- بواسطة بلال الخوخي
- الدولة المغرب
لم يبرح مكانه منذ ساعات، وجهه ملبد باللاحياة، المعنى الوحيد الذي يمكن قراءته على جبهته خليط بين الريبة والغضب، لا أدري كيف نفرق بين تجليات الأحاسيس، ربما الحدس هو العامل الأول، أو ربما شيء تلقننا إياه الحياة قبل الخروج إليها. السماء تكتسي وشاحها الرمادي منذرة بزخات قادمة، امرأة تعجل خطاها على الرصيف المجاور كأنها هاربة من شبح، خلفها طفلتان تلهوان بالحبل وقد وضعتا محفظتيهما على عتبة باب خشبي لم يسلم من الخدش، الخدش يحمل تاريخًا وقصة أبطالها - في الغالب - ما عاد لهم وجود في الواقع أو في الذاكرة، شاب يمر بجوارهما، يتهادى مع إيقاعات سماعتيه غير واع بما تحتويه الكلمات. والشيخ بين كل المتغيرات، لا يزال جالسًا، عيناه تخترقان كل شيء إلى اللاشيء، كأنما تاه في عوالمه الداخلية، تلك العوالم المتراكمة في جوهر الإنسان، المصفدة إياه حتى تصير أشد عليه من عالمه المرئي، أو، لعله يبحلق في فراغه الداخلي، وهذا يختلف عن العوالم الداخلية في كل شيء عدا تصفيده لروح الفرد، لذلك لا يمكنني أن أفرق في أيهما تشخص عيناه. تعانق السماء الأرض فيختبئ معظم من بالحي خشية البلل، يدخلون منازلهم أو يأوون إلى مظلات الدكاكين والسقائف. أحمل كرسيّي وأتقهقر داخل منزلي دون أن أن تضيع زوايا الحي عن عينيّ، أشفق على الرجل الذي لم يحرك ساكنا، من يخبره أن الماء لا يملك أي قدرة على إخفاء التجاعيد ولا على غسل الذاكرة؟ الطفلتان محتميتان بالباب المخدوش، لكنهما تتدافعان وتتضاحكان، تحاول كل منهما دفع الأخرى نحو المطر، إحداهما تحمل محفظة الثانية مهددة إياها بأنها ستمدها كي تتبلل، تجرها وتمنعها عن ذلك، تنهرها بشدة، ثم تعودان إلى التدافع والتضاحك. أتُرى الشيخ يراقبهما؟ يروي ظمأ حنينه إلى الطفولة؟ كيف ننتقل - بسرعة البرق - من الطفولة إلى الكهولة؟ كيف تتقوس أظهرنا في غفلة عن كل شيء في الدنيا؟ أرى المرأة الهاربة من الشبح عائدة تحمل مظلة سوداء، تهرول الفتاتان نحوها وتحضنانها ثم يذهبن جميعًا محتميات بالمظلة. الرجل محملق في الباب المخدوش، أفكر في أن الخدش ما هو إلا نتيجة لطول الحملقة، كأن خيطًا خفيًا مربوطًا بين الباب وعيني الرجل، يشدهما بقوة متوازنة كالقوة الجاذبة بين الأرض والقمر. تقترب امرأة منه، تربت على كتفه وتبتسم، لا ينظر إليها، يساورني شك فظيع، إن الرجل أعمى، الرجل أعمى وأنا أحيك حوله القصص، بيد أنه يبدد شكي إذ يستدير نحو المرأة ويتمتم لها فتنسحب، ثم يعيد عينيه حيث كانتا على نفس الخط المستقيم مع الباب. أفكر في أن أنادي على المرأة وأطلب منها أن تجلب له مظلة على الأقل، لكني مجرد رجل عاجز عن فعل حركة غير توزيع عينيّ على الجنبات، أما كلماتي فمصيرها سجن أبدي خلف لساني. الماء يتخذ مساراته على جنبَيْ الطريق متجها نحو فتحات المجاري، وبعضه يحط على الرجل محيلا إياه إلى شلال، خليط الريبة والغضب لم ينجل عن ملامحه، لكنه لا يبالي بتاتًا، إذ يظل كما هو، جالسًا، يراقب اللاشيء، وأظل أنا، جالسًا، أراقب كل شيء.