ملتقيات العربي

ندوة المجلات الثقافية ودورها في الإصلاح الثقافي

تجربة في تعريب الطب

مشكلات الترجمة العلمية ومعوقاتها
مع التركيز بشكل خاص على تعريب الطب
د. إيهاب محمد

         يبدو أنه لا مفر من التأكيد على أن الترجمة عصب الحياة الحديثة وأداة اتصال دولي وحضاري وأننا كعرب ننتمي إلى أمة متخلفة هي أشد ما تكون حاجة إلى عمليات ترجمية وتعريبية واسعة وعميقة لكثير من العلوم التي قد لا يتوفر منها إلا القليل باللغة العربية وأن العرب كانوا يوماً من الأيام يحترمون ترجمة العلوم احتراماً قل نظيره.

         وعلى الرغم من المحاولات الترجمية المتقطعة، الجارية في مصر وسوريا والكويت والمغرب ولبنان، ما زالت نسبة المترجم إلى المؤلف في هذه الأقطار لا تتجاوز الواحد بالمائة، في حين تصل هذه النسبة في بلد مثل بريطانيا إلى 10 % وفي بلد مثل الولايات المتحدة الأمريكية إلى 15 %. وإذا أخذنا هاتين النسبتين في بريطانيا والولايات المتحدة كدليل على أهمية الترجمة في وجود تقدم الإبداع والتأليف فهذا يعني بوضوح شديد أن الترجمة ليست عاراً، ولا عجزاً عن التأليف، ولا إفلاساً في الإبداع، وإنما هي مجال حيوي يتحرك في أجوائه الإبداع فيغتني وينتج على نحو أفضل. وعندما ترتفع نسبة الترجمة لدينا إلى نسبة تقارب النسبة البريطانية على الأقل، نكون قد بدأنا بالسير علمياً وثقافياً في الطريق الصحيح.

أهمية الترجمة

         الترجمة هي محرك ثقافي يفعل فعل الخميرة الحفازة في التفاعلات الكيماوية؛ إذ تقدم الأرضية المناسبة التي يمكن للمبدع والباحث والعالم أن يقف عليها ومن ثم ينطلق إلى عوالم جديدة ويبدع فيها ويبتكر ويخترع. هذه الأرضية تصنعها الترجمة بما توفره من معارف الشعوب الأخرى التي حققت تراكماً عبر التاريخ يمكنها من دفع النخبة الفكرية من النقطة التي بلغتها الثقافة البشرية وليس من الصفر، وكذلك بما تقدمه من نماذج وأساليب تمكنت الشعوب السابقة من إيجادها عبر كفاحها المتواصل والمستمر لتحسين العقل البشري وتطوير المعرفة لدى الإنسان.

         عملية التحريض التي تقوم بها الترجمة نراها واضحة لدى كل أمة، خاصةً حين تنتقل إلى طور المشعل الحضاري، إذ تسبق حركة الترجمة دائماً حركة التأليف بالمعنى العام للكلمة، وتمهد الأولى للثانية دائماً.

         الترجمة تجسر الهوة القائمة بين الشعوب الأرفع حضارةً والشعوب الأدنى حضارةً. ذلك أن الإنسان في سعيه الحثيث والدائب لاكتساب المعرفة يتطلع دائماً إلى من سبقه في هذا الميدان، لهذا تغدو المراكز الحضارية في العالم مراكز نور وإشعاع تجذب أبناء الظلمة وتغريهم بالاندفاع نحوها.

         الترجمة وسيلة لإغناء اللغة وتطورها وتحديثها؛ إذ تلعب الترجمة دورا مهما في إغناء اللغة وتطويرها، ذلك أن الميادين الجديدة التي تخوضها الترجمة تقتضي منها أن تبحث عن صيغ جديدة وتعابير مناسبة وكلمات ملائمة، وهذا كله إغناء للغة وتطوير لها.

صفات وتحديات ناقل المعلومات (المترجم)

         إن الترجمة تمثل بواقعها مباراة دائمة بين المترجمين، تتجلى برغبة كل منهم بالتأكيد على أن لغته الأم قادرة أيضا على احتواء النص الفني أو العمل العلمي بشكل إبداعي جديد، لذلك فهي تفرض على المترجمين مسؤوليات متعددة الجوانب يمكن إيجازها فيما يلي:

         - يجب أن يكون المترجم على ثقة بأن المؤلف لو كان عربيا لعبّر هكذا كما يعبر بالعربية وليس بشكل آخر. ولكن على أي شيء تعتمد هذه الثقة؟ إنها تعتمد على إحساس دقيق بالزمن وعلى معرفة جيدة بالمؤلف وعلى الإحساس بأحاسيسه أيضا والقدرة على الوصول إلى كنه العمل.

