلكتروني كان جهازاً يسمى Soft Book ويشبه في شكله العام النموذج السابق، لكن شاشته مضيئة تمكن الإنسان من القراءة ليلاً. وهو جهاز يعمل لخمس ساعات متواصلة مقابل كل ساعة شحن، وقدرته التخزينية 10 آلاف صفحة مما يعتبره مسوقوه مناسباً للقراءة الاحترافية! واسم الكتاب نابع من ملمسه الناعم لأنه مكسو بغطاء جلدي داكن ووثير. وهو مزود بجهاز مساعد يسهل تحميله بمعدل 100 صفحة في الدقيقة من موقع على شبكة المعلومات يمثل متجراً افتراضياً للكتب. وسعر هذا الجهاز 299 دولاراً، أما تكاليف تزويده بنصوص الكتب فهي 19.59 دولاراً كل شهر لمدة سنتين- كتشجيع من الشركة المسوقة!

          النموذج الثالث واسمه EVERY BOOK، ميزته عن سابقيه أنه يعرض على شاشته العريضة صفحتين متقابلتين بكل ما فيهما من رسوم وألوان، كأنه كتاب مفتوح، ويكفي لتخزين 200 كتاب من الكتب الجامعية لا كنصوص فقط، ولكن بكل ما تحتويه هذه الكتب من صور ورسوم. وسعر النموذج الأول من هذا الجهاز 1500 دولار.

          النموذج الرابع Millennium E. Book، يجري أيضاً على نمط سابقيه، ولكنه أصغر حجماً وتخزيناً، وأرخص سعراً إذ يبلغ سعر الجهاز الواحد منه 199 دولاراً.

          وتتكرر النماذج بلا جديد يذكر، لكن هناك نموذجاً شديد الاختلاف يسمّى Audio Mobile Player، وهو كما يتضح من اسمه لا ينتظر العين لتقرأ صفحات ما تختزنه ذاكرته من كتب، بل يذيع النص صوتياً على أذن القارئ، وهو يخزن 7 ساعات للقراءة الصوتية بسعر 299 دولاراً.

          لقد احتفظت بصفحات الموضوع بين أوراقي، وراجعت بعض التفاصيل على موقع المجلة في شبكة المعلومات. وأصابتني أخبار الكتاب الإلكتروني بهواجس بين ارتياب غامض ورجاء غائم. رجاء في جهاز يتسع لتخزين عشرات أو مئات الكتب في حيز بحجم كتاب واحد، ويسمح بمتعة القراءة تحت الغطاء في برد الشتاء، أو في ظلام البلاد التي يكثر فيها انقطاع النور، بل يسمح للإنسان أن يسترخي مغمضاَ عينيه بينما تنساب على أسماعه قراءة صوتية لأحدث الروايات أو آخر الكتب الأكثر مبيعاً في العالم.

          أما الارتياب فيتعلق بهاجس أن يكون كل ما قدّم من نماذج للكتاب الإلكتروني لا يزيد عما يقدمه الكمبيوتر الشخصي، الذي لا أطيق قراءة نص من عشر صفحات على شاشته، ومثلي مثل كثيرين -حتى بين مدمني الكمبيوتر- أبادر بطباعة ما أريد قراءته لأمسكه بين يديّ وتحت عيني ورقاً محسوساً مبيناً. وعلى غير انتظار، وبينما قرننا الحادي والعشرون يتأهب لفتح أبوابه، فوجئت بالفرصة التي تتيح لي التحقق مما وصل إليه الكتاب الإلكتروني على أرض الواقع.

          كان ذلك في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، في الجناح رقم 4 -جناح النشر الإلكتروني- ضمن أجنحة المعرض الهائل الخمسة عشر.

          مكثت أتردد على جناح النشر الإلكتروني يومياً، لأتابع الجديد، وأتحقق مما وصل إليه الكتاب الإلكتروني تحديداً، عاينت النماذج التي كنت قد قرأت عنها، وكنت أمسك بهذه الكتب في يدي وأفتح صفحاتها الرقمية المعروضة على شاشاتها الصغيرة، فأحس بالغرابة، وكأنني طفل يلهو بألعاب إلكترونية.. ثمة حواجز من زجاج محسوس كانت تنهض بيني وبين هذه النصوص المعروضة على شاشات بلورات الكريستال السائلة. وقدرت أنني لا أستطيع القراءة بهذه الاجهزة لأكثر من نصف ساعة، رغم أنها كانت محملة بنصوص روايات أحبها. كانت هذه الكتب الإلكترونية مجرد أجهزة كمبيوتر متخصصة، تعرض نصوصاً منسقة على نمط صفحات الكتب المعتادة، لكنه كان عرضاً مرهقاً للعين والنفس، على شاشات كمبيوتر لا تتسم حتى بالرحابة التي توافرها شاشات الـ 15 و 17 بوصة، لأنها شاشات ضيقة تقف عند حدود 8 بوصات.

          أهملت هذه الكتب اللُّعب بعد يومين، وتشبثت بجناح مايكروسوفت الهائل الباذخ التصميم، فقد أعلن عن قرب تفجير حدث مدوّ في مجال الكتاب الإلكتروني، وتردد أن بيل جيتس نفسه سيحضر لإطلاق المفاجأة. وكان الموعد هو ظهيرة يوم 14 أكتوبر.

          ذهبت مبكراً، وعدت متأخراً، وها هو حصاد ذلك اليوم الطويل :

          لم يحضر بيل جيتس، بل حضر من ينوب عنه، وقدم عرضاً لما يسمّى قارئ مايكروسوفت ذو الحرف الواضح (Microsoft Reader with clear type)، وهو برنامج لأجهزة الكمبيوتر الشخصي. مصمم (تبعاً لتصريحات مبعوث بيل جيتس) لجعل القراءة على شاشات الكمبيوتر، ولأول مرة، تقترب من مواصفات القراءة في الصفحات المطبوعة، بتوظيف تقنية جديدة هي تقنية عرض الحرف الواضح clear type display، وهي ابتكار جديد تحسن بشكل هائل وضوح الحروف على شاشات البلورات السائلة LCD للكمبيوتر. وضمن عرض مبعوث بيل جيتس قُدّمت أقراص مدمجة تحتوي على كتب منشورات بنجوين التي أعلن عن تعاقدها مع مايكروسوفت لاستخدام تقنية الحرف الواضح.. تلك، لنشر ألف عنوان من روايات وكتب سلسلة بنجوين. وقد تصفحت أحد هذه الأقراص المدمجة، وكانت رواية هيرمان ميلفل الشهيرة موبى ديك.

          نعم كانت الكتابة أوضح من المعتاد على شاشات الكمبيوتر، فالخلفية أكثر نصوعاً وأقل وميضاً، والأحرف محددة الحواف وثابتة أكثر.

          لكن هيهات!!

          في اليوم التالي بمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وفي ظلال البرج العملاق لإدارة المعرض والذي يسميه الفرانكفورتيون القلم لشدة شبهه بقلم عملاق مدبب الرأس، وقف برود واتر المتحدث باسم مجموعة شركات فيرونيس وشوهلر Veronis, Suhler & Associates، وهي مجموعة بنكية أمريكية تعد من أكبر المستثمرين في مجال النشر، وبميزانية تقترب من 20 بليون دولار، قال : إن الكتب الإلكترونية لن يكون لها تأثير ملحوظ على صناعة الكتب قبل العام 2003. وأضاف : لا شك أن هناك احتمالات لبروز تقنيات نشر جديدة، لكن سيظل أمام أية تقنية جديدة حتى تستولي على خيال الجمهور، أن تقفز قفزات كوانتمية أبعد مما تحقق إنجازه. فالمصنّعون يحاولون جعل الكتاب الإلكتروني أقرب شبهاً بالكتاب المطبوع، إلا أن الأخير لا يزال يؤدي وظيفته بكفاءة خارج المنافسة.

          لكن أطياف المنافسة تعاود الظهور، وها هي مايكروسوفت نفسها تطل برأسها من جديد، فمنذ أشهر قليلة طيرت وكالات الأنباء من نيويورك تقريراً عنوانه الكتاب الإلكتروني على الأبواب، وفي التقرير تكلم أحد نواب بيل جيتس، وهو ديك براس المختص ببرامج النشر الإلكتروني، قال :إن هذا الأمر -الكتاب الإلكتروني- شبيه باختراع السيارة. فمحطات البنزين لم تفتح أبوابها بعد، والطرق الممهدة لم تُشق، لكن لدينا سيارة تمشي، والرحلة يمكن أن تبدأ. فمنذ الربيع تزداد التجارب، ما يعني أن الكتاب الرقمي الذي ظل فترة طويلة مصنفاً ضمن خانة العلوم الخيالية، في طريقه للانطلاق وبأقصى سرعة. وقال التقرير : لقد أُنجزت الخطوة الأولى الكبرى بنشر قصة للروائي ستيفن كينج في مارس الماضي على شبكة الإنترنت فقط، وبيع منها أكثر من نصف مليون نسخة؟

          أما الذي لم يقله التقرير فهو : هل حوّل المشترون لهذه النسخ الرقمية ما اشتروه من رواية كينج إلى طابعات أجهزتهم، ومن ثم قرأوها مطبوعة على الورق، أم لا؟

          أرجح أن الكثيرين منهم طبعوها، وقرأوها على الورق، لأنني وملايين غيري من أهل الكتب، بل من مدمني الكمبيوتر أنفسهم، يمكن أن نفعل ذلك.

