تفاح مُرّ

اعْتَادَت، منذُ صِغَره، أن تَتجاهلَهُ حينَ يلحّ عَلَيْهَا بطلبٍ مشابهٍ، أَوْ أَنْ تكذبَ عَلَيْهِ، فتُخبرَه أَنَّ مَا يَطْلُبُهُ لَمْ يَحِن أَوَانُ حَصَادِهِ، وَحِين يُصَادِفُ أَنْ يَرَى فِى السّوقِ مَا سَأَلَهَا عنه، تَدَّعى أَنَّهُ غَيْرُ نَاضِجٍ، أَوْ أَنَّهُ مُرّ الْمَذَاق. يَظَلُّ يَبْكى طَوَالَ الطَّرِيقِ حَتَّى يُتعبُه الْبُكَاء ويَيْأَس مِن الإِلْحَاح، فيصمُت، وتطمئن هي لِنِسْيَانِه. 
 لم تنتبه أبدًا إلى أَن صَمْته لَمْ يَكُنْ نِسْيَانًا، بَلْ كَانَ يَأْسًا ثَقِيلًا يَجْثُمُ عَلَى صَدْرِهِ، فَلَا يَكْفّ أَبَدًا عَنْ وَأدِ أمنياتِه الصَّغِيرَة.. 
لَم تنتبه إلَى سَنَوَاتِ عُمْرِه التي مَرَّت حَتَّى صَارَ في الْخَامِسَةِ، وَأَنَّه كُلَّمَا كَبُر كَبُرَ مَعَهُ نَصِيبُهُ مِنْ الْحِرْمَان..  
«كُلّ مَرَّةٍ تَقُولِين نَفْسَ الْكَلَامِ.. وَلَا تَشْتَرِى لي شَيْئًا مِمَّا أُرِيدُه.. لِمَ تكذبين عَلِيّ دَائِمًا»؟! 
لَمْ تَتَصَوَّرْ يَوْمًا أنْ يُحَدِّثهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ.. 
لَاحَظَت أَعْيُنَ النَّاسِ تتابعهما بِفُضُول.. حَمَلته بَيْنَ ذِراعَيْها محَاوِلة احتواءَه، فيما تأهبت الدُّمُوعُ المحتبسةُ في عَيْنَيْهَا للهروب.. 
قَال بإصرار وبنبرة حادة: «وَاللّهِ لَنْ أَعُودَ لِلْبَيْتِ إلَّا بَعْدَمَا تَشْتَرِى لي تُفَّاحَة..». 
أَوْمَأْت لَه بِرَأْسِهَا في صَمْت.. 
سألها مُنْذُ أَيَّام: 
« مَامَا.. الْجَنَّةُ بِهَا تُفَّاحٌ أمريكي؟» 
«نعم، وَبِهَا كُلُّ مَا تَشْتَهى!! » 
“إذن، لِمَاذَا لَمْ يُحْضِر أبِي لَنَا تُفاحًا؟  أَلَم تقولي إن أَبي ذهب إلى الْجَنَّةِ»؟!  
تُفَكّر.. 
مَاذَا يضير هَذَا الْعَالَم الْأَحْمَق لَوْ حَصَلَ صغيري عَلَى تُفَّاحَة... تُفَّاحَة وَاحِدَة؟! مادام أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْغلُهُ كُلُّ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ عَذَاب، اللهُ يَعْلَمُ أنني لَسْتُ بسارِقة.. لكنني مُضْطَرَّةٌ الْآنَ أَنْ أوفّي - عَلَى الْأَقَلِّ - بِوَاحِدٍ مِنْ عَشَرَاتِ الوعودِ الْقَدِيمَة، التي وَعَدُتُه بِهَا كَذِبًا.. 
مُحَالٌ أَنْ أتْرُكَهُ هَكَذَا دَوْمًا عَلَى قَنَاعَةٍ بأنني أَمّ
غَيْرُ مبالية وكَاذِبَة.. 
حَتْمًا سيكرهني لِلْأَبَد.. 
وَأَنْت لَن تَرْضَى بِهَذَا يَا رَبِّ.. 
تَوَقَّفَت أمَامَ إحْدَى عرباتِ التُّفَّاح عازمةً أَن تَلْتَقَطَ بِسُرْعَة وَاحِدَةً منها وتضعها بِكِيس هياكلِ الدَّجَاج الَّذِى ابتاعته للتوّ، اطْمَأَنّت إلى أَن زِحَام الْمَارَّة سَوْف يَسْتُر فِعَلْتهَا، مَا كَادَت تُمَدُّ يَدَهَا حَتَّى تَخَيَّلْت عَوَاقِبَ انْكِشَافِ أَمْرِهَا فانكمش جَسَدَهَا وارتعدت قَلِيلًا، أغمضت عَيْنَيْهَا الدامعتين، هزت رَأْسَهَا مُقررةً الْعُدُول عَنْ هَذِهِ الفِكْرَة.. 