         - إذا كان حب العمل شرطا أساسيا لأي نجاح في أي من المجالات، فإنه بالنسبة للترجمة شرط محدد. فلابد أن تحب المؤلف وتحب النص وإلا ستعيش حالة ركض متعبة باتجاه النهاية محاولا التخلص من عبء العمل.

         - أن تترجم نصا فهذا يعني أن تقول ما تريد على لسان الآخرين، فإن حجم ما أبدعته الإنسانية حتى الآن كبير جدا، وما المترجمون إلا مبدعون نذروا أنفسهم لإيصال هذا التراث الفكري إلى شعوبهم مقابل أن يقولوا ما يريدون.

         - هناك مثل يقول بأن >الترجمة كالمرأة إذا كانت جميلة فهي غير أمينة وإذا كانت أمينة فهي غير جميلة<؛ وينبع هذا الإشكال أساسا من فهم عملية الترجمة: آلياتها وأهدافها- أهي عملية نقل آلية أم عملية إبداعية؟

         - إذا كانت الترجمة عملية إبداعية فيجب أن يكون القائم على العمل (وهو المترجم) مبدعا، يمكن أن يبتعد ويقترب من النص الأصلي ولكنه في جميع الحالات يقدم مادة جمالية معادة التكوين، فيها القدرة الذاتية على الحياة، حتى تكاد بعض هذه الترجمات أن تكتسب صفة النص الأصلي بالديمومة، وبعد زمن يصعب الحكم عليها أكتبت أساسا بهذه اللغة أم ترجمت إليها، مثل ترجمة ليرمانتوف لجوته (من الألمانية إلى الفرنسية) وترجمة أحمد شوقي لرباعيات الخيام من الفارسية. أما من يقول بأن الترجمة عملية تقنية فإنما يلحق بدافع الأمانة الزائدة بالنص أكبر الضرر، ويؤدي في أغلب الأحيان إلى تشويهه.

الترجمة؛ علم أم فن؟

         تنقسم الترجمة عموماً إلى نوعين: الأول، الترجمة الشفوية أو الفورية أو التتبعية وهي قديمة قدم العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين البشر وتزداد الحاجة إليها في عصرنا هذا - عصر الاتصالات الدولية، وقد كان حظ الترجمة العلمية والأدبية في هذا النوع قليلاً. أما النوع الثاني فهو الترجمة الكتابية وهي أوسع انتشاراً وأكثر ديمومة من حيث كونها وسيلة الاتصال والمثاقفة acculturation والنقل الحضاري العام بين الأمم، وهي تمتاز بالدقة والتأني والأهمية الثقافية بالمقارنة مع الترجمة الفورية، وقد تحققت الترجمة العلمية والأدبية وانتشرت عبر الكتابة.

المشكلات المتعلقة بأنظمة الترجمة الآلية والحلول المقترحة لها:

         إن أية لغة يبلغ عدد مفرداتها 60 ألف كلمة يمكن أن تحتوي نظريا على 6.3 بليون تسلسل من كلمتين. ومن بين أول الأهداف في برمجة نظام الترجمة الآلية، أن تعلم النظام كيفية المحافظة على مساحة التخزين (الذاكرة) بالتخلص من تسلسلات الكلمات النادرة أو المستحيلة، مثل وجود فعلين، واحدا بعد الآخر مباشرة. وستؤدي الذاكرة التي ستتوسع بصورة هائلة في أنظمة الكمبيوتر المستقبلية إلى تخفيف جزء من المشكلة؛ وستتيح خوارزميات الذكاء الصناعي إجراءات أكثر فعالية لحذف تسلسلات الكلمات غير العملية.

         - النتيجة الاقتصادية الأكثر وضوحا للترجمة الآلية ستكون نهاية مهنة الترجمة في خاتمة المطاف.وبالإضافة إلى ذلك، فستتأثر سلبا أغلب الأعمال المساعدة المتعلقة بالترجمة، مثل واضعي المعاجم والناشرين.

         - ومن شبه المؤكد أن أنظمة الترجمة الآلية ستؤدي إلى توسع هائل في السياحة الدولية. وستفتح أنظمة الترجمة الآلية أسواقا واسعة لإنتاج الأفلام والتلفزة الوطنية.

         - وبمجرد أن يزيل نظام الترجمة الآلية العائق اللغوي، يجب أن تزيد الهجرة الدولية للعمال بمعدلات تفوق بكثير تلك الأعداد الكبيرة الموجودة اليوم، خاصة بين العمال ذوي المهارات المتدنية، وذوي التعليم المحدود الذين يفتقرون تماما لمهارات اللغة.