          هل ننزعج - نحن بشر الكتب - من الرقمية، انزعاج معظم القدامى من الجديد؟ أفلاطون الفيلسوف الاغريقي المعروف المنتمي واقعياً وفكرياً إلى الثقافة الشفهية أبدى انزعاجه من الكتابة، مجرد الكتابة، في رسالته السابعة في فيدروس، قائلاً على لسان سقراط : إن الكتابة غير إنسانية، تدّعي أنها تؤسس خارج العقل ما لا يمكن في الواقع أن يكون إلا داخله. ذلك أن الكتابة شيء، نتاج مصنوع. والكتابة تدمر الذاكرة، فأولئك الذين يستخدمونها سوف يصبحون كثيري النسيان، يعتمدون على مصدر خارجي لما يفتقدونه في المصادر الداخلية.

          أليس ذلك ما تكرره هواجسنا الآن، ليس في مواجهة الكتابة، بل في مواجهة أحدث تجليات الكتابة، أي الكتاب الإلكتروني؟!

          هل هو رهاب قديم جديد؟

          أم هي نوستالجيا، حنين مرضي يريد أن يثبتنا في أرحام نشآتنا الثقافية والنفسية، ويلصقنا بأنماط ما اعتدنا عليه؟

          علينا أن نطرح كل الأسئلة، من هنا وحتى العام 2003 الذي وٌعدنا به، ولا نزعم امتلاك كامل الإجابات، حتى تأتي الممارسة الواقعية للكتاب الإلكتروني بالخبر اليقين.

المراجع

          بالانجليزية

          - Introduction to Psychology -Rita L. & Richard G. Atkinson, 11th Ed, Harcourt Brace College, Orlando, U.S.A 1999..

          - Biological Psychology - Groues and Robec, 4th Ed, 1992..

          - Popular Mechanics magazine, August, 1999..

          - Microsoft News Release, Oct. 14,1999- Frankfurt.

          - WWW.e book connection.com 03,02,2001.. بالعربية

          -الانسان بين الجوهر والمظهر -إريك فروم-عالم المعرفة-140- الكويت 1989.

          - الشفاهية والكتابية -والترج. أونج-281-عالم المعرفة- الكويت 1994.

          بالروسية

          Tbou Bogurosuieoct , ruclobek

          طاقاتك الكامنة أيها الانسان -فيكتور بيكيس-مطبوعات زنانيا- موسكو 1989.





تعريب مصطلحات الحاسب الآلي
من هنا نبدأ...
الباحث : أسامة حجي *

          هل ستتكرم وزارة الاتصالات والمعلومات بتعليم الشعب كله استعمال اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة وتحدثاً؟

          صار من الأمور العادية أن أصحاب اللغات الأخرى هم الذين يبادرون بتعريب ما لا بد من تعريبه لحضارتنا التعريب عندنا يبدو أحياناً وكأنه حل يبحث عن مشكلة

          هناك فرق بين كلمة مصطلح وكلمة اسم

          يجب أن نعي الدرس الذي تعطيه لنا اللغة الإنجليزية والذي يقف البعض أمامه صاغراً... وهو أن التطور إنما يكون في المضمون والمعنى وليس في الشكل

          كل لغة تترجم لنفسها حسب المعنى الشائع وليس حسب المعنى الحرفي

          العقل الفرنسي يحتاج إلى الحاسب الآلي لينظم له أكثر مما يحسب

          الاسم المعرب يمكن أن يكتسح الاسم الإنجليزي إذا كان سهل الاستخدام

          لا يوجد للعلم لغة أصلاً... فالإنجليزية لغة تخاطب عالمية... لكنها بالقطع ليست لغة العلم الوحيدة لكل العالم.

الخطوة الأولى في طريق التنمية المعلوماتية

          تابعت بسعادة بالغة توجه بلادنا في السنوات الأخيرة إلى الاهتمام بالحاسبات الآلية والعمل على تكوين مجتمع المعلومات بهدف تطوير حياتنا من جميع نواحيها واللحاق بحضارة العصر. التي مازالت تسبقنا حتى بعد مرور قرنين من الزمان اذا اعتبرنا أن نهضة مصر تبدأ من عصر محمد علي. وبما أنني أحد المتخصصين في مجال الحاسبات الآلية، فقد شغلني دائماً سؤال مهم وهو. من أين نبدأ؟

          وقبل أن أجيب عن هذا السؤال كانت مصر قد وضعت نفسها بالفعل على الدرب الصحيح بانشاء وزارة للاتصالات والمعلومات إلى جانب العمل على تحويل مجتمعنا إلى مجتمع معلومات من خلال خطة تنمية طموح. ولقد بدأت وزارة الاتصالات والمعلومات عملها بالفعل وبدأنا نسمع عن دورات تدريبية، ووديان للتقنية، وقرى ذكية، إلخ. لكننا لم نسمع شيئاً عن ذلك الحاجز الذي يقف بين واقعنا وبين ما نصبو إليه. وهو لغة الحاسب الآلي نفسه. هل سيظل متحدثاً بالإنجليزية إلى شعب لا يجيدها من بينه سوى صفوة قليلة لا وزن لها أمام تعداد الشعب كله، فهل ستتكرم وزارة الاتصالات والمعلومات بتعليم هذا الشعب التحدث والقراءة والكتابة باللغة الانجليزية؟ وإذا كان هذا التوجه صحيحاً، فكم سنة يمكن أن تستغرقها هذه المهمة، خاصة ونحن في بلد فشل في محو أمية نصف سكانه حتى الآن!

          إن مجتمع المعلومات لا يتحقق إلا بانتماء أغلبيته إلى هذه النهضة العصرية، ومن المستحيل أن يحدث هذا إلا باستعمال اللغة الوطنية، وليس هناك طريق آخر فيما أعتقد، أي أننا لا يمكن عمليا أن نعمم استعمال الحاسب الآلي في كل مناحي حياتنا إلا بعد تعريبه تعريباً كاملاً ونقل كل مصطلحاته إلى اللغة العربية القابلة للاستعمال اليومي البسيط. أقول هذا وأنا أعلم أنه قد أصبح لدى الصفوة في بلادنا، خاصة الصفوة العلمية، عقدة من استعمال كلمة تعريب. وهذا أمر مؤسف للغاية، حتى أنه صار من الأمور العادية أن اصحاب اللغات الأخرى هم الآن الذين يبادرون بتعريب ما لا بد من تعريبه لحضارتنا، وطبعاً بلغة ركيكة تجعلك لا تستطيع الاستفادة منها مثل كتالوجات الشركات التي تصاحب الكثير من السلع التي نستوردها مثلاً.

          وفي مصر حيث يتم تدريس العلوم الحيوية وغيرها باللغة الإنجليزية نجد أن منظمة الصحة العالمية هي التي تطالب بتعريب الطب والصيدلة وترصد في سبيل ذلك الموازنات الضخمة في الوقت الذي يقاوم أطباؤنا الكرام هذا بشدة. لا أريد ان أخوض في خصوصيات مجالات لا أعرفها جيداً وأكتفي بما أسلفت للتدليل على انني سأتناول حديثاً لا ترتاح إليه الصفوة العلمية في هذه البلاد، ألا وهو حتمية تعريب مصطلحات الحاسب الآلي.

          افترض أنك يوماً ما قابلت صديقك الذي يعمل طبيبا ووجدته يؤكد عليك ضرورة تلقيح أطفالك ضد مرض الـ Poliomyelitis مثلاً وأضف إلى هذه الفرضية أنك لا تجيد الإنجليزية (أو حتى تجيدها!) فإنك بالطبع لن تفهم ما يقصده لأن هذا الاسم مصطلح علمي لاتيني. وطبعاً قد تتصور أنه مرض عضال، وقد تستخف به وتعتبره مرضاً بسيطاً مثل الحصبة، وفي كلتا الحالتين سوف تسقط ضحية لسوء تقديرك، مما قد يودي بحياة أطفالك. كان من الممكن أن تتجاوز كل هذا لو قال لك الطبيب لقح أطفالك ضد شلل الأطفال!

          واستهل حديثي عن قضية تعريب مصطلحات الحاسب الآلي بهذا النموذج لأننا في مجتمع لا يتحدث السواد الأعظم من أبنائه سوى اللغة العربية، وعلى الرغم من ذلك مطلوب منهم أن يتحولوا إلى مجتمع معلومات وهو أمر يستحيل الوصول إليه سوى بإجادة كل افراد مجتمعنا للغة الإنجليزية إذا فرضنا أن هذه اللغة هي اللغة الوحيدة لعلوم الحاسب الآلية.

