- بواسطة أناة ضرغام عبدالحميد
- الدولة العراق
نصطف جميعنا في ذلك الطابور المهيب، طابور لا بداية له ولا نهاية، كل ما أستطيع رؤيته هو حشود من الرؤوس المتراصّة والأجساد العارية المتعرقة، كل دقيقتين يطرح أحدنا السؤال ذاته، إلى أين تؤدي نهاية الطابور؟ لا أحد يعرف، بل لا أحد يتمنى أن يعرف من الأساس. كنت أتوقف بين الفينة والأخرى لألتقط أنفاسي الثقيلة جارًّا ورائي سلاسل ثقيلة من الفولاذ، من الغريب عدم وجود رقيب علينا، ومن الأغرب ألا أحد منا يجرؤ على التفكير بالهروب من الأساس. كان منظر أكوام البشر ذاك والأعين الجاحظة التي تترقب مصيرها بهلع ثقيلاً كصخرة جاثمة فوق صدري، معظمنا كان يتقيأ كل خمس دقائق، إذ كانت روائح العرق المختلطة بالعفونة تبعث على الغثيان، ناهيك عن ذكرى الجرذان والعقارب التي زحفت فوق أجسادنا القذرة حينما كنا في الحبس الانفرادي. على الرغم من أني حاولت عد الأيام التي قضيت فيها حكمي هناك، إلا أني فقدت صوابي في نهاية المطاف ولم أعد قادرًا على الشعور بالوقت، كل ما أستطيع تذكره هو الظلام الذي اجتاح تلك الحجرات مصحوبًا برائحة التراب الرطب، وضيقها الذي لم يتح لي وضعية للجلوس غير التقوقع كالجنين. يلكزني أحدهم ويقطع علي سيل الذكريات:
- أنسير نحن نحو حكم الإعدام؟
- لا أعرف، لا أحد يعرف.
- أتذكر كم يومًا لبثنا في الطابور؟
ننغمس كلانا في شرود تام.
كلما تقدمنا أصبح الجو حارًا وخانقًا أكثر، حتى أن العرق بات يسيل على جبيني ويقطر من ذقني بلا توقف، وكانت الأغلال الممتدة من يدي تكوي عنقي بسخونتها، بدا لي أني أسير في هذا الطابور منذ الأزل، وانزلقت الدقائق والساعات حتى ما عاد لها قيمة، لا مقياس عاد يحدد متى كنا ومتى سنبقى هنا. ارتطمت فجأة ببوابة حديدية ضخمة أمامي، أهنا الخلاص يا ترى؟ فُتحت البوابة على مصراعيها سامحة لضوء ساطع بالتسلل إلى عينيّ مما دفعني إلى إغلاقهما بقوة. نادى علي صوت من بعيد:
- أتعترف بجرمك؟
- أعترف.
- لم قتلت نفسك؟
عصرت الغصة حنجرتي، وتراقصت الدموع في حدقتي مسترجعًا ذكريات عشوائية عن حياة ملكتني ولم أملكها، حياة لا تطاق لكن لو أتيح لي عيشها مجددًا لفعلت ولم أكن لأهجرها. انشقت الأرض تحت قدميّ وسقطت بهوّة الجحيم، انصهرت عظامي وتكونت ثم انصهرت وتكونت، تذبذبت روحي منبعثة ومتلاشية بين الجسد والعدم.