فنجان قهوة

خيط ضوء خفيف ينجلي وفي أقل من ثانية يخفت ليشتعل غيره حتى اكتست أرضية المطبخ أعواد ثقاب مبعثرة. تلك اليد المرتعشة هي من أحدثت هذه الفوضى وأفنت ما لديها من ثقاب يضيء ظلمتها فتوقفت بعد آخر ثقاب تلتقط أنفاسها وتبتلع مرارة أيامها قالت متأففة.
«كيف تنقطع الكهرباء كل هذه المدة؟ ما فائدة تلك التكنولوجيا المتطورة مع انقطاع الكهرباء فجأة»؟
مرت نصف ساعة كاملة، ومر نصف عمر من ذكريات وآمال وإخفاقات وأوجاع ترى ما شغلها رغبتها في صنع فنجان قهوة صغير أم رغبتها في عدم إضاعة الباقي.
دفء السكون جعل شبح الوحدة يتمثل أمامها، قال لها بتحدٍ: جئت الآن لأذكرك بأمر مهم نسيته: «أنت وحيدة بائسة تحتاجين لفنجان قهوة!»
ترد اليد المرتعشة في الظلام لتصنع ظلالا من آخر ضوء متسلل عبر نافذتها كما علمها والدها فتضحك ودمعة ساخنة تتمهل على خدها ودون شعور تزيلها وتهمهم نعم ما أحتاج الآن فنجان قهوة، تعرف ما يحتاج له المرء في حياته هو الشيء المستحيل حتى ولو كان تافهًا.
زفرت بعنف كأنها تنفخ في الشبح لينصرف لا ترد البكاء الآن يكفي الظلام الذي جبرت عليه. ووجهت عينيها نحو النافذة لترى النهار يرحل مودعًا كل أمل، فيبادر الشبح قائلًا:
«كان بإمكانك إشعال شمعة لكن يدك المرتعشة الخائفة من الاحتراق أضاعت كل أمل».
قالت مستسلمة للعبة شبح الوحدة: «الخوف لم يكن على يدي الرقيقة فاحتراقها لا يعادل احتراق قلبي لو أعطيته أملًا زائفًا وخيط نور ضعيف يكاد يتحسس طريقه به، ما أردته ضوءًا مريحًا لتسهيل السير لست خاطئة ولا نادمة وأنت أيها الشبح كف عن المراوغة».
بات الشبح في خبر كان بعد فوات الأوان وتجديد ذكرى شمعة الأمل في أيام شبابها الأولى ورغبة خطيبها السير معه دون والدها المريض لتنجو بالشباب وتصنع أسرة، وتجلس في شرفة منزل مع رجل ترتشف معه فنجان قهوة كل ذلك والشرط بسيط اتركي والدك.
فكرت بأمر واحد، من الممكن أن يذهب عنها الوحشة والقلق ويمر الوقت بسلام وبدأت تدعو الله بكل أحلامها المؤجلة والصعبة، تدعو باكية وقد تحررت روحها من هموم الأيام، دعت حتى أغمضت عينيها في دعواها.
«عندي حلم يا الله، حلم يسعد قلبًا بريئًا اجعله لي».
 عادت الكهرباء وسطع نور الحجرات والتمست في قلبها نورًا غير هذا النور الصاخب، نورًا إلهيًا ينبئها بأن كل شيء سيكون بخير، لم تفتح عينيها لكنها أحست بالصخب الناتج من عودة الكهرباء، تمنت أن تنقطع مرة أخرى وتظل روحها هكذا هائمة مطمئنة. 
تذكرت حلمها الفوري البسيط، فنجان القهوة. اتجهت إلى المطبخ تمني نفسها المحطمة بفنجان قهوة «معتبر» كما كان والدها يحبه، وضعت القهوة على النار ومع رائحة القهوة تذكرت آخر خيط كان يفصلها عن الوحدة؛ أباها.
 تكورت نفسها الحزينة في غرفة الماضي وسيطر عقلها على مفاتيح الغرفة وأغلق الباب.
ظلام دامس، والدها يجلس وهي متكورة تنظر إليه بدموع حزينة تسأله دون أن تحرك شفاهها:
«لماذا تركتني وحدي يا أبي، أتذكر المرة الأخيرة التي رأيتك فيها لكنك لم تودعني فهل ودعتني الآن ليرتاح قلبي قليلًا؟».
اتجه والدها نحوها وضمها إلى صدره قائلًا بمرح:
«كلما فارت قهوتك ستذكرينني، فدائمًا كنت تتركينها تفور وكنت أشربها وأنا عازم الأمر ألا أطلب منك قهوة مرة أخرى حتى اعتدت شربها هكذا».
ابتسمت وشمت رائحة القهوة الفائرة فأغلقت النار ودمعة دافئة تنزل على استحياء لتردد «رحمك الله يا أبي».