          ومن المؤسف، أن هناك من لا يزال يجادل في ضرورة تعريب مصطلحات علوم الحاسب الآلي، ومدى جدواها، وسأكتفي بلفت نظر هؤلاء المعارضين لفكرة التعريب إلى أن جميع شركات البرمجيات المحترمة وعلى رأسها شركة مايكروسوفت لم توفر فقط الدعم داخل برمجيتها للغة العربية، ولكنها أيضاً أوجدت من جميع برامجها إصدارات بواجهات استخدام عربية، بما في ذلك نظم التشغيل ذاتها. نعم لقد اكتشف العالم أهمية التعريب بالنسبة لنا قبل أن نكتشفها نحن لأنفسنا. هل هناك ما هو أكثر حرجاً من ذلك؟ وفي ظل الخطوة العظيمة التي قررتها الحكومة حينما أنشأت وزارة الاتصالات والمعلومات وحتى تعمل على تنفيذ خطة طموح للتنمية في مجال الاتصالات والمعلومات وتمهيداً لإنشاء مجتمع المعلومات الذي تطمح إليه. ولا يمكن انكار أن التطور الذي حدث في مصر في مجال الاتصالات والمعلومات منذ إنشاء هذه الوزارة وحتى الآن، وهي مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات، يعتبر تطوراً ضخماً إذا ما قيس على السنوات العشر التي سبقته، ولكن هذه الخطة الطموح تواجه ضرورة ملحة سيدركها القائمون على هذه الثورة، إن لم يكونوا قد أدركوها بالفعل، ألا وهي ضرورة مخاطبة الناس بلغتهم، وإلا ستتعطل الخطة لعدة سنوات تكفي هذه السنوات لإخراجنا من المنافسة العالمية، هذا فضلاً عن احتمالات الفشل في تحقيق المشروع بكامله، ونحن جالسون كالعادة ننتظر أن يأتينا الحل كالعادة من الخارج في صورة معدات وبرمجيات ونظم معربة.

          وقد يبدو التعريب عندنا أحياناً وكأنه حل يبحث عن مشكلة، وليس العكس. ذلك لأن هناك بالفعل عدة محاولات جادة في هذا المضمار، قامت به الصحافة المتخصصة في تقنية المعلومات والاتصالات، ولكن هذه المحاولات لم تصل بعد إلى مرحلة النضج الكافي، بل أن بعض هذه المحاولات أضر بقضية التعريب ككل وجعل البعض يعيد تقييم جدوى هذه الفكرة، في ظل الصعوبة البالغة التي وجدها المتخصصون في مجال المعلومات والاتصالات في التعامل مع المصطلحات المعربة، ولأن التعريب يراد به أساساً إتاحة المعرفة لكل الناس وذلك من خلال مخاطبة المجتمع باللغة التي يفهمها، ولكن ما حدث، هو العكس تماماً فقد جاءت الترجمة ركيكة لدرجة جعلت المتخصصين أنفسهم لا يفهمون، فما بالك بالناس العاديين! وهنا تتضح ملامح قضية التعريب، فحتى نتمكن من تحقيق غايتنا يجب أن نراعي ثلاث نقاط وهي:

          1) أن يكون هناك جهة رسمية مسؤولة عن هذه العملية.

          2) أن تراعى معايير الاستخدام وليس فقط معايير اللغة.

          3) أن نتخلى عن فكرة الإنكليزية لغة العلم الوحيدة.

          وبالنسبة للنقطة الأولى، هناك بالفعل منظمة عالمية هي:

          الـ ISO ( International Standard Organizatio)

          وكذلك الـ ITU (Tele - Communication Unio International) تقومان بوضع المصطلحات العلمية السليمة لكل ما يتعلق بمجال المعلومات والاتصالات، ولكن بالإنجليزية فقط، وعلى جميع اللغات الأخرى ترجمة هذه المصطلحات، ومن جانب آخر، هناك في عالمنا العربي مؤسسة تتبع جامعة الدول العربية هي المنظمة العربية للموازين والمقاييس والمفروض أن هذه المنظمة تلعب نفس دور الـ ِISO في العالم العربي. وفي تصوري أن هذه المنظمة يمكن أن تعمل على توحيد المصطلحات العلمية بالنسبة للعالم العربي كله، وقد يتعين على الحكومة المصرية من خلال وزارة الاتصالات والمعلومات أن تقوم مثلاً بتخصيص ميزانية لمشروع تشرف على تنفيذه المنظمة العربية للموازين والمقاييس يقوم بتعريب جميع المصطلحات العلمية المعتمدة من منظمة الـ ISO في مجال المعلومات والاتصالات. ومن الممكن أيضاً أن تقوم بهذا الدور الجهات المعنية بالدولة، ولكن في هذه الحالة سوف نفتتح باب المنافسة بين الدول العربية كما حدث مع مجمع اللغة العربية، إذ إن وجود أكثر من مجمع للغة العربية لم يحقق الثراء للغتنا العربية، ولكنه زاد فقط من خلافتنا، وعمق فكرة عدم اتحادنا على رأي واحد!.

          ويجب أن يفرض على كل الشركات التي تقوم حالياً بتدريب أعداد كبيرة من الراغبين في ركوب قطار المعلومات والاتصالات بأن تستخدم هذه المصطلحات في برامجها التعليمية، وأن يعطى للطلبة الراغبين في دراسة العلوم بالعربية حق اختيار لغة دراساتهم الجامعية، وليس هذا بجديد إذا عرفنا أن هناك مجالين بأكملهما يمثلان عصبان حيويان لأي دولة في العالم ألا وهما الإدارة والتجارة، وكلاهما يدرس بهذه الطريقة. ولا يخفى على أحد أن الإدارة والتجارة تدرسان في مصر أصلاً باللغة العربية ويمكن لمن يريدون تعلمها بالإنجليزية أن يلتحق بالقسم الإنجليزي بالكلية. ولا يقل هنا دور الجهات المعنية بالتربية والتعليم عن الجهات المعنية بالاتصالات والمعلومات، فمن المفروض أن يتم تدريس علوم الـ تشغيل الخاصة بالحاسبات منذ فترة مبكرة، أي في الفترة الإبتدائية، ومن يشك في قدرة الأطفال على ذلك فالينظر إلى ألعابهم اليوم التي يمارسونها على الحاسب الآلي، وخلاصة القول هنا أن هناك جهتين مسؤولتين عن عملية التعريب هما الجهة المختصة بالمعلومات والاتصالات والجهة المختصة بالتربية والتعليم، ومن المستحسن أن يرفع هذا التمثيل إلى المستوى القومي، أي أن يتم التعريب من خلال جامعة الدول العربية حيث أن هناك بالفعل منظمتين يمكنهما القيام بهذا الدور ألا وهما المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي يمكن أن تتحمل مسؤولية الجانب التربوي، والمنظمة العربية للموازين والمقاييس التي يمكن أن تكون مسؤولة عن الجانب التقني من عملية التعريب. على أن يتم العمل على التعريب من خلال برنامج تموله الحكومة المصرية مثلاً، أو الحكومات العربية مجتمعة، وتحت إشراف هاتين المنظمتين وباستخدام كوادرهما.

