سيـلفي

كان خبرًا صادمًا له، ولزوجته أكثر؛ فهو يسكن في هذه المدينة وحيدًا لا أقارب ولا أصدقاء له منذ استقر فيها، بعد رحلة هجرة قاسية.
أحس منذ أشهر بالإرهاق، ولضيق الحال كان يؤجل زيارة الطبيب كل أسبوع على أمل أن يكون وهنًا عابرًا يتحسن مع الوقت، وبعد أن هدّه التعب زار الطبيب، وعقب جولة تحاليل وصور وإعادة للبعض منها، واجهه الطبيب بالحقيقة؛ أن مرضه خطير ومستفحل، ولم تمض أسابيع حتى صار خلف حاجز زجاجي في غرفة العناية المركزة، ظل لأيام هناك على سرير معدني تلتف توصيلات الأجهزة والأنابيب على قوائمه، أيام تمضي وهو بلا حراك، جسده استسلم كليًا عدا قلبه ظل ينبض بضعف، أما عيناه فتدوران دومًا في المكان بأسى، يرى بعينيه أشخاصًا خلف الزجاج الشفاف يحتضنون باقات الورد، يشيرون إلى شخص ما، لا يستطيع الالتفات ليرى الشخص الذي يشيرون إليه، لكنه متأكد أنه مثله يرقد على سرير آخر في الغرفة الكبيرة.
للزيارة أوقات محددة، ورغم استسلام جسمه وضعف حواسه يدرك وقت الزيارة ويحس به، فتزداد ضربات قلبه عند بدء الوقت، وتتسع عيناه بتركيز، يلمح وجه زوجته كل يوم تبتسم له، وتقف بصمت وضعف منذ بداية وقت الزيارة حتى انتهائها، لكن تظل عيناه تدوران في المكان تبحثان عن شخص ما، يأمل أن يفاجأ ذات زيارة برؤية شخص يعرفه قادم للاطمئنان عليه، يشير إليه ويحييه من خلف الزجاج، يتمنى لو يقف أحدهم وراء الزجاج بعين دامعة يريد أن يرى عينًا تدمع لأجله، فقط زوجته تقضي ساعات وراء الزجاج ودموعها لا تتوقف، تبكي زوجها وتبكي غربتها ووحدتها، يأتي الزوار رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا.  أمس، رأى طفلًا في عمر الرابعة تقريبًا يحمل باقة ورد صغيرة بيده ويحتضن بيده الأخرى لعبته.  دمع قلبه، تمنى لو أن له طفلًا، كان سيودع الحياة وهو مطمئن؛ فالطفل سيؤنس زوجته في قادم الأيام فلا تظل وحيدة، تمنى لو أن له طفلًا، ويأتي إليه حاملًا باقة ورد ولعبة... لا لا لو كان عنده طفل لما سمح لزوجته باصطحابه إلى هذا المكان.
 له أقارب وأصدقاء في مدن تركية قريبة، ألا يفكر واحد منهم في زيارته؟! تمضي الأيام، ويتسرب اليأس إليه، لن يأتي أحد لزيارته، ضربات قلبه تزداد، اقترب وقت الزيارة، لكن ضربات قلبه تدق بشكل مختلف اليوم على غير العادة، لمعت عيناه بالفرح، يريد أن يغمض عينيه ويفتحهما من جديد لو يستطيع، هل يحلم... أم أنه يرى حقيقة؟ خلف الزجاج لمح زوجته تقف وعن يمينها ابن أخيه علي، رقص قلبه فرحًا، أخيرًا جاء أحدهم لزيارته والاطمئنان عليه، سيقف علي ساعتين وراء الزجاج حتى انتهاء وقت الزيارة، ثم ينصرف مع عمته، سيسألها: ماذا تحتاجين يا عمة؟ وسيخبرها أنه أخذ إجازة من العمل، وسيجلس هنا لرعايتي، أكيد سيفعل هذا، لقد تعب، حيث جاء من مدينة بعيدة وترك عمله للاعتناء بي، رأى عليًا يمسك بجواله، ثم يدير ظهره إليه ويلتقط صورة سيلفي وهو خلفه على سريره، يحرك علي يده يمينًا ويسارًا، يلتقط أكثر من صورة، تراقبه زوجة عمه بدهشة، يلتفت إليها:
- عمتي، ما رأيك... أي صورة أفضل؟!
تصمت!
يجيب على نفسه:
- هذه أجمل، ويشير إلى إحدى الصور.
تراقبه بصمت وهو يشارك الصورة على حالة الفيس، ويكتب «مع العم الغالي، شفاه الله»، ويضع رمزًا يدل على الحزن، ثم يهمس:
- عمتي أنا مضطر للذهاب، صديقي في هذه المدينة وعرسه اليوم، وجئت لأحضر العرس ثم أسافر صباحًا!