تركات

يسمونني خازن الأرشيف، وما أنا إلا كراعٍ لنبتات اقتلعت من جذورها بعدما ملهاّ أصحابها. بقيت أتعهدها في أرشيفي وأحميها من كل ما يؤذيها.
أرشيفي هذا ليس محميةً لنباتات، ولا بستانًا لزهور، بل هو أقرب إلى مأوى أيتامٍ تخلى عنهم أهلهم وبقيت لهم. حفظتهم بأسمائهم، ورتبتهم على الرفوف بترتيب أحرفهم الأولى. وصرت أتعهدهم بكف الغبار عنهم، وتجفيف كل قطرة ماء تنفذ إلى الغرفة كي لا تصلهم، ولا أن ينمو البعوض حولهم ولا أي حشرات أكولة. أبردهم في الصيف، وأدفئهم في الشتاء، وأغيّر صناديقهم الحاوية كل سنة.
مازحني مرة أحد زملائي من قسم آخر: «يا خازن الأرشيف، أراك صرت تعاملهم كأنهم أطفال لك، هل اشتريت لهم ألعابًا وهدايا للعيد؟». هو لا يعي عملي وأهمية حمايتهم، ولا أثر صونهم والعناية بهم، ولا الأخطار الكثيرة المحيطة بالأرشيف، ولا مصيرهم البائس هنا.
أنا لا ألاعبهم، لكنني أحدثهم أحيانًا رغم أنهم لا يحكون، وألاطفهم رغم أنهم لا يتحركون، وأحنو عليهم وهـــم لا يحسون. أتفكر كثيرًا كيف كانوا قبل أن يتخلى أصحابهم عنهم؛ يا لقسوتهم. تركوهم بعدما أمدوهم بالأمان وهم أطفـــال، وميّزوهـــم عن أقرانهم وخلقوا لهم أملًا. 
هذه التركات لا حياة لها، لكنهم ليسوا أمواتًا، بل أرواح نائمة. ولو أخرجوا من الأرشيف وتقمصهم الناس لتيقظوا، ونبضت قلوبهم، وتمثلوا في أجساد كأجسادنا، وجادلوا كما نجادل، واشتروا وباعوا، ولربما سرقوا وخدعوا وكذبوا واحتالوا. بل الأهم من هذا كله، لعاشوا بدل تركهم هنا.
لم أشترِ لهم هدايا ولعبًا كما اقترح زميلنا الأبله، لكنني فعلت ما هو أفضل، وجلبت ما هو أذكى وأرفع؛ ما يؤنسهم في غيبتي ليلًا ويشابههم في هوياتهم دومًا.
وضعت قطعة في كل صندوق ترمز إلى الاسم الذي احتواه: فسعاد وضعت لها وجهًا باسمًا صبغ باللون الأصفر. وهلال أحضرت له قمرًا ورقيًّا لم يكتمل. أما ملاك فأهديتها دمية على شكل ملاك بجناحين أبيضين.
هذه أسماء بعضهم؛ تركها أصحابها هنا في الأرشيف وارتضوا لأنفسهم أسماء أخرى. غيروا أسماءهم فوكِّل إليّ حفظها هنا، لكن ذلك لن يدوم طويلًا.
أقرت دائرتنا الحكومية قبل شهرين التخلص منهم كلهم، وحرقهم بدلًا من إبقائهم في أرشيف يضيق عليهم. سيجهزون محرقة بداية السنة القادمة يبيدون فيها كل هذه الأسماء التي تخلّى عنها أصحابها، كل ما في أرشيفي. كل الهويات والمستندات التي لم تعد تغني في نظرهم؛ لا جواز سفر يُجتاز به، ولا وثيقة تخرج يُقتات بها، ولا ملكية بيت تأوي أحدًا، ولا رخصة سياقة أو ملكية سيارة يُقاد بها.
حججهم في ذلك واهية ساذجة كأي حجج نفعية. يريدون تقليل المصاريف، وتوفير الميزانيات، ونيل مساحة أكبر بأخذ أرشيفي وإبادة كل ما فيه، وتحويله لمكاتب أو غرفة لاجتماعات أو مخزن لخوادم حواسيبهم.
لن أدعهم يجردون أرشيفي مما فيه، ولا أن يرتكبوا مجزرة في هذه الهويات. مكان الأرشيف سيأخذونه ولا أقدر على منعهم، أما هذه التركات فلن تمسّها أيديهم، لن تمسها نارهم.
سأنقذها من هذه الإبادة الجماعية، وأحميها كما حميتها كل السنين الماضية. وإذا حادت دائرتنا عن إبقائها فسأبقى على عهدي لها وأحميها رغمًا عنهم.
لن أبني لها أرشيفًا آخر، بل سأعيدها إلى الحياة. سأتقمص أسماء الرجال وأغيّر صورهم وأجول بهوياتهم في جيبي وأعيش أسماءهم وأنفخ الحياة فيها لتنبض بها. سأتقمص كل يوم هوية أحدهم وأذكره بحياة خلت عندما كان حرًّا. وسأستمر أراوح في تقمصي بينهم كلهم متى استطعت.
أما أسماء النساء، فسأبحث عمّن تنقذهن معي، وتنتشل أرواحهن، وتبعثهن من أرشيفي، من برزخهن. لن أترك أحدًا.