          وبالنسبة للنقطة الثانية، وهي مراعاة معايير الاستخدام، فيجب أولاً أن نلاحظ أن هناك فرقاً بين كلمة مصطلح وكلمة اسم فالمصطلح أو تحديداً المصطلح العلمي هو كلمة أو مجموعة كلمات تدل على الصفة العلمية لشيء معين، وهو عادة شائع الاستخدام بين الأكاديميين. بينما الاسم، هو الكلمة أو مجموعة الكلمات الشائع استخدامها للإشارة لشيء ما، ولا تصف بالضرورة معناه أو دوره أو نوعه، وقد تعنى إحدى صفاته. وحتى نوضح الفرق بينهما نسوق مثلاً كلمة السماعات، وتعرف بالإنجليزية باسم Speakers ولكن المصطلح العلمي الذي يشير إلى هذه الآلة هو Audio Output Device أي بالعربية جهاز الإخراج الصوتي. ويجب علينا أن نترجم جميع المصطلحات العلمية ترجمة حرفية إلى اللغة العربية، ولا يأخذ في الاعتبار أي عامل سوى التطابق في المعنى بين الكلمة الأجنبية والكلمة العربية، بينما لا يتحتم علينا أن نتبع هذا الأسلوب مع الأسماء، وهي تعتبر بمثابة ألفاظ دارجة أو شائعة، فعبارة Palm مثلاً ـ وهي حاسبات صغيرة الحجم للدرجة التي يمكن احتواؤها في راحة اليد ـ لا يتحتم علينا ترجمتها إلى راحة أو قبضة لمجرد أن هذا هو معنى كلمة Palm في الإنجليزية. وكمثال على الطريقة السليمة نسوق هنا نموذج كلمة صاروخ في اللغة العربية، وهي صيغة مبالغة من فعل صرخ، أي أصدر صوتاً عالياً، ولأن الصاروخ يصدر دوياً شديداً أو صراخاً شديداً، فقد تمت تسميته نسبة إلى هذه الصفة، ولم تستخدم الترجمة الحرفية لكلمة Missile الإنجليزية التي تعني مقذوف، كذلك لا تشير كلمة صاروخ إلى نوع هذه الآلة (المقذوفات) ولا دوره (النقل والمواصلات أو الحرب) ولا معناه (الانطلاق أو السرعة) ولكن بمجرد ذكر كلمة صاروخ سوف يفهم الجميع ما المقصود. وقد يبدو للوهلة الأولى أن ترجمة الأسماء الشائعة في الانجليزية تعني اختراع كلمات جديدة في اللغة العربية، وكما أنه ليس صحيحاً في العربية، فهو ليس صحيحاً أيضاً في الإنجليزية! ولمن لا يعلم، قليل جداً من الكلمات هي التي تم اختراعها بالفعل في الإنجليزية لتعبر عن أشياء لم تكن موجودة من قبل، ومنها كلمة Internet (وهي اختصار لعبارة International Nerwork) وكلمة Motherboard (وهي اللوحة الرئيسية) وهما الأكثر شيوعاً، ولكن حتى أعقد ما يوجد في مجال الحاسب الآلي من تقنية تم تسميتها بكلمات مستخدمة أصلاً في اللغة الإنجليزية تحمل أحياناً العشرات وأحياناً المئات من المعاني مثل كلمة Set التي لها 201 معنى!، وبعض هذه الأسماء ألفاظ من الأعماق السحيقة للغة الإنجليزية مثلاً كلمة Bug وهي تعني في الإنجليزية نفسها خنفساء والمقصود بها في مجال الحاسبات الخطأ الموجود ببرنامج وعلى القارئ أن يلاحظ الفرق الكبير في أناقة كلمة خطأ ولكمة Bug التي تشير إلى الخطأ على الرغم من أن الإنجليزية تحتوي على كلمة Error!!! وليس هذا المثال الوحيد، فكلمة Processor أي المعالج كلمة تحمل العديد من المعاني، بما في ذلك المعنى الشائع في مجال الحاسبات، وكذلك Printer (الطابعة) وScanner (الماسح الضوئي) وحتى كلمة Web التي قد تبدو للناس كلمة أنيقة تعني في الإنجليزية شبكة العنكبوت!!! وكل ما سبق من الكلمات هي عبارات موجودة في الإنجليزية أصلاً، لم يخترعها القائمون على مجال الحاسبات، وتحمل بالإضافة للمعاني الشائعة في مجال الحاسب الآلي. ومن هنا يجب أن نعي الدرس الذي تعطيه لنا الإنجليزية والذي يقف البعض أمامه صاغراً... هو أن التطور إنما يكون في المضمون والمعنى وليس في الشكل، ومن الممكن أن تكون كلمة حاسب التي يسخر منها الجميع هي كلمة Computer في الإنجليزية وكلاهما في لغتيهما كلمتان قديمتان، ولكنهما هذه المرة... يستخدمان بمعنى جديد. كذلك وقبل أن أدخل إلى وصفة اللغة للترجمة، أود أن أذكر نقطتين مهمتين، الأولى هي أن كل لغة تترجم لنفسها حسب المعنى الشائع، وليس حسب المعنى الحرفي، وإذا كنت من هؤلاء الذين يتحدثون الفرنسية فبالقطع تعرف أن الحاسب في هذه اللغة هو الـ Ordinateur وهي كلمة تعنى المنظم وليس الحاسب! ولكنها تمثل المعنى الشائع في أذهان الناس لأن العقل الفرنسي على ما يبدو يحتاج إلى الحاسب الآلي لينظم له أكثر مما يحسب (!) وهناك نماذج أخرى في لغات أخرى كثيرة مثل Datamaskin بالنرويجية أي Data Machine باللغة الإنجليزية أي آلة البيانات بالعربية! باختصار إننا لا نترجم المعنى الحقيقي، ولكن نترجم المعنى الشائع في ثقافتنا. النقطة الثانية، هي أن التسمية في اللغة العربية لها بالطبع قواعدها، وقد طالعت في مجلة PC - magazine الطبعة العربية (فبراير 1002) مقالاً بالكامل للسيد سامر الجودي يناقش الفرق بين كلمة حاسب وحاسوب. وأن التسمية الصحيحة هي حاسوب وليس حاسب لأن اسم الآلة يكون على وزن فعول مثل ساطور وصاروخ أيضاً بينما مشغل هذه الآلة، أي الشخص الذي يجعلها تعمل هو الذي يسمى حاسب أو ساطر. وما سبق هو كلام سليم تماماً من الناحية اللغوية، ولكن الاسم في اللغة العربية قد لا يتبع قواعد الاشتقاق، خصوصاً إذا ما كان بعيداً كل البعد عن المعنى، وأسوق هنا نموذج الصاروخ، ومشغله هو رائد الفضاء وليس الصارخ، لأن الكلمة الأخيرة بعيدة كل البعد عن المعنى المقصود، كذلك لا يسمي أحد الجزار ساطر لأن الكلمة وإن كانت فعلاً تعني الشخص الذي يستخدم الساطور إلا أنها لا تشير إطلاقاً للمعنى السائد في هذه المهنة! وأخيراً إذا كان الحاسب هو الجهاز الذي يقوم بالـ حساب فمن المفترض لغوياً أن الشخص الذي يقوم بالحاسب أو باستخدام آلة الحساب هو الـ حاسب وعلى الرغم من ذلك هذا الشخص اسمه السليم في العربية محاسب! كما أننا لم نسمع أبداً عن جهاز مثلاً اسمه الطابوع أو الماسوح، على الرغم من أن القاعدة التي تنطبق لغوياً على حسب، تنطبق أيضاً على طبع ومسح، ونعلم جميعاً أن اسم جهاز المسح هو الماسح الضوئي واسم جهاز الطباعة هو الطابعة، كما لا أعتقد أن جهاز الفأرة تنطبق عليه هذه القاعدة اللغوية أيضاً! وسر التركيبة هو عامل الاستخدام، فالاسم المعرب يمكن أن يكتسح الاسم الإنجليزي إذا كان يسهل استخدامه، ودون شك القاعدة هي الاستخدام، لذلك نجحت كلمة شاشة، وفشلت كلمة مرقاب، ولم تستطع حتى كلمة Screen الإنجليزية منافسة كلمة شاشة بين المستخدمين العرب، ولذلك أيضاً ترسخت كلمة إنجليزية مثل Format وفشلت ترجمة عربية مثل تهيئة مع أنها ترجمة سليمة 001%، فمن الثابت أن المتحدث العادي سيستخدم الكلمة الأسهل عليه نطقاً، والتي توصل المعنى المطلوب، فإذا كانت الكلمة الإنجليزية توصل المعنى بسهولة أكثر من الكلمة العربية، فلماذا يستخدم العربية، وعلى سبيل المثال لا يستخدم أحد الترجمة السليمة لكلمة Internet وهي الشبكة العالمية (وهي أصلاً اختصار لعبارة International Network) وبدلاً منها دخلت اللغة العربية كلمة جديدة هي إنترنت، وأكرر أن السبب في ذلك هو الاستخدام، فمن ذا الذي سيفضل كلمتان عن كلمة واحدة تفي بنفس الغرض، ولنفس السبب فشلت ترجمات كثيرة مثل لوحة المفاتيح والماسح الضوئي، واللوحة الرئيسية وحتى الحاسب الآلي!

