«فرق توقيت»

كانت تعلم أنها تنتظر قطارًا لن يأتي... ليس له في لوحة المواعيد ميعاد وصول... قطارًا انطلق من مكانٍ مجهول وذهب إلى مكانٍ مجهول... ومع ذلك تنتظر.
الانتظار أمل من يأس من الأمل... الاختيار الوحيد لمن جرب طرقَ الأبواب كلها ولم يُفتح له باب...
كم شهرًا انتظرت؟! بل كم سنة؟ 
- لقد قال إنه سيعود... لا أعلم في أي قطار ولكنه سيعود... مَن هو؟! لا أذكر ولكن قلبي يذكر أن أحدهم وعدني بالعودة، ينظر لها العامل باستهزاء وهو يكنس شيئًا لا مرئيًا على الأرض فكأنما يكنس سنوات عمرها... الست تحية، بشالها البني الذي تضعه على كتفيها في كل فصول السنة وجلبابها الذي لا يتغير إلا لمامًا.
أصبحت من علامات المحطة... مثلها كالعواميد والحوائط ... حتى القضبان تغير مسارها وهي لا تتغير أبدًا.
نزلت يومًا من إحدى القطارات القادمة من الجنوب، الاحتمالات كثيرة، ربما أتت من أسوان أو سوهاج أو قنا... في البداية حاولوا طردها، فتركب أي قطار متجه إلى أي مكان وتلبث أيامًا في رحلتها ثم تعود في النهاية إلينا، لذلك اعترفوا بوجودها كشيء لا غنى عنه. 
يثرثر معها العمال والحمالون والبقالون والمسافرون أيضًا... كل من ابتغى إزاحة همومه عن صدره جلس ليسكبها لديها، وهي تتلقفها دائًما بنفس طيبة وصدرٍ رحب... كان شعرها في البداية أسود اللون تتخلله خصلات بيضاء ثم أصبح أبيض كله... تغير الناس ولم يعد يعرفها إلا القليل ممن شابوا معها من القِدام.
كانت قصتها تبدو وكأنها بدون نهاية، ولكنها في يومٍ ما رحلت إلى دار لا يذهب إليها أحد إلا مجبرًا.
وفي هذا اليوم بالذات نزل من أحد القطارات راكب يسأل عنها بصورة قديمة تظهرها أيام شبابها، لم يتعرف على الصورة أحد إلا عم عطية لأنه رآها حين كانت أصغر... قال للرجل ببساطة إنها ماتت اليوم.. تهاوى الرجل العجوز على ركبتيه، بكى بكاءً تتفطر له القلوب. 
- بعد كل هذه السنين، لقد سخرت عمري للبحث عنها... كانت زوجتي، حدثت لها حالة عجيبة من فقدان الذاكرة المبكر، تاهت مرة ولم أعلم شيئًا عنها سوى أنها ذهبت لمحطة القطار، لم أكلّ يومًا وأنا أبحث عنها في كل المحطات واليوم أجدها ميتة! لم تتلاقَ مواعيدنا ولو لمرة! 
لم يستطع أحد منا أن يواسيه، قام ذاهلًا ومشى بخطواتٍ مرتعشة إلى حيث لا نعلم. 
في اليوم التالي حين وجدوا الجثة المشوهة تحت عجلات القطار لم نعرفه إلا من الصورة التي بقيت معه... 
لم يعرف أحد إذا كانت الحادثة انتحارًا أم لا... ولكني عرفت أني لن أفعل شيئين ما حييت
البحث عن الراحلين والانتظار.