«السرد والكرونوفايزر»

جلس بارتخاء بعد أن بدأ الارتشاف من كوب قهوته، من سوء حظه زامنت رحلته العطلة المدرسية فتلبد سقف القطار بالضوضاء، يجلس بمحاذاة رجل ستيني يفكر بصوت عال، هرب من الصخب إلى هدوء الكتاب ففتح الفصل الأخير من رواية جريمة حب وعادت لذهنه كل التساؤلات التي أرقت باله والسؤال الأول الذي انتابه كيف للحب أن يقتل؟ وكيف لهذي القصص البسيطة أن تتحول إلى حب فقتل؟ «قتلته لأنني أحبه» جملة أغضبته، كيف جمع الكاتب بين متناقضين؟ بدأت قصتهما بطلب باور بانك لشحن هاتف فارغ فانتقلت لطعنة أفرغت الجسد من دمه، ربما تبادلا المشاعر عوض الشاحن. أغلق الرواية بعد أن جعلته يطرح تساؤلات ستقوده حتمًا لبدء مسودة يصمم فيها بناء روايته الجديدة. باغته الرجل الستيني بجملة «لا وجود لراحة البال في هذه الدنيا يا بني، ابن أخي ميسور الحال ولكنه ذاق مر العذاب، وجدته زوجته مع امرأة أخرى وأمطرته بوابل رصاص من بندقية صيد وأنا في طريقي لرؤية أخي الراقد في نفس المستشفى وابنه، أخبرتني زوجة أخي أنه أصيب بأزمة قلبية بعد سماعه ما وقع». لم يتعجب من هذا البوح المفاجئ، فهذه طبيعة المغاربة يشاركون أفراحهم وأحزانهم ولكنها تجربة أخرى تؤكد له ما أرق باله، أومأ برأسه وتخلص من الرجل بعبارة «كان الله في عونكم»، وعاد لهدوء خلوته، انهمرت عليه الذكريات كحبات المطر ولم يحمل مظلة، عادت به الذاكرة لشجارات والده ووالدته المتكررة ولكن رغم كل السجالات استمرت علاقتهما، ربما طيش وقلة صبر هذا الجيل هما السبب، تنهد قائلاً، عاد لهدوء خلوته أخذ ورقته وبدأ يصمم مسودة روايته الجديدة ثم باغته صوت ناعم يناديه بمبدعنا، رفع رأسه بثقل فوجد فتاة عشرينية ممشوقة القوام تذكرها من المعرض الدولي للكتاب بالرباط، لقد كتب لها إهداء في روايته الأخيرة. رأى يومها الكثير من الوجوه ولكن ملامحها علقت في ذهنه، كانت ممكورة عنقها طويل وعيناها تحملان لمعة حزن، وكأنها شخصية أراد نسجها مرارًا ولكنه فشل في ذلك واستحق شرف المحاولة، انتقل ليجلس بمحاذاتها، فاستهلت الحديث عن روايته التي تصطبغ بمطبات الحياة وتسبر أغوار الوجود، علم بعدها أنها تقتفي أثره وتعمدت مشاركته نفس القطار، ككل الأدباء بدأ يتساءل هل يا ترى هذه الحسناء تعشقه في ذاته؟ أم فقط نال منها عبق حرفه وتسللت خلسة للتواجد في لحظاته التي يجلس فيها لوحده منسكبًا على الورقة؟ حملت الهاتف فانتبهت لانخفاض شحن بطاريتها وباغتته قائلة أفرغتُ البطارية، هل لي أن أستعير من عندك باور بانك؟ بدأت قطرات العرق الباردة تستوطن جبهته واصفر وجهه، تذكر تارة ورقته البحثية في المعرض حول النبوءة في الأدب وتارة أخرى مداخلته عن الإيقاع الزمني وطرق التلاعب بالكرونولوجيا داخل الرواية ■