- بواسطة بهاء إيعالي
- الدولة لبنان
ظلّ هكذا قرابة الشهر قبل اختفائه من بيروت، خلاله دائمًا ما شوهِدَ في أحد شوارع المدينة، يجرّ قدميه بطوله وعرضه، في يده ورقةٌ مصفرَّةٌ وفارغة، وكذلك زهرة غاردينيا بيضاء تشعُّ نضرةً وحيويَّة.
يذرع هذه الشوارع جيئةً وذهابًا، ليس دون أن يكون قد رسم مسارًا واضحًا لأجل ذلك: يختار شارعًا وينطلق من أحد مدخليه، يتَّخذ الرصيف الأيمن ويمشي ببطءٍ حتّى يصل أوَّل مقهى هناك، يختار إحدى الطاولات الفارغة ويجلس دون أن يخلع معطفه الصوفيِّ الطويل، يخرجُ من جيبه علبة سجائر، ويلبث قاعدًا ملتفتًا يمينًا ويسارًا.
تأتيه النادلة بقائمة المشروبات وتضعها أمامه، يقلّب الصفحات بنظرةٍ تبيِّن أنَّه لا يرغب بالاطِّلاع على المحتوى بقدر محاولته تأمُّل التصاميم المشغولة بداخلها. يغلق القائمة ويعود إلى التلفُّت يمنةً ويُسرةً كالآخذ حذره من وجهٍ ما، يتأمَّل وجوه الزبائن الجالسين أو مساند الكراسي الشاغرة بحال كان المقهى فارغًا.
تعود إليه النادلة وتسأله بحال يرغب شيء، يظلّ صامتًا وعينيه جائلتينِ بين كراسي الطاولات الشاغرة، بوجوه الزبائن، وبالمنفضة الدائريَّة فوق طاولته. تكرِّر سؤالها له فيجيبها بصمتٍ إضافي. تغيب عنه للحظاتٍ معدودةٍ ومن بعدها تعود ليتكرَّر المشهد ذاته: تسأله بما يرغب ويجيبها بالمزيد من الصمت. وهكذا حتى تنتهي السيجارة بين إصبعيه، يطفئها وينهض من بعدها، يقطف بتلة من بتلات زهرة الغاردينيا ويضعها في جيب قميص الفتاة، راسمًا ابتسامةً كئيبة، ويخرج.
مع خروجه يتَّجه نحو المقهى التالي على نفس الرصيف حيث يكرِّر فعلته، فالذي يليه والذي بعده. وعلى هذه الحالة يستمر: يدخلُ المقهى، يشعلُ سيجارةً ويلتفت يمنةً ويسرة، يلبث هناك حتَّى انتهاء السيجارة ومن ثمّ يخرج بعد وضعه لبتلةٍ الغاردينيا في جيب قميص النادلة. وحين يصل طرف الشارع الآخر يستجمع ريقه، يبصقه منتصف سكَّة الطريق، ومن هناك يعود أدراجه ويعيد الكَرَّة ذاتها في مقاهي الرصيف الأيسر.
لطالما تباينت ردود فعل النادلات إزاء تصرُّفه هذا: منهنّ من رثين حاله البائس فأشفقن عليه؛ منهنّ من وجدن تصرُّفه ودودًا فبادلنه الابتسامة؛ منهنَّ من استغربن تصرُّفه دون ردَّة فعل؛ منهنَّ من غضِبن من تصرفه واعتبرنه متحرِّشًا فشتمنه بسريرتهن؛ منهنّ من استفزَّتهنَّ وقاحته فغضبن وحاولن إجباره على دفع «ثمن طلب»؛ ومنهنّ...
أمّا هو فغير مبالٍ بكلِّ ذلك، يكرِّر فعلته نفسها وكأنَّه يمارسها لأوَّل مرَّةٍ أبدًا، ورغم ثقب أذنيه بالشتائم التي يدركها بعض الأحيان، ورغم حالات الغضب والاستغراب لدى كلِّ مَن يتواجد هناك بمن فيهم عابري السبيل، إلَّا أنَّه لا يبادر بأيِّ إيماءةِ انفعال، بل يمضي وكأنَّ شيئًا لم يكن.
كلّ هذا يحدث وهو ملتزمٌ بصمته.
حينما تنتهي جولته هذه يعود إلى وسط بيروت حيث يتَّجه صوب «كافيه يونس»، وفيها تكون طاولته فارغة على الدوام. يجلس ويطلب كوبين من القهوة بالحليب، يضع كوبًا أمامه وكوبًا قبالته، يدخِّن سيجارةً تلو الأخرى، تظلُّ عيناه محدّقتين بالتناوب في الورقة المصفرَّة أمامه وفي الكرسيِّ المقابل له. يُخرِجُ من جيبه قلمًا، ودون أن يفتحه يكتب على الورقة أمامه، ولطالما حاول بعض الفضوليين معرفة ما يكتبه بتتبُّع حركة يده دون جدوى. يظلُّ هكذا حتَّى يُفرغ كوب القهوة أمامه، يخرج من جيبه كأس زهرة الغاردينيا، يرميه داخل الكوب الآخر، يدفع الحساب ويغادر.
على طريق عودته لا يعبأ بأحد... يمضي وبيده ورقته الفارغة التي أعطتها الأنوار الخافتة بياضها السابق، ذاك البياض المماثل لحياته والذي، بحسب عارفيه، أخرجه من توحُّش أولئك الذين تصطدم كتفه بأكتافهم أثناء سيره على الرصيف.