- بواسطة سيد علي تمار
- الدولة الجزائر
الساعة تشير إلى منتصف النهار، الكل مستغرق في حصد السنابل الذهبية والتي تتراقص مع نسيم الظهيرة الدافئ... الطيور تنتشي فرحًا بالهدوء ومع دندنة العمَّال تزيد من تغريداتها المتنوعة، خلف الأكوام المتراصَّةِ يقبع وحيدًا متلحِّفًا ظله! مستغرقًا في تفكيره الذي أصبح كالسَّجَّان، يضرب على أوتاره المرهفة أساطين الألم والأمل... يأخذ سنبلة من أكوام السنابل المتراصة حوله وفي كل زاوية من زوايا المستودع، الذي يغشاه بصيص نور من ثُقبٍ، وقد رسم مع ذرات الغبار المتطاير سمفونية نقْعَ الحرب!
يرفع ذلك المرهق الحزين قليلاً من قُبعتِهِ، ليختلس نظرات قبل مجيء رب العمل المتغطرس.
تهتز الأرض وتتمايل مجْنَبَتَيْ الأكوام، بفعل عجلات الشاحنة الضخمة التي تقترب من الحقل والمستودع... في هذه الأثناء يستنفر العمال أصحابهم وقد اصطفوا في انتظار قدوم «حضرة المالك»، في هذه الأثناء ينزع المراهق قبعته وينهض وجعل ينظر من الثُّقب متتبعًا كل خطوة تخطوها الشاحنة الضخمة، يجلس مجددًا وقد أشعل عود ثقاب وقال: «إذا اكتمل احتراق عود الثقاب هذا، فلن أخرج وإذا لم يكتمل سأخرج، أتمنى أن لا تحترق لكي لا يحرقني بألفاظه الحادة!»، وصل «المالك» وقد وجد العمال مصطفِّين كأنهم بنيان مرصوص، وأخذ يرمقهم الواحد تلو الآخر، وبعدما قام بتعدادهم، أخرج ورقة وفيها أسماء الحاضرين من العمال.
بدأ ينادي عليهم ولكن عود الثقاب كان قد اكتمل احتراقه قبل مجيء رب العمل، فما كان من المراهق إلا أن طأطأ رأسه وقال: «يبدو أن الحظ قد عاكسني اليوم!، لن أخرج له سأبقى قليلاً حتى يذهب وأرتاح من ضجيج كلامه، لا أريده أن يُعلمني بدوام العمل الجديد...»، مجددًا ينظر المراهق من الثقب وألزق سمعه مع فتحة الجدار المقابل لثقب الباب، وإذ به يسمع: «أنت ستكون لديك إجازة مدتها أربعة أيام، وأنت لديك إجازة يوم... وهكذا دواليك»، حينها علم المراهق بأن الخير قد فاته وأنه أضاع فرصة «الإجازة التي انتظرها» على أحر من الجمر.
يفرح العمال بإجازاتهم التي لم يحلموا بها من قبل، وقد تعوّدوا على خرجات «صاحب العمل والمالك للحقل» الذي يتفنن في تحميلهم ما لا يطيقون.
تنفس المراهق الصعداء وقد آلمه تضييع هذه الفرصة وقد علم حينها أن التحايل لا يجدي نفعًا، فقرر الذهاب إلى رب العمل واستسماحه عما بدر منه من اختباء، وعدم قدومه للقيام بالدوريات الاعتيادية لإحصاء العمال.
بخطى متثاقلات يخرج وقد طأطأ رأسه، حتى اقترب من المالك فألقى عليه التحية وقال له: «سيدي أعتذر، لقد احترق عود الثقاب قبل مجيئك، وخفت أن أخرج وأنا دون أنيس يؤنس حرقتي... أرجوك اصفح عني وأجزني كما البقية»، يلتفت المالك وقد علت مُحيَّاه ابتسامة عريضة وهو يقول: «يبدو أن السجن الذي كنت فيه، قد علّمك صراحة البوح» ■