سرقة

نحن منذ ولدنا قنان فارغةٌ يصفُّها عسكريٌّ على جدارٍ لا اسم له ويسدد عليها بالتناوب، الغريب ليس هنا، فهو كلَّما أصاب إحدانا وتكسَّرتْ تناسلت الشظايا إلى قنان جديدةٍ فيعيد ترتيبها، ويسدِّد عليها مثلما فَعَلَ أوَّل مرَّة، لا هو يتعب من التسديد ولا نحن نتعبُ من التناسل، هذا هو شعوري وأنا ألتحق بالجيش وأصبح جنديًّا كأنِّي نسيت أنَّ كلمة جنديّ كانت تثير رعبي وفزعي كلّما سمعت بها، وهي الكلمة الوحيدة التي تمنيت أن تنقرض ليس من اللغة فحسب بل من الواقع، أوَّل مرة تعرفت عليها عندما أخذ والدي يغيب أيامًا عن البيت فأسأل أمي وجدتي:
أين أبي؟ تقولان لي:  والدك في الجيش، والدك جنديّ، وكان كلُّ شيءٍ مألوفًا وربما محبَّبًا فنحن صرنا نلعب بحرِّيةٍ في الشارع ونتسلَّق شجرةَ النبق دون خوفٍ أو تهديدٍ من أمنا، لكنَّ استمرار غيابُه جعلنا نشعر بفقدان شيءٍ لا أستطيع وصفه، وكان كالعادة يعود للبيت في إجازة محمَّلًا بالحلوى ورائحةٍ تشبه رائحة الصوف إلى أن عاد في يومٍ ما برفقة أصدقائه وهو بلا وجه! نعم بلا وجه، لأنَّه فَقَدَ وجهه في انفجارٍ ما، كان وجهه ملفوفًا بلفافٍ أبيض ولم يظهر منه إلا عينان كلهما ألم وصوتٌ يحاول أن يكون ضاحكًا ودودًا حتى يطمئننا.  كان أخي الصغير يبكي كلَّما اقتربَ منه أبي فهو لم يعرفه، أمَّا أنا فعرفته من صوته لا أعرف أيَّ شعورٍ أنحاز في وصفه لكم، شعور أبي وهو سيكمل حياته بوجهٍ بملامح لا يعرفها أقربُ الناس إليه أم مشاعر أخي الصغير الذي كان كلَّما التحق أبي بالجيش يتعلَّق به
وها هو اليوم يبكي بعد عودتِهِ من الجيش فهو لا يعرف هذا الرجل!  ولعله عرفه لكنه لا يريد تقبُّلَ الصدمة. مرَّت الأيام ورفع اللفافة، لم يعدْ وجهُهُ كما وعدنا، جرَّب كلَّ العلاجات والمراهم، ولم يكن زمن عمليات التجميل التي ترمِّمُ العَطَب الذي يصيب الملامح قد شاع، كنَّا في زمن الحروب والجوع فقط!
هذه الحادثة غيَّرتْ حياتنا، أصبح والدي عصبيًا ويضرب أمي، ويحتسي الخمر، وفي مرَّةٍ رأيته يكسر قنِّينة الخمر ويضعها على رقبته كأنَّه فكَّر بالانتحار لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة بعد أن خدشَ رقبته وانهارَ بالبكاء في حِضن أمي.
ــ ابني لا يعرفني!
ــ ما زال صغيرًا، سيعرفك ويعتاد عليك وفعلًا، كبرنا واعتدنا على وجه أبي الجديد / الوجه الحزين لكنَّ أخي الصغير لم يعتدْ عليه، كانت الكوابيس تنهشُ روحه كلَّ ليلةٍ ويصحو وهو يصرخ، كنا نواسيه في أوَّلِ الأمر لكن عندما توالى مسلسلُ الفزع الليلي، كنا نصحو، نرفع رأسنا عن الوسادة أو نديرها للجهة الأخرى، ذات مرَّةٍ طلبتْ منَّا معلمة اللغة العربية في درس الإنشاء الكتابةَ عن موضوع السَّرقة، كتبت جملةً واحدةً:  الحرب سرقت وجه أبي، لما رأى زميلي ما كتبتُ كتبَ هامسًا:
الحربُ سرقتْ يدَ أبي، تناهى الهمسُ لمن خَلْفنا، فهمس بدوره:  الحرب سرقت رجل أبي، تعالت الأصواتُ، كلُّ واحدٍ يذكر ما سرقته الحرب.
آخرهم كتب:  الحرب سرقت أبي، فَعَلَا صوتنا بالبكاء الصامت وسط ذهول المعلمة.