         - إن القدرة المحسنة لأنظمة الترجمة الآلية، والتي تتيح لكل شخص أن يفهم ما يقوله الآخرون ويعتقدون به، يمكنها أن تدفع حضارات العالم المتعددة نحو إجماع أكبر على الأفكار والقيم الرئيسية للقرن الحادي والعشرين.

إشكاليات الترجمة ومعوقاتها

         لا تبدأ أي حضارة تكوينها وعطاءها من فراغ أو من نقطة الصفر، وإنما تغترف - خاصة في مراحل نموها الأولى، أو في مراحل الاستعادة الحضارية - من التراث البشري العام، بما يتناسب مع هويتها الخاصة وإطارها المعرفي المميز. ولما كانت عملية الترجمة تمثل عاملا أساسيا ومهما فإن فيها بعض الإشكاليات التي يجب أن تكون موضع انتباه ودراسة.

         لسوء حظ اللغة العربية أنها لم تنجب في العصر الحديث أدباء وشعراء ممن يجيدون اللغة اللاتينية، كي يستطيعوا أن ينقلوا إليها ثمار الآداب المكتوبة بتلك اللغة من حيث إن اهتمام العرب باللغات جاء بتأثير المستعمر الذي فرض لغته وثقافته علينا بأساليب شتى، مما خلق لدينا شعورا، جمعيا، بالنقص إزاء >الخواجا< الأوربي، وقد يكون هذا مبررا أحيانا لأسباب موضوعية لأن معظم مصطلحات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد صيغت بتلك اللغات.

         عموما، نحن كنا، ولا نزال، نهرول، حتى في تطورنا، وراء الغرب. ولم تكن معرفتنا باللغات الأخرى هي خلاصة بحث دؤوب وموضوعي يعتمد على اندفاع حضاري، بدليل أننا لم نتجه إلى لغات حضارية أخرى دونت بها أهم المنجزات الفلسفية والأدبية والفكرية عبر التاريخ البشري كاللغات الصينية والهندية واليابانية والإسبانية وغيرها.

المشاكل التي تعترض تعريب الطب وحلول مقترحة للتغلب عليها.

         إن عملية التغريب التي يعيشها عالمنا العربي قد تمكنت من الإنسان العربي وجعلته غريبا عن تراثه وتاريخه الشامخ، منفصلا عن جذوره ولذا أصبح في حالة من الضياع الثقافي الكامل، فلا هو قادر على التواصل مع تاريخه وتراثه ولا هو قادر على اللحاق بمتطلبات العصر.

         وبعدم تدريس العلوم والطب باللغة العربية تمكن المستعمر الغربي من أن يجعلنا تابعين له وحرمنا من الإبداع العلمي في هذا المجال.

         من أهم المشكلات التي تعترض تعريب الطب، مشكلة المصطلح العلمي، وتتمثل في عدم توفر مصطلحات علمية باللغة العربية واضحة وسهلة ومتفق عليها.

         إن الخلاف حول المصطلح مردود عليه، فالمتخوفون من مشكلة المصطلح يتحدثون عن غرابة المصطلح.

         والرد على هذا الأمر: أنه لا عجب في غرابة المصطلح فهذا هو الأصل في الغرابة لأن الشئ الذي لا يعرفه الإنسان يكون غريباً وعند معرفته به تنتفي الغرابة ومع الزمن يكون معلوماً لأن المصطلح هو اسم لشيء فبعد معرفتنا به يكون عادياً وتنتفي الغرابة عنه.

         وعندما تسأل الطلاب عن التدريس باللغة العربية، يقولون إن الفهم باللغة العربية أحسن ولكن....!! وعندما نسأل عن (لكن) هذه يقولون إن لديهم تخوفاً من عدم تمكنهم من العمل في البلاد الأجنبية وعدم استطاعتهم مواصلة التدريب بعد التخرج وعدم توافر الكتاب العربي وما إلى ذلك من الأعذار.

         فهم الطالب هو أهم أمر في العملية التعليمية، فنحن نهدف إلى أن يتفهم الطالب المادة العلمية ويستوعب العلم، فمادام الأمر كذلك وباعتراف الطلاب فإن أي حديث آخر يصبح جدلا غير موضوعي وفيه كثير من المغالطة.

         إن ترجمة النصوص العلمية من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية ليست بالأمر الهين لكنها في نفس الوقت ليست بالأمر المستحيل.

         فعلا، لقد بُذِلت جهود ولا تزال تُبذَل في مجال إنتاج المصطلح العلمي العربي لكنها تظل غير كافية بالمقارنة مع السرعة التي يتم بها هذا الإنتاج على الصعيد العالمي.