الجدّ

سار بخطًى واسعة، واقتفيت أثره. مقابل كلّ خطوة واسعة يخطوها، أخطو خطوتين. يمشي ولا يدري أنّه أعياني، فخطواتي ضيّقة، وسروالي يعرقل حركتي، بل يكاد يوقعني. التفت لمّا سمع أنفاسي قد تعالت، وقال: ما بك؟ قلت: لا شيء يا جدي، لا شيء...
ثم مضى، وتبعته، ثم بدأ الصّفير، وبدأت. لكني غرقت في حمام ساخن من العرق. أخيرًا توقّف جدي عند ظل شجرة وارفة الأغصان، وتوقفت... جلس ثم جلست. جمع بعض الحطب أسفل الشجرة، وأوقد نارًا؛ ولما رآها تتأجج وتتوهج أخرج من جرابه برادًا صغيرًا، وقنينة ماء، وولاعة، وحبات من شاي، وقطعة سكر... أفرغ الماء وحبات الشاي في البراد، وأضاف إليها السكر. لما رأى الحطب قد احترق، وصار جمرا متّقدًا أحمر وضع فوقه البراد وأرساه بعناية.
استوى جدي في جلسته، واستويت معه، واستوى الشاي فوق الموقد فأزلته. تذوقه جدي بعد أن صب منه كؤوسًا وأرجعها إلى البراد... كانت تلك عادة وطقسًا قديمين يمارسهما جدي، ولما مات ورثنا هذه العادة.
كم مرة قلت لأمي إن هذه عادة سيئة، فهي مضيعة للوقت، ففي الجنوب قد يظل الرجل يسكب الشاي في الكؤوس ويرجعه مدة ساعة أو يزيد، ما يعني أن الناس ليست لديهم مشاغل، ليس لديهم ما يقتلون به الوقت؛ لذلك يلجؤون إلى مثل هذه السلوكات والأفعال التي تصير فيما بعد طقوسًا وعادات مكرسة في الثقافة.
عندما تناولنا كأسينا تمددنا فوق الأرض على ظهورنا. كنا ننظر إلى السماء. وكان جدي يحكي لي قصة سيدنا إبراهيم مع الله لما رأى القمر والشمس. لكن هذه القصة المذكورة في القرآن أعرفها مذ حفظت الآيات التي وردت فيها من عند الفقيه. غير أني سألت جدي عن السبب الذي جعل بعض الأقوام لا تزال تعبد الشمس والقمر والبقر، لكنه لم يقدم لي جوابًا مقنعًا؛ فقد قال جدي: إن الذين يعبدون المخلوقات لم ينتبهوا إلى خالق المخلوقات. وهم بذلك لم يكلفوا أنفسهم عناء الجلوس مع ذاتهم ليتساءلوا عمّا عبد آباؤهم، وعمّا يعبدون.
سرد جدي كلامًا كثيرًا شائقًا عن قصص الأنبياء المذكورة في القرآن، وأحيانًا كان يذكر قصصًا أخرى وحكايات شعبية وأسطورية وينسبها لأنبياء لم يذكروا في القرآن، ولما سألته عن مصداقيتها قال إن هناك قصصًا لم ترد في القرآن، غير أنها حقيقية. 
وبينما كان جدي منهمكًا في حكاياته، ويبني عوالم متخيلة، استوقفني عند قصة الخلق؛ خلق آدم عليه السلام... فحدثني عن التراب قائلًا: إن البشر خلقوا من تراب، وإلى التراب هم عائدون، ومنه سيبعثون... وما إن ذكر التراب حتى وجدت يدي، وأنا ممدد، تجول في التراب... كانت يدي تخمش التراب خمشًا، وتحمله من دون وعي إلى فمي.
كانت رائحته، وهو يذوب في فمي، طرية. كان يشعرني بنشوة غريبة وبالغة أوجها. يذوب في فمي كما يذوب السكر تاركًا وراءه لذة لا تقاوم. لم أكن أعتقد أن التراب سيجعلني يومًا مدمنًا، فقد كنت مولعًا بتناوله أينما حللت وارتحلت. وبما أن دارنا تقليدية مبنية بالتراب وبما يستخرج من مواد أولية من الطبيعة والمنطقة، فقد كنت أجد التراب في جلّ جوانب البيت، حتى وأنا نائم، كنت أغمس يدي تحت الفراش، فأستخرج التراب وأضعه في فمي!
وكم مرة عاتبتني أمي، وضربني أبي حينما يستيقظان ولا أستيقظ... حينها يأتيان ويحاولان إيقاظي. لكنهما لا يفلحان في البداية، لأن التراب لا تزال بقاياه في فمي. إن له قوة وسيطرة غريبة؛ فهو يشعرني بالراحة والطمأنينة، ويبلغني مرافئ النشوة واللذة.
وعندما ما كبرت لاحظت أن السكان مرتبطون بالأرض والتراب بقوة وعنف؛ فلا أحد يتنازل عن ذرة تراب، أو شبر من الأرض في الإرث... لا أحد إطلاقًا.
التفت جدي ناحيتي، ووجدني متلبسًا آكل التراب، وأجول بنظري في السماء مراقبًا الشمس، وصفاء السماء. لم يحذّرني كما كانت تفعل أمي، ولم يصرخ في وجهي... عقّب بجملة واحدة رسخت في ذهني، رافضة الانمحاء: «أحسنت إذ تأكل نصيبك من التراب والأرض لتسد به أعطاب جسدك، وترمم به شقوقه» ■