العزوة

حسنا سيدتي , سأقص عليك قصتي , على كل حال لا يوجد سوى انا وانت وهؤلاء الاطفال. انتقلت للسكن في هذا الحي منذ سنوات ومعي قسيمة طلاق وثلاثة أطفال، عثرت على شقة بسعر مناسب ملحقة بدكان صغير يصلح للبقالة ويكون مصدر رزق للإنفاق على البيت. لم يكن هناك وقت للتفكير فيما حدث. في اليوم الأول توافد الجيران لإلقاء التحية والتبريكات ثم انصرف الجميع على عجل. أفرغت الحقائب ثم بدأت بترتيب بعض قطع الأثاث البسيطة وتهيئة مكان يصلح لنوم الصغار بعد عناء يوم طويل، وبعد أن خلوت لنفسي انهمرت عيناي بالبكاء كطفلة يملأها الخوف والعجز.

لم أعش بمفردي من قبل، صحيح أنني كنت فتاة وحيدة ولكن بيتنا لم يخلو من الناس أبدًا، كان أبي يحرص دائمًا على دعوة الجيران لزيارتنا فتطول الأحاديث ويطول السمر، فكان كبيت العائلة يجتمع فيه الناس بمناسبة وبدون مناسبة. كان لأبي أقارب من الريف ومن الصعيد، فإذا حل أيًا منهم إلى القاهرة –حتى إن لم يكن السبب زيارتنا- أصر أبي على إكرامه واستضافته إلى أن ينهي ما جاء من أجله.

حين قررت الزواج، كان أبي حريص على أن يكون لزوجي عائلة وعزوة أربي أبنائي بينهم، فأختار “مروان" شاب لطيف رشحته جارة لنا وأفاضت في وصف أخلاقه وأدبه، يعمل كمندوب بأحد شركات الأدوية، فما أن التقت العائلتان حتى سُر أبي وبش، وسار كل شيء أسرع من الخيال، وكما أوصتني أمي تفانيت في رعايته وإكرامه وأنجبت الأطفال على عجل. لم أندم على ذلك أبدًا ولو استمر الزواج أكثر من ذلك لأنجبت خمسة أو ستة وربما سبعة يملؤون ذلك الفراغ الموحش باللعب والصراخ.

أعلم أنني أثرثر كثيرًا، ولكن انشغالك بهؤلاء الأطفال المشردين يشغل أذنك عن السمع سيدتي، إنهم لا يفعلون شيئًا سوى سرقة أكياس الترمس، انظري إلى ذلك الذي يرتدي بنطال أصفر هناك مسندًا ظهره إلى العمود ويلتهم الحبات التهامًا، لقد كنت أراقبه بصبر شديد، لقد وضع في يديكِ الحصى بدلاً من النقود، إنهم لا يستحقون ذلك الاهتمام أبدًا، انتبهي سأحكي الجزء الأهم من القصة هذه اللحظة. كان مروان في البداية يرفض فكرة الإنجاب بشكل نهائي، وخاصة أن راتبه يكاد يكفي للإنفاق على الصغار، ثم ما لبث أن عدل عن فكرته، أعجبته هو الآخر فكرة العزوة، بل صار من أشد مناصريها ومؤيديها، لهذا فاجئني برغبته في الزواج من امرأة أخرى تكبره بأعوام، ولديها من المال ما يكفي لتحقيق هدفه. آآآخ..  كم يبرع الرجال في الكذب حين يكون في الموضوع امرأة..

كفوا أيها الحمقى عن السرقة وإلا كسرت عظامكم بهذه العصا، لولاهم لما كنت أتحدث إلى نفسي طيلة ساعة كاملة، وأنتِ يا سيدتي ما الذي يدفعكِ للتعامل مع هؤلاء الجياع، لو كنت مكانك للقنتهم درسًا لن ينسوه أبدًا، إن الجزء القادم من القصة هو الأهم على الإطلاق، لذلك أود أن تنصتين بشكل جيد، وإلا هشمت رأسك ورأسهم. إن الرجال دائمًا ينكرون الجميل، ربما تعرفين ذلك جيدًا، فمنذ أن وصلت إلى هذا الحي لم أجد لكِ زوج ولا ولد, وإلا لما سمحوا لهؤلاء الصغار بالالتفاف حولك بهذا الشكل. خيرته بيني وبينها، فاختارها و يا لعجب العجاب كيف يترك امرأة ودود مثلي ويختارها، ضيقت عليه الحصار فقال إنه يريد امرأة تسمع إليه وتهتم به أكثر مما تتحدث، ذلك الأناني المتعجرف. كان يقول لي أيام الخطبة أن حديثي يسعده أكثر من أي شيء في الوجود، فصار الآن أكثر ما يشقيه، هل تظنين يا سيدتي أن صوتي نشاز إلى هذا الحد.؟! قبل أن يرحل حملت زهرية من الفخار وضربت بها أم رأسه فسقط أرضًا. ستقولين إنني عدوانية بعض الشيء.. ولكن صدقيني، إن ذلك لم يكن شيئا مما فعلته به بعد ذلك، ولا مما سأفعله بهؤلاء الأوغاد إن لم يكفوا عن إزعاجنا. أين الحجارة.؟! انتظريني لدقائق ريثما أجمع بعض منها وأعود، أنا على ثقة بأنكِ متشوقة لسماع الجزء الأهم في القصة، لا تنسي ما مر من أحداث كي لا أضطر لإعادتها مثلما حدث بالأمس.. بعد دقائق..

.ها قد عدت. إلى أين وصلنا...! حسنًا سيدتي. سأقص عليكِ قصتي من البداية...