ملتقيات العربي

ندوة المجلات الثقافية ودورها في الإصلاح الثقافي

كيف السبيل لإعداد المستقبل العلمي؟

إرهاص الثقافة العلمية العربية
هل إلى انتصار من سبيل؟
بقلم: د. عدنان مصطفى

         لا ريب في أن البقاء الحرّ العزيز العربي قد انتكست أعلامه المجيدة في هذا الزمان الكئيب. وتشكل ظاهرة انحسار (قوة العلم العربي)، بعد سموها التاريخي العتيد، أحد مصادر هذه الانتكاسة الرئيسة، وذلك منذ الربع الأخير للقرن العشرين الفارط وحتى اليوم. وعبر هذا القدر العربي - الإسلامي القاسي، لم يضع أعداء الحضارة العربية - الإسلامية وقتاً كي يعزوا هذا الأمر إلى وجود خلل طبيعي ضمن العقل العربي، تجسدت حقيقته ظاهراً في تقزم الفكر العلمي العربي وفي تخلفه عن مواكبة تحديات التقدم العلمي - التقني العالمية.

         وإذ سبق لنا، وللعديد من سالكي مدرسة العلم العربية المجيدة، دحض مثل هذا الإفك العولمي الظالم، فقد عزمنا في هذا البحث على جلاء واقع الفكر العلمي العربي الراهن من وعثائه، ورد دعوى الخلل المنظور شمالياً في المجتمع العلمي العربي، وتفسير شتى عوامل إرهاصه السلبية، الداخلية منها والخارجية.

         وانطلاقا من هذا التجاهد العلمي الحق، عمدنا إلى إنارة الدرب المستقيم - الحقّْ، للخروج من هذا المقام المحزن. كما ارتأينا إلقاء المزيد من الضوء على مسار المجتمع العلمي العربي المرهص اليوم، واقتراح بعض رؤى أساسية تكون بمنزلة إشارات حضارية - مدنية على طريق التقدم العصري العربي في العلم والتقنية.

         إن تعبير العلم: (science) ينطوي في مدارس العلم الشمالية على كل أشكال متابعة حيازة الحقائق الخاصة بمختلف جوانب شأن وجودنا والبيئة الطبيعية من حولنا، ومن ثم إدراك وبلورة القوانين الأساسية الطبيعية التي تحرك هذا الوجود، بدءاً من عالمنا الأرضي وانتهاءً بمختلف الجمل الفيزيائية التي يشتمل عليها الكون الذي يحتوينا.

         ومنذ ما لا يقل عن ألف عام، تمَّ في مدرسة العلم العربية، التمييز بين العلم والمعرفة: فلقد سمَّى، أبناء مدرسة العلم العربية، العلم المقرون بالمعاملة والحال - وهو العلم الذي يعبر عن أحوالهم- بالمعرفة، ويسمون العالم به عارفاً. كما سمّوا العلم المجرد من المعنى والخالي من المعاملة علماً، وسمّوا العالم به عالماً، ومن كان عالماً بمعنى الشيء وحقيقته عارفاً، فالعالم قائم بنفسه والعارف قائم بربه.

         ولهذا قيل إن المعرفة أفضل من العلم، لأن صحة الحال لا تكون إلا بصحة العلم، وصحة العلم ليست صحة الحال (أي: لا يكون عارفاً من لا يكون عالماً بالحق، ولكن يكون عالماً من لا يكون عارفاً)

جلاء واقع الفكر العلمي العربي الراهن

         منذ قرابة بضعة عقود خلت وحتى اليوم، ثمة لَغَطٌ، متعاظم الضلال، يدورُ حول تفسير الواقع المرير لعيش الأمة العربية في حال عسرة علمية(scientific scarcity). وفي حال رد البعض، في عالم الشمال، أصل ذلك إلى وجود عجز في العقل العربي عن إدراك الإتقان العلمي ومن ثم تحقق القزمية في هذا العقل عن مواجهة تحديات العصر العلمية والتقنية، حيث ينشأ من هنا - باعتقاد هؤلاء المفسرين - سببُ فقد مدرسة العلم العربية الراهنة لأبرز أصول النهج العلمي اللازمة لتحقيق الإبداعين العلمي والتقني من جهة، في حال ذهب البعض الآخر، في عالمي الجنوب والشمال معاً، إلى وجود استحواذ شوفيني عربي - إسلامي عتيق(4)، ينطلق من مرابطةٍ عربية داخلية بدأت عند الماضي البعيد، وكانت له يدٌ طولى في حجب الأمة العربية عن التطورات المدنية المعاصرة من جهة أخرى.

         ويبقى أقسى هذه التفسيرات كلها كامنٌ في تلك التحليلات البعيدة عن المعرفة العلمية الحقة، والمنطلق بعضها من أصحاب التبعية الفكرية الماكيافيللية الاستيطانية الاستبدادية (5) في داخل المجتمع العربي.

