ملتقيات العربي
ندوة مجلة العربي ولغتها العربية نصف قرن من المعرفة والاستنارة بالاشتراك مع اليونسكو
ثورة المرأة وتأكيد الذات عبر المطبوعات والمجلات
الذات النسوية في ظل الحداثة الأبوية
د. شيرين أبو النجا
منذ حوالي بداية التسعينيات بدأت الأصوات المطالبة بوجود المرأة في وسائل الإعلام ترتفع وتتزايد. وتراوحت المطالب فيما بين تحسين صورة المرأة واستعادة التراث النسائي المغيب، أو المهمّش، وموقع المرأة في الثقافة الشعبية، وتسليط الضوء على إنجازاتها. ساعد في ارتفاع هذه الأصوات مؤتمرات دولية عدة.
كان هذا التبني هو ما سمح بانتشار خطاب حقوقي وتنموي حول العديد من القضايا المتعلقة بحقوق النساء وعلى رأسها الوجود الإعلامي للمرأة، أو بالأحرى لصوتها. وبالفعل حدثت طفرة في الصحف، التي ركزت على المواضيع المتعلقة بحقوق النساء، وازداد بشكل ملحوظ عدد البرامج التلفزيونية، التي تستضيف شخصيات نسائية لها إنجاز بعينه. وبدا وكأن هناك تغيرًا جذريًا قد حدث إلا أن متابعة الأمر عن قرب تكشف أن التغير ليس إلا شكليًا وإصلاحيًا.
التغير إذن شكلي لأن كل الخطاب الحقوقي التنموي الذي انتشر بشكل ملحوظ في العقد الأخير من القرن الماضي لم يشتبك مع الثقافة السائدة، التي اعتادت تقسيم الأدوار بشكل تقليدي، ذلك التقسيم الذي يحيل المرأة بالتعريف إلى الفضاء الخاص، ويعطي الرجل الحق الكامل في ملكية الفضاء العام، والذي لا يمهد الأرضية لترشيح أو انتخاب النساء في الدوائر البرلمانية، فكان يتوجب على الدولة العمل بنظام التعيين أو الحصص، والذي يسمح لخطاب أصولي أن يصوّر النساء بوصفهن منبع الفتن، والأهم أنه تقسيم يفرز خطابًا ثقافيًا يعي تمامًا أن كل الضجة المثارة في وسائل الإعلام وفي الخطاب الرسمي للدولة ليست إلا ضجة زائفة تسعى لترضية قوى أخرى ليس أولها البنك الدولي، ولا آخرها الأمركة الإمبريالية.
إذا كنا نعيش الآن في عالم الكثرة كما يقال، فإن مجال الكتابة الإبداعية والنقد هما أنسب وسيلة لتحليل الحاضر، حاضر الصوت النسوي وكيفية تعبيره عن نفسه بما في ذلك تجلياته وآليات الدفاع التي يتبناها.فالأدب وقراءته يشكلان العالم عبر الحكي المغاير وهو ما يسمح بالتعددية.
ضمنيًا، ينطوي مصطلح الأدب النسوي على نوع من التحقير للمرأة ووضعها في مرتبة دونية، وهذا ليس إلا انعكاسًا للواقع الاجتماعي الذي ينقل مشكلاته إلى الواقع الأدبي. وفي العالم العربي عامة لم يتم التأصيل ولا التأسيس نقديًا للإنتاج الأدبي النسائي، إلا قلة نادرة. فكان أن أطلقت هذه التسمية على النصوص، التي تكتبها المرأة، ووقف الأمر عند هذا، ولم يزد عن كونه ظاهرة طريفة، مما دفع العديد من الكاتبات إلى رفض تصنيف كتاباتهن كنسوية مثل هدى بركات.