          ومقياس النجاح هنا هو استخدام الناس بمن فيهم المتخصصون والمستخدمون العاديون لهذه الكلمات. ولا اعتقد أيضاً أن مجارات الإنجليزية في لصق الكلمات سيكون حلاً، كما يقترح البعض فلكل لغة خصائصها، والكثير من الكلمات المستخدمة في مجال الحاسب الآلي هي كلمتان ملتصقتان (مثل Keybord) أو كلمتان مختصرتان وملصوقتان (مثل Internet و Modem)، كما أن بعض الأسماء قد تبدو طفولية مثل حاسوب وفي بعض الأحيان سخيفة مثل اللوحة الأم. ولذلك أتصور أن الحل الصحيح هو اعتماد أسماء من كلمة واحدة دائماً، على أن تكون هذه الكلمات أصلاً كلمات شائعة، وسهلة النطق، وتحمل معنى أو صفة قريبة من المعنى أو الصفة المطلوبة، وهو ما حدث في الإنجليزية، وليس من العيب أن تدخل لغتنا كلمات من لغات أخرى، بشرط أن يكون دخولها هو آخر ما لدينا من حلول. ويجب ألا ننسى أن بعض الكلمات الإنجليزية في مجال الحاسب هي أصلاً كلمات عربية وتدور الدائرة وتعود إلينا هذه الكلمات دون أن نقدر على ترجمتها ونستخدمها في النهاية كما هي، وأشهر نموذجين هما كلمة Algorithm وكلمة Technology والأولى هي النسخة اللاتينية من كلمة خوارزميات وهي بالطبع كلمة صعبة الاستخدام (ولذلك ماتت!) نسبة للعالم العربي الخوارزمي الذي اخترع هذا المنهج في الرياضيات، وكلمة Technology هي عبارة عن Techno وهي أصلا كلمة عربية هي إتقان وكلمة Logy وهي كلمة لاتينية معناها المنطق وتستخدم غالباً بمعنى العلم أي ان Technology تعني علم الإتقان أو منطق الإتقان!. والكلمة العربية المرادفة لكلمة Technology هي كلمة تقانة والبعض حرف هذه الكلمة لكلمة أبسط هي تقنية، وعلى الرغم من أن الأخيرة كلمة سلسلة وسهلة الاستخدام، إلا أن شيوع كلمة تكنولوجيا أصابها في مقتل، أنا شخصياً خريج الاكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا! وأخيراً بالنسبة للنقطة الثالثة وهي تطبيق نظام التعريب، وهي النقطة التي أود أن أفند فيها أحد أخطر المزاعم السائدة وهي أن الإنجليزية هي فقط لغة العلم، وأن من يقول غير ذلك فهو إما رجعي، أو لا يمت لتدريس العلوم بصلة، كما لو كان من يتعلم بلغته يكفر بآلهة العلم الإنجليزية!. والحقيقة أن الرد على مثل هذه المزاعم أمر سهل، ولكن مقاومة القائمين على نشرها وترسيخها هو الأمر الصعب! ويكفي القول، بأن من يقف في وجه التعريب هم من العرب أنفسهم، من هؤلاء الذين تعلموا بالإنجليزية أو غيرها في أواسط القرن الماضي، حيث كانت البعثات إلى أوروبا على قدم وساق. هؤلاء هم الآن القيادات العلمية لمجتمعنا في شتى المجالات. وحتى الصف الثاني من العلميين، أي الأجيال التي أتت بعدهم، بما في ذلك الجيل الذي أنتمي إليه، أغلبهم درسوا العلوم بالإنجليزية، وكل هؤلاء لا يريدون التخلي عن تميزهم لصالح الأجيال القادمة ولصالح بناء وطن عصري، أو مجتمع المعلومات كما يحلو لهم أن يسمونه. يمكنك عزيزي القارئ أن تعرف الآن من الذين يحاربون التعريب!

          ومن المؤكد أنه لا يوجد للعلم لغة أصلاً! وحسب منطق التعليم عندنا فهناك فرعان لتربية الأجيال، الفرع الأدبي والفرع العلمي. ويدرس الفرع الأدبي تقريباً بكامله بالعربية (على الرغم من أن الإنجليزية هي لغة العلم كما يعتقدون!..). أما الفرع العلمي فيدرس كله بالإنجليزية. ولست ممن درسوا الرياضيات مع الأسف بالعربية، فقد درستها بالفرنسية في المرحلة الثانوية، وبالإنجليزية في المرحلة الجامعية، وهي من أعقد العلوم على الإطلاق، وعلى الرغم من ذلك يمكن دراستها بالكامل بالعربية، حيث أن هذا العلم بالكامل ليس فقط مترجماً إلى العربية ولكن أصله الإنجليزي المزعوم مترجم عن العربية. ولم تضف الإنجليزية إلى علم الرياضيات اية مصطلحات بل على العكس وجدت نفسها مطالبة بترجمة المصطلحات العربية الموجودة في الجبر ومن يسخرون من عبارة جتا وضل الزاوية إلخ... قد لا يعرفون أن مسطلحات Sine وCo - Sine هي ترجمات حرفية لمصطلحات عربية وليس العكس! ولكن الإنجليزية نجحوا بجدارة في ترجمة علوم العرب، ولم يبكوا مثلما فعلنا على اللبن المسكوب، ولم يقولوا أن العربية هي لغة العلم، وكانوا على حق فالأرقام لا لغة لها، وهذا ينطبق على جميع العلوم التجريدية مثل الرياضيات، فهذه العلوم لها لغتها الخاصة التي تعبر بها عن نفسها. وعلى سبيل التوحيد قرر الأوروبيون أن تستخدم أوروبا كلها اللغة اللاتينية (ولا يوجد في أوروبا كلها دولة واحدة تتحدث هذه اللغة!) في المصطلحات العلمية على أساس أن هذه اللغة هي الجذر الذي تفرعت منه كل اللغات الأوروبية الحالية، ونجحت إرادة أوروبا في فرض لغة ميتة وفقيرة مثل اللاتينية على العلم، وفشلنا نحن في فرض لغتنا الحية على العلم، لمجرد أننا لا نرغب في المحاولة. ويجب ألا ننسى أن المصطلحات العلمية ليست جزءاً من اللغة، وكمثال على ذلك فعلى الرغم من وجود كلمة تعني شاشة باللغة الإنجليزية ألا وهي Screen إلا أن هذه الأخيرة تعرف لدى علماء الحاسب الآلي الأكاديميين. بـ Video Output Device أو جهاز اخراج المرئيات بالعربية وهو نفس المعنى ونفس المصطلح ولكن بلغتنا، ولن تجد هذا المصطلح لا في قواميس العربية ولا الإنجليزية لأنه ليس جزءاً من كلتا اللغتين بينما ستجد في القاموسين كلاً من كلمتا شاشة وScreen. وإذا نظرت حولك ستجد كل دول العالم تدرس بلغاتها فيما عدا نحن، ففرنسا مثلاً لا تدرس أي شيء سوى بالفرنسية، كذلك ألمانيا وإيطاليا، وأسبانيا وروسيا تدرس بلغاتها المحلية، بل حتى دول جنوب شرق آسيا مثل الصين واليابان وكوريا تستخدم لغاتها المحلية، وهي لغات على عكس العربية لا تربطها أي صلات باللغات الأوروبية عموماً مما جعل عملية الترجمة شاقة للغاية بالنسبة لدول تلك المنطقة... ولكنهم نجحوا بالفعل. وهناك تجارب عربية رائدة في هذا المجال في سوريا وليبيا على الأقل، وحتى إسرائيل تدرس العلوم كلها بالعبرية ويبدو أننا الشعب الوحيد الذي لا يؤمن بلغته في العالم كله! ولا يعني التعريب على الرغم من ذلك تجاهل لغة عالمية مثل الإنجليزية، فعلى الرغم من اعتزازي بلغتي إلا أنني أعترف أنني لا أستطيع أن أذهب للصين وأتحدث العربية فلن يفهمني أحد، بينما لو تحدثت الإنجليزية قد أجد من يفهمني... نعم الإنجليزية هي لغة التخاطب العالمية، ولكنها بالقطع ليست لغة العلم الوحيدة لكل العالم كما يتصور البعض، وقد يكون من الأسلم أن نعلمها لأبنائنا في جميع المراحل التعليمية بشكليها العام والخاص. بل وأؤيد أيضاً أن تكون كل أبحاث الدراسات العليا والدكتوراه بالإنجليزية لكي يتمكن العالم كله من الإستفادة من هذه الخبرات ولكن يجب ويتحتم أن يكون الأساس هو لغتنا ليس لمجرد الحفاظ عليها فقط ولكن في المقام الأول لإتاحة الفرصة العادلة للجميع ليعرفوا ما يحتاجون لمعرفته. ومن ثم استخدام هذه المعرفة في تطوير الوطن.

          وفي النهاية أود أن أشيد بنموذجين مشرفين للتعريب أثبتا على مدار سنين طويلة نجاحهما. الأول هو أكبر مؤسسة في الدولة في مصر، وهي المؤسسة التي شرفت بوصف السيد رئيس الجمهورية لها بأنها أكثر مؤسسات الدولة انضباطاً... وهي القوات المسلحة، واللغة العربية هي اللغة الأساسية والوحيدة المستخدمة في التعليم والعمل وعلى كل المستويات من الجندي إلى المشير، وقد أدركت هذه المؤسسة منذ زمن بعيد أنها إذا أرادت أن تصنع جيشاً حقيقياً فلا بد أن تخاطب جميع أفراده بلغة يفهمونها، أياً كانت ثقافة أو مستوى تعليم هؤلاء الأفراد، ويمكنني القطع بأن القوات المسلحة هي أكبر، وأكثر مؤسسات الدولة تطورا وتنظيماً، ومستواها عموماً يرقى إلى مستوى أفضل نظيراتها على مستوى العالم (على الرغم من أنها تستخدم العربية وليس الإنجليزية!). والنموذج الثاني إحدى شركات القطاع الخاص الكويتية وهي شركة صخر. وصخر هي الشركة التي جعلت الحاسب الآلي في متناول كل طفل عربي، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، ولكنها أيضاً حطمت حاجز اللغة الذي كان يقف عائقاً بيننا وبين الحاسب الآلي، من نظام التشغيل إلى لغة البرمجة، مروراً بالتطبيقات والمطبوعات، لم تترك شيئاً إلا وعربته، وبناء على أسس سليمة، ولا يسعني الآن إلا أن أدعو الله لكل من عملوا ومازالوا يعملون في هذه الشركة بأن يمنحهم الله مزيداً من القوة ونور البصيرة والبصر جزاء لهم على الخدمة الجليلة التي أسدوها لجيل أطفال الثمانينات كله، وحتى يواصلوا هذه الرسالة النبيلة والواضحة لكل الأجيال القادمة.