فَكَّرْت أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا لِتُسْقِطَ وَاحِدَةً عَلَى الْأَرْضِ بَيْنَ سِيقَانِ الْمَارَّة، قَبْلَ أَنْ تَمِيلَ وتلتقطها خِلْسَة وَسَط الزِّحَام، وتضعها في الْكِيس دُونَ أَنْ يَنْتَبِهَ أَحَد، وارتاحت لِهَذِه الفِكْرَة.. 
بِنَظَرِةٍ مُضْطَرِبَة، رَاحَت ترَاقِب حَرَكَةَ الْبَائِع ونظرات الْمُحِيطَيْن، تَلْتَفِت يَمْينًا وَيَسَارًا في حَذَر.. تَخْتَلِطُ الصُّوَرُ أَمَامَ عَيْنَيْهَا.. تَمُد يَدَهَا خِلْسَة.. تَضْرب إحْدَى التفاحات، فَمَا كَانَ إلَّا أَن انْهَارَت رَصّةُ التُّفَّاح بأكملها، وسَقَطَ  جُلّه عَلَى الْأَرْضِ ولفت انْتِبَاهَ الْمَارَّة، فَصَرَخ الْبَائِع: 
«أنت يَا امْرَأَة.. هل عَمِيَت عَيْنَاك؟» 
تسمرت فِي مَكَانِهَا وارتعدت دُونَ أَنْ تَلْتَفِتَ إلَيْهِ.. 
«معذرة.. لَم أنْتَبَه..» 
رَاحَت تُعَاونُ الْبَائعَ في لَمْلَمَةِ التُّفَّاح، وَهَى تَخْتَلِسُ النَّظَرَ لصغيرِها بِحَذَر.. كَانَ يَنْظُرُ إلَيْهَا مبتهجًا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا أَوْشَكْت على تَحْقِيقِ أُمْنِيَتِه.. فَمَا لَبِثْت أَن أَعَادَت كُلَّ التُّفَّاحِ لِلْبَائِع وَأَعَادَت كُلَّ الْحَسْرَةِ إلى قَلْب صَغِيرِهَا.
تَحَرَّكَتِ مُستسلمةً، أَمْسَكَت يَدَيْه، نَظَرْت إلَى عَيْنِيْه مُبَاشَرَة، فَكَّرْت لِلَحْظةٍ أَن تحتَضِنه، لَكِنَّهَا رَأَتْ أَنَّ احْتِضانه الْآن أَمْرٌ سَخِيفٌ. 
أَسْرَعَت تلَمْلمُ حَسْرَتَهَا وتُغَادِر السُّوق، يَرْمُق صَغِيرُهَا عَرَبَة تُفَّاح أُخْرَى فَيَنْظُرُ إلَيْهَا في صَمْتٍ نَظَرَةً حارِقَةٌ، يُغْلِقَ عَيْنَيْه لوهلةٍ ويجزّ بأسنانه قبل أن يُعَاوِد النَّظَرَ أمَامَه، وَقَد فَشِلَ مُجَدَّدًا في كَتْمِ دُمُوعِه، يَلَمحُ عَلَى بُعْدِ خُطْوَتَيْن تُفَّاحَةً حَمْرَاء، مُلْقَاةً عَلَى الْأَرْضِ بِجِوَار العَرَبَة، يتهلل وجهه الباكي، يَنْظُرُ إلَى أُمِّهِ قَبْلَ أَنْ يَتْرُكَ يَدَهَا، يُسْرِعُ بالتقاط التفاحة ويُنَاوِلُهَا لَهَا، تَنْظُرُ أُمُّهُ إلَى الْبَائِعِ في صَمْتٍ يائس، فَيَقُولُ لَهَا:
«نَصِيبُه.. أعْطِهَا لَه.. وَاللّهِ لَنْ آخُذَهَا»!  
تَلْتَقطُ الْأُمُّ التُّفَّاحَةَ مِنْ يَدِ صَغِيرِهَا فَيَنْظُرُ إلَيْهَا متسائلًا.. تمسحُها بِطَرْف جِلْبَابهَا، تُنَاولُهَا لَه.. يتفحصُها غَيْر مُصَدِّقٍ.. يَتَرَدَّد قَلِيلًا، يَنْظُرُ حَوْلَه، قَبْلَ أَنْ يقضِمَها بِنَهمٍ مُفْعَمٍ بِالْحُزْن، فَسُرْعَانَ مَا يَخْتَلِطُ مَذَاقُ حَلَاوَتِهَا في فَمِه بِمَرَارَةِ الدُّمُوعِ المالحة ■