إذا أخذنا في الاعتبار المحاولات المتأججة للمجتمعات والنخب العربية في التحرر من كل أشكال السلطة القاهرة تحت مسمى "قضية الحريات"، التي تتضمن حرية الإبداع، فإنه لايزال متحفظًا تجاه قضية الإبداع النسوي. ويظهر هذا التحفظ في أشكال عدة.
كيف يمكن التغلب على هذه الإشكالية، وما علاقة تحرر المجتمع بتحرر الكاتبة من الحصار. هو حصار يرجع للعقل الجمعي الذي لا يريد أن يقر أن المرأة إنسان لا دخل لنوعها البيولوجي بمكانتها في السلم الاجتماعي. وهنا تكمن المفارقة أن المجتمع الذي يصرخ مطالبًا بحل قضية الحريات لا يعترف بالمرأة كإنسان له نصيبه في تلك الحريات، وينتهي دائمًا النقاش أن الرجل لابد أن يتحرر من عبوديته لكي تتحرر المرأة. ولكن ما لا يذكر هو أن المرأة لا تتساوى مع الرجل في عبوديته، بل هي أقل منه منزلة.
وهو في النهاية ليس إلا نقاش عقيم لا يفضي إلى شيء سوى كشف ازدواجية الخطاب العربي المثقف تجاه المرأة، وبالتالي تجاه ذاته، فالمشكلة هي أن النقلة الحضارية نحو الحداثة لم تكتمل، بل إن الحداثة لم تبدأ بسبب وعي عميق بأهمية إرساء الخطاب الحداثي، بل بسبب محاولة اللحاق بالآخر الغربي.
وهكذا ترتهن خصوصية الكاتبة العربية بانفصام المجتمع الذي يقبلها ويرفضها في آن واحد، والذي يعمل على إلغاء فرديتها وتفرّدها، ويعتم على خصوصية وضعها ويحاسبها بمعايير تاريخية لم تشارك في صنعها. ولأن انفصام المجتمع وانقسامه على ذاته يأخذ أشكالاً مختلفة متغيرة حسب التيارات الوافدة عليه أو التابعة منه، تتغير أيضًا خصوصية الكاتبة العربية وتتخذ أشكالاً موافقة لانفصام المجتمع، وهي بذلك خصوصية متحولة غير ثابتة وغير مرتهنة بالتحرر الاقتصادي، بل هي مرتبطة بتوجيه الفكر والحساسية.
هذه البنية التحتية الذكورية، التي تشكّل أساس المجتمع العربي هي المسئولة عن كل أشكال القهر الواقعة على الرجال والنساء معًا. وهي البنية، التي تفرز الأفكار الخاصة بوضع الفرد في المجتمع، وهي البنية، التي أفرزت مقولة "الأدب أدب"، فليس هناك أدب رجل وأدب امرأة. وهي البنية، التي قاومت تأسيس المصطلحات المتعلقة بالنسوية. وفي الواقع، فإن كل مشاعر العدوانية تجاه الإبداع النسوي ليست إلا إحدى تجليات الثقافة الرافضة للاختلاف والمكومة تحت تلال من سوء الفهم.
