ملتقيات العربي

ندوة مجلة العربي ولغتها العربية نصف قرن من المعرفة والاستنارة بالاشتراك مع اليونسكو

الإصلاح الثقافي وتجربة آسيوية في الشرق

الإصلاح الثقافي كمدخل للتنمية والتغيير
دروس من تجارب التحديث الآسيوية

مسعود ضاهر
كاتب من لبنان

         انطلقت نهضة الدول الآسيوية أساسًا من إصلاح البنى التربوية والثقافية الذي أسس لحداثة غير قابلة للارتداد. فالحداثة السليمة هي نتاج نضج في البنى الثقافية والتربوية أولاً. وهي تقاس بالمراحل غير القابلة للارتداد، وتؤسس كل منها لمرحلة أكثر تطورًا وثباتًا من سابقتها. وقد اقترنت بكثير من مظاهر التحديث على المستوى العمراني والاقتصادي والسياسي. فتجاوزت بسرعة معوقات التنمية والتغيير الشمولي التي تمنع تحول حركة التحديث فيها إلى حداثة مكتملة. وأقامت دولاً عصرية على أسس نظم قانونية سليمة تعتمد معيار الكفاءة الشخصية، والولاء للوطن. وليس من شك في أن العرب بحاجة ماسة إلى الاستفادة من التجارب الناجحة للشعوب الآسيوية، وفي طليعتها تجربة التحديث في كل من اليابان والصين.

         وبسبب نضج مقولات التحديث وعدم تعارضها مع القيم التراثية الموروثة، استعادت كل من اليابان والصين ودول النمور الآسيوية موقعها الإقليمي والدولي بسرعة خلال فترة زمنية قصيرة من بداية حركة التحديث. وبنت دول النمور الآسيوية ركائز اقتصادية ثابتة لعملية التنمية والتغيير بنسبة من النمو السنوي كانت الأعلى في العالم طوال ثلاثة عقود متتالية. وتصنف اليابان اليوم في خانة الدولة الثانية في العالم على المستوى الاقتصادي، والأولى في عدد من المنجزات التكنولوجية المتطورة جدًا وصناعة الروبوت أو الإنسان الآلي. كم تصنف الصين في خانة الدول الأكثر نموًا وتأهيلا للعب دور طليعي في النظم العالمي الجديد.

         أخيرًا، بدأ إصلاح النظام التعليمي في اليابان منذ سنوات عدة واتخذت قرارات جذرية في العام 2004. وهي تحضر الإنسان الياباني للمشاركة في عصر العولمة من موقع تربوي وثقافي فاعل، على المستوى الكوني. فقد كان النظام التربوي السابق يعد اليابنيين للعمل، وبصورة شبه حصرية داخل اليابان، ووفق القيم التقليدية اليابانية الموروثة في حين أن الإصلاحات الجديدة التي أقرت أخيرًا تفتح نوافذ كانت شبه مغلقة لاستيعاب ثقافات الآخرين، وتعلم لغاتهم، والمشاركة بصورة أكثر فاعلية في ثقافة عصر العولمة.

         تضمن هذا البحث النقاط المنهجية التالية: البعد الثقافي في تجارب التحديث الآسيوية، الإنسان الحر قاعدة التغيير الاجتماعي، توظيف الثقافة في التنمية الاقتصادية، العامل الثقافي في خدمة التغيير الشمولي، أهمية العاملة الثقافي في نشر التنمية اللامركزية، الإصلاح الثقافي مدخل لتعزيز الروابط الثقافية مع الدول الآسيوية، دور العامل الثقافي في تنمية الوعي لدى الآسيويين بالقضايا العربية والإسلامية، بعض الملاحظات الختامية.

         لقد حظيت اليابان بقيادة سياسية متنورة نجحت في توظيف الإصلاح الثقافي من أجل إعادة اليابان إلى دائرة التأثير على المستويين الإقليمي والدولي. وتبنت خططًا علمية مدروسة للقيام بالتنمية الثقافية والاقتصادية لإطلاق حداثة شمولية في جميع المجالات. وأرسلت عشرات البعثات الثقافية إلى الخارج لاكتساب العلوم العصرية وتحويلها إلى طاقات إنتاجية داخل اليابان. لكن النهضة اليابانية الأولى لم تنج من الأثر السلبي لمقولات التحديث الوافدة من الغرب وفي طليعتها مقولة "التحديث في خدمة الجيش"، فتحولت اليابان إلى دولة إمبريالية ذات نزعة عسكرية واضحة. وبعد أن تعرضت اليابان لتدمير شبه تام في الحرب العالمية الثانية وتعرض شعبها، ونظامها السياسي، واقتصادها لانتقام أمريكي بالغ القسوة في الحرب العالمية الثانية.

