«النافذة المغلقة»

كان يجلس وحيدًا في غرفة واسعة، لها باب ضيق في قصر كبير، كانت بالحجرة نافذة كبيرة، مغلقة دائمًا بالزجاج لتسمح بدخول ضوء الشمس والقمر، عليها ستائر بيضاء منقوشة بورود حمراء وصفراء لا تمنع دخول الضوء، وفي الحجرة مقعد خشبي هزاز وخزانة صغيرة وسرير في منتصفها بجواره منضدة عليها أباجورة لونها مموج بين ألوان قوس قزح تصدر انعكاسًا كاملًا لقوس قزح على سقف الحجرة والجدران، كذلك توجد علبة التبغ ودفتر صغير من أوراق البفرة وعلبة الكبريت، يحاول كل يوم أن يفسر أسباب هذه العزلة التي فرضت عليه إجباريًّا، نادرًا ما كان يسمح له بالخروج من هذا القصر الملعون ليأخذ فرصة ليرى الكون خارج هذا السجن الذي يسكن فيه؛ كان يفضل الخروج ليلًا خاصة في الليالي المقمرة، يعبر طريقًا طويلًا بمحاذاة النهر، حيث كانت أشجار الفاكهة تلقي بأغصانها على الجانبين من ناحية النهر والطريق الممتد إلى آخر القرية، كانت الطيور تهتدي ليلًا لتنام بين أغصانها الكثيفة، ورغم أنه كان يستمتع بصوت صرصور الحقول، وهو يعزف ألحانه النشاز، ربما لتداخلها مع صوت نقيق الضفادع وتغريد الطيور؛ ولأن هذا هو الصوت المألوف لديه، يكمل السير وهو متألم من الوحدة التي يعيش فيها، ولأن بداخله شعورًا قويًا بأن هذه الحالة لن تستمر طويلًا، ويوشك الطريق على الانتهاء، وما زال لديه وقت ليستمتع بجمال الطبيعة، ورغم كونه صامتًا لا يجد أحدًا يعبر له عما بداخله أو رفيقًا يتكلم معه ويناقشه، يوافق أو حتى يعترض عليه. 
أخيرًا، عندما وصل إلى نهاية الطريق، ووجد أن عليه العودة، نظر على مرمى بصره فوجد الهضبة أمامه مثلما يراها من خلف نافذته المغلقة من خلف الزجاج، لاحظ شيئًا لم يكن في حسبانه أبدًا. لماذا لا يهرب من هذا السجن الذي فرض عليه من دون إثم؟ ماذا سوف يخسر؟ هو يعلم جيدًا ما يوجد هناك عند الهضبة المتاخمة للقرية التي يوجد فيها القصر الذي يعيش فيه، أتوجد وحوش أم أشباح؟ كلها أفضل من العيش داخل جدران ملونة لا حياة فيها. يقترب موعد الرحيل، يستدير إلى الخلف ويبدأ رحلة العودة إلى جدران قصره الذهبية، لا تزال أنغام اللحن تدوي في آذانه، يرى النهر ساكنًا لا حركة ولا صوت يصدر منه، وينتهي الطريق ويعود من حيث جاء. 
يدخل القصر ثم الحجرة، كانت وجبة العشاء معدّة على المنضدة إلى جوار الأباجورة المزخرفة، وعلبة التبغ مع الكبريت كما هما، مدّ يده يتناول قطعة الخبز، فوجده هذه المرة ساخنًا وكأن الطعام قد حضر للتوّ، على عكس كل مرة. لعله قد جاء قبل الموعد المحدد له، أم من أحضر له الطعام قد تأخر. فيما يتناول قطعة الخبز الساخن، ذهب في اتجاه النافذة وحلّق ببصره بعيدًا نحو الهضبة التي كان عندها منذ قليل، ساعدته الرؤية حيث نور القمر الساطع قد نشر ضوءه على سفح الهضبة، كان يتأمل منظرًا جامدًا وغريبًا، صخورًا لا حياة فيها، لكنه كان يشعر بألفة للحياة فيها، لم يكمل قطعة الخبز، تركها على الطبق وتناول علبة التبغ وأخرج ورقة البفرة ولفّ سيجارة وأشعلها، وجلس بالقرب من النافذة يدخن سيجارته، وعيونه تارة على النهر والأشجار الوارفة الظلال حيث تسكن الطيور أعلاها والحيوانات أسفلها، وتارة أخرى في اتجاه الهضبة البعيدة. 