الصحافة العربية اليومية في العصر الرقمي
الدكتور: عماد بشير *

          تستخدم معظم الصحف العربية اليومية تقنية النشر المكتبي في عملية الإنتاج اليومي لصفحاتها، ويتوافر عدد منها الكترونياً على إنترنت وعلى أقراص مدمجة ولكن يبدو ان توافر الصحف العربية بشكل إلكتروني لم ينل الاهتمام الكافي من الأكاديميين والمتخصصين في المجال. ولم يبذل الجهد المطلوب في توثيق دخول الكمبيوتر الى الصحافة العربية.

          هذه الدراسة تسعى الى تأريخ استخدام تقنيتي النشر المكتبي والنشر الإلكتروني في الصحف العربية، إضافة الى تقديم شروحات خاصة بما يجمع بين هاتين التقنيتين وما يفرق بينها. وتنتهي الدراسة الى تقديم ملاحظات حول التوافر الإلكتروني للصحف العربية اليومية على إنترنت وعلى الأقراص المدمجة من وجهة نظر استخدامية اضافة الى اقتراحات تتعلق بالتطور المطلوب في هذا المجال والدعوة الى فهم أفضل لمصطلح الصحيفة الإلكترونية ووظائفها وأهدافها.

اولاً ـ المقدمة:

          شهدت الصحافة العربية خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة تطوراً نوعياً لجهة استخدام تقنية النشر المكتبي Desk Top Publishing والكمبيوتر في تصميم الصحف وإنتاجها. وحققت تقدماً ملموساً على مستوى اعتماد تقنية النشر الإلكتروني Electronic Publishing على الإنترنت وعلى الأقراص المدمجة CD ROM.

          ما يجمع بين هاتين التقنيتين هو الاعتماد على الكمبيوتر في النشر والتخزين والاسترجاع، اما ما يفرق بينهما فيكمن في طبيعة الوظائف المنوطة بكل منهما. اذ ان تقنية النشر المكتبي تختزل العمل التقليدي من الاعتماد على المهارات اليدوية في انتاج الصحيفة الى الاعتماد الكلي على الكمبيوتر وبرامج الطباعة والنشر في استقبال الأخبار والصور وفي تصميم الصفحات واخراجها. اما النشر الإلكتروني فيستدعي التوفير الإلكتروني لنصوص وصور الصحيفة كمصدر معلومات فوري من خلال شبكة إنترنت أو على أقراص مدمجة أو من خلال الشبكة الداخلية للصحيفة، ويستطيع المستفيد الوصول الى النصوص والصور من خلال برامج خاصة بالبحث والاسترجاع. وعلى رغم الفرق بين هاتين التقنيتين غالباً ما يمزج المتخصصون بين المصطلحين عند تناولهم مواضيع تتعلق بتكنولوجيا النشر، ويوحدونهما في مصطلح واحد هو النشر المكتبي الإلكتروني Desk Top Electronic Publishig (DTEP) .

          يشير رونين أرمون (Armon 1996) في مقالة مقتضبة حول النشر المكتبي الإلكتروني إلى أن هذه التقنية جديدة وهي برعم نما من خلال تقنيتي النشر المكتبي والنشر الإلكتروني. ويقول ان التقنية الأولى حملت معها الكمبيوتر الى مكاتب المهنيين العاملين في مجال النشر، أما الثانية فتمثل مجالاً يسيطر عليه متخصصون تقنيون يساعدون منتجي المعلومات على توفير معلوماتهم الكترونياً عبر النشر على أقراص مدمجة أو على إنترنت أو إنترانت أو من خلال الشبكة الداخلية للمؤسسة الصحافية.

ثانياً ـ النشر المكتبي والصحف العربية

          إذا اردنا التأريخ لاستخدام تقنية النشر المكتبي عربياً نجد أن صحيفة الحياة التي تعتمد هذه التقنية منذ اعادة اصدارها في لندن في الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1988 كانت سباقة في هذا المجال وتبعتها مباشرة في نهاية العام التالي صحيفة الشرق الأوسط الصادرة في لندن. ثم صحيفة صوت الكويت التي صدرت من لندن في تشرين الثاني 1990 وتوقفت في منتصف عام 1992. وفي الوقت الحالي يستخدم معظم الصحف العربية بما فيها الصحف الوطنية والمحلية وتلك التي تصدر من خارج الوطن العربي تكنولوجياً النشر المكتبي في تصميم وإنتاج صفحاتها اليومية.

          لم يكن ممكناً الحصول على العدد الفعلي للصحف اليومية العربية التي تستخدم هذه التقنية نظراً الى غياب أدلة الدوريات العربية الحديثة أو إلى غياب المعلومات المتعلقة بهذا الجانب من الأدلة المتوافرة. فالأدلة الحديثة لا تزال تصدر ضمن شروط ومتطلبات المراحل التي سبقت دخول تقنية النشر المكتبي الإلكتروني الى عالم الصحف والدوريات العربية، وهي إذا وجدت فإنها تغفل ذكر العنوان الإلكتروني للصحيفة على إنترنت، ولا تذكر ما اذا كانت تلك الصحيفة متوافرة إلكترونياً على أقراص مدمجة، ولا تشير الى نظام تحرير الأخبار وادارة المعلومات الذي تستخدمه.

          وفي ندوة حول مصادر المعلومات في الشرق الأوسط ضمن فعاليات المؤتمر التاسع عشر للمعلومات الفورية بالإتصال المباشر (Online Information Conference 1995) لخص عماد بشير (بشير 1995) ما يعتقده من أسباب ساهمت في نجاح تجربة صحيفة الحياة في العبور من ضفة العمل التقليدي في الإنتاج اليومي الى استخدام نظام إلكتروني شبه متكامل لتحرير الأخبار وتصميم وإنتاج الصفحات، واعتبر ان السبب الأهم، الى جانب وجود أنظمة تشغيل متوافقة مع اللغة العربية وتوافر استخدام الاتصالات بواسطة الأقمار الاصطناعية، يبقى المخيلة القوية التي تمتع بها المشرفون على المشروع في ذلك الوقت والإصدار على تطوير نظام نشر مكتبي متوافق مع اللغة العربية للمرة الأولى في عالم الصحافة العربية.

          ولا بد هنا من الإشارة الى ان استخدام هذه التقنية سجل للناشرين العرب سبقاً على مستوى النشر الصحافي على صفحات من القطع الكبير والعريض (Broad sheet newspapers) في استخدام تقنية جديدة في عالم الصحافة. وفي هذا المجال ذكر سيباستيان أوكيلي (O,kelly,1989) ان الحياة سبقت الناشر البريطاني إدى شاه في الاعتماد على تقنية النشر المكتبي في إنتاج الصحف اليومية. وإدى شاه الذي أصدر صحيفة بوست (Post) لفترة خمسة اسابيع قبل توقفها في كانون الأول 1988، خسر المعركة مع صحيفة الحياة بفارق شهر واحد، وبذلك فإن الحياة هي الصحيفة الأولى في العالم التي تصدر معتمدة على نظام نشر مكتبي متكامل ومتوافق مع أنظمة أبل ماكنتوش. وهذه الحقيقة ربما لم توثقها الدراسات العربية لكنها موثقة في الدراسات الأجنبية وعالم النشر المكتبي.

          والجدير ذكره ان اول نظام نشر مكتبي بالعربية كان نظام الناشر المكتبي الذي عربته شركة العلوم والتكنولوجيا المعروفة باسم ديوان عام 1988 عن نظام النشر المكتبي الأميركي ريدي سيت غو Ready Set Go وهو يعمل على نظام أول ماكنتوش. ويتوافر حالياً في الأسواق عدد لا بأس به من أنظمة النشر المكتبي المتوافقة مع اللغة العربية التي تعمل بإصدارات مختلفة مع بيئتي ماكنتوش وويندوز من هذه الأنظمة نذكر الناشر الصحافي وبيج ميكر وكوراك إكسبرس، مع اضافته الخاصة وباور ببلشر لويندوز واخيراً أدوب إنديزاين الذي طورته شركة أدوبي وطرحت النسخة التجريبية منه خلال جيتكس الماضي.

          أما الأثر الذي أحدثه استخدام الكمبيوتر وتكنولوجيا النشر المكتبي في الصحف العربية فيمكن ملاحظته في أمرين مهمين، الأول هو التأثير في مستوى وأسلوب العمل داخل الصحيفة، والثاني التأثير في مستوى النشر الإلكتروني وتخزين واستخدام النصوص والصور المنشورة.

1 ـ التأثير في مستوى العمل داخل الصحيفة:

          دخول الكمبيوتر ونظام النشر المكتبي الى الصحيفة اليومية حمل الكثير من التغيير في سير العمل داخل غرف التحرير وغرف الانتاج والتصميم والاخراج، ويمكن تلخيص اهم النتائج بالآتي:

          أ ـ توقف الاعتماد على التليبرينتر (تيكرز) وأصبحت الأخبار تصل مباشرة الى خوادم (Servers) مخصصة لاستقبالها ومن ثم معالجتها وتوزيعها الكترونياً وبشكل آلي حسب قوائم خاصة بمصادر الأخبار والمناطق الجغرافية التي تغطيها والمواضيع التي تعالجها. هذه العملية تتم بواسطة ما يطلق عليه اسم وسيط الأنباء (News Net) وهو برنامج يهتم باستقبال ومعالجة وتصنيف الأخبار الواردة من وكالات الأنباء، او من خلال نظام خاص بإدارة وتحرير الأخبار (Editorial System)

          ب ـ نظام الأخبار يسمح للمحرر بالإطلاع على جميع الأخبار الواردة الى الصحيفة من مصادرها المختلفة، ويعطيه خيار الإطلاع على ما يهمه من أخبار فقط والعمل على تحريرها مباشرة على الشاشة ثم تحويلها الى اقسام الإنتاج.

