- بواسطة محمود مصطفى حلمي
- الدولة مصر
على رصيف محطة قطار مدينة نائية تكاد تُنسى مع جريان نهر الزمن، جلس رجل في أواخر عمره على مقعد خشبي قديم تُصدر أرجله صريرًا خافتًا، كان وجهه محفورًا بالتجاعيد كأنه خريطة لعمر ضائع، وكانتا عيناه تغوصان في بحر من الأفكار المتناثرة.
كان يأتي كل يوم إلى هذه المحطة، يجلس ويُحدق في الأفق بانتظار القطار الذي لم يأتِ يومًا، لكن يقينًا غريبًا كان يملأ قلبه بأنه سيصل في نهاية المطاف.
لم تكن هذه المحطة مجرد مكان عابر بالنسبة له؛ كانت انعكاسًا لحياته، محطاته المجهولة، والانتظار الذي طال كثيرًا، كانت الساعات تمر بطيئة، ثقيلة، كما لو أن الزمن قرر التوقف هنا ليجعل من الانتظار عبئًا لا ينتهي.
في ذهنه، تتكرر تلك الوعود التي قطعها لنفسه، وتلك الأحلام التي غابت مثل سراب في صحراء العمر، كل يوم يعيد نفسه إلى هذه اللحظة، يحاول أن يلتقط خيطًا من الماضي، أن يجد في الانتظار معنىً يغيب عنـــه في الحياة.
وفي لحظة طالما انتظرها، فاجأ أذنيه صوت القطار يُهدر مسرعًا نحو المحطة، توترت نبضات قلبه بشدة، دار شريط ذكرياته معها بسرعة أمام عينيه، سمع صوتها من جديد في أذنيه، «سأعود إليك، لا يمكنني فراقك كثيرًا»، جاء قطارها أخيرًا، سيراها بعد طول انتظار، تأهب لاستقبالها، هندم لباسه المهترئ ومرر يده على شعراته الواقفة لتنبطح، توقف القطار بمحاذاته، أخذ يحملق في الركاب الذين ينزلون منه تباعًا، ثم رآها أخيرًا.
كانت التجاعيد قد احتلت وجهها هي الأخرى، ارتبك بشدة حين التقت عيناهما، ثم توقفت أمامه بجسدها الذي طالما جذبه، كانت ترتدي معطفًا أحمر، وشعرها الذي احتله البياض ينسدل كشلال من خيوط الشمس حول وجهها، لم يتحدث ولم تتحدث هي، لكن عينيها قالتا كل شيء، كان وجهها يمتلئ بالحنين الهادر نحوه، والدمعات المكتومة تنفلت بصعوبة من وراء جفونها.
بصمت جلست بجواره، ثم غاصا سويًا في بحر من المشاعر، شعر بأن وجودها يثير بداخله زوبعة من الذكريات؛ مشاهد من طفولته، ووعود قطعها لنفسه حين كان مليئًا بالحياة والطموح، كانت تجلس بجواره، لكنها لم تكن مجرد امرأة عابرة، كانت تجسيدًا لكل ما فقده، لكل لحظة ضاعت في هذا الانتظار الأبدي.
بهدوء، مدت يدها، ولمست بطرف أصابعها يده الباردة، وجد في تلــــك اللمسة دفء لم يشعر به منذ زمن، كما لو أن الحيــاة نفسها كانت تمد يدها إليه لتمنحه فرصة أخرى، لكن داخله كان يموج بالشكوك؛ هل يستحق أن يُغادر هذا الانتظار الذي أصبح جزءًا منـــه؟ هل يستحق أن يبدأ من جديد، أن يترك كل شيء خلفه؟
قطع حبل أفكاره صوت السماء ترعد، انهمر المطر فوق رأسه بقسوة كأنه يردعه ليفيق، فتح عينيه ليجد نفسه وحيدًا في ذلك المكان المهجور، تأمل في القضبان المتآكل والذي لم يحمل فوقه قطارات منذ زمن، ذرفت من عينيه بعض الدمعات التي تاهت بين قطرات المطر، تَعكّز على عصاته ليقف عائدًا إلى بيته الذي يسكنه وحده، تحدَّث إلى نفسه قائلًا «سآتي غدًا لانتظار القطار».