كان السكون يخيم على الجميع، شعر بضيق في نفسه هذه المرة، حاول أن يفتح النافذة لكنها كانت محكمة الغلق، كان خائفًا أيضًا من أن يصدر صريره ضجة تقلق حارس الغرفة، فضّل كتم الأنفاس على أن يحاول الخروج عن المعتاد. الكرسي يهتز بقوة بحركة لا إرادية منه، يحاول تهدئة الأمور، ويبدو أن الأمر قد خرج عن السيطرة، حاول القيام وقد شعر بالمقعد قد تشبث به، حاول أن يتفقد الأمر وينظر يمينًا ويسارًا، لم يدرك شيئًا سوى قيد مجهول يطوق خصره ويعقد معصميه ويقيد رجليه، سقطت السيجارة مشتعلة على السجادة المفروشة على الأرض وهو عاجز عن إطفائها. لحظات تدخن السيجارة، وتدخل في صراع بينها وبين السيجارة، وسريعًا ما انتصرت السيجارة لتشعل النار في هذه السجادة الجميلة التي تعد تحفة من تحف هذا القصر العتيق، يرتفع اللهب إلى رجله، ويتألم من لهيب النار، ويحاول أن يصرخ، كان المقعد أيضًا قد وضع كمامة على فمه، النار ترتفع وتشتعل في المقعد وفيه، وهو يحاول الإفلات أو الهروب بعيدًا، كأن المقعد يرفض كل الحلول، وفضّل أن يحترقا معًا في النار، فرصة غريبة تحلّق في الأفق؛ ينهض الرجل بالمقعد، ويحاول أن يبتعد عن النار؛ وبالفعل يجري في اتجاه الباب ويضربه بقدمه، وقد تحرر من قيده بفضل اشتعال النار في القيد، حاول أن يحطمه فلم يستطع، ولم ينفتح الباب ولم ينجده أحد. يئس من الخروج من الباب، فاستدار ناحية النافذة المغلقة، وجرى ناحيتها، لكن النيران لم تصل لتحل قيد معصمه. كيف يفتح هذه النافذة المغلقة منذ دهر؟ لا مجال الآن، هو حل واحد، القفز من خلال النافذة وتحطيم الزجاج. كان عليه أن يختار بين الموت محترقًا بالنار أو الموت لسقوطه إلى أسفل محطمًا مكسور العظام.
 اتخذ قراره بأن القفز أسهل وأفضل من الاحتراق بالنار. حطم زجاج النافذة فسقط داخل الغرفة، ودخلت موجة من الهواء البارد، وخرج الدخان إلى الخارج. كانت نسمات جديدة لم يشعر بها من قبل، اختلف الأمر كثيرًا، شعر بلذة الحياة والأمل ينتعشان من جديد داخله، وعندما نظر واستعد للقفز وجد المكان مرتفعًا جدًا، وتراجع مرة أخرى إلى الخلف. وفيما هو متردد أيهما يختار كان المقعد هو الآخر قد احترق تمامًا، وفكت جميع قيوده، شعر بالحرية الآن، وعليه أن يهرب من طريق الباب، وما زالت النيران مشتعلة في جميع أرجاء الغرفة، وكذلك تلهب ظهره بحرارتها القوية، نزع الكمامة التي تغطي فمه وصرخ يستغيث، ويضرب الباب، لم يكن هناك أحدٌ. يشتد الضغط عليه والهواء البارد يتدفق بقوة من النافذة، ويساعد النار على الاشتعال. أمسك بكوب من الماء وسكبه على موضع النار التي تحرق جسده، انطفأت النار كلها التي في جسده وفي الحجرة، وخلّفت حروقًا شديدة في جسده، وألقى بجسده على الفراش. لم يكن هناك مكان غير ملتهب في جسده المحروق، تلوّى كثيرًا، لا طعم للراحة. 
بالأمس، كان الحبس بين جدران جميلة ومنسقة من دون ألم، واليوم يعاني الحبس بين جدران يعلوها الدخان والسواد وجسد ملتهب، ولا مداوي. قرر في داخله عندما تأتي الساعة التي يخرج فيها كل مساء للتنزه خارج القصر سوف يرحل ولا يعود، سوف يرحل بعيدًا عند الهضبة البعيدة، عند الوحوش والضواري، ولا يسكن حتى بالقرب من القصر عند النهر والشجرة وارفة الظلال؛ وعندما حان المساء وجاءت ساعة الحرية كانت هناك شروط وقرارات جديدة زادت الأمر سوءًا.