          ج ـ استحداث أساليب جديدة في تصميم واخراج الصفحات تتمحور حول استخدام برامج خاصة تسمح بالعمل مباشرة على الشاشة والابتعاد عما هو يدوي وله علاقة بالإسلوب التقليدي في اخراج الصحف.

          د ـ تطور في عملية استقبال الصور من الوكالات، ففي الوقت الحالي تبث كل الوكالات الدولية صورها بشكل رقمي ما يسمح بإمكانية البحث عن الصور المطلوبة وتحميلها على الصفحات مباشرة مع الاحتفاظ بالنوعية نفسها للصورة.

2 ـ التأثير في مستوى النشر الإلكتروني:

          نتيجة استخدام تكنولوجيا النشر المكتبي في انتاج النصوص وتصميم الصفحات طرقت الصحافة العربية باباً آخر من أبواب تكنولوجيا المعلومات حققت فيه تقدماً لا بأس به على مستوى النشر الإلكتروني واصبحت الصحف متوافرة على إنترنت بأشكال عدة، وتمكنت من خزن النصوص والصور على وسائط تخزين إلكترونية بما فيه الأقراص المدمجة (CD ROM) مع قابلية البحث والاسترجاع الآلي الفوري لها.

          أ ـ النشر الإلكتروني على الأقراص المدمجة:

          على الرغم من ان الصحف العربية بات معظمها يعتمد اعتماداً كلياً على تكنولوجيا النشر المكتبي في التصميم والإنتاج. فإن عدد الصحف التي بدأت استخدام تكنولوجيا الخزن والاسترجاع الآلي للنصوص وإصدار محتوياتها على أقراص مدمجة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.

          والصحف العربية التي باشرت إصدار اقراص مدمجة ووضعت هذه الخدمة في متناول القراء والباحثين عددها حتى الآن اربع يمكن تصنيفها في ثلاث فئات، وتندرج الحياة في الفئة الأولى التي تقدم محتوياتها على شكل نصوص قابلة للتعديل والتخزين من جديد بعد الاسترجاع، من دون أي تغيير للنصوص الأصلية المحفوظة على القرص المدمج. أما صحيفتا السفير والنهار اللبنانيتان اللتان تصدران من بيروت فتندرجان في الفئة الثانية التي توفر محتوياتها على شكل صور للحقبة السابقة ونصوص قابلة للتعديل والتخزين للحقبة الحديثة. الفئة الثالثة الصحف العربية التي تقدم محتوياتها على اقراص مدمجة كصور غير قابلة للتعديل كما في صحيفة القبس.

          هناك بعض الشركات التي تعمل على انتاج قواعد معلومات ببليوغرافية الكترونية لعدد كبير من الصحف العربية. وتوفر الى جانب التفاصيل الببلوغرافية صوراً عن القصاصات الخاصة بالمواد الصحافية المعالجة في قواعد المعلومات. هذه الشركات وعملها يقع خارج اهتمام هذه الدراسة التي تتعرض الى تجارب الانتاج الصحافي في المؤسسات الإعلامية التي تستخدم تقنية النشر المكتبي في انتاج الصحف اليومية.

          أولى تجارب انتاج النصوص الصحافية على قرص مدمج جاء من صحيفة الحياة إذ أعلن مركز المعلومات فيها في السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1995 عن الإصدار الأول لمحتويات الصحيفة على قرص مدمج للأشهر الستة الأولى من ذلك العام، أطلق عليه اسم أرشيف الحياة الالكتروني.

          واختارت السفير والنهار الإعلان عن إنتاجهما الإلكتروني للنصوص الكاملة لمحتويات الصحيفتين على أقراص مدمجة خلال ندوة حول وسائل الإعلام المتعددة الوسائط عقدت في بيروت في 11 تموز (يوليو) 1997. وبعد انتهاء جلسات الندوة تم عرض المنجزات الإلكترونية المتوافرة على أقراص مدمجة، فذكرت زينب سلمان مديرة المركز العربي للمعلومات في صحيفة السفير ان المركز خطا خطوة أخرى في استخدام احدث الوسائل في حفظ المعلومات فكان مشروع نقل السفير على الاقراص المضغوطة الذي نعرض امامكم اليوم الإصدار الأول منه الخاص بالعام 1995. وكانت اشارت الى ان المركز انجز الكشاف الخاص بمحتويات الصحيفة منذ انطلاقتها في 26 اذار 1974 وحتى عام 1996. كشاف السفير متوافر على اقراص مدمجة مع امكان استرجاع النصوص الكاملة بتنسيق بي دي أف PDF أي على شكل صُور للمقالات المنشورة قبل عام 1995 وبصيغة نص إبتداءً بعد ذلك.

          وجاء الإعلان عن المنتج الإلكتروني لصحيفة النهار على لسان مدير مركز النهار للابحاث والمعلومات جورج فرنسيس الذي تحدث عن النقلة النوعية التي شهدها المركز اذ حول ارشيف النهار الورقي ارشيفاً الكترونياً، ووضع 46 سنة من ذاكرة لبنان والعالم العربي في متناول الباحثين واصحاب القرار بطريقة سهلة وسريعة. وأوضح ان النهار متوافرة على اقراص مدمجة في اربع صيغ:كشاف مع النصوص الكاملة بدءاً من عام 1995، كشاف مع صفحات الجريدة من 1992 الى 1994. الكشاف السنوي من 1992 الى 1996، وجريدة النهار من 1933 الى 1996، وتتضمن صفحات الجريدة مع الصور المنشورة وتغطي 46 عاماً من عمر النهار مخزنة على 46 قرصاً مدمجاً.

          وباشرت صحيفة القبس الكويتية الصدور على أقراص مدمجة منذ عام 1995. وقال مدير مركز المعلومات والدراسات في الصحيفة حمزة عليان إن العمل باستخدام الحاسوب في عملية توثيق الأخبار جارٍ منذ بداية عام 1995 وان كل الأخبار منذ بداية العمل الى اليوم متوافرة آلياً. وبُني النظام على إصدار كشافات شهرية تسجل على أقراص مدمجة مع تجميع سنوي واسترجاع صور القصاصات المدخلة في النظام.

          جميع الصحف العربية التي تستخدم تكنولوجيا النشر المكتبي في إنتاجها قادرة على تخزين محتوياتها على أقراص مدمجة، وقادرة على تقديم نظام بحث واسترجاع يتيح الوصول الى النصوص المطلوبة والأقراص المدمجة التي تصدرها الصحف العربية حالياً تتفاوت في أنواع أنظمة البحث والإسترجاع المستخدمة وتختلف في متطلبات التشغيل التي تفرضها على المستفيد، لكنها تجتمع على توفير المواد الصحافية للباحثين بطرق مقبولة تتيح لهم في بعض الحالات البحث في كامل النصوص والعناوين والمؤلفين والكلمات المفتاحية وتواريخ النشر.

          ب ـ النشر الإلكتروني على الإنترنت:

          يزداد عدد الصحف اليومية العربية المتوافرة على شبكة إنترنت يوماً بعد يوم وبذلك يتوسع النطاق اللغوي لمفهوم الصحيفة اليومية الإلكترونية ليشمل اللغة العربية منذ ظهور أول صحيفة يومية عربية على إنترنت في أيلول (سبتمبر) 1995. ولكن هل تتلاقى المواصفات التي تتسم بها هذه الصحف مع ما هو معروف من مزايا الصحيفة الإلكترونية.

          من الناحية الإصطلاحية فإن الصحيفة الإلكترونية تنطبق عليها مواصفات الصحيفة اليومية المطبوعة لجهة وتيرة الصدور ولجهة تنوع المواضيع بين السياسة، الاقتصاد، الثقافة، الاجتماعيات والرياضة ولجهة تنوع شكل المادة الصحافية بين الخبر، المقابلة، التحليل، التحقيق والمقالة. لكن أهم ما يميزها عن الصحيفة المطبوعة هو توافر المادة الصحافية على شكل نص إلكتروني (text) يمكن البحث فيه وتحريره من جديد بعد استرجاعه وبالتالي خزنه كمادة صحافية جديدة. ومن المزايا الأخرى سرعة الوصول (access) الى المادة الصحافية بأكثر من طريقة.

