نافذة للصمت

 لم يكن في الغرفة المغلقة بإحكام سوى نافذة صغيرة جدًا، خلفها جدار أكثر إعتامًا من محاولات النافذة للإمساك بخيوط الشمس. سبعة عشر عامًا وهو وحيد كصوت ميت، قرأوا عليه الفاتحة فتناثر في الهواء، لا أحد يستطيع سماعه، ولا أحد يكترث لارتطامه به. كان نسمة حرية عالقة في غرفة ســوداء فــي سجــن متّسخ.
 منصور الشحاتيت، هو ذلك المعتقل الذي سرقوا منه عمره بحجة مقاومة الاحتلال، وهو الذي رفض أن ينتزعوا جذوره من أرضه. هل يبدو الدفاع عن الأرض والعرض والكرامة، جريمة يستحق عليها أن يتم اغتيال ذاكرته للحد الذي جعله ينسى ملامح أمه؟!
 سبعة عشر عامًا، في ثلاثة أمتار، إن لم يكن أقل، والكثير من العتمة، الضربات التي تلقاها في السجن الانفرادي لم تترك ندوبها في جسده فقط، بل في صوته، وفي تنهيدة مكسورة تتساقط من صدره كلما حاول أن يتنفس.
 كان الجميع من حوله يحاولون إعادة ترميمه بعد كل الخدوش التي وصلت إلى روحه. لكن مَن يدري كم جدارًا تم هدمه في داخله، وكم باب زنزانة لعينة، امتلأ بالصدأ وهو ما زال خلفه، الحديد يصدأ وينهار في العتمة والبرد، فكيف لمنصور أن يبقى متماسكًا، والحياة كلها تتآمر عليه في زنزانة أجمل ما فيها هو الصمت؟!
الصمود الطويل أمام الضرب والعتمة والتعذيب والقهر يصنع ملامح لا تشبه شيئًا. نحن الذين نستيقظ على صوت فيروز، وفنجان قهوة في بيت دافئ، ونرى الشمس وهي تتسلق حدقات عيوننا، كيف لنا أن نفهم أن للحياة وجهًا آخر لا حياة فيه؟!
 كان منصور، هو الوحيد القادر على الإجابة. هو الوحيد الذي يستطيع أن يعبر من فوق الغرز والجراح والألم وكل شيء من دون أن ينزف أو يشعر بوخز. هو الوحيد الذي يحق له أن يبتلع الموت ويحشره في داخله، كأنه حبة حلوى، وهو الوحيد الذي يحق له أن يضرب جذور الحياة وينتشلها من الأرض، مادامت جذوره أكثر ثباتًا منها.
 لكنه وبعد كل شيء، وبعد أن سرقوا خلايا من جسده ووضعوا مكانها أقراص صمت تصرخ فقط في الداخل، خرج وما زالت خلايا الوطن تتجدد في حباله الصوتية؛ ليقول لهم: لست نادمًا... إن الوطن يستحق أن نهديه أعمارنا. هذه الهلاوس التي تركتموها في جسدي لن تبقى طويلًا. 
قبلكم كنت أمتلك ثلاث لغات أتحدثها بطلاقة، لكنني اليوم أضفت لغة أسميها الألم، أتحدثها جيدًا، فقد أمضيت سبعة عشر عامًا وأنا أتعلّمها لأستجمع اليوم نفسي وأعود نحو أرضي راضيًا بما كتبه الله لي، ومدركًا أن الله سينتصر لي يومًا.. وحينها ستتمنون لو أن للموت صوتًا لتسمعوه.
-  إلى متى ستظل على حالك قابعًا في ذاك الركن المظلم؟ سأل الحارس منصور، سؤاله المعتاد، والذي يعلم مسبقًا أنه سيبقى عالقًا دون جواب، وكالعادة لن يزيح منصور نظره عن سقف الزنزانة، وكأنه تحرّر من حواسه الخمس وبنى له من خياله عالمًا خاصًا به.
 - لو استمعت لكلام المحقق وأدليت بأسماء زملائك في نضالكم الوهمي ذلك لما وصلت إلى ما أنتَ عليه. ماذا استفدت من عنادك سوى أن ترزح تحت وطأة السجن طوال هذه المدة وأصدقاؤك ينعمون بالحياة السعيدة؟! ألم تكن تعلم أيها المثقف أن الفراشات الذكية التي لا تموت بالنار يقتلها قلق الانتظار؟ 
 أضاف حارس الزنزانة وهو يضع له طبقه اليومي المكون من بقايا طعام تدبّ داخله الحشرات الجائعة. نظر إليه منصور هذه المرة بابتسامة تُظهر بقايا أسنان محطمة نجت بأعجوبة من لكمات المحققين.
-  الفراشات تتساقط كل يوم. ذاك أفضل لها من أن تبقى كطين لم يجفّ، ولا يملك الشجاعة حتى ليراهن على لحظة اكتمال.