إن مشكلة منظومة الفكر الأبوي هي تجليها وقيامها على أساس التضاد الثنائي الذي يفترض وجود قطب سالب وقطب موجب، ولأن المنظومة في أصلها أبوية الصنع فهي تعمد - بوعي أو دون وعي - إلى إضفاء كل العناصر السلبية على الطرف الأنثوي، فيكون النتاج هو التفوق الذكوري. وفي شتى المجالات، تشكل هذه المنظومة جوهر الخطاب المنتج حول المرأة وحول صياغة علاقات القوى، فكما يقول نصر أبو زيد في كتابه المرأة في خطاب الأزمة: "الخطاب المنتج حول المرأة في العالم العربي المعاصر خطاب في مجمله طائفي عنصري، بمعنى أنه خطاب يتحدث عن مطلق المرأة/الأنثى، ويضعها في علاقة مقارنة مع مطلق الرجل/الذكر. وحين تحدد علاقة ما بأنها بين طرفين متقابلين أو متعارضين، ويلزم منها ضرورة خضوع أحدهما للآخر واستسلامه له، ودخوله طائعًا منطقة نفوذه، فإن من شأن الطرف الذي يتصور نفسه مهيمنًا أن ينتج خطابًا طائفيًا عنصريًا بكل معاني الألفاظ الثلاثة ودلالاتها. ليس هذا شأن الخطاب الديني وحده، بل شأن الخطاب العربي السائد والمسيطر شعبيًا وإعلاميًا. وليس من الصعب كذلك أن نجد في نبرة خطاب "المساواة" و"المشاركة" إحساسًا بالتفوق تابعًا من افتراض ضمني يحمله الخطاب بمركزية الرجل/ الذكر. فالمرأة حين تتساوى فإنها تتساوى بالرجل، وحين يسمح لها بالمشاركة فإنها تشارك الرجل".
مع شدة انتشار المجلات تراجعت المطبوعات الثقافة والفكرية فيما عدا تلك التي تصدر عن بعض المراكز البحثية والجمعيات الأهلية. وهنا لا يمكن إغفال دور شبكة الإنترنت والمجموعات الحوارية التي أصبحت تغني قطاعًا كبيرًا من الجمهور عن القراءة أصلاً.
لكن تبقى الملحوظة الأساسية وهي أن المطبوعات والمنتديات الثقافية والفكرية النسوية تثبت وجودها بالفعل في مناطق الصراع في العالم العربي، مثل مجلة "تاكي" في الأردن و"باحثات" في لبنان، وذلك في محاولة لمواجهة النبرة لقومية التي تعلو مع احتدام الصراع وتعمد إلى دمج كل القضايا في القضية الوطنية. وتاريخ الجزائر ليس بعيدًا وما حدث للنساء بعد الاستقلال على يد جبهة الإنقاذ الإسلامية لا يخفى على أحد. ومنذ ذاك التاريخ والنساء قد أصبحن على وعي تام بهذا النمط من التعامل معهن، وهو الوعي الذي ازداد بعد أن قامت بعض الكاتبات بنشر ما حدث لهن بسبب انخراطهن في الحركة الوطنية التي هشمت القضية النسوية مثل "حديث العتمة" لفاطنة البيه المغربية و"سيرة الرماد" لخديجة مروازي المغربية و"عام الفيل" لليلى أبو زيد المغربية أيضًا و"الغلامة" لعالية ممدوح العراقية و"أروقة الذاكرة" لهيفاء زنكنة الكردية و"الباب المفتوح" للطيفة الزيات المصرية و"المهاجرون الأبديون" لمليكة المقدم الجزائرية و"تاء الخجل" لفضيلة الفاروق الجزائرية و"باب الساحة" لسحر خليفة الفلسطينية والقائمة تطول فقط لتذكرنا أن تحرر المجتمع لا يعني أبدًا تحرر النساء. دائمًا ما قام الخطاب القومي التحرري بخذلان النساء وكانت أولى خطواته هي تصفية الحسابات معهن، أشكال لخصتها الروائية اللبنانية علوية صبح في روايتها "مريم الحكايا" على لسان ابتسام المناضلة السابقة: "هل رآنا المناضلون مومسات مستوردات في علب ثورية جاهزة؟ هل حين ينهزم الإنسان، ينهزم في السياسة والحب وفي كل الأحلام؟ لماذا نحن النساء صدقنا ثم انكسرنا ونحن نحاول أن نكتشف مساحات أخرى وفضاءات جديدة لأحلامنا وأجسادنا ومشاعرنا؟ هل حصدنا خيبات مضاعفة عن خيبات الرجال، الذين صدقنا أنهم متحررون ويريدون الحرية لنا ولهم، وهم في الحقيقة لم يكونوا سوى نماذج كاريكاتورية لهارون الرشيد الثوري؟".