فبرز تحول مهم في الفكر السياسي والثقافي الياباني المعاصر، من أبرز تجلياته:

         أ - التحديث الشمولي في خدمة المجتمع الياباني في ظل رقابة خارجية تمنع اليابان من التسلح.

         ب - التمسك بالدستور الياباني الجديد لعام 1946 الذي ينص على عدم مشاركة اليابان في أي أعمال عسكرية خارج أراضيها. وتعزز هذا المنحى باتفاقية للتعاون العسكري مع الأمريكيين مازالت مستمرة منذ عام 1951 مع بعض التعديلات الطفيفة.

         ج - تركيز جهود القوى اليابانية نحو تضخيم الإنتاج الاقتصادي، والتوظيف في التنمية البشرية المستدامة، وإعطاء الأولوية المطلقة لثورات العلم، والتكنولوجيا، والإعلام والتواصل.

         نتيجة لذلك حققت اليابان معجزة اقتصادية مهمة في ظل مقولة "التحديث في خدمة المجتمع".

         فأصبحت القطب الثاني في الاقتصاد العالمي، واحتلت المركز الأول في عدد من الاكتشافات التكنولوجية المتطورة، خاصة في مجال الروبوت أو صناعة الإنسان الآلي.

         وبعد الأزمة النفطية لعام 1973، قطعت الدراسات الآسيوية عن العالمين العربي والإسلامي شوطًا بعيدًا على طريق بلورة خصوصيات الاستعراب الآسيوي بصورة لم يعد بالإمكان تجاهلها أو التقليل من أهميتها. وقد تميزت تلك الدراسات بمواقف سلوكية خاصة من جانب الباحثين الآسيويين الحريصين على تقديم دراسات علمية تظهر فهما معمقًا لتاريخ الشعوب العربية والإسلامية وحضاراتها. وتولت مجلة الجمعية اليابانية لدراسات الشرق الأوسط مهمة تأطير الباحثين اليابانيين والآسيويين المهتمين بقضايا الشرق الأوسط، احتضان الشباب منهم، والبحث عن مصادر تمويل لمشروعات بحثية طويلة الأمد تشكل مدخلاً موثوقًا لتنمية الدراسات الشرق أوسطية في اليابان وباقي دول جنوب وشرق آسيا، وفتح قنوات للتواصل الثقافي مع باحثي هذه المنطقة، ومنهم نسبة متزايدة من الباحثين العرب. وكان للبعد الثقافي دور أساسي في ولادة نخب ثقافية جديدة تعمل على توسيع دائرة الحوار الياباني مع شعوب منطقة الشرق الأوسط من عرب وأتراك وإيرانيين وغيرهم. وفتحت المجلة صدر صفحاتها لتبادل الآراء، وزيادة التواصل بين الباحثين المهتمين بشئون الشرق الأوسط في مختلف حقول المعرفة الإنسانية. ودعا القيمون عليها إلى الحد من النزعة الاستشراقية الغربية الخطرة من جهة، والنزعة التخصصية الضيقة من جهة أخرى.

         لقد تطور الوعي الثقافي لدى الآسيويين عن منطقة الشرق الأوسط بسرعة. ولعبت مجلة الجمعية اليابانية لدراسات الشرق الأوسط دورًا أساسيًا في تعزيز التعاون المباشر بين الباحثين العرب والآسيويين. وتميّزت السنوات القليلة بالاتساع الكمي والنوعي لدور العامل الثقافي في اليابان والصين وباقي الدول الآسيوية، والاهتمام المتزايد بشئون العرب وباقي شعوب منطقة الشرق الأوسط والبدء بسلسلة من المؤتمرات الثقافية بين الجانبين، وهي مستمرة سنويًا، وبانتظام.

         وتمايزت عن غيرها من المجلات بمنهج الابتعاد عن المقولات الاستشراقية السائدة وتقديم تاريخ شعوب الشرق الأوسط وثقافاتها بعيون يابانية وليس غربية. وهناك مجالات واسعة للتعاون بين الباحثين العرب والآسيويين وصولاً إلى برامج مشتركة وطويلة الأمد، تتجاوز حدود الدولة القائمة نحو شمولية ثقافية تنبنى على الانتماء إلى فضاء ثقافي آسيوي مشترك تتحدد به معالم الشخصية العربية الجديدة من طريق المشاركة الإيجابية في بناء عولمة أكثر إنسانية.