«يقين»

كان الماء ينساب على وجهه بسلاسة حتى يصل إلى قاع الحوض، عابرًا تجاعيد وجهه التي توحي بآثار أقدام الزمن في الجسد والنفس، نظر في المرآة فشعر بكفوف الذاكرة تتحسس موضع السنين المليئة بالألم والوحدة، أعد لنفسه الفطور، ووضع براد الشاي على النار، وككل يوم، أنتظر أن يدق الباب.

مرّ النهار ولم يدق باب الشقة، ربما سيدق في المساء، قال لنفسه، فالجميع يكونون في أشغالهم طوال النهار، هذا طبيعي، قال، وفي المساء بعد أن تناول وجبة العشاء، جلس على الأريكة أمام التلفاز مع كوب من الشاي وبعض من اللب والسوداني، كان ينظر إلى الشاشة بعين شاردة يملؤها الحنين والترقب، حنين إلى ماض بعيد، وترقب لمستقبل ربما لن يأتي أبدًا، وأنتظر أن يدق الباب.

ظلّ على هذه الحال كل صباح ومساء، لأيام وشهور وسنين، ينتظر أن يدق أحدهم الباب، أن يؤنس أحدهم وحشته، ويكون له عونًا وسندًا فيما تبقى له من أيام في هذه الدنيا، فقد تخطى الخامسة والستين من عمره ولازال وحيدًا، بلا زوجة أو ولد، ولأنه كان طفلاً وشابًا ورجلاً انطوائيًا، فلم يكن له أصدقاء أو زملاء عمل، وبالرغم من كل ذلك أنتظر أن يدق الباب.

كان يجلس على الأريكة كل صباح ومساء حالمًا بماضٍ سعيد ربما يأتي من جديد في يوم من الأيام، كثيرًا ما كان يتذكر أمه، المرأة الوحيدة التي عرفها وأحبها أكثر من حبه لنفسه، وكيف كانت تحيطه برعايتها وحنانها وتملأ أيامه بهجة وسعادة، تذكر عندما طلبت منه أن يتزوج من إحدى البنات رأت فيها أنها مناسبة له، لكنه رفض لأنه لا يريد أن يتركها ولأنه يعلم أنه لن يحب أحدًا مثلها، ماتت أمه ولم يتزوج، وأنتظر أن يدق الباب.

في أحد الصباحات المشابهة لبعضها البعض، بعد أن تناول الإفطار وجلس على الأريكة ليشرب الشاي، وبينما هو منغمس في ذكرياته كالعادة، دق أحدهم الباب، تسارعت ضربات قلبه، وعجز لسانه عن الرد، وتسمر في مكانه، لكنه استجمع قواه ورد بصوت متقطع: من بالباب، ملك الموت، قال طفل سخيف، وهرب، لعن الظروف التي جعلته عرضه لسخافات الأطفال، وأنتظر أن يدق الباب.