- بواسطة يوسف اعميرة
- الدولة المغرب
استلقى «بكر» على السرير، أخذ ينظر إلى سقف الغرفة، استغرق في النظر إليه؛ بدا كمن يتأمل شيئًا. ظل وقتًا طويلاً على هذه الحال، إنه يختنق... ضائع... هش... ولا من يهتم لحاله، إنه وحيد. أمثاله لا يليق بهم إلا الموت، أمثاله ثقل وعبء، لا يرجى منهم خير، هكذا ينظر إلى نفسه. يفكر في إنهاء حياته دائما، فكلما حاول العيش... قتلوه، قتلوه عشرات المرات، لكنه
لا يزال يتنفس، لِمَ لا يضع حدا لهذه المأساة... حاول فعل ذلك مرارًا، لكن شيئًا داخله كان يمنعه. ذلك الشيء؛ يدعوه الآن إلى الخروج من البيت. ألح عليه كثيرًا، ولما لم يفلح في إسكاته؛ استجاب له مكرها... وخرج.
كان يمشي من دون وجهة، يمشي فحسب. الناس تعيش حياتها بشكل عادي وطبيعي، أما هو فلا... كثيرون ينظرون إليه بتوجس، حتى أَلِفَ تلك النظرة؛ التي تجعله يوقن بأنه مرفوض، يكاد يسمعها تقول: «أنت لست منا... أنت مختلف... لا نريدك بيننا...!». وهو يمشي...، وقعت عيناه على طفلة صغيرة، جميلة لا تشبه شيئًا في هذا العالم، تلعب وتلهو، تمسك بأناملها خيطًا في نهايته نفاخة حمراء، كانت سعيدة للغاية.
تمنى لو لم يكبر، لو بقي صغيرًا، كان ذلك ليجنبه شيئًا مما يعيشه الآن.
وقف يتطلع إلى الطفلة.. يتأملها، سعادتها منحته بعض الأمل، فأسفر وجهه - بصعوبة - عن ابتسامة جميلة؛ طال عهده بها. فجأة! انسل الخيط من بين أنامل الطفلة؛ فطارت النفاخة مبتعدة. تبعتها بعينيها وكلها حسرة، تلاشت البهجة التي كانت تُزَيِّنُ محياها، فتلاشت ابتسامة «بكر» كذلك. حتى هذه اللحظة الجميلة؛ التي أعادت له بعض الأمل، سلبها منه الهواء، كما سلب من الطفلة لعبتها.
استمرت النفاخة في التحليق بعيدًا، وكلما ابتعدت أكثر؛ زادت حسرة الطفلة... وتلاشى أمل «بكر» أكثر فأكثر، لكن عيونهما ظلت معلقة لا تحيد عنها. كانت النفاخة تحلق بمحاذاة شجرة شامخة،
دفعها الهواء صوبها؛ فَعَلِقَتْ في أحد أغصانها. أجهشت الطفلة بالبكاء...! علمت أن استرجاع لعبتها بات صعبًا.
لا يزال «بكر» واقفا يشاهد ما يجري، دموع الطفلة جعلته يتألم، وفي غفلة منه.. سقطت دموعه! تنفس بعمق، ومن دون تفكير في العواقب، تحرك ناحية الشجرة... وأخذ يتسلقها، ساعدته بنية جسده في ذلك. استمر في التسلق، وبين الفينة والفينة ينظر إلى الأسفل، حيث الطفلة تنظر إليه، تعلو محياها ابتسامة ممزوجة ببعض الترقب، منحه ذلك القوة ليستمر. أخيرًا... ! وصل. عادت إلى الطفلة بهجتها، قريبًا ستحظى بلعبتها من جديد.
وضع الخيط الذي يتدلى من النفاخة بين أسنانه، وبدأ يهبط بحذر شديد نحو الأسفل، عندما وصل؛ مد يده لكي يسلم الطفلة نفاختها، مدت يدها هي الأخرى، لكنها لم تتمكن من أخذ لعبتها، فقد ظهرت والدتها فجأة وحملتها بين ذراعيها! رمقت المرأة الرجل بنظرة ازدراء واحتقار، ثم غادرت بسرعة... ! تسمر في مكانه. سقطت دموعه. تساءل في سره: «هل كانت ستتصرف بالطريقة ذاتها مع رجل ذو وجه سليم؟ أتجعلني الحروق التي أخفت ملامحي أستحق كل هذا؟».
قصد بيته ينتزع قدميه من الأرض انتزاعًا، رأسه ساقط على صدره، ممسكا نفاخة الطفلة بإحدى يديه. لما وصل إلى غرفته... استلقى على السرير، أرخى أصابع يده؛ فطارت النفاخة باتجاه سقف الغرفة، ثم أخذ ينظر إليها وهي تأخذ مكانها بين عشرات النفاخات.