- بواسطة محمد صبري
- الدولة مصر
اليوم هو لا يهم بأي يوم أو تاريخه أو حتى الساعة، فلقد توقف كل شيء لدينا هنا بمخيمنا عن التحرك منذ السابع من أكتوبر، ففرحتنا كانت الأخيرة منذ ذلك اليوم ومن بعدها توقفنا عن العد ليس إلا أعداد من يتساقط حولنا، فكل شيء حولنا بات مرهونًا بالسقوط، فنحن هنا تترنح عيوننا وهي تنظر إلى السماء؛ حتى ترى ما الذي سيتساقط علينا منها فلديها الكثير من الأنواع من العطايا والهبات، فبين سقوط الأرواح، وسقوط الصواريخ والطلقات، وسقوط الأمطار حتى المساعدات باتت منذ يومين تقريبًا هي الأخرى تتساقط علينا من السماء، أنا وإخوتي الأربعة الأكبر مني بالعمر، كل يوم نهرع منذ الفجر نرقب السماء لنرى ما الذي سيتساقط علينا منها بعد أن تفتح أبوابها، أنا (عمر) أقف الآن والابتسامة ملونة على وجهي بعد أن امتلكت يدي حفنة من الطحين المتساقط من السماء، عذرًا فهم أخبرونا في المدارس أن السماء لا تمطر ذهبًا، لكن لم يخبرونا أن السماء تمطر طحينًا، تحركت أبحث عن إخوتي فقد كانوا يهرولون هم ومَن تبقى من شباب حارتنا لكي يلتقطوا ما استطاعوا من هدايا السماء، فرحتي الآن كطفل أن ما كنا نحاكيه بالألعاب الإلكترونية أصبح حقيقة ولكنها حقيقة مؤلمة، وما الجديد فالحقائق جميعها مؤلمة، ما زالت يدي تقبض على حفنة الطحين أنظر يمنة ويسرة أبحث عن إخوتي لأرى عما أثمر ركضهم، أتذكر أنهم اتجهوا من هنا لا بل من الجهة الأخرى، وما الذي يهم من الاتجاه السليم الأهم أن نتحرك فالتحرك السريع وقت أن تفتح السماء أبوابها هو أهم ما يميز هذه الأيام، سرت بالاتجاه كي أبحث عن إخوتي، كان الطريق هادئاً وطويلًا والسكون الذي يشوبه رائحة البارود المقترن برائحة الشتاء أمسى مألوفًا لأنوف الجميع، سرت ثم سارعت بالمسير، الجلبة ظهرت بآخر الطريق فقد أذنت السماء بثمرة جديدة وهذه المرة ثمرة لذيذة، فالجميع يركضون إلى هناك أرى ذلك بوضوح، وما إن وصل الجمع حتى أعلنت السماء عن فتح أبوابها بثمرة جديدة ولكنها هذه المرة أعتقد أنها من شجرة الزقوم.
تواريت بإحدى البنايات المتهالكة من شدة القذف، مرت طائرتان أرسلتا تحياتهما على أولئك المجتمعين بآخر الطريق الطويل، ثم اختفتا دون أن يستمعا ردًا لتحيتهما.
خرجت وأنا أتعقب بخارهما المتشكل بالسماء كخط مستقيم، نظرت فإذا بالهدوء وقد أصاب آخر الطريق، ركضت، حتى أرى ما الذي حدث، فإذا بصندوق ضخم قد أصابه الضرر الكبير وأخرج ما في بطنه متناثرًا على الأرض أمامي، ولكن أين الجمع الغفير الذي كنت أراه وأنا بنهاية الطريق لا صوت لأحد سوى أنين ضعيف يأتي من خلف الصندوق.
استدرت خلفه وأنا أستند عليه، ويدي الأخرى مازالت ممسكة بحفنة الطحين لكني تركتها الآن لتتناثر حرة طليقة بمجرد وصولي خلف الصندوق، تناثر الجمع أو ما تبقى منهم كحفنة الطحين ارتعدت أطرافي ولم أتحرك من مكاني فبينهــــم إخـــوتى يأنون جرحى ولكن لحظات وقطع المشهد صوت السماء وهو يعلن أنه سينفتح من جديد ■