- بواسطة عبدالمالك حسنيوي
- الدولة المغرب
طار الخبر في المدينة، وانتشر كانتشار النار في الهشيم، لم يكن يحتاج مذياعًا لإذاعته ولا حتى جريدة لإشاعته، فهذه وظيفة أولئك الذين همهم الوحيد في هذه البلاد السعيدة، الاستماع والتلذذ بنشر مثل هذه الأخبار، بل الأدهى والأمرّ تلوينها بألوانَ تتنصّل من حقيقتها، وتتقمص أشكالاً تتْرى، لتنسُج خيوط حكاية امرأة مخبولة، انفطرت السماء ولفظتها.
كانت تجوب أرجاء المدينة، بشعر منكوش وثياب ممزقة، هائمة تفترش الأرض وتتغطى بالسماء، ليس لها بيت يؤويها ولا قريب يحميها، تجر وراءها أطراف الأغطية البالية، تلتف من حولها حتى لا تكاد تظهر أسمالها الرثة، تكنس الأحياء والشوارع، وتخلف آثارًا لا يمحوها سوى المطر أو فعل بشر.
الشيء الوحيد الذي كان يقلقها مطاردة الأطفال لها، وهم يرددون بصوت عال: «آعواطف؟ واعواطف؟»، فلا رمي بالحجارة يَصرفهم عن فعلهم هذا، ولا صراخ يمنعهم من ملاحقتها، سوى بعض المارة الذين تصادفهم وتلوذ برحمتهم.
لم يكن أحد من سكان المدينة، يعرف اسمها الحقيقي، سوى ألقاب يلصقونها بها كلقب «أمْ كْوَاشْ»، أو إغاظتها باسم «عَواطف».
كانت امرأة غريبة الأطوار، لا تسمع منها إلا بعض الغمغمات، التي تشي بأسرار مخبوءة وتنبئ عن خفايا مدفونة في قلبها.
لا تُحس بالزمان ولا تشعُر المكان، تسير بلا بوْصلة، تنبعث منها رائحة نَتنة، تخترق تلك الأغطية المدنّسة، تمنعك من الدّنوّ منها.
كانت تتمنى ألا ينقضي الليل وأن تُمدد ساعاته، لأنه بالنسبة لها أأْمن من النهار، فرغم قتَامة المكان الذي تبيت فيه إلا أنه محمي من مضايقة الأولاد.
تصطفي منه ركنًا أو زاوية، وتُسلم نفسها للنوم، غير مكترثة بالحشرات اللادغة أو الكلاب المتسكعة، ولا آبهة للسعات البرد أو قضمات الصقيع.
في اللحظة التي أقبلت فيها على هذه المدينةـ الكائنة في أقصى الجنوب الشرقي للبلادـ الصغيرة في حجمها، الكبيرة في عطائها، فلطالما أنجبت علماء جهابذة في الدين، وأنتجت كتابًا مرموقين وسياسيين محنّكين.
كانت تُنسج حولها القصص والروايات، فهذا يظنها مجنونة أو ممسوسة بالجن، وذاك يحسبها قد تعرضت لمشكل ما أثر عليها نفسيًا، وآخر يعتقد أنها بوهالية أو مجذوبة، ولسان حاله يقول: «خذوا الحكمة من أفواه المجانين».
كانت إنسانة مُسالمة لا تعتدي على أحد، ربما ذلك راجع لطبْعها الذي تطبّعت به في الصغر، أو عائد إلى خَشيتها من أمر ما لا يزال مجهولاً.
تنفُش على الطعام في الحاويات، وتُقبل عليها بنَهم شديد، لا تخاف الإصابة بالأمراض أو التهاب في الأمعاء...
مضت أسابيع وشهور، وهي علـى هذه الحال، ليُعثر عليها جُثة هامدة في ضواحي المدينة، دافنة معها أسباب جنونها ومسببات موتها ■