«الغرفة الآمنة»

  لم يكن ككل أقرانِه؛ فهو متأنق في لباسه إلى حَدٍّ كبير، مهذب في حديثه، يختار من الكلمات ما يعبّر عن مقصوده دونما لغو أو ثرثرة، فهو ينتقيها كما تُنتَقى أطايب الثَّمَر، التحق بكلية الطب، غير أنَّ هواجسه من انتقال العدوى دفعته إلى تركها بعد وقت قليل دونما ندَم، «فليس بعد الصحــة شــيء»، علـى حدِّ قوله.
كانت عنايتُه بالنظافة والصحة هي عنوانه العريض الذي به عُرِف بين أصدقائه ومعارفه، كان من عادته أن يمسك مقابض الباب بمنديله حتى إذا دلف إلى الداخل ألقاه في أقرب سلة مهملات، ولم تسلم من عاداته تلك صنابيرُ المياه، ولا مِقودُ السيارة، ولا حتى قطعة الصابون التي كان يستخدمها لمرة واحدة، فإن لم يجد غيرها أزال عنها قشرتها الخارجية من باب «ما لا يُدرَك كُلّه لا يُتَرك كُله»، وتظل هواجسه تطارده وتلومه على ما فعل حتى يشتري قطعة جديدة... عرفتْ فيه زوجتُه هذه الصفة، وذلك المزاج، فحرصت عليه أشدَّ ما يكون الحرص، «لكن ليس إلى حد تبديل الملاعق مع كل أكلة!»، قالت لنفسها.
كانت تتظاهر باحترام ذلك فيه، لكنها كانت تعاني كثيرًا ولا تجرؤ على الإفصاح عن معاناتها تلك ولا أن تنبس ببنت شفة؛ فالكلام في هذا الأمر عنده من المحرَّمات؛ لذلك حرصت على أن تعيش حياتها الطبيعية في غيابه، فإذا حضر كانت أشدَّ وسوسة منه كي يهدأ ويطمئن.
   كان ذلك نمط حياة باسل، فلمّا نمى إلى علمه نبأ «كورونا» لازم بيته ولم يغادره... كانت تشتري حاجات بيتها وأطفالها بنفسها، لكنه لم يكن يطمئن لخروجها ثم مخالطتها إياه، فكيف إذن يطمئن إلى ما تقدّمه له من طعام أو شراب؟! ظل يتابع أخبار الوباء على شاشات التلفاز، ويدقق في الإحصاءات من المواقع المعتمدة وغير المعتمدة... اختُصرت حياته في متابعة أرقام الإصابات وأعداد الوفيات... قرر أن يفرّ من هذا الوباء المستشري، لكن إلى أين؟ ظلّ في حَيرة ثم هداه تفكيره أخيرًا إلى أن تكون ضيعته النائية هي ملاذه ومبتغاه... فرّ إلى هناك على جناح السرعة.. كان الوقت ليلًا، والمكان يلفه السكون، فتح باب ضيعته الخشبي، ملأ صدره بهوائها العليل فأحسّ أنه وُلِد من جديد، تذكّر زوجته وأطفاله، لكنه طرد هذا الخاطر الثقيل، وتمتم: «لهم الله...».
دلف إلى الداخل محاولًا تبديد ظلام المكان بضوء هاتفه، وصل إلى باب تلك الغرفة الصغيرة... سلَّط ضوء الهاتف على النوافذ والجدران «كلّه على ما يُرام».
أدار عينيه في المكان، فاختصره بكل تفاصيله في نظرة واحدة... كان السرير مرتّبًا وقد وُضِع عليه غطاء كبير حمايةً من الأتربة والغبار، رفع الغطاء... ألقى نظرة على تلك الصورة المعلّقة على الجدار إلى اليسار من السرير؛ إنها صورة والده (يرحمه الله)... استلقى وهو منتشٍ بهذا الجو الآمن... من أين تأتي «كورونا»؟! ابتسم ابتسامة عريضة وهو يردد هذا السؤال... ملأه شعور بالنصر، نام ملء جفونه، أرسلت له زوجته عدة رسائل على الـ «واتس آب»، لكنه لم يلتفت إليها، اتصلت به لكنّه لم يرد. في الصباح تنسّمتْ أخباره، توقعتْ أنه هناك في الضَّيعة، خبرة سنين معه، ألا تعرف كيف يفكر؟! ذهبت إليه... ظلّت طوال الطريق تفكّر في إجابة مناسبة لسؤاله المتوقَّع. فتحت باب الغرفة... قابلها ثعبان ضخم يلعقُ فمَه بلسانه، صرخت تستنجد به: «باسل... ثعبان... أنقذني... الحقني...»، لكنَّ باسل لم يَرُدّ ■