- بواسطة محمود يحيى
- الدولة مصر
علمت بمصيبة أصابت صديقًا لي، بينما كان يعبر الطريق، حتى دهسه مراهق ابن أحد الكبار المتنفذين، كان رؤوفًا معه؛ إذ طيره في الهواء عدة أمتار، حتى سقط على قدمه فدغدغَّت، ويديه فكُسرت، ورأسه فَدشدشت، وعينيه فأظلمت. كان ذلك في وضح النهار، بل كان شرطيًا - أمين شرطة - على بعد خطوات، في قلب الميدان، والشارع في الأصل مدجج بالكاميرات... ولكن لا نعلم؟! وقتها طبعًا كان الشاغل هو نقل صديقنا للمشفى، والتي علمنا بخبر نقله لها بعد الحادث بحوالي ساعة، كان هو في غرفة العمليات بالمشفى العمومي. عرفنا ممن شهد الحادث أن الفتى كان يقود السيارة تحت تأثير المخدرات، وبجانبه حسناء من عمره، وفي الكرسي الخلفي أصدقاؤه يشعلون سجائر الحشيش، على أهازيج أغانيهم الماجنة . هو وجه معروف طبعًا للمدينة كنجم سينمائي؛ لأنه «ابن الباشا» يأمر فيُطاع بغمزة عين، ورفع الحاجب يغنيه عن فتح الفم، كان صديقنا غائبًا بفعل المُخدر العمومي.
فاقترح أحدنا أن نذهب لتحرير محضر بالواقعة، لنحفظ حق هذا المغدور المكوَّم على سرير حقير بملاءة متسخة، يسرح عليها البق، والقمل، ملطخة بالدماء،... وتأخذ العدالة مجراها فتقتص من المجرم، وربما سبب تراخينا في تبليغ الجهات الرسمية، إلى بعد خروجه من العمليات؛ ركوننا بأن الشارع يعجِ بالكاميرات أعلى البنايات، وأمام المحال، ويوجد غير الشاهد ألف لحادثة وقعت في قلب المدينة.
كانت الصدمة أن جميع أصحاب المحلات، والحوانيت يزعمون ألا حوادث جرت بالمكان، ولا يعلمون أمرًا عن الواقعة، ولن يطلع أحد على الكاميرات!. طفنا الشارع بطوله وعرضه قطعناه ذهابًا وعودة على الاتجاهين. ولكن لا مجيب! حتى أمين الشرطة لما سألناه اصطنع الجهل، بالواقعة برمتها، فشرحنا له الأمر وذكرناه بالرقم المميز لسيارة ابن الباشا - الذي يحفظه - عن ظهر قلب؛ لأن هذا الأرعن يصبح عليه ويمسي بورقة من فئة مائتي جنيه، وربما غمزه بسيجارة معتبرة من الحشيش الأفغاني الأصلي حتى ينتعش المرور! أخبرنا عجوز على جانب الطريق، هامسًا أن الشرطة حضرت بعد أن اتصل الأمين بها، ودخلوا جميع المحلات.
وزميلنا ينازع آلامه، هناك يتمدد في غرفة تعافها الكلاب! تضع قدميك على بوابة تلك المشافي المرعبة، فيأتيك الموت من كل مكان. الجدران كئيبة محفور عليها مئات القصص البشعة أحدهم فقئت عينه لأن الطبيب قليل خبرة، وحديث عهد بالطب. آخر يعاني من آلام مبرحة قادمة من بطنه، بعد عملية أجراها ليكتشف أن مقصًا نائمًا بجوار أحشائه، نسيه أحد أطباء العمليات؛ لأنه كان مشغولًا بقصة حب ضعضعت فؤاده، ومنهم من خرج «بكلية واحدة» بعد استئصاله المرارة. الصراخ ينهمر عليك من جميع الأركان، فيتحول المكان لسيمفونية آلام حين يتحالف المرض مع الفقر ! العجائز بأصواتهن الواهنة المبحوحة، والشباب بصراخهم الفتي، والصبية بصوتهم المسلوخ، تتقدم منك ممرضة في مقتبل شبابها كاملة الزينة، يَكسوها الهدوء، تتلبسها نفس مطمئنة، وكأنها في جنة وارفة، لا ترى أو تسمَّع أرواحًا تتألم ! تكتفي بحقنة «مسكن» مع ابتسامة رسمية - إن كانت رحيمة - أو صيحةً آمرة بالانصياع لأوامرها إن كانت جاحدة... وهنَّ الأكثر. وأطباء لن تراهم، لأنهم هناك في غرفهم المغلقة، يضحكون ويبحثون عن آخر نكتة . أما صاحبنا فخرج جثة تتنفس ملقاة على كرسي، لا يتحرك منه غير رموشه والفاعل مجهول ■