- بواسطة محمد أحمد فؤاد
- الدولة مصر
على نهج أصحاب العاهات الذين يعرضون أذرعهم المقطوعة، ووجوههم المحترقة، وأرجلهم المعوجَّة، وأعينهم التالفة، وجلودهم المشوَّهة، على الركاب في الموقف، من أجل استعطافهم، والتسول منهم، عمدتُ إلى نفس الطريقة بعد أن تقطَّعتْ بي السبل، وخاب سعيي غير مرة، في بحثي عن وظيفة.
أنا أصلًا لم أكمل تعليمي الجامعي بسبب عاهتي، ولكنني اليوم مصرٌّ على أن أجعل منها وسيلةً للكسب. عاهتي هي الشِّعْر. ولستُ أظن أنَّ الشِّعْرَ خطبٌ أهون من تلف العيون واعوجاج السيقان وبتر الأذرع، بل هو والله أشد وأمرّ.
ارتديتُ القميص الذي لا أرتدي سواه في فصل الصيف منذ ستة أعوام، وقصدت إلى الموقف ممسكًا بيدي ديواني (كلماتٌ تبحثُ عن دفتر)، وأخذت أقترب من كل ميكروباص شبه ممتلئ، فأرسم على وجهي علامات التعاسة، وأنشد بعض الشعر، موجهًا الديوان إلى أبصار الركاب، لكنَّ أحدًا لم يكترث لعاهتي، وظل الجميع مُعرِضين عني طوال النهار، إلا واحدًا بدا على وجهه الاهتمام منذ ابتدأت إلقاء القصيدة، فلمَّا انتهيت، قال لي إنه يعمل بمطعم وجبات سريعة مشهور، وأن هذا المطعم يخصص لذوي الإعاقة نسبةً من فرص العمل، إيمانًا بقدرتِهم على أداء المهام الطبيعية التي يقوم بها سواهم من البشر. رحَّبتُ بعرضه، وأخذت منه الكارت الذي فيه رقم هاتف مدير المطعم، ووعدتُه بأن أتصل به.
رحَّب المدير جدًا بي حين هاتفته، ووعدني بوظيفةٍ تلائم قدراتي، ودعاني للحضور إلى الفرع الرئيسي في اليوم التالي.
بعد حوار قصير مع موظف الموارد البشرية، قرر أن أعمل في أحد الفروع التي تدار تمامًا بواسطة ذوي الإعاقة من صم وبكم ومشلولين، على أن أكون أنا الكاشير. واقتضى استلامي للوظيفة أن يقوموا بتعديل بسيط، هو أن يضعوا ملصقًا كبيرًا على الطاولة المعدنية الفاصلة بين الكاشير والزبائن ليكون واضحًا لهم، وبهذا الملصق صور الأطعمة المقدَّمة وأسعارها، وتنويه في نهايته بأن الفرع يدار بواسطة ذوي الإعاقة، وأن الكاشير شاعر.
لُغَتُهُ مَجَازٌ لِلْمَجَازِ
فَلَا يَقُولُ وَلَا يُشِير
مُتَقَلِّبُ الأَحْوَالِ
لَيْسَ يَطِيقُ مَنْ لَا يَشْعُرُون
كَفَرَاشَةٍ وَقَفَتْ عَلَى غُصْنٍ نَحِيل
فَإِذَا رَأَى مَا لَا يُحِبُّ
فَسَوْفَ يُؤْذِنُ بالرَّحِيل!
لكنني لم ألبث بهذه الوظيفة إلا ثلاثة أيام! فـــقــد كثـــرت شكاوى الزبـــائن منــــي لعـــدم قدرتهم على التفاهم معي، وأقرُّوا جميعًا بأن التعامل مع الكاشير الأصم الأبكم الذي كان قبلي، كان أيسر بكثير من التعامل مع شاعرٍ مثلي.
وهكذا رحلتُ!