«حياة أخرى»

خرجت من عملي مرهقًا وسط شمس الصيف الحارقة، تنساب على جبيني أشعة الشمس اللاذعة، فتنهمر حبَّات العرق على ياقتي البيضاء وبذلتي الفاخرة، ارتديت نظارتي السوداء والتفتُّ باحثًا عن سيارتي الفارهة وسط زحام المارة وأصوات الباعة، ضغطت على زر مفتاحي الكهربائي لأمكث في خلوتي، وأغلقت بابي من ضوضاء الباعة ورائحة المارَّة.
نظرت إليهم باشمئزاز من نافذتي، أدرت سيارتي ومكيف الهواء، توغَّلت بين الشوارع حتى أوقفتني إشارة مرور، نظرت من شباكي الزجاجي فوجدت فتاةً صغيرةً بضفائرها الصفراء تداعب خديها الحمراوين.
 دقَّت زجاج سيارتي ففتحت نافذتي ونظرت لها بعطف، مدَّت يدها الصغيرة بأوراق النعناع النفَّاذة، كم أحببت تلك الطفلة من عينيها ورقَّة ملامحها وبراءتها الرقيقة.
 داعبت قلبي، تمنيت تلك اللحظة أن تكون ابنتي؛ فبرغم كل ما أمتلكه فأنا محروم من لحظة أبوة صادقة، ظللت أناظرها بانبهار الأب ولحظة حرمان، مددت يدي لأجتذب النعناع بعشقٍ ولهفةٍ، أمسكته وأنا أشتمُّ عطره بين يديها الصغيرتين، لماذا لم تكن لي هي وأوراق النعناع؟
 لماذا لم أقتنِها كأي شيءٍ أقتنيه؟
فهي أشياء لا تُشترَى!
أصبحت شاردًا في حضرة جمالها وطفولتها الحانية، أخذت تسألني بابتسامة بريئة:
 - عايز نعناع يا بيه؟
ارتجف قلبي من صوتها العذب، رسمت البسمة على شفتيَّ الغاضبتين من قدَر الحياة.
فتاة لم يتعدَّ عمرها السابعة تخطو خطوات الشقاء، تبحث عن قوت يومها وتحرق الشمس سنوات طفولتها، تخبئ خوفها بنظرات مرتعشة.
  أيّ أب هذا؟! ألم يخشَ على ملاكه الصغيرة؟
   ووسط كل ذلك تعالت إنذارات السيارات حولي، توقفت أطرافي وحياتي في تلك اللحظة العابرة، دعوت الله أن أترك كل ملذات الحياة، لأتجرع أحضانها وأتذوق طعم الأبوة.
 بدأت تتعالى أصوات المنتظرين بالسيارات وأنا حالم بين عالمها، حتى هرول إليّ رجل المرور ليسألني بكل عُنفٍ وحدة:
- لماذا الوقوف؟!
أشار لي بفتح الطريق، ظللت شاردًا، توقَّف عقلي، لا أرى أحدًا سواها مبتسمًا ماسكًا بأوراق النعناع ناظرًا إليها أتمعن شقاوتها، توقف عمري في لحظة.
احمرَّ وجهها خجلًا من شتائم رجل المرور لي وأنا لا أبالي، أخرج بحَّةً من مناخره وحشرجة تشق أذني سيمفونية منفردة.
«أوبرا مرورية» أصوات نادرة خارجة من المنتظرين بالشارع وأنا لا أبالي إلا بتلك الفتاة، مبتسمًا أشدُّ على أوراق النعناع وأنظر إليها. تزاحم الناس من حولي، أخرجوني من سيارتي وانهالوا عليّ ضربًا مبرحًا وأنا لا أبالي مبتسمًا، أنظر إليها وأنا تحت أقدامهم حتى أتت صفعة آخر مؤخِّرة رأسي، انتفضت من غفلتي لأجد نفسي مُلقَى على حصيرة بالأرض، وإذ بامرأة تصرخ في وجهي، سيدة سمينة الجثة صوتها يخرم أذني لتنادي وتقول:
- قوم يا مَوكوس يا ابن الموكوس قطَّع النعناع، عشان بنتك تسرح بيه في إشارات المرور.
فزعت من هول الصدمة، امتلأت عيناي بالخوف ثم نظرت إليها فوجدت بجانبها الفتاة البريئة في أحلامي هي ابنتي، هرعت إليها واحتضنتها بكل خوف وحنان، كم كنت قاسيًا عليها لا أعرف معنى الأبوة المفقودة! مسكت يديها أقبِّلها بتلهف حابسًا دموعي بين أحضانها أروي شوقي منها.
 حلمٌ أم حقيقة قلب حياتي رأسًا على عقب، كأنني أرى ابنتي لأول مرة في حياتي، حمدت ربي باكيًا على نِعَمه، لم أدرك قيمتها بعد أن فقدتها، لا أعرف إذا كان حلمًا أم تحقَّقت أمنيتي؟!