«ليلة أخيرة»

أتعثّر عند باب المقهى، يصرخ ورائي صاحبها البدين: كن حذرًا أيها الأبله. لست أبله ولا هزيلًا كما يظن، إنها الحياة... لا أدري كيف ولدتني، أشعر وكأنها قذفتني من فوهة مدفع، محشوٍّ بالقلق والألم. ألعب الدومينو مع أصدقائي، كان أحدهم يدخّن الأرجيلة ويضع قدمه اليمنى على المنضدة، دون أن يبدي اهتمامًا للآخرين، والآخر يشرب النسكافيه من دون توقف. تتزاحم الصور الجدارية وسط المقهى، واحدة لناظم الغزالي وأخرى لأم كلثوم، وعندما تحدّق في وجوههم قليلًا يجتاحك سيل جارف من الذكريات.
في الزاوية المظلمة من المقهى يجلس رجل في الستينيات من عمره، فوق رأسه تلفزيون قديم وضع على رف خشبي مع بعض الكؤوس الفضية والبرونزية، يأخذه النعاس عادة، وعندما يسمع صوت الأهازيج والأغاني الوطنية يرفع مكنسته نحو السقف ويقف باستعداد تام، يصيح بصوت عالٍ: «فصيل عادة سِر»، ثم يستدير إلى الحائط ويراوح مكانه، فترتفع قهقهتنا مع دخان السجائر، كان المقهى أشبه بمصحة للأمراض العقلية، أغلب رواده هم النازحون من الحياة، مرّ الوقت سريعًا مثل قطار بخاري لم يعُد إلى البدايات، افتقد أحدنا الآخر، أحدهم مات في الحافلة وهو يتصفح الجريدة، وآخر لفظ أنفاسه الأخيرة في دار المسنّين، بعد أن تخلّى عنه الجميع، وآخر اختار الهجرة وانقطعت أخباره.
الليلة أعود إلى كوخي القديم، أنظر في المرآة المقعّرة، أتذكر حديث جدّي جيدًا، كان يقول: كن قويًا في مواجهة التيار، الحياة في المدن الكبيرة تشبه الأسماك في البحار والمحيطات، حين تجوع يأكل بعضها بعضًا.
أغطّي شعري الفضي بفروة ثعلب، أحمل الفانوس بيدي، وبيدي الأخرى بندقية صيد، أذهب نحو البحيرة، تجفل طيور الماء، يدهمني الضباب، لكنّي أرى خيالهم على الشاطئ، يتكرر ذلك المشهد عدة مرات، كلما ناديتهم بأسمائهم.