         على أي حال، اقتفاءً: لخطى القائلين بالحق والمدافعين عن المعرفة العلمية الحقيقية، إضافة إلى المدركين لواقع حياة الشعب العربي منذ مطلع القرن العشرين الفارط وحتى اليوم، سنعمد في أكثر من موقع في هذا البحث إلى جلاء بعض أبرز شواهد العطاء الحضاري الفريد لمدرسة العلم العربية العتيدة، ودحض الدعاوى المغرضة، المشار إليها آنفا، والمضادة لقوة المعرفة العربية، وذلك ابتداءً بعدد من الحقائق الرئيسة.

         الرد، دون ريب، على كل الدعاوى الظالمة المثارة حول (تخلف الفكر الجنوبي عموماً والعربي خصوصاً، عن إدراك شئون العلم والتقنية العصرية والتعامل معها). إذ كيف يتمكن عالم ماروني - عربي مثل السير بيتر مدور (Sir Peter Medawar: 1915-1987) اللبناني الأصل (10) من مشاركة السير فرانك بيرنت في نيل جائزة نوبل في الطب عام 1960، وذلك لكشفهما العظيم أمر المناعة المكتسبة، فكانت المدخل التقني لزرع النسج والأعضاء البشرية؟. وكيف تمكن لعالم مسلم - باكستاني مثل الأستاذ الدكتور محمد عبد السلام (Professor Muhamad Abdus Salam: 1926-2001) من مشاركة الأستاذين شيلدون وغلاشاو في وضع هيئة النظرية الموحدة العظمى في الفيزياء؟، وهي آخر النظريات الفيزيائية العصرية العتيدة حتى اليوم.

         ثمة سبعة أعراض مرضية رئيسة، على الأقل، تنتاب اليوم جسد الجامعات العالمية عموماً والعربية خصوصا (عالم الفكر، 1995)، وهي:

  1. هبوط المواطنية الأكاديمية (decline of academic citizenship ): وهي المسئولة مباشرة عن ظاهرة تنامي الاحتراف في استخدام العلم والتقنية

  2. انتهاك (براءة الجامعة): وذلك من خلال تفاقم حدة التنافس بين أساتذة الجامعات للحصول على التمويل الخارجي من الحكومات والصناعة والتجارة.

  3. تفاقم (بلقنة الجامعة): الآخذة بناصية العديد من جامعات الجنوب والمتجلية في ضرب قواعد الإنجاز والنشر الأكاديمي الرفيع، وتطبيق أعراف بيروقراطية داخلية لا تنسجم والمثل الأكاديمية العالمية.

  4. انحسار قوة الديمقراطية الفكرية الأكاديمية: مما يحول دون التعبير بحرية عن الحقيقة ونشرها.

  5. هبوط همة أعضاء هيئة التدريس ومن يعاونهم في البحث والتطوير.

  6. تخلف جاهزية الحرم الأكاديمي عن تقبل آراء المجتمع وتلبية حاجته من العلم والتقنية.

  7. تقزم مرونة الحرم الجامعي العلمية إزاء عوامل التغيير.

         وإذ يثارُ ثمة تساؤلٍ حول حقيقة سرابية الرؤية العربية لواقع حال (مدرسة العلم العربية) الراهن، فثمة جواب مباشر قد يقفز ببال أي عارف ما بأمر هذا الحال يقول: لا ريب في أن هذا المقام غير السعيد قد يبدو للناظر وهو: إما ناجم عن مؤثر بيئي قائم، يرسي اليوم في بيداء التخلف المدني العربي تطبقات مناخية مرهصة سلباً لآفاق السمو العلمي العربي، وذلك وفق نظرية السراب الفيزيائية التقليدية (Optics) من جهة، أو نتيجة لرؤية هذه المدرسة العتيدة، وفق منطق نظرية المعرفة إياها(Epistemology)، وكأنها مجرد مسطرة مغموسة في مياه الإدارة السياسية العكرة التي تحكم تقدم نمائنا العربي من جهة أخرى. وإن حث هذا الجواب همة أحد ذوي البصيرة مقترحاً: (ضرورة اكتمال التشخيص بتجسير هذين المنظورين)، فلا بد لنا من التأكيد معه على أن أي جسر براغماتي، مفيد لوجه المعرفة الحقة، لا بد وأن يدرك مباشرة بأن إرساء أعمدة هذا الجسر الرئيسة سيتم فوق محيط متلاطم لا يحد (troubled ocean)، تسوده دوامات الصراعات السياسية العربية وأعاصير النفوذ العالمية، حيث تفعلُ محصلة قواها جميعاً بتحريك تقدم / تخلف مركب المعرفة العربية الحقة. وكي نتحاشى الوقوع في زحام سير فكر متروبوليتان بيزنطة، وحيث يتيسر لنا اتباع الطريق الدائري الجنوبي المضاء بمشاهد الفكر الحضاري العربي، يمكن لنا التحرك بهدوء باتجاه اقتراح سبيل مشرق يمكن من خلاله بدء الانطلاق نحو منظور عاجل لإذكاء جذوة (مدرسة العلم العربية).

