- بواسطة أسماء مانع
- الدولة الجزائر
في زاوية الغرفة، كان رف قديم يحوي أغراضًا مهملة، بجانبه صورة لامرأة شابة ذات وجه مشرق، وعليه بطاقة قديمة كتب عليها بخط أنيق: «إلى مدرستي الرائعة... أحبك» لم تتحدث نرجس عن تلك البطاقة كثيرًا، لكنها كانت أحيانًا تمسك بها وتنظر إليها طويلًا، قبل أن تعيدها بحذر إلى مكانها وكأنها تخشى أن تسقط الكلمات منها.
جلست نرجس أمام النافذة، أصابعها المتيبسة تلامس الزجاج المغبش، ترسم خطوطًا عشوائية كما اعتادت كل صباح، تُزيح الستارة وتحدق في الأفق، وكأنها تنتظر شيئًا مفقودًا.
«هل رأيتها؟» سألته بصوت خافت، دون أن تلتفت إلى صفية التي كانت تجلس خلفها، تحيك وشاحًا رماديًا. رفعت صديقتها رأسها وسألت بهدوء: «رأيتُ من؟»، «تلك التي كانت تقف هناك، تحت السرو». أشارت نرجس نحو الحديقة، حيث لم يكن هناك أحد. نظرت صفية للحظة، ثم أعادت بصرها إلى الغرز وقالت: «ربما كانت مجرد خيال، فالريح أحيانًا تلعب بأعيننا».
لكن نرجس لم تُجب. قامت ببطء من كرسيها وتوجهت نحو رف الصور، أمسكت بالبطاقة القديمة وقالت: «أتذكرين هذه؟». مدّت البطاقة نحو صفية.
- «بالطبع أذكرها».
ابتسمت نرجس، وأعادت البطاقة إلى مكانها بجانب صورة المرأة الشابة.
مرّت اللحظات في صمت ثقيل، حتى كسر صوت طرق خفيف على الباب. «إنه هو!»، نهضت نرجس بسرعة لا تتناسب مع عمرها، لكن عندما فتحت الباب لم تجد «بيدرو» كما كانت تأمل، بل كان أحد العاملين في الدار... عادت بخطوات أبطأ إلى كرسيها، وعيناها تتطلعان إلى النافذة.
«أتعلمين؟ بيدرو يحبني». قالت فجأة بابتسامة خجولة.
«بيدرو؟» سألَت صفية.
«بالطبع! انظري إلى عينيه في كل مرة ينظر إلي ويبتسم، أنت فقط لا تفهمين!».
لكن صفية لم تجادل، تركتها تعيش في عالمها الخاص، حيث كان كل شيء أكثر بساطة، وأكثر بهجة.
«أتعرفين؟ ربما الفتاة ستعود غدًا».
«ربما». قالت صفية، وابتسمت، ولم تكن نرجس تعلم أن تلك الفتاة التي تنتظرها ليست سوى صورتها، الشابة التي فقدت نفسها ذات يوم، لكنها بقيت حيّة في ذاكرتها التي تتآكل ببطء، فقد دخلت هذا المكان منذ خمسين عامًا، حين كانت في السادسة والثلاثين. امرأة أرهقتها الحياة، حيث أطاح بها الاستنزاف الجسدي والنفسي، فوضعتها ظروف الحياة على رف الإهمال، لتجد نفسها هنا، وسط غرباء أصبحوا أهلًا لها مع مرور الزمن.
وفي الحاضر، لم تكن تدرك أن خمسين عامًا قد مرت، عقلها المتعب عالق في الزمن الذي دخلت فيه الدار لأول مرة، تتذكره وكأنه البارحة.
وقفت نرجس فجأة، كما لو أنها قد رأت شيئًا بعيدًا في الأفق، أو ربما كان وهمًا يتراقص على أطراف الذاكرة. تجمدت لحظة في مكانها، ثم انحنت قليلًا إلى الأمام، عيناها تحدقان في الفضاء الفارغ، ملامحها تبدو وكأنها تعيد ترتيب فكرة ضائعة. في تلك اللحظة، انتابها حزن مفاجئ، ينبع من أعماقها، كما لو أنها قد تذكرت شيئًا لم تكن مستعدة لمواجهته.
كانت صفية تعرف جيدًا أن هذه لم تكن سوى لحظة وعي مؤلمة، من بين تلك اللحظات القليلة التي يعود فيها عقل نرجس إلى الواقع، حيث يغرق الخيال في الشكوك ويصبح كل شيء أثقل من أن تحتمله، طغى الصمت لبرهة، ثم تسللت ابتسامة غريبة إلى وجه نرجس، ابتسامة لم تكشف عن شيء مما يختبئ وراءها، وببطء عادت إلى مكانها. فالخيال الذي تصنعه ذاكرتها هو المكان الوحيد الذي يمكنها فيه الاحتفاظ بابتسامتها بعيدًا عن الألم.