«رسائل ملوَّنة»

قبل رحيلها بوقت قصير، مدت أصابعها المرتعشة للتشبُّث بيده، نظرت في عينيه واقتربت من أذنه وهمست: «لا تنسَني يا رفيق العمر». وكان بالوعد وفيًّا بالوعد، لكن الحياة قاسية، سرقت العمر والأحباب، والآن تحاول سرقة الوعود.
لم يدرِ «طارق»، الذي كان يتمتَّع بذاكرة قوية طوال حياته، أن الحياة ستلاعبه، وتحاول أن تسرق منه أثمن ما يملك، ذكرياته، أو بالأخص، ذكرياته معها. لم يتوقع أبدًا أن يأتي صباح، يكون فيه التذكر أمرًا شاقًّا، يتطلب فيه مجهودًا، وحفرًا في دروب عقل تبدو بعيدة، وكأنه يبحث عن نور في بئر مظلمة.
بدأ الأمر بعد رحيل زوجته بسنوات عدة، عندما بدأ اللون الرمادي يزحف إلى كل ركن من حياته، بدأ يشعر أن اللون تسلل إلى عقله، عندما نسي مرة برَّاد الشاي يغلي حتى تبخرت المياه واحترق. ثم بدأ ينسى مواعيد الطبيب، ومواعيد برامجه المفضلة في التلفزيون،. ولكن حين نسي عيد زواجه بالراحلة لأول مرة، أحس بالقلق. 
استيقظ ذات صباح، نظر في هاتفه، وجد أن اليوم هو 23 أكتوبر، وهذا يعني أن عيد زواجهما كان منذ يومين... نهض مذعورًا، كيف نسي؟ حاول أن يتذكَّر ماذا فعل في هذا اليوم، لكن كان الأمر صعبًا أيضًا، أدرك «طارق» أن الأمر أكبر من برَّاد شاي نسيه على النار، ومباراة كرة، ومواعيد عادية، وعندما عرض الأمر على جاره الطبيب الشاب، ردَّ عليه بحزن: «يبدو أنك تعاني من أعراض الألزهايمر، في مرحلة مبكرة»، ثم كتب له بعض الأدوية المنشِّطة للذاكرة.
جلس في غرفته يفكِّر، أدرك أن الأمر وهو وحده شاق، ويجب أن يشاركه مع أحد آخر، ذاكرته ما زال فيها بعض الضوء، لم تتلف تماما، لكنه كان وحيدًا، مات أصدقاؤه القدامى، والجيران كانوا مجرد معارف، يلتقيهم في الطرقات ويصافحهم ويصافحونه من بعيد، ثم فجأة خطرت على باله فكرة مشاركة الأمر مع أولئك الجيران، عن طريق رسائل ملونة، يكتبها لهم كل يوم.
في الصباح التالي، وضع «طارق» أمامه رزمة من الأوراق الملوَّنة، وأخذ يدوِّن في كل ورقة جزءًا من ذكرياته مع الراحلة؛ مثلًا رسالتها الأخيرة التي بثتها وهي تحتضر: لا تنسَني يا رفيق العمر. ورسالة أخرى كتبها، تقول: حبيبتي كانت تحب القهوة، والمطر.
وهكذا كتب عدة رسائل ملونة، انتزعها من ذاكرته، بعضها بسهولة وبعضها بمشقة، ووزعها على الشقق المجاورة، وضعها على عتبة كل شقة... وتعجّب الجيران من تلك الرسائل التي وجدوها بمجرد أن فتحوا أبواب شققهم في الصباح.
كل صباح، رسائل جديدة، والكل يسأل عن مصدر تلك الرسائل التي تحمل ذكريات حب قوي، حتى أخبرهم الطبيب، أنها تخص «طارق»، ذلك الرجل الذي يسكن وحده، ويهدده مرض الألزهايمر، وأنها طريقته حتى تساعدوه على التذكر، إن نسي كل شيء.
أُعجب الجيران بالرسائل وبقصة الحب القوية التي تملأ صفحاتها، وقرّروا جميعًا أن يساعدوه، وكان كلما رآه أحدهم، أوقفه وحكى له حكاية من الرسائل، فيفرح «طارق» ويشكره.
وكان من بين الجيران مخرج شاب، بدأ طريقه في العمل السينمائي، وهذا قرر أن يساعده بطريقته، جمع كل تلك الرسائل، وطلب منه بعض الصور القديمة، واستعان بممثلين من الجيران، وصنع فيلمًا قصيرًا عن قصة حياته، وسمَّاه «رسائل ملونة». 
تجمَّع الجيران حوله وأهدوه ذلك الفيلم، انفلتت دمعات «طارق» وهو يرى قصة حياته مجسَّدةً أمامه، وهو يتذكر مع كل مشهد كيف كانت حياته ملونة، وكان أحد الجيران، كل يوم، يتصل به ويذكِّره بمشاهدة الفيلم.