الوحيد

«سأظل وحدي في النهاية...» رددها بينه وبين نفسه وهو ينظر إلى ذلك الوجه الشاحب الذي يكسوه الألم لدقائق تمر كالدهر، ثم يغيب الألم عنه لثوانٍ معدودة 
لا يلبث أن يعود بعدها أقوى وأشد وطأة. 
دارت بذهنه ذكريات حزينة مرّت عليها سنوات طوال، كان يتمنى من صميم قلبه ألا تتكرر أحداثها أمامه مرة ثانية، ولطالما طارده هاجس تكرارها، وها هو ذا يكابدها مرة أخرى مع إنسانة لم يكن يتوقع أن تكون هي التالية في طريق أحزانه كأنما كتب عليه أن يتجرع مرارة تلك الأحزان مجددًا.  فمن كان يتخيل أنه سيأتي يوم على هذا الوجه الدائم الإشراق ليصبح بذلك الشحوب والنحول ؟!
حدثته من بين تأوهاتها قائلة:
- فيمَ شردت؟
أنتفض لسؤالها كمن أيقظه صوتها من سبات:
- لم أشرد... أنا هنا.
منعتها نوبة الألم من الكلام وهو يراقبها بعينيه الغائرتين من الإرهاق والسهر حتى خفّت حدة الألم، ثم قالت:
- ما زلت لا تجيد الكذب.
تبسّم في حزن قائلًا:
- أما زال هذا رأيك؟
قالت: 
- ولن يتغير.
صمتت للحظة ثم قالت: 
- أتعلم؟ لقد مكنني المخدر من النوم قليلًا بالأمس، ورأيت هناء في الحلم.
التفت نحوها بصورة حادة والدهشة تملؤه، فقد كانت مفاجأة له أن ترى هي شقيقته التي فارقت الحياة منذ سنوات طوال بسبب ذلك المرض العضال نفسه... كانت هناء قد أصبحت بالنسبة للجميع مجرد ذكرى باهتة... الجميع عداه هو... وكيف ينساها وقد كانت من أقرب الناس إليه... وصورتها أمام ناظريه في كل مكان ووقت منذ فارقت دنيانا، وعلى الرغم من مشاعره التي تمزقه لم يكن يتحدث عنها سوى لنفسه، فكثير من الأحياء لا يحبون أن يتحدثوا كثيرًا عن الموتى ولا أن يسمعوا عنهم.
قال لها:
- هناء؟! ما الذي ذكرك بها؟
قالت:
- لا أعلم، إنها المرة الأولى التي أراها في حلم منذ وفاتها.
أتعلم؟ لقد بدا عليها كبر السن كأنها ما زالت حية، لكنني عرفتها على الرغم من ذلك.
قال:
- وماذا أيضًا؟
قالت:
- لا شيء... لقد تبسمت لي ولوحت بيدها ثم حدث شيء غريب... لقد رأيت ملامحها تتحول شيئًا فشيئًا حتى أصبحت تشبهني تمامًا.
- حاول التظاهر بعدم الاكتراث لكن صوته خذله فاختنق بغصة وهو يقول:
- إنها أضغاث أحلام يا حبيبتي، فلا تهتمي.
أكملت كأنها لا تسمعه:
- وكنت أنت هناك أيضًا.
قال بتعجب: أنا؟!
أجابت بصوت آخذ في الخفوت كمن سيغلبه النعاس:
- نعم، لقد كنت تعدو في دائرة حولنا مرات ومرات، لكنك لم تقترب منا أبدًا.
أصرّ قائلًا:
- إنها أضغاث أحلام يا حبيبتي كما أخبرتك...
فلا تشغلي ذهنك بها.
كان تفسير الرؤيا يسيرًا على أي طفل صغير في مثل هذه الظروف، لكنه أصر على إظهار الغباء كي لا تنجلي مخاوفه أمامها.
منعهما من إكمال الحوار خلودها إلى نوم نادرًا ما يزورها، لكنه رآه طبيعيًا بعد أن حقنتها الممرضة بمخدر يكفي ثلاثة أفراد بينما كانا يتحاوران.
لم يفهم لماذا رأى ملامحها الجامدة على تعبير الألم وهي تتحول إلى ملامح هناء شيئًا فشيئًا، كأنما قد أظلمت الدنيا حولهما تمامًا وخلت من البشر
فلم يعد فيها سواهما، فلم يشعر بالطبيب والممرضات وهم يهرعون إلى الغرفة ويزيحونه جانبًا، لينقذوا القلب الذي توقفت نبضاته.
أخذ يحدق في وجهها الآخذة ملامحه في التحول، وقال بصوت مرتجف:
- هناء... أقصد ليلى. أأنت بخير؟
التفتت إليه بوجه هناء المبتسم، متحدثة بصوت ليلى:
- لا تحزن يا حبيبي... لن تطول وحدتك كثيرًا ■