- بواسطة باسم الجغامي
- الدولة سورية
«كنت أتجول في شوارع وأزقة تلك المدينة القديمة سارحًا في أفكاري التي تفيض كما تفيض الأنهار في مواسم الأمطار الغزيرة كلما عانقت عيني صروح التاريخ وحكايات القدم. رؤوس مطأطئة تحوم من حولي ونظرات تحدق بشاشات يقال عنها ذكية تخطف الانتباه وتلتقط كل الصور. ألامس جدران القلعة القديمة المتمركزة في الوسط. تتسارع دقات قلبي، وكأن أرواحًا تحدثني عن الألم. هل هو عبق التاريخ، أم هلوسات من زمن كان فيه تخاطب الأرواح من المسلمات ولغة العصر؟ أتساءل في نفسي هامسًا برفق: ما بالك تحادث أرواح هذه الجدران العتيقة وتحاصرك أرواح كل هؤلاء البشر؟ ما العمل؟ يحادث أحمد من هاتف عمومي صديقه سلطان الذي رفض الهجرة رغم الحرب ويتابع بحيرة: «هل أطأطئ، أنا أحمد المتيم بالشعر والحب وليالي الأنس، رأسي لسلطان الرقم وأبتاع شاشةً ذكيةً أحادث بها من مثلي من البشر؟».
يدفعه الحنين لزمان الوصل ومواويل الرفاق القدامى وليالي السهر، يستعجل خطانا باحثًا عن متجر ذكي ليتحصل على شاشة ذكية علها تقربه من أنفس تشبه نفسه وتنهي غربة العصر. يدخل المتجر ويذهله المعروض واختلاف الأنواع والحجم. عالم جديد يتفتح أمام عينيه والكثير من السير.
تقترب منه آلة رشيقة تمشي كما يمشي، ترمقه لوهلة بنظرات دافئة وتقول بلطف:
- «مرحبًا أنا مريم، كيف يمكنني مساعدتك يا سيدي؟».
- «اسم أصيل لآلة بلا نسب»، يتمتم أحمد في أذني، ويتحدث بحرج: «رأيت شاشاتً صغيرةً بحجم كف اليد. يشاهدها الناس معظم الوقت، حتى أثناء المشي، وقيل لي إنها ذكية جدًا، وتقرب كل بعيد وتجعله تحت قبضة اليد».
- تبتسم مريم وتجيب بصبر: «هاتف ذكي يدعى ما تصفه يا سيدي، انظر إلى هذه الشاشة ليزا مثلًا يا سيدي، هل يعجبك بروز الصدر؟».
- «ليزا! يطلقون على الشاشات أيضًا أسماء البشر»، يهمس أحمد بتعجب، ثم يسأل بلطف متصنع: «أين أيام بلقيس وقصيدة قباني وتمرد العشق؟».
- «بلقيس اغتيلت يا سيدي، وانتهى زمن الشعر والشعراء وثورة الحب!».
- «بلقيس اغتيلت! هل تعرف مريم أيضًا قصيدة الرثاء الشهيرة؟»، يعلق أحمد مصدومًا
- «إنه عصر ليزا يا سيدي، ألا ترى روعة هندسة الخصر؟».
تحركت إلى النافذة القريبة من بيت النار الذي شيدته بنفسي، بعد أن عدنا للمنزل، وأطلقت العنان لنظرات التأمل والحب؛ فإذا بدموع السماء تقبل الأرض بخفة وشجن، فتستدعي أرض الذاكرة من فؤادها عطرًا فردوسيًا يبشر بالخيرات ويطلق عنان الأمل. تتفاعل الروح متشوقةً لقداسة زخات ربانية تزرع الطمأنينة وتعيد كتابة الزمن. من أين لنا كل هذه النعم وملاحم الغرام ولهفة القبل؟ كنا أغنياء مباركين منذ ولادة ربوع هذه الطبيعة الوطن. شلالات وأنهار وكون متزين بأبهى الحلي وألحان الغزل. كيف أمسينا بحق الآلهة مساجين وحاربنا رحمًا آوانا أعزاء بلا ثمن؟ تملكنا وسطونا وقاتلنا وقتلنا وما زلنا نعيد الكرة بلا كلل ولا ملل. آه عليك يا زمن، وآه على قلب عاشق لهبات الإله وينابيع الحسن.
ليزا تحتل العالم كما يحتل جيش قلعةً بلا أسوار وجند؛ وبلقيس تشعل ثورة الروح في ثنايا القلب وتقاوم جبروت الزمن. الجسد لا شك محكوم بسردية العصر وأحكام القدر، ولكن من يقوى بالله عليك يا أحمد على ثورة الروح في ثنايا القلب ومعلقات الوله؟
ترن ليزا لأول مرة منذ أن اصطحبناها معنا من المتجر. يرتبك أحمد من مادية المشهد، ويردد كلام مريم متهكمًا بغضب: «إنه عصر ليزا يا سيدي؛ بلقيس اغتيلت يا سيدي» ■