حتم

أطلقت تلك المرأة الجالسة بمحطة القطار تنهيدة ضجرة.  بأطراف أصابعها مسحت الدموع المنسابة بخفة بين أخاديد وجهها النحيل، مسحت بالمنديل أنفها، وبدأت كعادتها تحاسب نفسها على فعلتها التي لم تنتهِ عواقبها بعد، فهي قد بدأتها للتوّ، بعينيها تنظر جهة الدوران الذي من المفترض أن يصدر من خلاله القطار القادم، والذي سيرمي بها بين أحضان أمها المتأهبة لاستقبالها، فهي البلهاء - على حد وصفها - التي ستقوم بخراب بيتها بيديها دون الاستعانة بعمرو! لذا وجب على أمها أن تعيد عقل ابنتها الخرب إلى موضعه، ستسمح لها بأن تكيل لزوجها الشتائم، بل كنوع من المؤازرة ستدعو عليه بالوبال وخراب الحال، ثم ستصمت للحظة، وبعدها ستبدأ في محاضرتها الصماء حول نظرات المجتمع الشوهاء للمرأة المطلقة، وكعادتها أيضًا ستنهيها بنظراتها المتشككة، والتي تبددها بقولها: أم إنكِ تريدين أن تمشي على حلّ شعرك؟!  وإذا وجدت أن ابنتها لم تقتنع فستبدأ في خطتها الثانية، ستقوم بليّ شفتيها وتبدأ في عدّ غرف المنزل، وحال لسانها يصرخ بها: لا مكان لكِ، لذا حينما طافت كل تلك الأفكار برأسها قررت أن تغادر المحطة، ستطوف بالشوارع دون هدف، تفتنها تلك الفكرة، أن تسير إلى ما لا نهاية، حتى تنفد طاقتها، فترتمي كجثة عابرة سبيل على الطريق، لن تبالي بنظرات المارة، لن تستمع إلى من ينصحها بالرجوع إلى أهلها وكفاها عبثًا، ستغمض عينيها إلى الأبد، ولو قاموا بدفنها وهي ما زالت تتنفس، لن تصدر أي أنة اعتراض.  على حين غرة قامت تركض نحو بيتها، فأطفالها على وصول من مدارسهم، ستؤجل خطتها إلى حين آخر، أما زوجها فستعاقبه بطريقة أخرى، ستعذبه لكن ليس الآن. حالما دخلت المنزل ورأت زوجها وطفليها يجلسون على المائدة يتناولون الطعام بكل هدوء، لم يلتفتوا إليها، حاولت لفت انتباههم، تنحنحت، ألقت السلام، بدأت في الخبط على أكتافهم لكن من دون جدوى، هل يعاقبونها لمجرد أنها تركتهم لبضع ساعات؟!  دقت على الحيطان، خمشتهم بأظافرها، التصقت بوجوههم، فابتلعوا جزءًا من أنفها وأكملوا مضغ طعامهم بشكل روتيني، ارتمت على الأرض، تبكي ضياع عالمها، مسح زوجها عينيها بأصابعه، أحكم إعادة أنفها جيدًا في مكانه حتى لا يقع، نظر بعينيها، وقال بصوت مبحوح:  لقد تقبلوا فكرة موتك بصعوبة، دعيهم وشأنهم، بالله عليكِ.
- لكنك تراني!
- نعم فأنا مثلك، لكنهم رفضوا التصديق، عندما يصدقونني سأختفي تمامًا، سأكون معك إلى الأبد ■