«قهوة باردة»

صوب نظرة نحو الآفاق، أرخى قبضة يده، وكان البحر يسري في عينيه، قال: هذه إقامة جبرية، وصعد صوت المد، بينما ارتحلت نوارس حالمة، أبعد مما تصل أنظار حارس المخزن، في أذنيه دوت أصوات بعيدة، دفعتها الذاكرة في هذه اللحظة، قبل أن تغطي عليها ارتدادات الراهن، ارتفع صراخ الموج، مما جعل الضيف يرفع نبرته بصوت أعلى:
هذا استقرار، كثيرون في سنك يحلمون به، لماذا لا تقبل بذلك؟ 
تشاغل عن السؤال، كان رجلًا مسنًا، انتدب ليحرس مخزن الميناء، ولم يعد له اسم سوى الحارس، تذكر أن عليه ألا يتحدث كثيرًا عن وضعه، قال: هيا لنعد إلى الغرفة، ستبرد القهوة. 
حدّقا بصمت، كانت القهوة قد بردت بالفعل، تراخى الحارس على الأريكة، جفف عينيه من بكاء مكتوم، وانتظر من صاحبه أن يرتشف من فنجانه، إلا أنه ظل صامتًا، تشغله كلمة الإقامة الجبرية التي ظلت عالقة على رمل الشاطئ دون تأويل. 
كان حارس المخزن لا يستقبل الضيوف عادة، إلا صديقًا قديمًا له يقاربه في العمر، يأتيه مطلع كل شهر، ظلت الوحدة تلازمه، شعر أنه يتكامل مع البحر، ولكنه ظل عاتبًا، أن للبحر شاطئين، جليسين، محاورين، يسمع مرة من جهة الجنوب، ومرة من جهة الشمال، وللبحر امتداد عميق، أما الحارس، فقد اقُتلع من امتداده، وذلك أشد ما ألمه في قصته مع البحر، لقد اغترب كثيرًا عن الأجزاء التي نشأ منها، لم يستطع الحارس أن يصف هذه الحالة التي تربطه بالبحر، وتتناقض معه على نحو آخر، لكنه بين الحين والآخر، يسري ببعض الإجابات لضيفه الذي لمس فيه الرأفة، وكان يطالعه بصدق واهتمام.
كان طالبًا جامعيًا، أتى صدفة إلى هذا الشاطئ، وصار يجيء قصدًا، من أجل أن يقدم اليسير مما يملك، طعامًا زائدًا، أو لباسًا قد اشتراه من السوق، أو حاجيات قد تنفع رجلًا هرمًا يركن وحيدًا في غرفة تطل على البحر، كان رهيف الخاطر، وحاد الشعور، مطلعًا على الشؤون السياسية، يقرأ الصحف ويتابع في الراديو ما يطرأ على الساحات، لذلك أوقدت في رأسه كلمة (إقامة جبرية) شيئًا من الفضول عن الحارس، الذي اختارها دونًا عن الكلمات كلها كي يصف وحدته وحزنه.
هبط الفنجان على الطاولة، بعد أن شرب الطالب رشفة، وتأمل وجه الحارس، بحث فيه عن تفسير لما قاله عن إقامته، قبل أن ينتبه إلى صورة تظهر بعض أطرافها من وراء إطار مُخرَب، يميل قليلًا عن سوية النظر، تغشيه الأغبرة والأوساخ، تقدم نحوه وسأل: بماذا تذكرك هذه الصورة؟ 
وراح يحاول تصويبها، قال: حتى المسامير تهترئ هنا، كأنها ترفض أيضًا الإقامة الجبــــرية!
قال الحارس وهو يتأمل ضيفه، يقف باحترام أمام صورته: كل شيء في سعي دؤوب نحو الحرية، حتى ما نخاله جامدًا هامدًا.
قال الطالب وقد تيقن من شيء ما، بعد أن سمع مضيفه يحكي عن الحرية، وبعد ما رآه في الصورة، من إقدام وشجاعة لرجل محارب، يكسو نفسه بجعبة عسكرية: 
يبدو أنك سعيت كثيرًا وراء الحرية.
قال الحارس: لم تكن حياتي سوى مطاردة للحرية. 
مسح الطالب إطار الصورة بكم قميصه، وسأل: هل وصلت؟ 
أسند الحارس ظهره، تأفف من شدة الوجع الذي كشف عنه الهواء البارد الذي انسل من النافذة والذاكرة في آن معًا ثم قال متألمًا: ليتني أدري.