          والصحيفة اليومية بشكلها الإلكتروني توافرت كأحد مصادر المعلومات قبل الطفرة الحديثة لإستخدام إنترنت. لكن ظهور الأخيرة ساهم في تعزيزها ودفع بالناشرين من مختلف الجنسيات الى إصدار طبعات إلكترونية لصحفهم. وقد بدأ العمل على الاستفادة من المزايا التي توفرها الصحيفة الإلكترونية منذ منتصف السبعينات وظهرت الثمار الأولى للأبحاث في بداية الثمانينات مع الإعلان عن توافر عدد من الصحف اليومية آلياً بواسطة الإتصال الفوري المباشر (online) ومن أولى هذه الصحف صحيفتا واشنطن بوست ولوس أنجليس تايمز اللتان كانتا متوافرتين للمشتركين مع مواد صحافية اخرى منتقاة من عدد من الصحف الأميركية عبر خدمة معروفة بـ خدمة واشنطن بوست ولوس انجليس تايمز.

          إنطلاقاً مما ذُكر سابقاً، يمكن القول ان الصحف الإلكترونية العربية المتوافرة عبر انترنت تعتمد في بثها للمادة الصحافية على ثلاث تقنيات هي تقنية العرض كصورة، وتقنية بي بي أف، وتقنية النصوص. هذه التقنيات تختلف فيما بينها على مستوى عرض وتخزين المادة الصحافية لكنها تلتقي على عدم امتلاك صفة الصحيفة الإلكترونية وبذلك فإن الصحيفة اليومية الإلكترونية العربية وإن دخلت ميدان النشر على إنترنت إلا أنها لا تزال تفتقد كثيراً من المزايا التي تتصف بها الصحيفة الإلكترونية على مستوى المصطلح وعلى مستوى المفهوم. فبعض الصحف العربية الإلكترونية لا يتوافر بشكل يومي على إنترنت، والبعض الآخر يتيح إلكترونياً بعض ما ورد في الطبعة اليومية الورقية، قلة قليلة فقط من الصحف العربية تلتزم بالإصدار اليومي على إنترنت دون مشاكل أو نواقص.

          توافرت الصحيفة اليومية العربية للمرة الأولى عبر شبكة انترنت في 9 ايلول (سبتمبر) 1995. ونشرت صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 6 ايلول من ذلك العام، خبراً على صفحتها الأولى اعلنت فيه انه بدءاً من 9 أيلول 1995 ستكون موادها الصحافية اليومية متوافرة إلكترونياً للقراء على شكل صور عبر شبكة انترنت. الصحيفة العربية الثانية التي توافرت على انترنت كانت صحيفة النهار البيروتية التي اصدرت طبعة إلكترونية يومية خاصة بالشبكة بدءاً من الأول من كانون الثاني 0يناير0 عام 1996. ثم تلتها الحياة في الأول من حزيران من العام نفسه والسفير اللبنانية في نهاية العام ايضاً. وتتوافر على شبكة العنكبوت الدولي في انترنت حالياً اكثر من سبعين صحيفة يومية بما فيها الصادرة بالإنجليزية على ما هو مذكور في الدليل الإعلامي الموجود في احد المواقع الخاصة بالإعلام العربي (www. fayez.net) وهناك امكانية كبيرة ان تتوافر صحف يومية اخرى على انترنت غير واردة في هذا الدليل الذي يوفره هذا الموقع جولة واحدة على كل المواقع الخاصة بالصحافة العربية اليومية تبين ان هذه الصحف تعتمد في بثها للمادة الصحافية على تقنيات عدة متفاوتة ومختلفة ولكن أياً من هذه التقنيات المستخدمة لم يرتق بالصحافة العربية الى مستوى الصحيفة الإلكترونية المتكاملة.

          ومن خلال عرضنا لهذا التأريخ، يمكننا القول ان الصحف العربية المتوافرة على إنترنت لا تتوافر فيها شروط الصحيفة الإلكترونية. ولكن هي في مجملها عبارة عن توأم للصحف المطبوعة. لذلك فهي صحف عربية متوافرة الكترونياً وليست صحفاً إلكترونية فالصحيفة الإلكترونية اداة إعلامية مختلفة عن الصحيفة المطبوعة وتجمع مزايا العديد من وسائل الإعلام الحديثة غير الموجودة في الصحيفة المطبوعة من هذه المزايا نذكر التفاعلية والتحديث المتواصل للمعلومات وإمكانية البحث والاسترجاع والتخزين على وسائل إلكترونية مختلفة إضافة الى الربط الإلكتروني بين المواد المتعلقة ببعضها.

          ويبقى الإشارة الى ان الآمال معقودة على صحيفة إيلاف الإلكترونية التي كان من المفترض صدورها في تشرين الأول (اكتوبر) الفائت، حسب ما اوردته صحيفة الحياة في 41 نيسان (ابريل) 2000، خلال مقابلة صحافية مع المسؤول عن المشروع الصحافي عثمان العمير والتي حسب ما ورد في المقابلة المذكورة سوف تتوافر فيها شروط الصحيفة الإلكترونية المذكورة آنفاً، ولكن هذا لايعني ان إيلاف ستكون المحاولة الأولى، لأن الصحافي محمد جبر شرع في نشر صحيفته الإلكترونية العربية على الإنترنت مباشرة منذ كانون الثاني (يناير) 2000، مع الإشارة الى شوائب عدة تحتويها هذه الصحيفة لجهة تحديث المعلومات. وذكرت ببسان طي في عدد الحياة الصادر في 51 كانون الثاني (يناير) 2001 انه من الضروري ان تطور aljareeda.com مضمونها وتنوع أبوابها خصوصاً بعد مرور سنة على صدورها، فهي لم تعد في المرحلة التأسيسية، وأن تلتزم الشعار المعلن في ترويستها، فيتم تحرير الأخبار فعلاً على مدار الساعة.

          ثالثاً ـ ملاحظات:

          بعد مرور ما يقارب الثلاثة عشر عاماً على دخول تقنية النشر المكتبي الى الصحافة العربية وستة أعوام على اعتماد تقنية النشر الإلكتروني على إنترنت وعلى الأقراص المدمجة، لا يبدو ان المؤسسات الصحافية العربية تولي هذا الصعيد الاهتمام الكافي.

          عدد الصحف المتوافرة على أقراص مدمجة لايزال قليلاً قياساً بعدد الصحف المطبوعة. وأيضاً فإن الصحف العربية المتوافرة على إنترنت لم تدخل عليها تطورات جديدة بالإهتمام. بل على العكس اذ ان بعضها الذي بدأ النشر على انترنت بخطى واسعة ومشجعة تراجع حالياً ولم يعد يعير اهتماماً الى أوقات النشر وتوافر الصفحات في موقعه على انترنت بالترتيب المعتمد. اضافة الى ذلك. فإن عدداً قليلاً من هذه الصحف يوفر للمستفيدين البحث في نصوص الأعداد السابقة للصحيفة او الحصول على معلومات مخزنة إلكترونياً ضمن أرشيف إلكتروني يمكن استشارته عند الحاجة الى معلومات واحصاءات. علماً ان التطور التقني الذي تشهده أنظمة الخزن والاسترجاع يأخذ في الاعتبار متطلبات اللغة العربية وأن شركات تطوير البرامج العربية قطعت شوطاً كبيراً على مستوى تذليل العقبات التي تواجه تخزين النصوص العربية والبحث فيها والاسترجاع الفوري لها.

          لاتحتوي الصحف العربية المتوافرة على إنترنت على مواد صحافية غير منشورة في النسخة المطبوعة للصحيفة، وبالتالي فإن الصحيفة العربية المتوافرة على إنترنتت لا يمكن أن تقدم سبقاً صحافياً على توأمها المطبوع. ومعظم هذه الصحف لا يعتمد الوسائط المتعددة في تدعيم الخبر ما عدا تقديم الصورة الثابتة مع المواضيع الصحافية في عدد من هذه الصحف.

          رابعاً ـ الخاتمة:

          لكن كل ما قدمته وتقدمه الصحافة العربية من مساهمات في ميدان تخزين وإسترجاع النصوص الإلكترونية يعتبر قليلاً قياساً بما تقدمه الصحافة الغربية عموماً والأميركية والانجليزية خصوصاً. فهذه الأخيرة قدمت الكثير في سبيل تطوير نظم الخزن والإسترجاع وعملت على إيجاد حلول للمشاكل التي تعترض عمليات الإسترجاع الآلي الفوري سواء من بنوك المعلومات مباشرة او من الأقراص المدمجة. وأعتقد ان المطلوب من اصحاب الخبرات والتجارب العربية في هذا المجال تبادل الآراء والأفكر حول المشاكل التي تعترض تطوير هذه التقنية في البلدان العربية والوصول الى حلول تساعد الصحف والمطبوعات الدورية وتزيد تطورها في هذا الميدان وبالتالي تحفظ الذاكرة العربية من الاهمال والضياع.

          رئيس قسم المعلومات في صحيفة الحياة

          أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية كلية الإعلام والتوثيق

          Reference List

          Armon, Ronnon, Desk Top Electronic Publing Ovctview, Digital Publishing World, October/ November, p24.

          Bachir, Imad (1995) Thc Changing Face of Middle East Information Resources, Seminar organised by UPI and BBC Monitoring Service at the Online Information Conference 1995 London.

          O, Kelly, Sebastian (1989) First Past the Post, MacUser, Februry.