تشبهني

رنّ جرس انتهاء الحصة الثانية، تهلل الأطفال، فهُم يعلمون جيدًا ماذا يعقبها، كانوا ينتظرون بشغف حصة الألوان كما يسمّونها، لا يهمهم تسمية المدرسة الرسمية لها بـ «حصة الرسم» وكأن الألوان هي ما يعرفونه.
دخلت المعلمة، ألقت التحية، وسرعان ما غرقت في سيل من الأسئلة، التي كانت سؤالًا واحدًا تصرخ به أفواه جميع الأطفال: ماذا سنرسم؟ هدّأت الجميع بابتسامة، وطلبت منهم أن يرسم كل واحد ما يريد، لا يوجد موضوع محدد. كانت ترغب بشدة في الذهاب، في رحلة متعمقة لاستكشاف هذه الأدمغة، وأن تطلق العنان ليس لخيالهم فقط، ولكن لنفسها أيضًا، ولترى إلى أين سيأخذها هؤلاء الصغار.
في البداية بدا الأطفال تائهين بعض الشيء، لا يعلمون نقطة الانطلاق، ربما لاعتيادهم على تحديدها من قبل الكبار في كل الأوقات، لكن لم يمرّ الكثير من الوقت حتى بدأ كل منهم يسرح في عالَمه، وبدأوا يُعدّون أقلامهم لينطلقوا في هذا الفضاء الأبيض، ظلت المعلمة تراقبهم بين الحين والآخر، كان هناك مَن يرسم أشجارًا وزهورًا، مَن يرسم سيارات وشوارع، ومَن يرسم سماء تملؤها طيور وتزيّنها شمس ضاحكة، ومَن يرسم نهرًا ومراكب تجوب فيه، ويبدو أن أحدهم ضاق ذرعًا بالأرض ويحلم ببيت في الفضاء، وبالتحديد على سطح القمر، لم يكن يعلم شيئًا عــــن الجاذبية بالـتأكيد، ولا تعنـــيه في شيء، فقد تملّك بيتًا ملونًا أنيقًا هناك، وها هو طفل آخر يرسم بيتًا ولكن على الأرض، بيتًا عاديًا، أوهكذا ظنّته عندما لمحته، وكادت تكمل المرور، لكنّها عادت لتدقق النظر سائلة نفسها: لم لا يشبه هذا البيت بيوت الأطفال التي اعتدتها؟ كان كثير الطوابق باهت اللون، تفحصت ألوان الطفل لم تنته، فطنت إلى أنه تعمّده هكذا... ترى لماذا؟ ولماذا يرسم في هذا الجزء الضيق من الورقة، ويترك كل هذا الفراغ؟ توقفت لتعرف ما الذي يرسمه هذا الطفل، توقّف الطفل بدوره عندما لاحظ وجودها قُربه، ارتبكت وتصنّعت النظر إلى الجميع، مسحت على شعره طالبة منه أن يكمل لوحته، عادت إلى مقعدها يأكلها الفضول لمعـــرفة ماهية هذه اللوحة، نسيت الجميع وبقي عقلها معلّقًا عند ذلك الطفل، رغـــم أنه لا يبـــدو يرسم شيئًا خارقًا، لكنه ليس شـــيئًا عاديًا أيضًا، هكذا شعرت، ولم يكن أمامها سوى الانتظار.
 أكمل الطفل رسمته، رسم في الجهة المقابلة من الورقة مبنى موازيًا، لكنه ملئ بألوان الطفولة. 
يبدو أنه يحب اللون الأزرق فجعله لطلاء المبنى بالكامل، والأصفر للنوافذ، وبجانب كل نافذة أصص تملؤها أزهار تكسو المبنى روح أخرى تدبّ فيها الحياة، وفي أسفل البناء حديقة صغيرة، لكنها جميلة تملؤها أشجار خضراء يبدو أن هناك مَن اعتنى بتقليمها، وزهورًا كثيرة تمتزج ألوانها، وفراغًا يقسم الجمال نصفين يؤدي إلى الباب الرئيسي للبناء الذي طلاه هو الآخر باللون الأصفر، كان ثمة سور صغير يحمي هذه الحديقة، لكنه لا يشبه ذلك السور حول حديقة ذلك البناء الباهت والتي لم يكن بها الكثير من الأشجار وألوان الزهور، فقط بعض الأشجار المتناثرة، وزهور تفتّحت على استحياء، والكثير من الفروع الجافة لبعض الأشجار، تجاوزت سور الحديقة، وباب حديدي مغلق معلّقة عليه لوحة كبيرة كتب عليها «دار أيتام» ونافذة تشبه البناء كتب عليها «غرفتي» ■