- بواسطة مصعب تقي الدين
- الدولة الجزائر
أتذكره كيف التزم فجأة، لم نكن لننتبه لتحوله لولا أنه صار يأتي إلى الجامعة مزينًا بلحيته وقميصه المقصر وأتذكرها أيضًا كيف أصبحت تجلس في آخر المدرج بجلبابها الرمادي ونظرتها الخجلى وأصابعها التي ترقص باضطراب على لوح الطاولة الأملس، بعدما كانت تكشف للشمس جدائل شعرها الكستنائي الطويل.
أتذكر يوم كنا سنجري امتحانًا مساء خميس شاحب من شهر ديسمبر، كان جميع الطلبة متذمرين من توقيت إجراء الامتحان في آخر يوم يسبق العطلة الشتوية، وتجمعنا عند باب قاعة الدرس في الطابق الأخير قبل نصف ساعة مراجعين ما تيسر من معلومات تكون زادنا قبل الامتحان.
كنا منقسمين إلى جماعات اختلطت أصواتها برجع صدى بدد السكون المتكوم على نفسه في زوايا الطابق الفسيح، وكان صاحبنا يقف عند النافذة التي تتسلل منها أنفاس الشتاء ممسكًا رزمة أوراق يقلبها بهدوء تعلو وجهه نظرة سكينة.
كنت جالسًا على الدرج في زاوية المبنى حين لمحتها تتقدم إليه بخطوات خجلى متعثرة متلفتة يمنة ويسرة وهي تضم إلى صدرها دفترها، وحين لم تبق بينهما سوى خطوتين تكلمت قائلة:
- خذ هذا الدفتر وألق عليه نظرة فقد لخصت فيه كل الدروس.
رفع إليها بصره ليعود ويخفضه أخرى مادًا يده إلى الدفتر قائلًا بارتباك:
- بارك الله فيك... سألقي عليه نظرة وأعيده لك.
قالت وقد اقتربت منه خطوة أخرى:
- لا بأس أن نراجعه معًا...
فرد عليها وقد رفع عينيه إليها بشبه ابتسامة وحمرة لطيفة صبغت وجنتيه:
- أظن أنه لا بأس بذلك...
كانا محاطين بهالة من قداسة سمحة وكأنهما مقامان جليلان طاف بينهما السكون كأنه مريد تعطر بالهوى العذري أو شيء ما أجل منه قدرًا، وأنا أراقبهما بابتسامة رضا كأن الحجاب كشف لها لترى ما سيحدث في قادم الزمن بينهما.
اليوم رأيتهما وأنا أهم بزيارة أحد أقاربي بالمستشفى، ظل صاحبي محتفظًا بوجهه السمح ونظرته الطيبة سلم علي بحرارة وأخذنا نقص على بعض ما فاتنا من زمن، فيما هي تقف قريبًا منا ساندة ذراعيها على حافة النافذة القريبة.
سألني عن سبب قدومي إلى المستشفى فأخبرته، وسألته فأجاب بنبرة حزينة معتقة بحزن قديم:
- جئت مع زوجتي فلانة - وأشار إليها - أدع الله أن يخفف عنها، آتي بها في كل مرة لجلسة الكيماوي حتى يخف ألمها، يقولون إنه لا أمل في علاجها، لكن الله كريم أليس كذلك؟
نظرت إليها فأدارت وجهها الشاحب إلينا بابتسامة لا تكاد ترى، هي أقرب للحزن منها قربها من شيء يشبه الفرح، ثم عادت وأسندت ذراعها على حافة النافذة مرسلة نظرها إلى الأفق البعيد.
أغمضت عيني لوهلة مسافرًا بذاكرتي إلى زمن قريب ورأيتهما، كان يقف قرب النافذة التي تتسلل منها أنفاس الشتاء، وكانت تقف قريبًا منه مبتسمة بخجل، والريح تمد أصابعها الباردة من النافذة محاولة العبث بجلبابها الرمادي، كانت تشبه غيمة لطيفة تاهت عن الأفق واستقر بها المطاف هنا - في المستشفى.