ظل الرجل العجوز

في طريق العودة من «أُوكازيون» أحد منافذ بيع السلع الغذائية استوقفني منظره وهو يعبر الشارع، كان يمشي ببطء كأنه يخطو على جسر متكسّر.
 أثارت شفقتي ساقاه المترددتان، اللتان تتحسّسان الأرض تحت قدميه، كان قد دفع بهما خطوة للأمام ثم توقّف، تمامًا مثل طفل في أعوامه الأولى، يبذل جهدًا خارقًا كي يستقيم. اقتربتُ منه فالتفتَ نحوي، كان شيخًا طويل القامة، تجاوز الثمانين بلا شك، استغربت للتشابه الكبير بين وجهينا، ورأيت نفسي هذا الآخر العجوز بعد عقدين أو أكثر من الزمن. لملم الشيخ بقايا بصره ودقّق النظر فيّ، «أُساعدك»؟! قلتُ مبتسمًا، بعد أن شبّكت ذراعي بذراعه. 
لم أكن واثقًا من ترحيب الشيخ بذلك الغريب المتطفل، فقد أجفل من يدي التي تلامس الضلوع في الجانب الأيسر من صدره وتشدّه برفق، لنعبر الطريق معًا، حملت عنه حقيبة تسوّق بها بعض الأُراض، كانت تئن من ثقلها اليد اليمنى، ظل مستسلمًا لليد المتأبطة ذراعه، وفي الجانب الآخر من الطريق أشار إلى باب حديدي على مسافة أمتار، بقيَ له أن يتساند بجهد مضاعف على ذراعي ليصعد الرصيف إليه، وأن يُدخل يده في جيب سرواله الفضفاض ويُخرِج سلسلة مفاتيح. 
خلّص ذراعه وتقدّم مستندًا إلى حائط بيت قديم من طابقين، ميّز مفتاحًا بحرص وتؤدة، ثم مال عنقه للأمام وضاقت عيناه ليتحقق من ثقب الباب المعتم، دسّ داخله المفتاح وأداره، فانفتحت له إحدى الضلفتين، سبقته إلى الداخل، وضعت حقيبة التسوق بأعلى الدرجات وهبطت لمعاونته مرة أخرى، فأشار بيد معروقة ناحلة أن «شكرًا... كفى».
للحظات تشكّل أمامي وجه أبي قادمًا من عالم الأمس، حين هزمته الشيخوخة، وهدّه المرض ورحل بعد ذلك، وبقيت آخر صورة له، محفوظة في مكان بذاكرتي.
ثمّة شعور غامر بالعطف، دفعني فمِلت أُقبِّل رأس العجوز، تشممت في بقايا شعره المشتعل بالشيب، رائحة مَن غادروا الدنيا ولن يعودوا مجددًا، كانت رائحة طيبة وحانية.
 فجأة استقام ظهره، وأشرق الوجه الفاني بابتسامة فتية، ورأيت ذراعه تتحرك في غير ضعف، شدني إلى صدره وقبّل خدّي، قلت حينذاك: تذكّرني بأبي يا عمّ، فردّ بصوت شرخته الكهولة: «ينسى الأولاد دائمًا ما يفعله الوالدان لأجلهم»، صعد درجات السلّم واختفى عن بصري، أغلقت باب البيت ورائي، وخرجت إلى الطريق. 
كان المطر يتساقط خفيفًا على الأسفلت، وقد أضاءت الأرض بوهج البرق المتلاحق، أسرعت الخطى، فيما تعاود أذني كلمات العجوز وأتساءل: «كيف ينسى الأولاد ما يفعله الوالدان هكذا ببساطة»؟! كانت تتراءى لي صور لأحداث قديمة لم تطلها يد النسيان، تهزأ من برودة الجو وتدفئ المشاعر. قبل رحيل أبي وضعتُ معه بعض النوى في عمق التربة بالأرض الملحقة ببيت العائلة، نظر بعيدًا وقال «يطرح النخل ثمارًا لعشرين عامًا». أنتبه لخشخشة، ويتجه بصري عاليًا صوب نخلة قائمة وسط أرض فضاء على ناصية الشارع، يتأرجح سعفها من ضربات الرياح. حين غسل المطر السباط التمعت ثمار الشجرة المتدلية بسخاءٍ. يتحول المطر فجأة إلى زخات، فأعرج إلى شارع جانبي وأحتمي بداخل بناية.
 أيام الشتاء طويلة ومعتمة، والوحدة سجن بلا أسوار. ‏نسي الأولاد!! لم تعد تحمل لهم حقيبة تسوّق بها طعامهم المفضل، ولم ينقطع الحنين إليهم، أغالب الدموع التي تراكمت وتصاعدت من داخل روحي إلى عينيّ، أستدعي المواقف الأكثر طرافة وأبتسم لشقاوتهم، تقترب منّي وجوههم، ‏فأهمس معاتبًا «لِمَ نسيتم وأطلتم الغياب»؟!
 في الأيام التالية كان الجو معتدلًا، والأرض تحت قدميَّ جافة، مررت من الشارع نفسه، أبحث عن الرجل العجوز، أظن أنه هو الواقف هناك على عتبة بيته وابتسامة ذابلة عالقة على الشفتين، عدوت الطريق إليه لأسأله: كيف يقضي الأرمل يومه؟! ومتى يأتي الأبناء من الأماكن البعيدة لزيارة آبائهم؟! لكنّه أدار ظهره، فتح الباب واختفى وراءه. ربما اختلطت في رأسي الحقيقة بالخيال، مضيت في طريق، يتبعني ظلّي، ظل الرجل العجوز.