         (وبواقعية عصرية متواضعة يمكن البدء برسم صورة هذا المنظور من خلال الإجابة على التساؤل التالي:) ما هي أبرز الواجبات التي يمكن لمدرسة العلم العربية تحقيقها في المنظور القريب؟، آخذين بنظر الاعتبار فعل ذلك من خلال الواقع ثلاثي الأبعاد التالي:

  1. (البعد الأول): الذي يجسد البيئة السياسية - الاجتماعية التي سوف تتم في إطارها، ولصالحها، يقظة العلم العربي المؤملة.

  2. (البعد الثاني): وفرة المصادر المادية والمعنوية الوطنية - العربية التي يمكن تقديمها لصنع اليقظة العلمية العربية الحقة؟، كل ذلك إضافة إلى:

  3. (البعد الثالث): مقام بؤس المواطنين الأحياء (أي السالكين والعلماء الشباب العرب) القاطنين ضمن العديد من قبور هذه المدرسة (أي الجامعات العربية)، ووفق البعد الأول، نتبين أنه منذ ما لا يقل عن أربعة عشر قرناً من الزمان، تم تحديد الهدف الرئيس من المعرفة في البيئة الاجتماعية - السياسية العربية - الإسلامية عبر الحديث النبوي الشريف القائل: - (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع..)

         يبدو أن لا مناص لأية دعوة لإذكاء همة (مدرسة العلم العربية)، من استنهاض مكامن القوة الحضارية العربية الأصيلة ضمن البيئة السياسية - الاجتماعية العربية، فتمكنها من استيعاب معطيات القرن الحادي والعشرين الجاري، وتمنح مركب لم شمل وتكامل المجتمع العلمي العربي الراهن الطاقة اللازمة، ليمضي متسارعاً في الاتجاه الصحيح خلال بقية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الجاري. وإذ لسنا اليوم بمعرض اختراع الدولاب مجدداً، يمكن لنا اقتراح نمط براغماتي من الاستنهاض يستفيدُ من تجارب بقاء / فناء مدارس العلم الشمالية عبر النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم. وكون الجامعات ومراكز البحوث العلمية والتقنية تمثل الواجهة الرئيسة لتطور هذه المدارس، وكوننا نبحث عن الهدف على مدى المحور الثالث الذي نحن بصدد جلاء منحاه هنا، فإن مقام الجامعة بين قطبي نفوذ كلٍ من المجتمع والحكم يشكل عاملاً مؤثراُ في الفلاح / الفشل الذي تتوصل إليه: فكلما اقتربت من قطب المجتمع، أي بيئتها الاجتماعية - السياسية، ابتعدت احتمالات الفناء عنها والعكس صحيح(12). وثمة تصنيف تنموي جارٍ اليوم لحال الجامعة يمكن تلخيصه على النحو التالي: تحظى الجامعة في شمالي الأرض وجنوبيها بمقام بقائها(survival) حينما تواكب وظائف تدريب الأجيال الشابة ببرامج بحث متقدمة تحقق التحدي الإنساني لحيازة المعرفة الحقة.

         ونعتقد بأن (مدرسة العلم العربية) لم تبلغ علواً في شأنها قبل ما لا يقل عن ألف عام إلا بتمسك قادة المعرفة في المجتمع العربي بمحصلة قوى: التفكر في جميل صنع الله للسماوات والأرض، والفرار إلى الله من الجهل بطبيعة أشياء الوجود الإنساني، والعزم على متابعة الفتوة في البحث عن الحقيقة. وبناء على هذه النعمة، تميز قادة العلم العربي وقتئذٍ بحملهم وسام العزم، حيث وصفهم الله في كتابه المجيد قائلاً، جلت قدرته: آل عمران، 159فإذا عزمت فتوكل على الله(القرآن الكريم، آل عمران، 159). وإذ أفل هذا العزم قبيل أفول نجم الحضارة العربية في الأندلس، تمكنت قوى الظلام المعادية، للوجود الحضاري العربي - الإسلامي المضيء، من (تسطيح) مدرسة العلم العربية لتتحول إلى ورقة طائشة في مهب رياح المدنيات الشمالية التي هبت ولم تزل منذ القرن الثامن عشر الميلادي وحتى اليوم.

         ونعتقد أن السنوات الباقية من العقد الأول للقرن الحادي والعشرين الجاري هي فترة اختبار مصيرية، لقادة الرأي العام العربي الأحرار والسالكين المتجاهدين من أبناء (مدرسة العلم العربية) الناهضة.