- بواسطة سعد السامرائي
- الدولة سلطنة عمان
قالت خلود، وهي تمسك بيدها المُنَّمشة باقة أزهار بيضاء اللون غطى عبيرها جنبات الدار: «لكنني أُحب الأزهار الحمراء أكثر». كان الجو ربيعيًا، والسماء صافية تعلوها بقع غيوم متفرقة لا تقوى على حجب النُّور المتدفق. انعكست بعض ألوان الطيف على الوجه المتورد للفتاة التي تجلس أمام خلود. ابتسمت خلود ووضعت باقة الأزهار البيضاء على الطاولة بالقرب من علبة دواء غامقة اللون وساعة ذكية تطلق تنبيهًا مزعجًا كل ست ساعات، وقالت: شكرًا لك، رائحة الأزهار منعشة. اعتدلت الفتاة في جلستها وضمت يديها إلى حجرها، وقالت: لقد صدقت أمي، فالأزهار تحسن من مزاجكِ. حقًا، أجابت خلود، ثم تساءلت: ومَن هي أمك؟ هل أعرفها؟ قطبت الفتاة حاجبيها قليلًا ثم أرختهما، أمي هي زينب، ابنتك. آه زينب زهرة حياتي، وأين هي الآن؟ آخر مرة رأيتها كانت تلعب في الحديقة. لقد مرّ وقت طويل على ذهابها. همَّت خلود بالخروج فأمسكت الفتاة بيدها المتغضنة وقد سرت إليها رجفة خفيفة، وقالت: على رسلك يا جدتي. لا يوجد شيء في الحديقة. أرجوك، اجلسي مكانك، يجب علينا أن نتكلم. شعرت خلود بحزن عميق وهي تنظر نحو لوحة الأزهار المجففة على الجدار. وبعد لحظة من الصمت، سألت خلود: «هل يتعلق الأمر بمحمود؟ هل هناك أي أخبار عنه؟» ما كان عليَّ أن أدعه يذهب. كانت بتلات الأزهار طرية، قال لي جففي هذه الأزهار قبل أن تتآكل أوراقها فوضعتها داخل الإطار. لا أعرف كيف تحوَّلت إلى لوحة، ولم تعرف خلود أنها كانت في أيام حملها الأولى عندما رحل. قالت الفتاة: لا، يا جدتي. لم تصلنا أيّ أخبار عنه.
أريد أن أكلمك في موضوع آخر قد أخبرتك عنه في المرة الماضية. عن أيّ شيء تتحدث هذه الفتاة، أكانت هنا قبل هذا اليوم؟ حملقت خلود بعينين ذاهلتين ساكنتين في وجهٍ هامد، تحاول استرجاع خيوط الذاكرة الهاربة. أنا آسفة يا عزيزتي، لا أذكر أنني التقيت بك من قبل، ما اسمك؟ أنا سارة يا جدتي. وأريدك أن تأتي معي. قالت خلود، لكنه سيعود. أتذكرين ما الذي تحدثنا عنه؟ حاولت خلود من باب الكياسة أن تجيب على أسئلة الفتاة التي تجشَّمت مشقة قطف الأزهار وجلبها. هل تريدين مني الرحيل إلى مكان بعيد من هنا؟ نعم هذا ما أريده حقًا. توكأت خلود على عصاها وقالت: لن أرحل. قالت سارة وهي تثبت خصلة من خصل شعرها خلف أذنها: أعرف قيمة هذا المكان، ولكن ما قيمة الجدران إنْ كانت تردد صدى صوتك فقط؟ ران صمت رزين ثم قالت خلود بصوت حزين أرجو منك الانصراف، ستعود زينب قريبًا، يجب أن أصنع لها الطعام. فكري بالموضوع يا جدتي، ما فائدة البقاء في هذه المدينة التي قطَّعت الحروب أوصالها وثقبت رئتها اليمين. حدَّقت خلود صوب لوحة الأزهار المجففة، وتلاشى صوت سارة تدريجيًّا، حتى غدى طنينًا بعيدًا يتردد على خلايا سمعها المرهقة.
غادرت سارة وأغلقت البابَ خلفها بهدوء. حاولت خلود جاهدة أن تتوكأ على عكازها، وتصل إلى مصدر ذاكرتها الوحيد. قبضت بيديها المتخشبتين على إطار اللوحة ومسحت الغبار المترسب بأهداب ثوبها فبانت معالم الأزهار المتيبسة، وهبّت من حولها رائحة عتيقة تداعب الحواس مثل ثمالة خفيفة. رنَّ جرس الساعة الذكية على الطاولة- انقضت ست ساعات أخرى - وفزعت خلود. تناولت العجوز دواءها، ثم تحسست بظهر يدها باقة الأزهار البيضاء المجاورة لعلبة الدواء، مستمتعةً بطيب شذاها ومستغربة من تواجدها. ثم قالت: لكنني أحب الأزهار الحمراء أكثر.